تعرف إلى عالمة الكونيات التي ادعت امتلاكها دليلاً عن الأكوان المتعددة
تقول عالمة الكونيات لورا ميرسيني هوتون إن كوننا هو واحد من أكوان متعددة، وتحاجج في أننا رأينا مسبقاً أدلة عن هذه الأكوان في إشعاع الخلفية الكونية الميكروي، وهو الشعاع المتخلف عن الانفجار الكبير
كيف بدأ كوننا؟ إنه أحد أكثر الأسئلة التي تواجهنا عمقاً، واعتقادك باستحالة الإجابة عنه هو أمرٌ مبررٌ. ولكن لورا ميرسيني-هوتون Laura Mersini-Houghton تقول إنها أجابت عنه، وهي عالمة كونيات في جامعة نورث كارولينا في شابل هيل University of North Carolina at Chapel Hill، وُلدت وترعرت في ظل الديكتاتورية الشيوعية بألبانيا، حيث كان والدها معارضاً معاديا للنظام ونُفي لذلك. وبعدها حازت على منحة فولبرايت Fulbright scholarship للدراسة في الولايات المتحدة، لتشق بعدها طريقها المهني في الكوزمولوجيا (علم الكونيات) وفيه تناولت أصول الكون، وقدمت طروحات استثنائية.
تتمثل الفكرة المهمة لميرسيني-هوتون بأنه يمكن النظر للكون في لحظاته الأولى على أنه دالة موجية كمية Quantum Wave Function – وهو توصيف رياضياتي لسحابة من الاحتمالات – أفسحت المجال لظهور أكوان متنوعة إضافةً إلى كوننا. كما قدمت توقعات عن الكيفية التي يمكن أن تترك بها الأكوان الأخرى بصمتها على كوننا. وقد كانت هذه الأفكار مثيرة للجدل، إذ يجادل بعض الفيزيائيين في أن توقعاتها غير صحيحة. غير أن ميرسيني-هوتون تحاجج في أنها مثبتة بنتائج رصد الإشعاعات التي خلَّفها الانفجار الكبير (العظيم) Big Bang – إشعاع الخلفية الكونية الميكروي Cosmic Microwave Background.
وهنا، تخبر نيو سانتيست New Scientist عن أفكارها وحياتها، التي تناولتها في كتابها الجديد Before the Big Bang: The origins of our universe in the multiverse
روان هوبر Rowan Hooper: لنبدأ بقصتك الخاصة التي تحكي عن ترعرعك في ألبانيا. إلى أي حد صقل ذلك تفكيرَك؟
لورا ميرسيني-هوتون Laura Mersini-Houghton: لقد أسهم ذلك بالكثير. فقد كنت محظوظة بوجودي في كنف ذاك النوع من الوالدين اللذين اكتشفا مبكراً اهتمامي بالعلوم الطبيعية والرياضيات ليغذيا اهتمامي بعدئذٍ. وهناك عامل آخر ساعد كثيراً أيضاً وهو عَمَل والدتي في منظمة غير ربحية بألبانيا سُميت رابطة الكتاب والفنانين League of Writers and Artists، حيث كان علي قضاء الكثير من وقتي مع المؤلفين والكتاب والفنانين، ففتح ذلك آفاقي لأكتشف مبكراً أن هناك الكثير من المرح في الإبداع.
تتحدثين في كتابك عن الطريقة التي تفكرين بها في حياتك بعبارات كمّيّة؛ مثلاً، إذا لم تتخذي قراراً بعينه لكنت تعيشين حياةً أخرى. هل يمكنك التوضيح؟
في كون كمي، يعتمد كل شيء على الاحتمالات: فإلى أن تجري قياساً على جسيم تحت ذري Subatomic Particle، فكل ما لديك هو احتمالات ترتبط بكل النتائج الممكنة، ويختفي كل اليقين حول العالم. أحياناً، أثناء تأمل آخر الليل، يمكنني مشاهدة أوجه تشابه بين حياتي في عالمنا «الكلاسيكي» والعالم الكّمي، ويمكنني رؤية كيف تشبه حياتي عالماً كمياً متداخلاً مع حالات من عدم اليقين والأحداث المستبعدة. لو فكرت مثلاً في ألبانيا الشيوعية، لكان هناك نوع من الغموض الكمي Quantum Ambiguity فالكثير من الأحداث السيئة قد تحدث في أي وقت ومن دون سبب على الإطلاق، وبالتأكيد ذلك ليس بسبب أفعالك الخاصة. هناك أمر مماثل في الكون الكمّيّ، حيث لا يكون احتمال حصول حدث نادر جدا صفراً.
بالعودة إلى الفيزياء، هل يمكنك تفسير سبب استبعاد كوننا وكيف قادك ذلك إلى التفكير في الأكوان المتعددة؟
يبدأ ذلك بالقانون الثاني للثيرموديناميكا (الديناميكا الحرارية) Second Law of Thermodynamics، والذي ينص على أن إنتروبية Entropy أي نظام – وهي تعني تقريباً مستوى الفوضى فيها – يزداد دائماً بمرور الزمن. لذلك، لا بد من أن تكون الإنتروبية الخاصة بكوننا في دقائقه الأولى صغيرة بشكل لا يُصدق. ولكن احتمال العثور على كون ينشأ تلقائياً يتناسب طرداً مع الإنتروبية الخاصة به. وبما أن كوننا بدأ بإنتروبية صغيرة جداً، فذلك يمنحه فرصةً ضئيلةً للوجود.
نعلم أيضا من عمليات الرصد والنظرية أن الكون بدأ كبقعةٍ صغيرة ملساء تملؤها الطاقة، وقد وجد عالم الرياضيات من جامعة أوكسفورد Oxford روجر بنروز Roger Penrose أن فرصة البدء بكون كهذا تساوي واحد من 10 مرفوعة للأس 10 مرفوعة للأس 123. ومن ثم لا يوجد غالباً فرصة ليبدأ كون ككوننا بشكل تلقائي. وقد أثار هذا الرقم فضولي، لأننا موجودون ويمكننا أن نرصد الكون من حولنا. إنه موطننا. ونعلم يقيناً أنه موجود.
لا يمكنني طرح السؤال “لماذا لدينا هذا الكون؟” إذا كان كل ما هو متاحٌ لأبدأ به هو هذا الكون: إنني بحاجة إلى مجموعة من الأكوان المحتملة يمكنني الاختيار من بينها
ومع ذلك، لا يمكنني طرح السؤال «لماذا لدينا هذا الكون؟» إذا كان كل ما هو متاحٌ لأبدأ به هو هذا الكون: إنني بحاجة إلى مجموعة من الأكوان المحتملة يمكنني الاختيار من بينها. وهذا ما دفعني إلى التفكير في أننا بحاجة فعلاً إلى أكوان أولية متعددة وكمية Initial Quantum Multiverse، فهذا سيسمح لي بالتساؤل عن سبب حصولنا على هذا الكون لا غيره.
ما الذي تعنيه بقولك «أكوان متعددة كميّة أولية»؟
أعني أنه في اللحظة الأولى، أي قبل ظهور الكون في الزمكان Space-time، يمكنك النظر إلى الكون كدالة موجية في حيز مبهم من الطاقات. وقد بدأت التفكير في كل هذا مع مطلع الألفية، في الآونة التي كانت فيها نظرية الأوتار هي المرشح الرئيسي لتكون «نظرية كل شيء» Theory of Everything التي توحد الجاذبية مع القوى الكمية الثلاث الأخرى لتفسير كوننا.
نظرية الأوتار String theory هي الفكرة القائلة إن الطبيعة تتألف عند مستوى أساسي من 11 بعداً وأن الجسيمات ما هي في الواقع سوى الجزء الذي يمكننا أن نشاهده من حلقات صغيرة للأوتار المهتزة. مع نظرية الأوتار، وبعد لف الأبعاد المكانية الزائدة لتصغيرها بما يكفي كي تكون غير مرئية، سينتهي بك المطاف بمشهد كامل من الحالات الطاقية الأولية الممكنة، أو بطاقات الانفجار الكبير المحتملة، والتي يمكنها أن تبدأ مجموعةً كاملة من الأكوان المختلفة.
آنذاك، اعتقد مُنظرو نظرية الأوتار أن هذا كان سيئاً فعلاً فقد كانوا يتطلعون إلى أن ينتهي المطاف بهم بكون واحد -يشبه كوننا- ويمكن وصفه بنظرية واحدة، لكنهم خلصوا إلى عدد لا متناهٍ من الأكوان تقريباً. غير أن ذلك كان خبراً جيداً بالنسبة إلي، لأنني احتجت إلى نظرية أساسية تغذي مجموعة الطاقات هذه التي تسمح لي بطرح السؤال، «لماذا بدأت بهذا لا غيره؟»
لقد توصلتِ إلى اكتشافك في مقهى، وكتبتِ على منديل «ميكانيكا الكم في المشهد الطبيعي» – أي ميكانيكا الكم على مشهد نظرية الأوتار String theory. أخبرينا بمَ الذي قصدته؟
بدا واضحاً أنني أدركت شيئاً ما متأخرة. فنحن متأكدون أن كوننا كان صغيراً جداً في لحظات وجوده الأولى، لذا فهو يخضع لقوانين ميكانيكا الكم، وما اتضح لي تحديداً، أنه وبناءً على ازدواجية موجة-جسيم Wave-Particle Duality في ميكانيكا الكم، يمكنني أن أنظر إلى الكون كدالة موجية بدل أن أنظر إليه كجسم. والدالة الموجية Wave Function هي كيان رياضياتي يرمّز الاحتمالات الكمّيّة. ولكن يمكنك أن تتخيله كشجرة متعددة الفروع، يمكن لكل منها إنتاج كون، وهذا الكون ينتشر عبر أودية الطاقة التي تصيغ مشهد نظرية الأوتار، ومنها يمكنه الحصول على طاقة الانفجار الكبير الخاصة به.
هل يدخل التشابك الكمي Quantum Entanglement هنا، وهو فكرة وجود اتصال كمّيّ خفي بين الفروع؟
لديك هذه الأغصان، هذه العوالم العديدة، لكن عليك فصلها عن بعضها البعض، أي عليك أن تكسر هذا التشابك الكمي. فكر بالطريقة التي نفصل فيها الذهب عن عرق المعدن. نضع خليط الفلز في حمام من مركب البوراكس Borax، وبما أن تفاعل البوراكس يختلف باختلاف المعادن، تبدأ بالانفصال عن بعضها البعض. في فرضيتي، كان مشهد نظرية الاوتار هو محلول البوراكس، فقد كسر التشابك، وفصل العوالم العديدة عن بعضها.
بطريقة ما، مرّ كوننا في مراحله المبكرة بانتقال من الحالة الكمية إلى الحالة الكلاسيكية. فصار جسماً كلاسيكياً حيث يحدد كل حدث بيقين. وما كان الحال ليكون هكذا ما لم تنفصل فروع الدالة الموجية للكون بالكامل، إذ انفصلت الفروع بالكامل نتيجة معاناتها التضخم الكوني Cosmic Inflation. فقد كان هذا هو الطور الذي تلا الانفجار الكبير مباشرة، حين مر حجم الكون بفترة من التمدد الأسي. وقد كان طرحي كالتالي: إذا حدث هذا الانفصال فعلاً، فسنكون قادرين على مشاهدة مخلفاته في إشعاع الخلفية الكونية الميكروي cosmic microwave background(CMB)، وهو الإشعاع المتبقي من لحظات كوننا الوليد الأولى. وكانت الفكرة أنه حالما انفصلت الفروع، فلا بد أن تتبقى آثار من التشابك.
إذاً، قدمتي توقعاً يمكن اختباره: يجب أن نكون قادرين على مشاهدة إشارات على تشابك كوننا الابتدائي مع الأكوان الأخرى.
قدمت مجموعة من التوقعات مع ريتشارد هولمان Richard Holman وتومو تاكاهاشي Tomo Takahashi في 2005 و2006، قلنا إن علينا أن نشاهد بصمات هذا التشابك المبكر. فكوننا الحالي ما هو إلا نسخة أكبر عما كان عليه حين كان وليداً، وقد بقيت جميع علامات الولادة ظاهرة عليه. فلو نظرت إلى كل هذه الأكوان الكمّيّة كجسيمات كمّيّة صغيرة، لوجدتَ أنها تتفاعل مع بعضها بعضا بفعل الجاذبية، وكلها تجذب بعضها البعض، ما خلّف ندوباً في سمائنا.
أحد توقعاتنا كان وجود خلاء كبير أو بقعة باردة في إشعاع الخلفية الكونية الميكروي. وقد وُجد مثل هذا الخلاء الذي يبلغ عرضه 900 مليون سنة ضوئية تقريباً في أرصاد مسبار ويلكنسون متباين الخواص للأشعة الميكروية Wilkinson Microwave Anisotropy Probe، وهو مرصد موجود في الفضاء، وأكد ذلك القمر الاصطناعي بلانك Planck satellite، الذي يرصد أيضاً إشعاع الخلفية الكونية الميكروي. فقد كنا أول من أظهر كيف يمكنك اختبار الأكوان المتعددة وبأنه لا حاجة بك إلى الذهاب إلى ما وراء الأفق القابل للرصد، إذ يكفي أن تشاهده في السماء فحسب.
كما توقعتي تماماً، كانت أفكارك جدلية. فعلى سبيل المثال، كان هناك تحليل لبيانات عن إشعاع الخلفية الكونية الميكروي من عام 2016 لم يدعم استنتاجاتك. كيف كانت ردة فعلك على الانتقادات؟
أجريت تحليلاً جديداً لتحري وضع نظريتي باستخدام أحدث البيانات من تجربة القمر الاصطناعي بلانك مع عالمة الكونيات إليانورا دي فالانتينو Eleonora Di Valentino، فكانت سلسلة التوقعات التي خرجنا بها عام 2005 عن الانحرافات في إشعاع الخلفية الكونية الميكروي تدعم نشوء الكون من مشهد أكوان متعددة كمّيّة.
لطالما كان هناك تحامل على الأكوان المتعددة، فهو فكرة تعود جذورها إلى اعتقادات الهنود والإغريق القدامى. ولكن دفع الفكرة لتصير في تيار الفيزياء الأساسي استغرق وقتاً طويلاً، ومما ساعد في ذلك اقتراحي استخدام التشابك الكمّيّ كأداة لاختبار وجود الأكوان المتعددة هنا تماماً، ومن ثم التحايل على قيود سرعة الضوء. منح ذلك أملاً بأننا حتى إذا لم نتمكن من مشاهدة الأكوان المتعددة مباشرة، فلا يزال بوسعنا أن نشتق أدلة وتوقعات حول الأماكن التي يمكن أن توجد بها هذه البصمات في سمائنا.
تحدَّث ماكس تيغمارك Max Tegmark من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا Massachusetts Institute of Technology عن وجود قرائن Doppelgangers في أكوان أخرى حين صاغ رؤيته عن الأكوان المتعددة. فهل ستحتوي رؤيتك للفكرة على مثل ذلك؟
لا أعتقد أن هناك لورا أخرى تكون شقيقةً أو توأماً لي في كونٍ آخر، إذ وحالما انفصلت فروع الدالة الموجية، صار لكل فرع منها وجوده المستقل عن الآخر. لذا لا أعتقد بوجود نسخٍ عني في عوالم أخرى، وآمل بألا يكون حقاً. ولو سألت أفراد عائلتي؛ لأجابوا: عالم واحد غريب الأطوار كافٍ.
© 2022, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC.
بقلم روان هوبر