أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
مواضيع غلاف العدد

عندما تصطدم المجرّات

عمليات اندماج المجرّات عملياتٌ عنيفة مدمِّرة؛ ولكن كوننا، كما نعرفه - بما في ذلك الحياة على الأرض - قد لا يكون موجوداً من دونها. هنا يعرض كولين ستيوارت القصة.

تصطدم المجرات
عمليات اندماج واستحواذ: الآثار المتشابكة لستة اصطدامات مجرية، التقطها التلسكوب هابل الفضائي

في زاوية بعيدة من الكون، على بُعد 45 مليون سنة ضوئية تقريباً، هناك بلايين النجوم ترقص رقصة فالس سماوية. إنها تدور وتدور وتدور هناك، وإذا أمعنتَ النظر إليها، فستبدو لك ارتعاشاتُ أضوائها مجتمعة مثل قرون استشعار حشرة. ومن هذا المشهد المذهل حصلت هذه المجموعة القديمة من النجوم على اسمها: مجرّات الهوائيات Antennae Galaxies.

الاسم الإنجليزي بصيغة الجمع هو دليل على أصلها الحقيقي. هذه ليست مجرّة مفردة، بل مجرّتان في طور اندماج. إن عملية اندماج المجرّات Galaxy mergers، مثل هذه، هي شريان حياة الكون، إذ تؤدي إلى بناء تلك البنى الهائلة التي تهيمن على الكون حتى يومنا هذا. والأكثر من هذا من الممكن لتصادم المجرّات واندماجها أن يساعد على جعل الكون مكاناً أكثر ملاءَمة للحياة. وليس من المبالغة القول إننا لن نكون موجودين من دونها. ومع ذلك، بالنسبة إلى أمر بهذه الدرجة من الأهمية، لم يبدأ علماء الفلك إلّا أخيراً في رفع الستارة لكشف أسرارها. وهناك أسرار كثيرة ما زالت متوارية وراءها. وإليكم هنا قصة ما نعرف وما لا نعرف عنها.

يقول كريستوفر كونسيليتشي Christopher Conselice، أستاذ علم الفلك خارج المجرّي Extragalactic astronomy في جامعة مانشستر University of Manchester: ”إذا نظرنا إلى تاريخ جميع المجرّات، فستجد أن كل مجرّة قد شهدت عدداً قليلاً من عمليات الاندماج الكبيرة وبعض الاندماجات الصغيرة“. يحدث الاندماج الكبير Major merger عندما يكون الجِرمان المتشابكان متساويَي الحجم تقريباً. أما إذا التهمت مجرّة كبيرة مجرّة أخرى صغيرة، فتصنف العملية على أنها عملية اندماج صغيرة Minor merger.

ما الذي يؤدي إلى حوادث اندماج مثل هذه؟ يقول كونسيليتشي: ”الإجابة البسيطة هي الجاذبية Gravity“. لا يوجد شيء ثابت في الكون، والمجرّات تتحرك عبر الفضاء. إذا تقابلت مجرّتان على مسافة قريبة، فإن قوة الجذب المتبادل بينهما يمكن أن تقربهما أكثر. ومع تضاؤل المسافة بينهما، تتعاظم قوة الجذب المتبادل أكثر فأكثر، وفي النهاية تكونان على مسار تصادم.

تصطدم المجرات
ارتسم شكل مجرّة الدوامة بفعل اشتباكها مع المجرّة الصغيرة NGC 5195

تصادُم أو تجاوُز؟
مع ذلك سيكون من الخطأ النظرُ إلى حوادث اندماج المجرّات على أنها معادل كوني لحادث تصادم سيارات. يقول كونسيليتشي: ”النجوم لا تتصادم“. عادةً ما تبلغ الفجوة بين النجوم داخل المجرّة مئات بلايين إلى عشرات التريليونات من الكيلومترات. وتبدو فرص اصطدام نجمين في اندماج مجرّي نموذجي أقل احتمالاً من رمي عملة معدنية 27 مرة لتعطي كلُّها الوجه ذاته.

لكن من الممكن مع ذلك أن تتمزق النجوم بسبب قوى الجذب المدي Tidal forces الشديدة في أثناء اندماج المجرّات. يُنتزَع الحطام من المجرّة ويتناثر في خيوط طويلة من النجوم مثل تلك التي تظهر في مجرّتَي الهوائيات. وفي نهاية المطاف يهدأ الرقص، وتستقر النجوم المتبقية في مجرّة واحدة، وغالباً ما تنحني في شكل غريب.

هناك صور متنوعة لما يمكن أن ينشأ عن عملية الاندماج. يمكن لمجرّتَين لهما أذرع حلزونية Spiral arms مميزة أن تصيرا مجرّة إهليلجية Elliptical galaxy عديمة الملامح تقريباً كتلة نجوم على شكل كرة الرغبي Rugby-ball. يوضح كونسيليتشي: ”وقد تحصل على مجرّة حلقية Ring galaxy“. في هذه الحالة يؤدي الاندماج إلى تجويف الجزء الداخلي من المجرّة، تاركاً فقط النجوم الخارجية في حلقة حول المركز. ثم هناك مجرّة الدوامة Whirlpool Galaxy، التي تتفاعل حالياً مع المجرّة NGC 5195 المرافقة لها والأصغر حجماً.

وأياً كان ما يحدث، فهذه ليست عملية سريعة. يقول كونسيليتشي: ”تستغرق عمليات الاندماج بليون سنة حتى تنتهي“. كما أن عمليات الاندماج المجرّي تترك بصماتها بطرق أخرى أيضاً. يقول كونسيليتشي: ”يتأثر الغاز بالفعل. إنه يتفاعل مع غازات أخرى“. يؤدي هذا إلى عمليات ملحمية لبناء النجوم، حيث تؤدي ظروف الحرارة والضغط المرتفعة إلى ولادة نجوم جديدة. كان معدل نشوء النجوم في المجرّات في بَدء تاريخ الكون يبلغ 50% تقريباً، لكنه انخفض إلى نحو 30% في كوننا الحديث.


تصطدم المجرات
قد لا تعود للثقوب السوداء المتفاعلة فيما بينها طرقٌ لفقدان الطاقة، مما يعني أن دورانها مغزلياً نحو الداخل سيتوقف في النهاية

مشكلة الفرسخ الفلكي البارسك الأخير

المجرّات تتصادم، وكذلك تتصادم ثقوبُها السوداء الهائلة، أليس كذلك؟ في الواقع، الأمر ليس بهذه البساطة

تتضمَّن أفكارنا بشأن ما يحدث عندما تصطدم المجرّات اندماجَ الثقوب السوداء المركزية فائقة الكتلة. لكن علماء الفلك يواجهون مشكلة عندما يحاولون وضع نموذج دقيق لكيفية حدوث ذلك.

من أجل أن يندفعا كلٌّ منهما نحو الآخر بحركة لولبية، يجب على الثقبين الأسودين أن ينزفا طاقة أولاً. في البَدء تُنقل هذه الطاقة إلى المادة المحيطة، بما في ذلك الغاز والغبار. وباستثناء الحالة التي يقتربان فيها كلاهما من الآخر إلى مسافة فرسخ فلكي واحد (بارسك Parsec) ما يزيد قليلاً على ثلاث سنوات ضوئية يبدو أنه لم يَعُد هناك ما يكفي من المادة لنقل الطاقة إليها. هذا هو ما يعرف باسم مشكلة البارسك الأخير Final Parsec Problem.

لا بد من وجود حل، وقد التقطت التجارب الحديثة، مثل تجربة نانوغراف NANOGrav، كثيراً من موجات الجاذبية التي تبدو كأنها تأتي من تصادم ثقوب سوداء فائقة الكتلة. من الواضح أن هناك شيئاً مفقوداً في نماذجنا النظرية. قد يكون هذا هو تأثير ثقب أسود ثالث، لكن من غير المرجح أن يفسر هذا جميع الحالات. ربما تتفاعل الثقوب السوداء مع بيئتها بطريقة أخرى تؤدي إلى فقدانها للطاقة المدارية Orbital energy، فتدور مغزلياً Spiral بعضها نحو بعض إلى أن يصطدم بعضها ببعض. في الوقت الحالي تظل مشكلة الفرسخ الفلكي (البارسك) الأخير واحدة من أكبر الألغاز في علوم المجرّات والثقوب السوداء.


ومن دون تشكُّل النجوم ومن دون اندماج المجرّات التي ساعدت في تشكُّلها على نطاق واسع ربما لم نكن لنوجَد. يوضح كونسيليتشي قائلا: ”لن يكون لديك المقدار نفسه من المعدنية Metallicity في الكون“. ووفقاً لعلماء الفلك، المعدن Metal هو أي عنصر كيميائي غير الهيدروجين أو الهيليوم. تُحوِّل النجوم الضخمة هذين العنصرين إلى عناصر أثقل، مثل النتروجين الذي يشكل معظم الهواء الذي تتنفس، أو الأكسجين الموجود في هذا الهواء الذي يبقيك على قيد الحياة، أو ذرات الكربون نفسها التي تتكون أنت منها في المقام الأول. يقول كونسيليتشي: ”ترتبط عمليات الاندماج المجرّي بوجود الكواكب ونشوء الحياة“.

“وعلى الرغم من أن عمليات اندماج المجرّات تقدم عرضاً مذهلاً، فإن هناك كثيراً مما يجري خلف الكواليس ولا نستطيع رؤيته”

وعلى الرغم من أن عمليات اندماج المجرّات تقدم عرضاً مذهلاً، فإن هناك كثيراً مما يحدث خلف الكواليس ولا نستطيع رؤيته. أحد أسباب ذلك هو أن النجوم، والغازات، والغبار إنما تمثل جزءاً صغيراً فقط من المجرّة. معظم كتلة المجرّة هي مادة معتمة Dark matter. في الواقع، عندما تتصادم مجموعات من المجرّات تسمى العناقيد المجرّية Clusters، غالباً ما تنفصل المادة العادية Ordinary matter عن المادة المعتمة، مما يقدم دليلاً قوياً على وجود تلك الأخيرة. يمكن لعلماء الفلك رؤية تأثير المادة المعتمة من خلال تأثير يُعرف باسم عدسة الجاذبية Gravitational lensing، حيث يؤدي الجِرم المُندمج إلى ثني أشعة ضوء النجوم البعيدة من حوله.

يكشف الضوء الذي ينحني ويلتف حول عناقيد المجرّات عن وجود المادة المعتمة

تأثيرٌ لا يُرى
تؤدي المادة المعتمة دوراً كبيراً في أفضل نموذج لدينا حالياً لحجم الكون وبنيته وأصله. يقول كونسيليتشي: ”إنه يُسمى النموذج لامبدا للمادة المعتمة الباردة Lambda CDM“. يشير الاختصار CDM إلى اسم مادة معتمة باردة Cold Dark Matter ويقول: ”إن عمليات الاندماج هي من تنبؤات النموذج Lambda CDM“. لذا فإن العثور عليها يغذي صورتنا الأساسية للكون ويعززها. إذا لم نرَ اندماج مجرّات، فسيكون هناك خطأ ما في النموذج، وسيتعين على علماء الفلك العودة إلى البَدء من جديد.

ويوضح كونسيليتشي قائلاً: ”ترتبط كتلة الثقب SMBH بكتلة المجرّة، وهناك ارتباط وثيق بين الطريقة التي ينشأ وَفقَها الثقب الأسود وكيفية تشكُّل المجرّة“. بهذه الطريقة يكون الثقب SMBH هو قائد الأوركسترا الكونية. ومع ذلك ما زالت هناك خطوة مفقودة لا يدركها علماء الفلك تماماً. لقد رأينا كثيراً من الثقوب السوداء الصغيرة، وكثيراً أيضاً من الثقوب السوداء الضخمة، ولكن عدد الثقوب السوداء المتوسطة بينهما هو قليل جداً. ستكون مثل هذه الثقوب السوداء متوسطةُ الكتلة هي الوحدات الأساسية للثقوب SMBHs، ولذلك فهي ربما تندمج بسرعة ولا تدوم فترة طويلة.

تتجه الأنظار كلها الآن نحو موجات الجاذبية، والتشوهات Distortions في الزمكان، على أنها مفتاح العثور على الثقوب السوداء فائقة الكتلة المتصادمة

اكتشاف تموُّجات
يمكن لتزاوج الثقوب السوداء أيضاً أن يفتح الباب لاستكشاف اندماجات المجرّات البعيدة جداً، والخافتة جداً، والتي لا يمكن رؤيتها بالتلسكوبات العادية. عندما يصطدم ثقبان أسودان، ينتج عنهما موجات جاذبية Gravitational waves هي تموجات في صميم بنية نسيج الكون نفسه. إنها تنطلق بسرعة الضوء نفسها، وتترامى في النهاية عند الساحل السماوي للأرض.

سيكون المرصد LISA، المكون من ثلاث مركبات، هو أولَ مرصد فضائي يكتشف موجات الجاذبية

ما زال علم فلك موجات الجاذبية Gravitational wave astronomy في مراحله الأولى، إذ جاء أول الاكتشافات في العام 2015 فقط. وإلى الآن فإن أجهزتنا، مثل مراصد لايغو LIGO وفيرغو VIRGO، هي حساسة لاندماجات الثقوب السوداء الصغيرة تلك التي تبلغ كتل ثقوبها المتصادمة عشرات أضعاف كتلة الشمس. ولكي نتمكن من اكتشاف موجات الجاذبية الناتجة عن اندماجات الثقوب SMBH، سنحتاج إلى تجربة رصد أكبر، أكبر بكثير. ولحسن الحظ هناك واحدة بالفعل في طور الإعداد. سيتكون هوائي مقياس التداخل الليزري الفضائي (اختصاراً: الهوائي لايزا LISA)، المقرر إطلاقه في العام 2037، ويتألف من ثلاث مركبات فضائية تحلِّق على شكل مثلث. ستكون المسافة الفاصلة بين كل منها 2.5 مليون كم.

ربما تعتقد أن جميع المجرّات ستندمج في نهاية المطاف عندما تسحبها قوى الجاذبية – بلا هوادة – معاً. ومع ذلك، هناك عامل آخر يؤدي دوره، ألا وهو عامل تزداد قوته بمرور الوقت: الطاقة المعتمة Dark energy.

في تسعينات القرن العشرين، صُدم علماء الفلك عندما أدركوا أن توسُّع الكون يتسارع. الطاقة المعتمة هي الاسم الغامض الذي يُطلَق على السبب غير المعروف لحدوث ذلك. إنه لامدا في النموذج Lambda CDM.

”سيأتي وقت تؤدي فيه الطاقة المعتمة إلى تمدد المسافات بين المجرّات إلى حدٍّ لن يمكن معه حدوث اندماج مجرّي“

إنها معركة لا تستطيع الجاذبية الفوز فيها. فمع استمرار الطاقة المعتمة في توسيع الكون بوتيرة متسارعة، ستتسع الفجوة الفاصلة بين معظم المجرّات. ستضعف جاذبيتها، وستدفعها الطاقة المعتمة إلى مسافات أبعد. وسيأتي زمن تؤدي فيه الطاقة المعتمة إلى تمدد المسافة بين المجرّات إلى حد لن يعود فيه حدوث الاندماج المجرّي ممكناً.

في الواقع ستنعكس عمليات الاندماج كلها بنحو فعال. وفي آخر الأمر، سيصير الفضاء بين جميع النجوم داخل المجرّة كبيراً جداً بحيث لن تتمكن قوة الجاذبية من تقييدها. وبعد ذلك ستتمزق المجرّات بكاملها. بعبارة أخرى: ستؤدي الطاقة المعتمة ذات يوم إلى إلغاء جميع أعمال البناء التي أنجزتها عمليات الاندماج المجرّي على مدى الـ 13.5 بليون سنة الماضية. ولذلك من الأفضل الاستمتاع بها ما دام ذلك لا يزال ممكناً. 

كولين ستيوارت Colin Stuart:
(@skyponderer) مؤلِّف ومحاضر في علوم الفلك. احصل على نسخة إلكترونية مجانية من كتابِه من موقعه، على الرابط: colinstuart.net/ebook


ربما تكون مجرّة المثلث (في أقصى يسار الصورة) قد وجهت مجرّة درب التبانة (أعلى الصورة) بعيداً عن التصادم المباشر مع مجرّة المرأة المسلسلة (في الأسفل)

اصطدام مجرتي المرأة المسلسلة ودرب التبانة

لا تؤثر عمليات الاندماج المجرّي في المجرّات البعيدة فقط؛ فمجرتنا درب التبانة هي أيضاً على مسار تصادم

تحدث معظم الاصطدامات المجرّية على مسافات آمنة في زوايا بعيدة من الكون. ومع ذلك هناك اصطدام واحد سيحدث يوماً ما على مقربة من الأرض، مع عواقب محتملة مهمة على الحياة فوقها.

تبعد حالياً أقرب مجرّة مجاورة لنا، وهي المرأة المسلسلة (أندروميدا) Andromeda Galaxy، مسافة 2.5 مليون سنة ضوئية. ولكن هذا الوصف ينطبق فقط على الوضع حالياً. تضيق المسافة بين مجرتي المرأة المسلسلة ودرب التبانة بمعدل 300 كم في الثانية. وفي غضون 4.5 بليون سنة تقريباً، ستكون كلٌّ منهما على مسافة قريبة جداً من الأخرى.

اعتقد علماء الفلك أن المجرتين كانتا تتجهان إلى تصادم مباشر، لكن البيانات الواردة من المركبة الفضائية غايا Gaia spacecraft التابعة لوكالة الفضاء الأوروبية تشير إلى أن اللقاء سيكون أشبه بلمحة خاطفة، سيكون العامل الحاسم فيها هو تأثيرَ مجرّة المثلث Triangulum Galaxy المجاورة في حركة مجرّة المرأة المسلسلة. ولذا فهي تبدو في الواقع أشبه برقصة تانغو ثلاثية معقدة.

ومع ذلك فإن الاضطراب المدي Tidal disruption الذي يحدث عندما تمر كلٌّ من المجرتين بجانب الأخرى يمكن أن ينتزع نجوماً بالفعل من مجرّة درب التبانة. يمكن لهذا أن يشمل الشمس، مع أن ذلك سيكون هو الوقتَ الذي ستبدأ فيه الشمس بالموت. وفي كلتا الحالتين، فإن استمرار الحياة على الأرض سيشكِّل تحدياً.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

Back to top button