كيف نفهم الواقع الكمي إذا كان يستحيل قياسه؟
إذا لم نتمكن من قياس شيء ما، فلا يمكننا معرفة طبيعته الحقيقية. فهذا القيد الأساسي يعوق فهمنا لعالَم الكمّ Quantum world - لكنه لا يحول دون التفكير العلمي
بقلم توماس لوتون
معظمنا يعتقد بديهيا أن الواقع يجب أن يبقى على ما هو عليه حتى عندما لا ننظر إليه. فإذا تهاوت شجرة في غابة ما في حين لم يكن أحد هناك ليسمع دوي سقوطها، فإن الهواء سيهتز على الرغم من ذلك مُصدراً موجات صوتية، أليس كذلك؟ غير إن هذا مقترح يصعب إثباته، بل يصير أصعب وأصعب عندما تفكر في الأشياء التي تبدو موجودة، ولكننا لن نتمكن أبداً من رصدها. ومع ذلك، فإن التعامل مع مسألة كيفية قياس ما لا يمكن قياسه يمكن أن يساعدنا على معرفة ما هو «الواقع» Reality حقاً.
هناك عدد قليل من المجالات التي تمنعنا قوانين الطبيعة فيها من إدراكها. فلا يمكن لشيء أن يسافر أسرع من الضوء، ما يعني أننا لن نرى ما وراء حافة الكون المرصود Observable universe – وهي المسافة القصوى التي عبرها الضوء منذ بداية الكون للوصول إلى تلسكوباتنا. تنص النسبية العامة General relativity على أنه لا يمكن لأي شيء داخل الثقب الأسود Black hole الهروب، لذا فهذه منطقة أخرى محظورة (انظر: ماذا يوجد داخل الثقب الأسود؟).
ولكن الحد الجوهري الذي يحدد ما يمكننا قياسه ربما يكون آتياً من قوانين فيزياء الكم. إذ تخبرنا هذه القوانين بأنه إذا قمنا بقياس إحدى خصائص Property الجسيمات الكمّيّة Quantum particle اليوم، فمن المستحيل معرفة ما إذا كنا سنحصل على النتيجة نفسها عند قياسها بمعدات مطابقة غداً. وبهذا المعنى، فإن قوانين ميكانيكا الكم ليست مثل قوانين إسحاق نيوتن الكلاسيكية للحركة، والتي تعطي تنبؤات قطعية. بدلاً من ذلك، يمكن لهذه القوانين التنبؤ بكيفية تصرف الأشياء في المتوسط.
مشكلة القياس
التفسير التقليدي لهذه الحقائق هو أن الجسيمات موجودة في سحابة Cloud فيها العديد من الحالات States المحتملة في وقت واحد، وتصفها بنيةٌ رياضياتية تُعرف بالدالة الموجية Wave function. الفكرة هي أن الدالة الموجية تنهار Collapses لتصير حالة واحدة فقط عند القياس، أي نصل إلى اليقين Certainty. إذا كان الأمر كذلك، قبل أن ننظر للواقع، يكون وكأنه ضباب من الاحتمالات، ومعرفتنا به تكون ضبابية في أحسن الأحوال.
ولكن لا يتفق الجميع مع هذا الطرح. ففي رأي فلاتكو فيدرال Vlatko Vedral، الفيزيائي من جامعة أكسفورد University of Oxford، أنه من الخطأ التمييز بين الجسيمات التي تلتزم بقواعد نظرية الكم والشخص الراصد لها أو جهاز القياس المستخدم والذي يتبع قوانين الفيزياء الكلاسيكية. ويعتقد أنه في نهاية المطاف، كل شيء هو كمّي، ويجب أن نرى الواقع كدالة موجية عالمية ضخمة واحدة.
إذا قبلنا أن الدالات الموجية هي جوهر الواقع، فإن هذا يقدم لنا فيزياء الكم في ضوء جديد. فكل شيء له دالة موجية وكلها متشابكة كمّيّا فيما بينها، وهذا يعني أن قياس إحداها يؤثر في الأخرى. لذلك لا يمكننا التفكير في قياس أجسام معزولة بالمعنى العلمي التقليدي؛ لأن جهاز القياس والجسم المراد قياسه يتفاعلان دائماً. وبعبارة أخرى، فإن الواقع كما نراه هو نتاج لكل من الراصد والجسم المفحوص، وليس منظوراً واقعياً قائماً بذاته لهذا الجسم، وهو أمر يصعب علينا فهمه. يقول نوسون يانوفسكي Noson Yanofsky من كلية بروكلين Brooklyn College في نيويورك: «لا يمكنك عزل الأنظمة إلا بشكل غير كامل. وهذا يؤدي إلى نقص في المعرفة». وأما مسألة ما إذا كان هذا حداً بالفعل أم لا، فتعتمد على وجهة نظرك. إذ يقول فيدرال: «يعتبر هذا حداً فقط إذا كنت تفكر منطلقا من تلك المفاهيم القديمة».
ميكانيكا الكم العلائقية
يتفق العديد من الفيزيائيين على أن رسم خط واضح بين الأجسام الكمّيّة الصغيرة والأجسام الكلاسيكية الكبيرة أمر إشكالي. ولكن الآراء تختلف حول كيفية تفسير عالم الكم بالضبط. لا يعتقد كارلو روفيلي Carlo Rovelli، من جامعة إيكس مرسيليا Aix-Marseille University في فرنسا، أن الدالة الموجية هي كائن حقيقي. فقد كان يعمل على فكرة بديلة تعرف بالتفسير العلائقي لميكانيكا الكم Relational interpretation of quantum mechanics. بحسب رأيه، فإن كل شيء موجود لا يمكنه الوجود إلاَّ متعلقاً بأشياء أخرى، بما في ذلك أنت. ويوجد الجسيم عندما تقيسه، لكنه لا يوجد في معظم الأوقات. «إن السؤال عن ماهية زخم (كمية الحركة) Momentum الإلكترون يمكن أن يكون ببساطة سؤالاً لا معنى له»، كما يقول.
ربما لا نتمكن أبداً من إثبات أي تلك التفاسير هو الصحيح؛ لأن رصدنا للعالم الكمي يبدو أنها تغيره. ولكن قد تكون هناك طرق للتقدم في الفهم. إذ يجادل روفيلي في أنه بإمكاننا استخدام تفسيرات مختلفة من أجل توضيح الألغاز الموجودة في الفيزياء. فعلى سبيل المثال، يشك روفيلي في أن هذه النظرة العلائقية قد تساعد التوفيق بين ركيزتي الفيزياء الحديثة والمشهورتين بعدم التوافق: نظرية الكم والنسبية العامة. ولكن إذا تمكنت من التوفيق بينهما، فهذا سبب وجيه لدعمها.
وكذلك، فإن هناك إمكانية – حتى وإن كانت ضئيلة – في أننا سنجد يوماً ما طريقةً للرؤية داخل الضباب الكمّيّ دون التسبب بانهيار الدالة الموجية. فإذا كانت قوانين الفيزياء تقول إن شيئاً ما مستحيل، فهذا صحيح فقط ما دامت القوانين نفسها صحيحة. لكننا قد نتوصل إلى نسخة أعمق من نظرية الكم تجعل ذلك المستحيل ممكناً. غير أن فيدرال لا يعلق آماله على أن ذلك سيظهر عالماً حتمياً قابلاً للتنبؤ به مرة أخرى. ويقول: «من المحتمل أن يصير الأمر أكثر غرابة».
ماذا يوجد داخل الثقب الأسود؟
إذا سقطت في ثقب أسود، فإنك لن تعود. فهذا لا ينطبق فقط على الناس، بل ينطبق على أي جهاز قياس أو مركبة سيئة الحظ قد نرسلها إلى الفراغ. وعندما نتخطى أفق الحدث الأيقوني Event horizon للثقب الأسود، تكون الجاذبية قوية لدرجة أن الأشياء تتمدد كقطع السباغيتي. ومع ذلك، قد تكون هناك ثغرة يمكن من خلالها أن يخرج شيء ما.
قبل عقود، اكتشف ستيفن هوكينغ Stephen Hawking أن الثقوب السوداء تتبخر ببطء عن طريق إصدار إشعاع. إذا تبخر الثقب الأسود بالكامل، فإن المعلومات Information التي امتصها على مر الدهور ستكون قد طمست – لكن أحد القوانين الرئيسية للطبيعة هو أنه لا يمكن تدمير المعلومات. هذا هو جوهر مفارقة معلومات الثقب الأسود Black hole information paradox.
لا يزال الفيزيائيون منقسمين بشدة حول هذا الأمر. فقد تمكنا من تصوير الثقوب السوداء، ونمذجتها باستخدام سوائل غريبة هنا على الأرض، وتجزئة المشكلة نظرياً إلى أجزاء أصغر. ومع ذلك، فإن الهدف هو أنه من خلال دراسة ما يحدث عند حافة أفق الحدث مباشرة، يمكننا الاقتراب من حل المعضلة. ومن خلال ذلك، يأمل الكثيرون بأن نحصل على لمحة عن نظرية جديدة للجاذبية الكمّيّة، نظرية تفوق كلاً من ميكانيكا الكم والنسبية العامة.
© 2023, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC.