أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
غير مصنف

الفرصة الخفية في المفارقات

عندما تواجه المؤسسات خياراتٍ مستحيلة، تُوسع المؤسسات - التي تتبنى خيارات تبدو متناقضة - نطاق ما هو ممكن.

البحث
استعرض المؤلف الأدبيات الأكاديمية ذات الصلة؛ وأجرى مقابلات متعمقة مع مسؤولين تنفيذيين ومستشارين ورجال أعمال داخليين ذوي خبرة مباشرة في المفارقة المؤسسية؛ وأجرى تحليلاً باستخدام الديناميكا النفسية للأنظمةSystems psychodynamics (مجموعة من الأدوات لدراسة التفاعل بين الهياكل والمعايير وممارسات المجموعات وإدراكات أعضاء المجموعة ودوافعهم وعواطفهم) من ضمن برنامج الماجستير التنفيذي في التغيير لدى إنسياد INSEAD.
سكوت دي. أنتوني

تتطلب قيادة مؤسسة أن نواجه مجموعة ثابتة من الخيارات. هل يجب أن نستثمر في هذه السوق أو تلك؟ هل يجب أن نقدم منتجات فاخرة أو بضائع السوق الشاملة؟ هل يجب أن نعرض حوافز على الأفراد أو الفرق؟ هل يجب علينا توظيف خريجي الجامعات حصرياً أو البحث عن غير الخريجين ذوي المهارات المتخصصة؟ في حين أن هذه الخيارات يمكن أن تتطلب دراسة متأنية، إلا أنها واضحة بنحو أساسي. إن الخيارات الصعبة حقاً التي سيواجهها القادة في عالمنا المتزايد التعقيد، كما يجادل بعض المفكرين الإداريين، تُمثل نوعاً مختلفاً تماماً من المشكلات: المفارقة.

من المحتمل أن يكون كثر منا قد واجهوا فكرة المفارقة في المقام الأول في سياق الفن أو الفلسفة. إذ يعرّف قاموس أكسفورد للجيب للغة الإنجليزية الحالية Oxford Pocket Dictionary of Current English المفارقة Paradox بأنها ”بيان أو اقتراح يبدو سخيفاً أو متناقضاً ذاتياً قد يثبت أنه قائم على أساس جيد أو صحيح“. قد تعيد الكلمة إلى الأذهان أمثلة مثل عبارة سقراط: ”أعلم أنني لا أعلم شيئاً“. قد تكون المفارقات مثيرة للاهتمام للتفكير فيها، لكننا لا نفكر في كثير من الأحيان في كيفية توسيع تفكيرنا كقادة مؤسسيين. وهذا يتغير بطرق مهمة.

في كتابهما التفكير بطريقة معاً/و Both/And Thinking، تُعرف عالمتا الأعمال ويندي كاي. سميث Wendy K. Smith وماريان دبليو. لويس Marianne W. Lewis المفارقات بأنها ”تناقضات مستمرة ومترابطة“.((W.K. Smith and M.W. Lewis, “Both/And Thinking: Embracing Creative Tensions to Solve Your Toughest Problems” (Boston: Harvard Business Review Press, 2022).)) هذا يعني أنها تحتوي على عنصرين على الأقل يرتبطان كلاهما بالآخر لكن يبدو أنهما متناقضان. وصفت الأستاذة في مدرسة لندن للأعمال London Business School هيرمينيا إيبارا Herminia Ibarra ”مفارقة الأصالة“ Authenticity paradox: يقال للقادة أن يكونوا صادقين من أجل النجاح، لكن القائد الحقيقي يمكن أن يعاني من أجل التطور، لأنه يركز على أن يكون صادقاً مع نفسه بدلاً مما هو مطلوب للنجاح.((H. Ibarra, “The Authenticity Paradox,” Harvard Business Review 93, no. 1-2 (January-February 2015): 52-59.)) يؤكد بعض العلماء أن فكرة المؤسسة Organization في حد ذاتها لها مفارقة ظاهرة في جوهرها لأنها ”من ناحيةٍ تحتوي على بشر أحرار ومبدعين ومستقلين؛ ومن ناحية أخرى تطمح العلاقة بين هؤلاء البشر إلى أن تكون علاقة تنظيم ونظام وسيطرة“.((S.R. Clegg, J.V. da Cunha, and M.P. e Cunha, “Management Paradoxes: A Relational View,” Human Relations 55, no. 5 (May 2002): 483-503.)) ويكون الابتكار مفارقة حادة جداً. لحل معضلة المبتكر الشهيرة التي وضعها كلايتون كريستنسن Clayton Christensen، تحتاجون إلى الاستماع إلى أفضل عملائكم وتجاهلهم؛ والحفاظ على نموذج عملكم Business model الحالي وزعزعته Disrupt؛ ودعم شبكة القيمة Value network الحالية الخاصة بكم وتقويضها. وعلى نطاق أوسع يتعين على قادة اليوم بناء ثقافات شاملة وفريدة من نوعها تعمل على تمكين الموظفين وتوجيههم مع تحقيق التوازن بين العمل والحياة للموظفين ذوي الرغبات المتنوعة جداً.

يمكن أن تنشأ مفارقات واضحة كهذه على مستوى الفرد أو الفريق أو المؤسسة، وحتى السياق الأكبر الذي تعمل فيه المؤسسة، مثل صناعة أو دولة أو مجتمع بكامله. لكن إذا كانت المفارقة شيئاً غير قابل للحل بنحو أساسي، فهل هذا يعني أن تحديات الأعمال هذه لا يمكن التغلب عليها؟

صناعة مفارقاتية
يبدو أن صناعة الطاقة تمر بلحظة حادة من المفارقة. وصف تقرير صادر عن رويال داتش شل Royal Dutch Shell قطاعات مثل النقل التجاري والطاقة والتصنيع والطاقة بأنها ”صناعات مفارقاتية“ Paradox industries مع ”ضغوط هائلة لزيادة إنتاجها وفي الوقت نفسه تقليل تأثيرها في كوكبنا. لزيادة حجمها مع تقليص بصمتها Footprint. لأتمتة الوظائف مع توليد مزيد منها“.((“Under Pressure: Leading in Paradox Industries,” PDF file (Shell Lubricant Solutions, 2021), www.shell.com.)) المخاطر كبيرة. يشير مستثمرون ناشطون إلى أن هذه التوترات مستعصية على الحل إلى درجة أن شل يجب أن تنقسم إلى ثلاث شركات. في يونيو 2023، أعلن الرئيس التنفيذي المعين حديثاً لشل خططاً لممارسة ”القسوة“ Ruthless في تخصيص رأس المال، وخفض بعض الاستثمارات في تكنولوجيات الطاقات المتجددة وزيادة الاستثمار في الوقود الأحفوري. وقال الرئيس التنفيذي وائل صوان Wael Sawan: ”في نهاية المطاف ما نحتاج إلى الاضطلاع به هو أن نكون قادرين على توليد قيمة طويلة المدى لمساهمينا. لا يمكن أن تكون الإجابة: ‘سأستثمر [في مشروعات الطاقة النظيفة] ولدي عوائد ضعيفة وهذا سيبرئ ضميري’. هذا خطأ“.((T. Wilson, “Shell Chief Sets ‘Ruthless’ New Course to Catch Up With U.S. Rivals,” Financial Times, June 18, 2023, www.ft.com.))

ما الخيارات المتاحة لشل وغيرها من شركات الطاقة في مواجهة مفارقة تبدو غير قابلة للتوفيق؟ فلنتأمل هنا النُهُج المتناقضة التي اتبعتها شركتان كبيرتان أخريان من شركات الطاقة.

في أواخر تسعينات القرن العشرين، حاولت شركة النفط والغاز العملاقة بريتيش بتروليوم British Petroleum (BP) (وفشلت) إعادة تسمية نفسها بـ”ما وراء البترول“ Beyond Petroleum واستثمرت البلايين في مشروعات الرياح والطاقة الشمسية، والتي جرى إغلاق عديد منها لاحقاً أو فصلها عن الشركة الأم. في فبراير 2020، أطلقت بريتيش بتروليوم محاولة أخرى سعياً نحو الطاقة النظيفة، إذ أعلن الرئيس التنفيذي برنارد لوني Bernard Looney خططاً لخفض إنتاج الشركة من النفط بنسبة 40%، وبيع 25 بليون دولار من أصول الوقود الأحفوري، وتعزيز قدرة الشركة على توليد الكهرباء من مصادر متجددة بواقع 20 ضعفاً. واعترفت الشركة بأن أعمالها في مجال الطاقة النظيفة تخسر المال وستستمر في خسارة الأموال حتى العام 2025 على الأقل. لكن عندما ارتفعت أسعار الطاقة بعد ثلاث سنوات، أعلن لوني (الذي استقال أواخر العام 2023) خططاً لإبطاء التخفيضات المخطط لها وتقليص الإنفاق على مصادر الطاقة المتجددة. وبينما شدد قادة بريتيش بتروليوم على أن الشركة كانت تراجع التزامها بتحويل محفظتها Portfolio، ولم تنتهِ من ذلك بعد، بدت القصة تذكرنا بنحو مخيف بغزوتها الأولى في مجال الطاقة النظيفة.((For more on BP, see R. Bousso, “Special Report: BP Gambles Big on Fast Transition From Oil to Renewables,” Reuters, Sept. 20, 2021, www.reuters.com; R. Bousso, S. Nasralla, and S. Mcfarlane, “Insight: Inside BP’s Plan to Reset Renewables as Oil and Gas Boom,” Reuters, March 7, 2023, www.reuters.com; and “BP Turns Out Lights at Solar Business,” Reuters, Dec. 21, 2021, www.reuters.com.))

يمكن القول إن التاريخ الحديث لبريتيش بتروليوم يجسد عقلية إما/وإما Either/or في العمل. أي عندما ترون التوتر الواضح بين جزأين من المفارقة، تختارون أحدهما أو الآخر. تعاملت بريتيش بتروليوم مع الطاقة المتجددة على أنها تعارض بنحو أساسي الوقود الأحفوري، إذ كثفت الأولى (أو سوَّقتها) بحزم على حساب الأخير – وهو نهج كان محكوماً عليه بمعاودة الظهور عندما تغيرت الظروف.

في المقابل، اتخذت شركة الطاقة الدنماركية أورستيد Ørsted نهج معاً/و Both/and، فخاضت مباشرة في تناقضات المفارقة لإيجاد حل يوحد الأجزاء التي تبدو في حالة توتر. في العام 2009، أعلنت الإدارة أن الشركة (المعروفة آنذاك باسم دونغ إنرجي DONG Energy) ستسعى إلى توليد 85% من الحرارة والطاقة من مصادر متجددة بحلول العام 2040. استكشفت الاستثمار في الرياح البحرية، وبدأت في التوقف التدريجي عن استخدام الفحم. وبحلول العام 2019 أصبحت أكبر جهة منتجة لطاقة الرياح البحرية في العالم، وحققت هدفها الطموح بشراسة قبل 21 سنة من الموعد المحدد في الخطة. في العام 2019 باعت أعمالها في مجال الفحم ووحدتها للغاز الطبيعي المسال. وعلى الرغم من أنها لم تعد تنتج الغاز، فإنها تُواصل العمل في المجال كجهة مزودة للبنية التحتية والمتاجرة، إذ أشار ناطق رسمي في العام 2019 قائلاً: ”ستكون هناك فترة انتقالية طويلة تؤدي إلى نظام طاقة خضراء بنسبة 100%، لا يمكن للمجتمع خلالها الاستغناء عن الغاز. الغاز هو الوقود الأحفوري الأقل ضرراً المتاح لدعم الانتقال إلى الطاقة الخضراء، وسنواصل تداول الغاز سنوات مقبلة“.((For more on Ørsted, see J. Parnell, “Orsted Sells LNG Unit, but Says Its Natural Gas Business Isn’t Going Anywhere,” Greentech Media, Dec. 19, 2019, www .greentechmedia.com; and S.D. Anthony, A. Trotter, R. Bell, et al., “The Transformation 20: Strategic Change Rankings for 2019,” PDF file (Boston: Innosight, September 2019), www.innosight.com.))

يجب على الشركات، بالطبع، تعديل استراتيجياتها ديناميكياً بناءً على ظروف السوق. لكن على نطاق أوسع، يتعين عليهم أن يعيدوا النظر في التصور المحدود بأن هناك توتراً بين ملاحقة العوائد القصيرة المدى وإعادة التوجيه الاستراتيجي الأطول أمداً. لقد أظهر سيل من الأبحاث الأكاديمية مراراً وتكراراً أن المُقايضة المتصورة بين اتباع سياسات صديقة للكوكب ورفع العوائد المالية إلى أقصى حد هي مقايضة زائفة. في كتابه الغرض + الربح Purpose + Profit، يصف الأستاذ في مدرسة هارفارد للأعمال Harvard Business School جورج سيرافيم George Serafim دراسة أظهرت أن الشركات التي تحركها الأغراض وتتخذ نظرة متكاملة إلى مسائل الاستدامة حققت زيادة في عوائد أسهمها المعدلة بحسب المخاطر Risk-adjusted boost بنسبة 6%.((G. Serafeim, “Purpose and Profit: How Business Can Lift Up the World” (New York: HarperCollins Leadership, 2022).))

هذه طريق مثبتة للتغلب على السوق. وطريق تقدم أيضاً الخير إلى كوكب الأرض. بسيط، أليس كذلك؟ للأسف لا.

القوة الاستقطابية للمفارقة
المفارقات هي مسائل معقدة وقابلة للتكيف على مستوى النظام مع عدم اليقين Uncertainty المتفشي. لهذا السبب أثبتت معضلة المُبتكر أنها عنيدة جداً على الرغم من عقدين من العمل من قِبل ممارسين وقادة فكر.((S.D. Anthony and M. Putz, “How Leaders Delude Themselves About Disruption,” MIT Sloan Management Review 61, no. 3 (spring 2020): 35-42.)) يعاني البشر مجموعةً يمكن التنبؤ بها من التحيزات والبقع العمياء Blind spots التي تجعل السعي وراء الحلول من نوع معاً/و أمراً صعباً. يؤدي التحيز التأكيدي Confirmation bias إلى تجاهل القادة للأدلة التي تتعارض مع معتقداتهم الحالية. تحيّز تجنّب الخسارة Loss aversion bias وتحيز الوضع الحالي Status quo bias يعنيان أن الناس يفضلون تجنب المخاطر على تحملها. ونظراً إلى التسلسل الهرمي والتفكير الجماعي يصعب على المجموعات رؤية طريقها خلال مثل هذا التعقيد Complexity. 

إحدى النتائج المتكررة من الأبحاث الأكاديمية التي أُجرِيت على مدى العقدين الماضيين هي أن المفارقة تنتج ردود فعل مُستقطِبة Polarizing reactions. وقد أكد بحثي الخاص هذه النتيجة.((S.D. Anthony, “The Paradox of Paradoxes: Why the Perceived Paradoxes Facing Organizational Leaders Are Material Illusions That Simultaneously Attract and Repel,” PDF file (Singapore: INSEAD, July 1, 2021).)) أجريتُ عشرات المقابلات المتعمقة مع قادة أعمال وجدوا أنفسهم يواجهون مفارقات حددها علماء مثل سميث ولويس، مثل التوتر بين السعي وراء الأرباح Profits والغرض Purpose، والحفاظ على العمليات الحالية Current operations ودفع النمو المزعزع، Disruptive growth ومكافأة الأداء الفردي وتشجيع الإنصاف Equity. (انظر: البحث، ص 29).

على الجانب الإيجابي، أنتجت هذه الأنواع من المفارقات مشاعر الفضول والإثارة والمشاركة. وصف أحد المستهدفين ببحثي، الذي واجه المفارقة يومياً في دوره في قيادة وحدة ابتكار داخل شركة محافظة جداً، كيف أن مناقشة Discussing المفارقة تجعله يشعر ”بالتحفيز، كما هي الحال في منتصف لعبة شطرنج رائعة“. ووصف مسؤول تنفيذي ساعد في إطلاق أعمال بقيمة بليوني دولار داخل شركة بضائع استهلاكية كبيرة كيف أن العثور على ”نقطة خارج الخط“ Point off the line (بيانات لا تتوافق مع التوقعات) كان مثيراً لأنه فتح إمكانية وجود مسار جديد للحل. ووصف مسؤول تنفيذي آخر كيف أنه واجه، كرئيس جامعة، المفارقة الظاهرة بين التعليم العالي الجودة القائم على الحرم الجامعي والبرامج عبر الإنترنت التي يمكن الوصول إليها والمتوافرة بأسعار معقولة. شكل المسؤول التنفيذي عديداً من الفرق ذات الأغراض الخاصة وقادها. ضمن أحدها أن العروض داخل الحرم الجامعي وعبر الإنترنت تفي بالمعايير الأكاديمية الصارمة. وساعد آخر الأساتذة داخل الحرم الجامعي على التعلم من المعلمين عبر الإنترنت والعكس صحيح. إضافةً إلى تحويل Transforming مؤسسته الأكاديمية، أشار المسؤول التنفيذي إلى كيف عزّز هذا الجهد النمو الشخصي: ”على المستوى المؤسسي، أنا أكثر فاعلية، وعلى المستوى الشخصي أنا إما شخص أفضل وإما على الأقل شخص أكثر وعياً بالذات“.

ومع ذلك تشير الأبحاث أيضاً إلى أن المفارقات يمكن أن تعزز ”القلق وعدم اليقين والغموض، ما يجعل الأفراد يشعرون بالتهديد ويتخذون موقفاً دفاعياً“.((J. Schad, M.W. Lewis, S. Raisch, et al., “Paradox Research in Management Science: Looking Back to Move Forward,” Academy of Management Annals 10, no. 1 (January 2016): 5-64.)) وصف رئيس تنفيذي CEO سابق قاد التحول الاستراتيجي في مؤسستين كيف أن مواجهة المفارقة أثارت أسئلة أساسية حول هوية المؤسسة: الاضطرار إلى اتخاذ خيارات تبطل جوانب تلك الهوية ويمكن أن يكون له تأثير متتالٍ في الأفراد الذين يرتبطون بالهوية القديمة للمؤسسة.

وصف أحد الممارسين مفارقة السعي إلى الابتكار داخل مكتب محاماة. قال المحامي: ”العمل الذي أضطلع به ذو طبيعة مفارقاتية، لأننا من المفترض أن نضطلع بالابتكار، وهو بحكم التعريف جديد، لكن إذا كان جديداً جداً، فلا أحد يريد في الواقع الاضطلاعَ بذلك لأنهم يريدون رؤية بعض الأدلة، أو يريدون بعض الطمأنينة بأنه سينجح“. في حين أن خروج المحامي عن ممارسة اتخاذ القرارات بناء على السوابق الماضية قد يبدو تافهاً، يتطلب انقطاع كهذا من المحامي التشكيك في جزء أساسي من نفسه ومؤسسته. بات المحامي الضائع في المفارقة مثبطاً ومحبطاً: ”أنا عالق في المنتصف. لست في وضع يسمح لي بالقول: ‘دعونا نمضِ قُدماً ونغير هذه الهياكل التي تعيق عملنا’… [أو] أن نقول: ‘فلنكن صادقين بشأن ما نضطلع به ونذكر ذلك بوضوح… نحن في الواقع لا نضطلع بأشياء رائدة’، لذلك نشعر بالضعف“.

يمكن أن تسفر المشكلات المفارقة في الأعمال عن حلول جديدة عندما يفكر القادة فيما وراء القيود الظاهرة.

هل هي حقاً مفارقة؟
في حين أن المفارقات الفلسفية الكلاسيكية غير قابلة للحل من ضمن قيودها المنطقية Logical constraints، يمكن أن تسفر المشكلات المفارقة في الأعمال عن حلول عندما يفكر القادة بما يتجاوز القيود الظاهرة – أو ”المبتكرة“، إذا صح التعبير. أطلق كريستنسن على كتابه الأول اسم معضلة المبتكر The Innovator’s Dilemma، وليس مفارقة المبتكر The Innovator’s Paradox. إن تحديات التغيير المُزَعْزع Disruptive change محيرة، لكن على غرار المفارقات المتصورة التي تواجه المسؤولين التنفيذيين المعاصرين، هي قابلة للحل. لا يوجد قانون طبيعي ينص على أن على شركات المحاماة استخدام السوابق السابقة عند النظر إلى مشروعات الابتكار. يمكن للأفراد تغيير مجموعة والبقاء جزءاً منها في الوقت نفسه. يمكن للأفراد تغيير أنفسهم من دون أن يفقدوا إحساسهم بالذات.

فلنتأمل هنا بعض التوترات الأخرى التي تبدو غير قابلة للتوفيق والتي حُلَّت:

■ كان من المقبول عموماً أن التصنيع المربح يتطلب إجراء مقايضات Trade-offs بين التكلفة والجودة والسرعة – حتى أظهرت تويوتا Toyota أن هذه المقايضات كانت خاطئة.

■ كان من المعروف أن التصنيع له عشوائية متأصلة تتطلب مراقبة واسعة النطاق للجودة – حتى أظهرت حركة الحيود السداسية الرشيقة Six Sigma أن العملية المصممة والمدارة بإحكام يمكن أن تنتج مخرجات يمكن التنبؤ بها بدرجة كبيرة.

■ اعتقد القادة أن عليهم بطبيعة الحال اعتماد آليات رقابة أكثر صرامة مع نمو المؤسسات من أجل منع مخالفات الموظفين – حتى أظهرت نتفليكس Netflix أن ”اللاقواعد تحكم“ No rules rules.((R. Hastings and E. Meyer, “No Rules Rules: Netflix and the Culture of Reinvention” (New York: Penguin, 2020).))

■ أدرك الناشطون البيئيون وقادة الأعمال أن الاستدامة والربحية هدفان غير متوافقين – حتى أوفت خطة المعيشة المستدامة Sustainable Living Plan لدى يونيليفر Unilever بالتزامها بمضاعفة الإيرادات مع خفض البصمة البيئية للشركة إلى النصف.

يمكن للمسؤولين التنفيذيين، بالطبع، اختيار اتباع نهج إما/ وإما. أو يمكنهم استخدام التقنيات التالية للبحث عن فرص لإيجاد حلول من صنف معاً/و.

غيِّروا وجهات النظر  Shift perspectives. انظروا في مفهوم التوازن بين العمل والحياة. في الدقيقة التي تقرؤون فيها هذه الجملة، لا يمكنكم أن تكونوا متوازنين، لأنك تفعل شيئاً أو آخر. الآن، ابتعدوا وتخيلوا أنكم تقدرون أن متوسط عمركم المتوقع هو 80 سنة. هذا نحو 700,000 ساعة معيشة. لنفترض أنكم عامل مجتهد حقاً، بمتوسط 50 ساعة في الأسبوع، مدة 50 أسبوعاً في السنة، على مدى 50 سنة. هذا 125,000 ساعة. لذلك أنتم تعملون فقط بنسبة 18% من ساعات معيشتكم. توازنوا! هذه الإجابات المتطرفة ليست مفيدة بنحو خاص، لكن ضعوا في اعتباركم الاحتمالات التي تُفتَح من خلال اتخاذ منظور ربع سنوي. يسمح هذا الإطار الزمني بطقوس مثل إجازة عائلية في عطلة نهاية الأسبوع، وقواعد القرار مثل عدم السفر أكثر من 10 أيام في ربع السنة، أو تحديد أكثر صرامة للوقت، مثل تخصيص فترات زمنية للأنشطة العائلية.

وعلى نحو مماثل، من الممكن أن يؤدي التحول في الأفق الزمني إلى إعادة صياغة التوترات المرتبطة بالطاقة المتجددة الموصوفة سابقاً. فلنتأمل هنا دراسة واحدة تقارن بين خمس مؤسسات تعمل في الرمال النفطية في ألبرتا بكندا.((N. Slawinski and P. Bansal, “Short on Time: Intertemporal Tensions in Business Sustainability,” Organization Science 26, no. 2 (March-April 2015): 531-549.)) واجهت الشركات كلها توترات مفارقة واضحة لجهة توجهاتها الزمنية (قصيرة المدى في مقابل طويلة المدى) والفلسفية (الأعمال في مقابل المجتمع). نظرت بعض الشركات إلى هذه المسائل على أنها أقطاب من نوع إما/وإما تفرض الاختيار. لقد أعطت الأولوية للممارسات التي تفضل الكفاءة، مثل التخطيط الكمي Quantitative planning، وتقليل التفاعلات مع أصحاب المصلحة، ما أدى إلى ما وصفه الباحثون بأنه ”قصر النظر الزمني“ Temporal myopia الذي أدى إلى ”تضييق مساحة الحل“ Narrowing of the solution space.

أما تلك التي تراجعت وغيرت وجهات النظر ونظرت في الترابط بين المسائل فقد أشركت عديداً من أصحاب المصلحة، وسعت إلى إيجاد سبل للتعاون المتبادل. وقد سمح لها هذا النهج بوضع حلول متكاملة ذات إمكانات أكبر لتحقيق فوائد طويلة المدى لأصحاب المصلحة المعنيين جميعاً – بما في ذلك هي نفسها.

تتمثل إحدى طرق تغيير وجهات النظر والعثور على تلك النقاط التي تشير إلى حلول جديدة لمشكلة ما في إجراء سلسلة من التجارب الفكرية التي تتلاعب بالقيود. يمكن أن ينطوي ذلك على إزالة Removing قيد، مثل السؤال عن كيفية التعامل مع مفارقة واضحة بنمط مختلف إذا كان لديكم وقت غير محدود أو موارد غير محدودة، أو فرض Imposing Constraint، مثل تخيل ما ستفعلونه إذا حظرت الحكومة فجأة استخدام مادة خام معينة. في حين قد يبدو أن فرض قيود من شأنه أن يحد من الإبداع، تظهر الأبحاث باستمرار أن القيود يمكن أن تركز طاقة حل المشكلات وتعزز الإبداع. إحدى التقنيات التي يمكن أن تساعد على تحفيز هذه التجارب الفكرية هي ما يسميه هال غريغرسن Hal Gregersen ”تفجّر الأسئلة“ Question burst، حيث تضطلعون بتوليد الأفكار من خلال العصف الذهني Brainstorming ليس للحصول على إجابات، بل على أسئلة استفزازية.((H. Gregersen, “Better Brainstorming,” Harvard Business Review 96, no. 2 (March-April 2018): 66-71.))

تبنَّوا عقلية مفارقاتية Adopt a paradox mindset. يعزز تبني عقلية تنظر إلى المفارقات الظاهرة على أنها فرص الإبداع والأداء المؤسسي، وفق الأبحاث.((E. Miron-Spektor, A. Ingram, J. Keller, et al., “Microfoundations of Organizational Paradox: The Problem Is How We Think About the Problem,” Academy of Management Journal 61, no. 1 (February 2018): 26-45.)) يتفق الأشخاص الذين يظهرون عقلية مفارقاتية Paradox mindset مع عبارات مثل ”التوتر بين الأفكار ينشطني“ و”أنا مرتاح للعمل على المهام التي يتعارض بعضها مع بعض“. يمكن التعامل مع العقلية المفارقاتية بثلاث طرق. أولاً، يمكن تفحص القادة لتحديد أولئك الذين لديهم عقلية مفارقاتية من خلال جعلهم تشخيصاً قصيراً.((See “Paradox Mindset Inventory” at https://paradox.lerner.udel​.edu.)) ثانياً، يمكن استخدام العناصر الموجودة في التشخيص كحوافز Prompts قبل مناقشة جماعية لمساعدة الناس على التفكير في احتمالات متعددة عند مناقشة مفارقة واضحة. تظهر الأبحاث أن مجرد بدء الاجتماع بالقول إن التوترات تخلق إمكانيات يساعد المجموعة على تبني عقلية أكثر مفارقاتية.

أخيراً، يمكن أن تكون هناك جهود واعية لمساعدة الناس على تطوير Develop عقلية مفارقاتية. تبني الخبرة في الظروف الديناميكية أو المشكلات الصعبة ما يعرف باسم التعقيد الإدراكي Cognitive complexity (القدرة على النظر في مجموعة واسعة من الاحتمالات)، وهو عامل تمكين رئيس للعقلية المفارقاتية.((S. Malhotra and J.S. Harrison, “A Blessing and a Curse: How Chief Executive Officer Cognitive Complexity Influences Firm Performance Under Varying Industry Conditions,” Strategic Management Journal 43, no. 13 (December 2022): 2809-2828.)) تساعد خطط التطوير التي تمنح القادة ذوي الإمكانات العالية خبرة في إطلاق منتجات جديدة أو العمل في الأسواق الناشئة أو بناء قدرات مؤسسية جديدة على إعدادهم لمواجهة المفارقات المستقبلية. على نطاق أوسع، يمكن للأفراد التفكير في الذهاب في مهمة مفارقة، والاضطلاع بوعي بشيء غير عادي بالنسبة إليهم، مثل ما يلي:

■ المشاركة في دورة فنية أو تعلم العزف على آلة موسيقية أو تعلم لغة جديدة.

■ الاضطلاع بنشاط متطرف، مثل القفز بالمظلات.

■ التطوع أو المشاركة في نشاط موجَّه اجتماعياً.

■ التسجيل في برنامج عبر الإنترنت لتطوير مهارة جديدة، مثل الترميز Coding.

اعقِدوا جلسة سجال مفارقة Hold a paradox sparring session. يستخدم الملاكمون جلسات السجال Sparring sessions للتدريب. الهدف ليس ضرب خصمهم بل ممارسة الشكل والرد. جلسة السجال المفارقة هي مكان هادف للالتفاف حول الأفكار وتحدي الافتراضات. مثلاً، في أوائل العام 2000 أدت إعادة التنظيم إلى ارتباك داخل صانعة الألعاب الدنماركية الشهيرة ليغو Lego. طُلِب إلى المديرين الاضطلاع بأشياء تبدو متناقضة، مثل التركيز في الوقت نفسه على تطوير الأشخاص وتحقيق أهداف الإنتاج الصارمة. قادت لويس وزميلتها الأكاديمية لوت إس لوشر Lotte S. Lüscher المجموعة خلال سلسلة من جلسات السجال لمناقشة التوترات الواضحة.((L.S. Lüscher and M.W. Lewis, “Organizational Change and Managerial Sensemaking: Working Through Paradox,” Academy of Management Journal 51, no. 2 (April 2008): 221-240.))

يجب أن تتحدى جلسات السجال المشاركين بأربعة أنواع من الأسئلة:

■ تشجع الأسئلة الخطية Linear، مثل ”ما مخاوفكم؟“ على التفسير وتعزز المنطق.

■ تستكشف الأسئلة الدائرية Circular، مثل ”ماذا تعتقدون أن الآخرين يعتقدون؟“، وجهات نظر أخرى وتركز على الأقطاب.

■ تبحث الأسئلة الانعكاسية Reflexive، مثل ”ماذا يعني ما تقوله؟“، عن فرص لنقد الخيارات الحالية وربطها.

■ تحفز الأسئلة الاستراتيجية Strategic، مثل ”هل ما تقوله واقعي؟“، حلولاً أكثر توسعاً.

يساعد هذا النهج على إثارة مفارقة متصورة من الفوضى الظاهرة، وخلق فرص لاستكشاف حلول جديدة محتملة لتجاوزها. مثلاً تحدت ليغو المديرين لدفع الأداء والسماح للفرق بأن تتسم بإدارة ذاتية أكبر. وأدت جلسة السجال المكرسة للسؤال الذي يبدو مفارقاً حول كيف يمكن للمديرين التخلي عن السيطرة والاحتفاظ بها إلى حلول محددة، مثل التواؤم حول الأهداف ودرجات الحرية للفرق، وحوار أكثر انتظاماً بين المديرين والفرق، والاستثمار المركز لتعليم الفرق كيفية حل المشكلات. أنشأت ليغو في نهاية المطاف قائمة بعنوان ”مفارقة للقيادة11“ ”11 Paradoxes of Leadership“ لمساعدة قادة المستقبل على تطوير حلول عملية للتحديات المحيرة بأنفسهم.

المفارقات المؤسسية هي في نهاية المطاف أوهام. إنها تركيبات اصطناعية، أحياناً للنظام، ومرات للعقل. تفشل في تلبية تعريف المفارقة لأن قابلية التوفيق بينها ليست غائبة. ومع ذلك، لا تزال هذه العقبات الوهمية قائمة مع حماية الجماعات والأفراد لأنفسهم من التحديات المتصورة لمعالجتها. هي تطالب بالمشاركة لأن عملية المشاركة تكشف عن الوهم، وتطور إحساساً أعمق بالذات، وتبني قدرات المؤسسة. بدأ أحد المشاركين في بحثي، وهو مسؤول تنفيذي سابق في وادي السيليكون يبحث في الجانب الإنساني للتغيير التحويلي، مقابلتَنا بالقول: ”الإبداع المستمر يأتي من المفارقة…. كل معنى عظيم يأتي من التعامل مع المفارقة“.

يجب على القادة الذين يشعرون بأنهم يواجهون مفارقة أن يسألوا أنفسهم أربعة أسئلة:

1. هل المفارقة المتصورة حقاً قانون طبيعي، أو خيار صعب؟

2. هل أفرض قيداً يخلق المفارقة المتصورة؟

3. هل أنا متردد في التصرف لأن المفارقة المتصورة هي نتيجة للنظام الذي ساعدت في بنائه وإدامته وربما الاستفادة منه؟

4. هل يكشف إطار مختلف عن المفارقة على أنها وهم؟

ليس هناك شك في أن معالجة المفارقات المتصورة تمثل تحديات وتتطلب العمل. قد يكون من الأسهل على القادة أن يهزوا أكتافهم بنمط جماعي ويقولوا: ”ماذا يمكننا أن نفعل؟ إنه أمر صعب جدا“. يمكنهم أن يفعلوا ما هو أفضل. يمكن تشريح المفارقات المتصورة وتجاوُزها، وتحويلُ العجز إلى تمكين. اختاروا المفارقة لتحويل إما/وإما إلى معاً/و.

سكوت دي. أنتوني Scott D. Anthony

(@scottdanthony) أستاذ إكلينيكي في مدرسة تاك للأعمال Tuck School of Business في كلية دارتماوث Dartmouth College ومدير إداري فخري في شركة الاستشارات في مجال استراتيجية النمو إينوسايت Innosight. وهو مؤلف مشارك للكتاب كل، نم، ابتكر Eat, Sleep, Innovate (منشورات: Harvard Business Review Press، 2020).

Related Articles

Check Also
Close
Back to top button