كيف يغير الذكاء الاصطناعي حدود المعرفة التي يفرضها التعقيد
من الطقس إلى بنية البروتينات، يمكن التنبؤ ببعض الأشياء من الناحية النظرية، ولكنها معقدة جداً إلى درجةٍ لا يمكن اكتشافها عملياً. ولكن الذكاء الاصطناعي الصاعد يغير كل هذا بسرعة
يعلم الجميع أنه من المستحيل التنبؤ بالمستقبل، لكن الكثير من الناس لا يتوقف عن التساؤل عن السبب. وحتى لو وضعنا جانبا مسألة الاختيار الحر Free choice، فإن الأمر ليس بالأمر السهل. ففي المحصلة، يمكن استخدام قوانين الحركة الخاصة بإسحق نيوتن Sir Isaac Newton لحساب ما سيفعله أي جسم إذا عرفنا مسار بدايته والقوى المؤثرة فيه. تخيل المفكر الفرنسي بيير سيمون لابلاس Pierre-Simon Laplace ذات مرة شخصاً مستنداً على هذه القوانين والكثير من المعلومات، وكتب أنه «لمثل هذا الفكر، لن يكون هناك شيء غير مؤكد والمستقبل، تماماً مثل الماضي، سيكون حاضراً أمام أعينه».
السبب في أن العالم لا يزال يتكشف في سلسلة من الأشياء غير المتوقعة هو أن هناك فجوة بين ما يمكن أن تتنبأ به المعادلات من الناحية النظرية وما يمكن حسابه عملياً. وحدود تقنيتنا وسرعة الحواسيب لدينا والتعقيد المذهل للطبيعة كلها تعني أنه من المستحيل عملياً معرفة بعض الأشياء.
محاكاة كل تلك التفاعلات في وقت واحد تتجاوز قدراتنا الحاسوبية الحالية
تتمثل إحدى المشكلات بأن الأشياء التي نريد دراستها تتكون أحياناً من العديد من الأشياء التي تؤثر بشكل متبادل في بعضها البعض. لذا بينما يمكننا التنبؤ بمسار كرة القدم الطائرة تنبؤاً جيداً، فلا يمكننا فعل الشيء نفسه مع الجزيئات، لأنه عادة ما يكون هناك الكثير منها يطير حولها، وكلها تُلقي بقوى على بعضها البعض. إن محاكاة كل تلك التفاعلات في وقت واحد تتجاوز قدراتنا الحاسوبية الحالية – مع أكثر من 10 جسيمات، ليست لدينا فرصة.
التعقيد مشكلة في العديد من مجالات العلوم، وليس أقلها الطب. خذ البروتينات، على سبيل المثال، وهي السلاسل الطويلة من جزيئات الأحماض الأمينية التي تطوي نفسها إلى أشكال معقدة داخل أجسامنا لأداء جميع أنواع الوظائف، من تعزيز عملية التمثيل الغذائي إلى مقاومة البكتيريا. نحن نعلم ما القوى والاعتبارات التي تملي الشكل الوظيفي المطوي الذي سيتبناه كل بروتين. ولكن هناك الكثير من الذرات التي تتفاعل مع بعضها بعضا لدرجة أننا لا نستطيع حساب ذلك حساباً مثالياً. هذا حدٌّ محبط لمعرفتنا، لأن معرفة التركيب الدقيق للبروتين يمكن أن يساعدنا على تصميم أدوية جديدة.
نظرية الفوضى
هناك قضية أكثر جوهرية لها دور في هذا كله. اتضح أن سلوك بعض الأنظمة حساس حتى لأصغر اختلاف في شروط البداية – فهي تخضع لما نسميه الفوضى Chaos. الطقس مثال كلاسيكي. فالتغييرات الصغيرة في درجات حرارة الهواء أو مستويات الرطوبة في يوم ما قد تؤدي إلى عواصف غير متوقعة في اليوم التالي. تنطبق الفوضى على سيناريوهات تبدو أبسط أيضاً. ويختلف مدار القمر حول كوكبنا والذي يستغرق تقريبا نحو 27 يوماً بما يصل إلى 15 ساعة من شهر إلى آخر بسبب السحب Pull المتغير باستمرار من الأرض والشمس الذي يؤثر في القمر. ومن المؤكد أن الفوضى والتعقيد يضعان قيوداً على ما يمكننا معرفته. لكنها أكثر مرونة من الحدود الصلبة التي تمليها القوانين الفيزيائية نفسها. فعلى سبيل المثال، من خلال قياس الظروف الجوية في الوقت الحاضر قياساً أكثر دقة واستخدام حواسيب أسرع، يمكننا التنبؤ بتنبؤات أفضل بالطقس، إلى حد ما.
في حين أن جوانب العالم – من الطقس إلى الأسواق المالية إلى أنماط انتشار المرض – ستكون دائماً عرضة للفوضى، فهناك حيل يمكننا استخدامها لفهمها فهماً أفضلاً. ويقول تيم بالمر Tim Palmer، الفيزيائي من جامعة أكسفورد University of Oxford، إن إحدى الاستراتيجيات المفيدة هي تشغيل سلسلة كبيرة من محاكاة النظام الذي تدرسه مع اختلافات صغيرة في ظروف البداية. كلما بدأت نتائج السيناريوهات بالتباعد مبكراً، زادت صعوبة التنبؤ بالنظام. فهذه «المحاكاة الجماعية» Ensemble simulations هي الآن نهج قياسي. هذا هو السبب في أن توقعات فرصة هطول الأمطار تأتي الآن في كثير من الأحيان تقدم على شكل نسبة المئوية – مفيدة لمنحنا مستوى مناسباً من الثقة في ترك مظلاتنا في المنزل. ويقول جيمس ليدمان James Ladyman، الفيلسوف من جامعة بريستول University of Bristol بالمملكة المتحدة: «غالباً ما يوصف الجهل المستنير بأنه معرفة ما لا تعرفه».
لكن ليس بالضرورة أن يكون الأمر على هذا النحو. ومن الأمثلة على ذلك الطريقة التي أحدث بها الذكاء الاصطناعي Artificial Intelligence (اختصاراً: الذكاء الاصطناعي AI) ثورة في قدرتنا على حساب الهياكل التي تتبناها البروتينات. فأنظمة الذكاء الاصطناعي AI ذات التعلم العميق Deep-learning لا تحاول كسر هذا من خلال نمذجة الفيزياء. بدلاً من ذلك، يتم تدريبها على آلاف الهياكل البروتينية المعروفة وتستخدم هذه المعرفة للتنبؤ ببنى جديدة. في يوليو 2022، قالت شركة ديب مايند DeepMind للذكاء الاصطناعي إن خوارزميتها ألفا فولد AlphaFold قد حسبت هياكل 200 مليون بروتين، جميعها تقريباً معروفة للعلم. في بعض الأحيان، يمكن أن تتغير حدود ما يمكن فهمه عملياً تغيرا جذريا في غمضة عين.
© 2022, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC
بقلم أنّا ديمينغ