أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
انترنت الحيواناتمقابلة

مقابلة مع مارتن ويكلسكي: تعقُّب الحيوانات يكشف عن حاستها السادسة

يمكن لشبكة مؤلفة من 100,000 حيوان متصلة بأجهزة تعقب ومرَاقبة من الفضاء أن تفسر سلوكاً حيوانياً خارجاً عن المألوف، وتساعد على التنبؤ بالاندفاعات البركانية، وأنماط الطقس المتطرفة وظهور الأوبئة

في سبتمبر من العام 2020، طار شحرور (أسود) Blackbird مسافة 1530 كم من بيلاروسيا إلى ألبانيا. ونظراً إلى الهجرات الجوية، لم يكن الرقم بالمثير للإعجاب. غير أن الرحلة كانت محل تعقّب من قبل محطة الفضاء الدولية International Space Station (اختصاراً: المحطة ISS)، الأمر الذي وضع مشروعاً طموحاً يمكن أن يؤدي إلى حل بعضٍ من أكبر ألغاز سلوك الحيوان موضع التنفيذ، من الآفات الجراد الذي يقصم المحاصيل إلى ما إذا كان لبعض الحيوانات حاسة سادسة تتنبأ بالكوارث الطبيعية.

وبرنامج إيكاروس ICARUS– الصيغة المختصرة لـ«التعاون الدولي للأبحاث الحيوانية باستخدام الفضاء» International Cooperation for Animal Research Using Space- هو من بنات أفكار مارتن ويكلسكي Martin Wikelski، المدير في معهد ماكس بلانك لسلوك الحيوان Max Planck Institute of Animal Behavior بألمانيا.

تقوم فكرته – التي أطلقها قبل عقدين من الزمن – على إنشاء ما يدعوه بـ«إنترنت الحيوانات» Internet of animals بوضع 100,000 جهاز تتبع صغير على الحيوانات، لتزودنا بمعلومات عنها. وقد استغرق الأمر بعضاً من الوقت للحصول على دعم وكالات الفضاء الألمانية والروسية، وحشد مجموعة من الباحثين العالميين معاً، لكن، ومنذ طيران أول شحرور، زودت مئات الحيوانات بأجهزة تتبع مُصنَّعة خصيصاً لهذا الغرض تزن 5 غم. ولا ترصد هذه الأجهزة مواقعها فقط، بل تسجل جوانب سلوكية وفِسيولوجية. وكانت مجموعة متنوعة من الطيور والخفافيش والمعْز ووحيد القرن والسلاحف ترسل إشارات إلى المحطة ISS وإلى محطات استقبال أرضية، والمعلومات المرصودة متاحة مجاناً للجميع، كما انضم إلى إيكاروس عديد من غير المختصين ممن يركبّون أجهزة تتبع على الحيوانات.

كانت طموحات ويكلسكي تكبر مع نمو المشروع. فهو يعتقد أن إنترنت الحيوانات – إضافةً إلى إلقائها الضوء على سلوك الحيوانات – يمكنها أن تساعدنا على توقع التغيرات البيئية، وتتعقب الأمراض الناشئة، وحفظ الأنواع المهددة بالانقراض، كما يمكن أن تجعل البشر أكثر مسؤولية تجاه حاجات الكائنات الحية الأخرى.

السلوك الجماعي مسؤول بنحو أساسي عن الحاسة السادسة لدى الحيوانات

 

ماثيو بونسفورد Matthew Ponsford: لتزيد الاهتمام بإيكاروس، نشرت قائمة من الألغاز يمكنها أن تلقي ضوءاً جديداً على الأمر. أي منها تحبذ حله على وجه الخصوص؟

مارتن ويكلسكي: هناك المئات، لكن الذي نريد أن نبدأ به هو أين تذهب الثعابين الأوروبية للتكاثر؟ هل تذهب إلى بحر سارغاسو Sargasso Sea؟ وإذا كان الأمر كذلك، إلى أين بالضبط؟ فهذا كله لغز كبير. ولغز آخر هو ما سبب نفوق اللقالق الأوروبية European storks؟ نخطط لتركيب أجهزة على 15,000 لقلقٍ سنويّاً لفهم سبب نفوق 70 % منها في عامها الأول. وأين هي؟ بمعنى أنك إن تخيلت حشداً كبيراً من 10,000 لقلق نافق، فهذا عدد هائل. لكن لم يرها أحد وهي تنفق في البرية. كذلك لدينا انخفاض حاد في الطيور المغردة Songbirds: ففي أوروبا انخفضت أعدادها بنحو 600 مليون طائر، وفي الولايات المتحدة اختفى نحو 3 بلايين طائر مغرد. فأين فُقدت؟ لا أحد يدري.

ما الأمور التي رصدتها بإيكاروس حتى الآن؟

في كل مرة نمعن النظر فيها، نرى شيئاً غير متوقعٍ ألبتة وجديداً. فالناس يعرفون ما تفعله الحيوانات في المتوسط، لكن لا حيوان متوسط. فجميعها تفعل أشياء مثيرة ومدهشة. مثلاً نجد أن طيور اللقلق تعبر الصحراء الكبرى خمس مرات في الفصل الواحد. ولدينا طيور الوقواق التي تذهب من كامتشاتكا (في أقصى شرق روسيا) إلى أنغولا مارةً بالهند ثم تقفل عائدة. كما أن هناك طائر الخرشنة السخامية Sooty terns الذي يقطع رحلة كاملة من جزر سيشيل إلى الهند الشرقية وسيريلانكا. وبالنسبة إلينا، كل يوم هو عالم من الإثارة.

هناك مجموعات أخرى تراقب الطيور من الفضاء، فما الجديد فيما تفعله إيكاروس؟

يمكنها أن تتعقب حيوانات أصغر، ويمكنها أن تتعقب مزيداً من الحيوانات، ويمكنها أن تتعقب سلوكها باستخدام المستشعرات Sensors. فنسجل درجات الحرارة، والتسارع والرطوبة والمغناطيسية والضغط – أي ذلك النوع من الاستشعار البيئي غير الموجود لدى أقمار التتبع الاصطناعية الأخرى. يمكننا أن نتتبع رفّات أجنحة الطيور، واستهلاك الطاقة، وسلوك البحث عن الغذاء، ومراقبة متى تكون هذه الحيوانات على ما يرام أو مُجهَدة.

لمَ تدعو ذلك بـ«إنترنت الحيوانات»؟

هذه الإنترنت، من حيث المبدأ، هي مجموع الحيوانات، لأنها تتفاعل بعضها مع بعض باستمرار. إنها ما يمكنك أن تدعوه فعلاً بـ«سرب الاستخبارات» Swarm intelligence. إننا نجمع بين «إنترنت الأشياء» Internet of Things (اختصاراً: IoT) الأرضي وإنترنت أشياء فضائي. ومن ثم، إذا كان هناك حيوانٌ قريب بما يكفي للاتصال مع قاعدة بيانات موجودة على الأرض، ففي هذه الحالة يتواصل أرضياً. وإن كان بعيداً عن هذه المناطق – مثلاً إذا قُتل هذا الحيوان في أحد أودية الغابات المطيرة، أو فوق الصحراء الكبرى، أو أينما كان – في هذه الحالة تبرز الحاجة إلى قمر إنترنت الأشياء الفضائي لإرسال المعلومات وتلقيها.

الجزء المهم هو أننا نعلم الآن أن السلوك الجماعي مسؤول بنحو أساسي عن «الحاسة السادسة» لدى الحيوانات. وكان الناس في الماضي ينظرون إلى الأمر على أنه يندرج في إطار الميتافيزيقا أو على أنه شيء غرائبي. لكننا نعلم من الفيزياء والكيمياء أنه حيث توجد أجزاء متفاعلة، تظهر خصائص جديدة. وهذا ما لدينا في الحيوانات أيضاً. وبتفاعُل أجهزة الاستشعار الذكية، تحصل على خصائص جديدة لا تكون مرئية على المستويات الأدنى. وهذا ما يمكننا استغلاله. على سبيل المثال لدينا بعض المؤشرات المبكرة بأن الحيوانات يمكنها استشعار الكوارث الوشيكة الوقوع كالزلازل والاندفاعات البركانية.

كيف يمكنك أن تختبر هذه المزاعم الشعبية القائمة منذ أمد بعيد؟

المهم هنا هو العمل مع السكان المحليين الذين يفهمون الحيوانات، ويشبه الأمر تقريباً مدرب كلاب جيداً، فلو كان لديك شخص جيد ستتمكن هذه الكلاب من البحث عن المخدرات في أصعب الأماكن -كالجمارك مثلاً. لا يمكن للجميع أن يفعلوا ذلك. لكن الأمر يكون مجدياً إذا سألتَ هؤلاء: «ما نوع الإشارات التي تبحثون عنها؟ كيف يمكن للكلب أن يخبركم بذلك؟» هذه هي الطريقة التي نبدأ بها مع الكوارث بالضبط. نحاول الحصول على قراءة من هذا الصندوق الأسود، حاسة الحيوانات السادسة هذه، وهذا التفاعل بين أجهزة الاستشعار الذكية.

ندرس هذا الآن في جبل إيتنا Mount Etna في جزيرة صقلية الإيطالية. فلدينا حيوانات معْز تجوب الأرجاء، ومتى ما رأينا المعز تفعل أشياء خارجة عن المألوف – وهو ما يحدث كل بضعة أسابيع أو نحو ذلك – نتنبأ بوقوع خطب ما في البركان. ونكون محقين في معظم الحالات.

لقد أجرينا تقييماً داخليّاً لتوقعاتنا، وقد كانت فعالة نوعاً ما. لم نبلغ بعد نظام إنذار مبكر، إلا أننا نقترب من الحصول على هذه الأنظمة. بعد ذلك يمكننا أن نمضي أبعد ونسأل عن نوع المعالم البيئية التي تستشعرها الحيوانات، وهذا حتى الآن مجهول إلى حد ما. إنها ليست سهلة القياس مثل المعلومات الزلزالية، لذا لا بد من أن تكون أمراً آخر.

هل يمكن أن تساعد شبكات الحيوانات أيضاً في مزيد من التنبؤات السائدة، مثل التنبؤ بالطقس؟

نعم، فعديد من الأنظمة مهيأة لتنبؤات الحيوانات. مثلاً تخبرك طيور الأطيش Gannets وطيور الشاطئ في الجزء الغربي من مكسيكو في الربيع كيف سيكون موسم صيد الأنشوجة وغيرها من الأسماك في الخريف، لأنها تستشعر فعلاً إنتاجية السمك في وقت مبكر من الموسم، أو ستخبرك طيور الأطيش في المحيط الهادئ الهندي عن مدى قوة ظاهرة إل نينو El Niño المقبلة، لأنها وقبل موعد الظاهرة بأشهر تتخلى عن مواعيد تكاثرها. فهي إما تهجر البيض، أو لا تبيض أساساً، ونعرف أنه ستكون هناك ظاهرة إل نينو قوية. ولدينا فعلاً مثل هذه التنبؤات طويلة الأمد، غير أننا لم نعمل على تجميعها على نطاقٍ عالمي، وهذا ما يعدنا به إنترنت الحيوانات، وهذا هو المقبل.

هل ستُفسح لك إيكاروس المجال للتنبؤ بالأمراض الناشئة والمتوطنة؟

نعم، أيضا. لدينا بالفعل بطّ في الصين يحمل أجهزة تتبع تسجل درجات حرارة الجسم، وهو ما يمكن أن يخبرك بموعد إنفلونزا الطيور Avian influenzaالمقبلة: أين هي وما إذا كان هناك تفشٍّ Outbreak ينبغي أن يُؤخذ في الحسبان. وفي حالة خفافيش الثعالب الطائرة Flying foxes بإفريقيا، يمكنك أخذ عينة دم ومعرفة ما إذا كان حيوانٌ قد صادف أمراضاً كالإيبولا Ebola. أي يمكن القول إن إيكاروس تشبه تطبيقاً لتعقب فيروس كورونا: بإمكانك أن تعلم أين كانت هذه الحيوانات، وإذا كانت جميع الحيوانات التي تسري في دمائها أجسام مضادة للإيبولا آتية من الكونغو الشرقية، فستعلم أنها المكان الذي التقطت فيه المرض.

كيف يمكن أن تساعد إنترنت الحيوانات في الحفاظ على الطبيعة؟

إحدى دراساتنا الحالية هي البحث في الكيفية التي يمكن أن تساعدنا بها الأنواع الأخرى في حماية حيوانات كوحيد القرن. ففي مناطق كثيرة من العالم، يتواطأ الحراس الفاسدون مع صيادي وحيد القرن. والآن يمكننا أن نضع أجهزة تتبع الحيوانات من حولهم كالحمار الوحشي، والزرافات، والثيران والأسود والكلاب البرية وغيرها، لتفضح هذه الحيوانات الممارسات السيئة.

على طيور الشحرور، نستخدم أيضاً أجهزة قياس ضربات القلب، وهي توفر قياساً لدرجة التوتر ومقدار استخدام الطاقة. إننا نريد أن نعلم كم تكلف الهجرة من حيث الطاقة، وما إذا كان من الأفضل البقاء في الموطن أو الهجرة. ربما لم يكن الأمر بهذه الأهمية بالنسبة إلى طيور الشحرور، لكنه بالغ الأهمية بالنسبة لطيور الشاطئ والسلاحف البحرية، أو خفاش الفاكهة الكبير في إفريقيا. وهو يساعدنا على فهم نوع الموائل Habitats التي تحتاج إليها، يمكننا أيضاً حمايتها بديناميكية. فعلى سبيل المثال، يمكننا أن نرى طيور الشاطئ التي كانت تطير في الماضي مباشرةً من موريتانيا إلى هولندا، حالياً وبسبب التغير المناخي، لا تستطيع الحصول على ما يكفي من الغذاء لرحلتها من موريتانيا، وينبغي لها أن تحط في فرنسا، ويمكننا القول: «أغلقوا الشواطئ ثلاثة أيام إلى أن تسترد عافيتها». ولن يكون مثل هذا التفاعل الديناميكي بين البشر والحيوانات ممكناً إلا إن كان لديك حيوانات تتواصل معك عبر أجهزة التتبع هذه.

يمكن لقاعدة البيانات التي توفرها مجاناً عبر الإنترنت «موف بانك» Movebank أن تسمح لأي أحد بتتبع حيوانات بعينها والتعرف على حياتها وحالاتها. كيف يمكن أن يساعد ذلك في جهود الحفاظ على البيئة؟

لن يكترث أحدٌ إن قلت إننا فقدنا 3 بلايين طائر مغرد. لكنّ قولنا إننا فقدنا فريتز وفرانز وهيلغا في مكانٍ ما بين أمريكا الشمالية والجنوبية، وأن هناك صفوفاً دراسية تتبع هذه الحيوانات وتعلم مصيرها وتعرفها بنحوٍ فردي محدد، فهذا يصنع فارقاً تامّاً في الحفاظ على البيئة.

الجانب الآخر هو تعلم الناس الفوائد التي تقدمها لنا الحيوانات، خذ خفافيش الفاكهة في إفريقيا مثالاً: إنها ذات أهمية فائقة في مناطق كثيرة في إعادة زراعة الأشجار، لأنها تطير فوق مناطق مفتوحة وتبصق البذور نحو الأسفل.

ما الذي يحمله المستقبل؟

نريد أن نتعقب رجل الحرب البرتغالي Portuguese man-o-war، وهو مخلوق سامٌ حقاً يشبه قنديل البحر. كما أننا نعمل على إصدارٍ جديد ومحسن من إيكاروس، وهو سيتضمن أجهزة تعقب صغيرة جداً -500 ميليغرام – تُوضع على الجراد الصحراوي، ومن ثم يمكن تعقب اكتساح الجراد.

غيرَ أن الأمر الجميل هو أن هذه الحركة تنبع من القاعدة الشعبية، إذ لا يديرها أحد، ونتلقى طلبات يوميّاً من أشخاص من حول العالم قائلين: «مرحباً، نريد أن نفهم حيواناتنا، امنحونا الأدوات لنفعل هذا». الجميع يريد فعل هذا، وما يعيقهم فقط هو أنهم لا يملكون الأدوات لذلك. يشبه الأمر أن تعطي الناس ميكروسكوبات، أو تلسكوبات ليشاهدوا النجوم.

© 2022, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC.

بقلم ماثيو بونسفورد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى