الحرب في غزة تخلق أزمة صحية ستمتد لعقود
تنتشر الإصابات الجسدية ومشكلات الصحة النفسية وسوء التغذية على نطاق واسع في غزة – وليست لدى المجموعات الصحية الرئيسية خطط ثابتة لمعالجة الأزمة الوشيكة
يتطور الوضع في غزة بسرعة إلى أسوأ أزمة إنسانية في التاريخ الحديث، وليست لدى المنظمات الصحية الدولية خطط طويلة الأجل لتلبية احتياجات القطاع بعد الحرب.
أكثر من ثلاثة أرباع سكان غزة البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة، ونصفهم من الأطفال، نازحون داخلياً، ومحاصرون في واحدة من أكثر المناطق اكتظاظاً بالسكان في العالم مع الحد الأدنى من الوصول إلى الغذاء أو الماء أو الرعاية الصحية. منذ 7 أكتوبر، قصفت إسرائيل القطاع بشكل مكثف، وأعاقت تدفق المساعدات الإنسانية، ودمرت البنية التحتية المدنية. ونتيجة لذلك، لقي أكثر من 30,000 فلسطيني حتفهم في غزة – معظمهم من النساء والأطفال – وفقاً للأمم المتحدة، وأصيب أكثر من 72,000.
ومع ذلك، فإن هذه الأرقام تشير فقط إلى بداية الكارثة في الصحة العامة؛ حيث سيواجه أولئك الذين نجوا من الحرب آثارًا صحية مدى الحياة. وسيعيش آلاف الفلسطينيين بأطراف مفقودة ومناعة منقوصة وأمراض نفسية وغيرها من الحالات المزمنة. وستكون تلبية احتياجاتهم الصحية مهمة تستمر لعقود، وهي مهمة لم تخطط لها أي منظمة إغاثة عالمية بشكل كافٍ.
تفتقر كل من منظمة الصحة العالمية وبرنامج الأغذية العالمي واليونيسيف وجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني ومنظمة كير الدولية وأطباء بلا حدود إلى خطط ملموسة وطويلة الأجل لتلبية الاحتياجات الصحية في غزة، وفقًا للمعلومات التي شاركتها كل من هذه المنظمات مع نيو ساينتست. فلم تقدم منظمة رعاية الأطفال واللجنة الدولية للصليب الأحمر ردًا على الأسئلة حول خططهما طويلة الأجل.
# كارثة إنسانية غير مسبوقة
يرجع الافتقار إلى التخطيط لاحتياجات الرعاية الصحية للعقود القادمة جزئياً إلى ضخامة الأزمة الإنسانية الحالية؛ حيث يعيش معظم الناس في غزة في ظروف مزدحمة دون معالجة لمياه الصرف الصحي وتخلص من القمامة. في المتوسط، يحصل الناس على أقل من لتر واحد من المياه النظيفة يوميًا. ونتيجة لذلك، تتفشى الأمراض المعدية.
وجدت دراسة استقصائية في عدد محدود من الملاجئ في ديسمبر ويناير أن %90 على الأقل من الأطفال ممن هم أقل من 5 سنوات مصابون بواحد أو أكثر من الأمراض المعدية، و%70من الأطفال أصيبوا بالإسهال في الأسبوعين الماضيين. وتقول مارغريت هاريس Margaret Harris من منظمة الصحة العالمية: «وهذا لا يمثل مئات الآلاف من الأشخاص الذين ليسوا في ملاجئ اللاجئين».
كما ينتشر الجوع على نطاق واسع. ويتناول ما يقرب من ثلثي الأسر وجبة واحدة في اليوم، ويواجه ربع السكان مجاعة وشيكة وسوء تغذية شديدًا. ووفقًا للمسح، فإن الظروف أكثر سوءًا في شمال غزة حيث يعاني طفل واحد من كل 6 أطفال من سوء التغذية. أفادت وزارة صحة غزة
في 7 مارس أن 20 شخصًا، من بينهم 15 طفلًا، ماتوا بسبب سوء التغذية والجفاف. وبسبب ضعف الرصد في غزة، فإن هذه الأرقام من المرجح أن تكون أعلى بكثير.
تقول تانيا حاج-حسن Tanya Haj-Hassan من منظمة أطباء بلا حدود: «تكمن مشكلة سوء التغذية لدى الأطفال في أنه يولِّد المزيد من الأمراض». الأطفال الذين يعانون سوء التغذية هم أكثر عرضة للعدوى، والتي تغطي الجدار الداخلي للأمعاء، مما يصعب امتصاص العناصر الغذائية. وتقول: «لذلك، يزداد عندهم سوء التغذية، ونقص المناعة، ويصير الأمر حلقة مفرغة يشبه أثرها أثر كرة الثلج إلى أن توصل للموت».
وقد جعل القصفُ الكثيرَ من الأراضي غير آمنة. كما وجدت اليونيسف أنه بحلول ديسمبر، كان هناك أكثر من 1,000 طفل فقدوا أحد سيقانهم أو كليهما منذ بدء الصراع، وهو ما يمثل أكثر من 10 أطفال في اليوم في المتوسط. وهناك خيارات قليلة للحصول على الرعاية لهذه الإصابات؛ فاعتبارًا من 21 فبراير، كان 18 مستشفى فقط من أصل 40 مستشفى في غزة لا يزال يعمل، ولكن بسعة منخفضة. «ليست لديهم أدوية. ليست لديهم آلات. ليست لديهم كهرباء. قد يكون لديهم عدد قليل من الأطباء الذين يديرون غرفة الطوارئ. لذلك، لا يوجد حقًا نظام صحي فعال»، بحسب ما تقول سيلينا فيكتور Selena Victor في المنظمة الإنسانية ميرسي كور Mercy Corps، التي تقدم الغذاء في حالات الطوارئ في غزة.
جعلت الأزمة الإنسانية الساحقة المنظمات الصحية في معاناة. تقول هاريس: «لم نشهد مثل هذا المستوى من العنف والرعب والخوف والحرمان على أي مجموعة سكانية في التاريخ الحديث. بمعنى أو بآخر، نحن نسير في منطقة مجهولة».
# أزمةُ الصحة العامة الوشيكةُ في غزة
تقول هاريس إنه حتى ولو انتهت الحرب غدًا، سيواجه الناجون عواقب صحية مدى الحياة. سيعاني الكثيرون إعاقات جسدية. وسيعاني آخرون أمراضا نفسية شديدة. وقد يصاب البعض بأمراض رئوية مزمنة وأمراض القلب والسرطان الناتج من الملوثات الكيميائية في القنابل والمباني المدمرة.
وسيكون التأثير أشد ما يكون على الأطفال. تقول حاج-حسن إن سوء التغذية المستمر في وقت مبكر من الحياة يعيق النمو ويضعف نمو الدماغ، مما يسبب عجزًا في الإدراك والذاكرة والوظيفة الحركية والذكاء. كما أنه يضعف أجهزة المناعة لدى الأطفال، ويتركهم عرضة للمرض. تظهر الأبحاث أن سوء التغذية أثناء الحمل يزيد من خطر إصابة الأطفال بالسمنة وارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب وداء السكري من النوع 2. وهناك تقرير نشره في فبراير مشروع الأملProject Hope، وهي منظمة إغاثة دولية، وجدت أن 1 من كل 5 نساء حوامل عولجن في عيادة غزة يعانين سوء التغذية، وكذلك 1 من كل 10 أطفال عولجوا هناك.
ومع ذلك، فإن الضرر الأكثر انتشارًا سيكون آثار الصحة النفسية، كما تقول هاريس. وتقول: «فقط تخيل كيف يبدو الأمر بالنسبة إلى الأشخاص الذين يمرون بهذا كل يوم من دون توقف. لديهم شعور رهيب بعدم اليقين – لا توجد فكرة إلى أين يذهبون، وما الذي سيحدث بعد ذلك، ومن أين ستأتي اللقمة الصغيرة التالية من الطعام». ترتبط هذه التجارب المؤلمة بالاكتئاب والقلق واضطراب الكرب التالي للصدمة Post-traumatic stress disorder والأفكار الانتحارية. في الأطفال، يمكن أن تعطل هذه الصدمة نمو الدماغ والأعضاء وتزيد من خطر صعوبات التعلم وأمراض الصحة النفسية. من دون التدخلات المبكرة، قد تستمر هذه المشكلات في مرحلة البلوغ. تقول هاريس: «سنرى عبئًا هائلاً تسببه الأمراض النفسية، والتي سيكون من الصعب للغاية التعامل معها».
البالغون الذين عانوا محنا في مرحلة الطفولة يكون احتمال إصابتهم باضطرابات تعاطي الكحول والمخدرات ومحاولات الانتحار أكثر بمقدار 12 ضعفًا. ويكونون أكثر عرضة للإصابة بحالات صحية جسدية أيضًا، مثل أمراض القلب أو السرطان. أما الشباب الذين ينجون من الصراع، فلديهم ما يقرب من ثلاثة أضعاف معدلات الإصابة بأمراض نفسية شديدة، من مثل الذهان، مقارنة بأولئك الذين لا يعيشون الحرب.
# الخطط الحالية لما بعد الحرب ليست كافية
وبالنظر إلى هذه العواقب، يجب وضع خطط صحية طويلة الأجل لغزة. يجب أن تتناول هذه الخطط إعادة بناء البنية التحتية، وتطوير برامج إعادة التأهيل النفسي والبدني والفحص الروتيني للأمراض.
تقول فيكتور: «يبدو من السخف أن نتحدث عن الشكل الذي ستبدو عليه السلطات البلدية عندما يموت الناس الآن وهم يحاولون الحصول على بضعة أرغفة من الخبز لعائلاتهم. ببساطة هذا غير منطقي. ولكن علينا التفكير بالأمر».
ومع ذلك، فإن معظم المنظمات بدأت للتو بالقيام بذلك. فالقلة التي لديها بروتوكولات معمول بها – بما في ذلك جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني ومنظمة كير الدولية – مجهزة للعام أو العامين المقبلين، ولكن ليس لعدة عقود. وتعمل منظمة الصحة العالمية على وضع خطط لتلبية الاحتياجات الصحية من أبريل 2024 إلى نهاية العام. تقول هاريس: «نأخذ بالحسبان العديد من السيناريوهات المختلفة. السيناريو الجيد هو وقف إطلاق النار الذي يساعدنا على النظر بصدق في [الخطط طويلة الأجل]». والاحتمال الآخر هو أن الحرب ستستمر.
هذا الغموض، إلى جانب السؤال الذي يلوح في الأفق حول من سيحكم غزة في أعقاب الصراع، يجعل الاستعدادات المستقبلية صعبة للغاية. تقول هاريس: «سبب رغبتنا الملحة لرؤية حل سلمي، وليس مجرد وقف إطلاق نار، هو أنه من دون حل سلمي، ستكون أيُّ خطة وأيُّ شيء نفكر فيه مجردَ أحلام لا سبيل لتحقيقها».
وقد حدد الكيان الإسرائيلي من وصول المنظمات المساعدة إلى المنطقة، ولا يستطيع العدد القليل من العمال الموجودين في غزة العمل بأمان. تقول فيكتور: «نصف الوقت لا يستطيعون فعل أي شيء. لا يمكنهم التحرك بأمان. وتظل أشياء أساسية مثل الاتصالات تتوقف عن العمل». كما أن الكثير منهم قد مات. على سبيل المثال، فإن أحد أعضاء فريق إعادة بناء الأطراف Limb reconstruction التابع لمنظمة الصحة العالمية في غزة، وهي شابة تبلغ من العمر 29 عامًا تدعى ديما عبد اللطيف محمد الحاج قُتلت في غارة جوية إسرائيلية جنبا إلى جنب مع طفلها البالغ من العمر 6 أشهر، وشقيقيها وزوجها، بحسب ما تقول هاريس.
تصعب هذه المخاطر والعقبات من التخطيط على المدى الطويل. تقول فيكتور: «يمكنك وضع أي خطة تريدها، ولكن إذا كنت لا تعرف ما هي الاحتياجات، فلن تضع خطة مفيدة جدًا».
# كارثة ببليون دولار
سيتطلب الأمر مبلغًا هائلاً من المال لمعالجة الدمار واسع النطاق في غزة. تقول مارغريت هاريس Margaret Harris من منظمة الصحة العالمية إن التقديرات المبكرة تشير إلى أن هناك حاجة إلى 2O4.2 مليون دولار لتمويل خطة الطوارئ الصحية في غزة لعام 2O24 فقط.
وفي الوقت نفسه، قال متحدث باسم جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني إن المنظمة لديها ميزانية قدرها 300 مليون دولار لحملتها في غزة، والتي ستستمر حتى نهاية عام 2025. وسيستخدم ما يقرب من 38 مليوناً من هذه الأموال للقطاع الصحي، بما في ذلك إعادة تخزين الإمدادات الطبية، وسيارات إسعاف إضافية والوقاية من الأمراض المعدية.
لن يكون هذا كافيًا لتلبية الاحتياجات الصحية طويلة الأجل للفلسطينيين في غزة. ومن الصعب تقدير ما سيكون مطلوبًا الآن، لكن هاريس تعتقد إنه على المدى الطويل «من المنطقي القول إن المبلغ سيصل إلى البلايين».
عُدِّلت المقالة في 12 مارس 2024 بتوضيح دور منظمة ميرسي كور في المنطقة
مصدر المقالة:
© 2024, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC