يستطيع هذا الروبوت السبّاح الصغير التفكير بمفرده
تتمتع الآلات المجهرية بقدرة حاسوبية كافية لأداء مهام بسيطة بصورة ذاتية
مينيابوليس – لقد كانت الروبوتات الصغيرة التي تسبح عبر دمائنا لإيصال الأدوية أو اقتناص العوامل الممرضة Pathogens عنصراً رئيسياً في أدبيات الخيال العلمي منذ عقودٍ من الزمن. وصارت تلك الرؤية أقرب إلى الواقع، على الرغم من أنها لا تزال بعيدة المنال، وذلك بعد أن قام مهندسون كهربائيون بكشف الستار عن روبوتات دقيقة Microrobots تقل في حجمها عن حجم حبّات الرمل، وتتمتع بقدرةٍ حاسوبيةٍ كافيةٍ لأداء مهمة بسيطة بمفردها – عوضاً عن المواظبة على توجيهها من خلال إشارات خارجية.
«إنه لأمرٌ رائعٌ» كما وصفه دانيال غولدمان Daniel Goldman، عالم الفيزياء في معهد جورجيا للتكنولوجيا Georgia Institute of Technology، والمتخصص بالروبوتات كبيرة الحجم المُقلِّدة للحيوانات. لم يشارك في هذا البحث الذي استُعرِضت تفاصيله خلال الأسبوع الأول من مارس 2024 في اجتماعٍ للجمعية الفيزيائية الأمريكية American Physical Society، وتابع قائلاً: «لا يخفى أنهم يعملون على وضع بنيةٍ تحتيةٍ ستجعلُ بوسعنا المباشرة في صنع روبوتات يحتمل أن تكون ذاتية التحكم ومتناهية الصغر».
لقد كان من الصعبِ بمكان إدراك طموح الروبوتات الدقيقة ذاتية التحكم لأسبابٍ عدة، كما يقول مارك ميسكن Marc Miskin، وهو مهندس كهربائي من جامعة بنسلفانيا University of Pennsylvania (اختصاراً: الجامعة UPenn)، والذي تولّت مجموعته البحثية ابتكار الروبوتات الجديدة. يتطلب جعل الروبوت الدقيق Microrobot ذاتيّ التحكم إدماج نوعٍ محدد من الحواسيب، إلّا أن حجم أصغر حاسوب لم يصل إلى ما دون 1 مليمتر إلّا في نحو عام 2020، كما يقول ميسكن. «كانت أنظمة الحوسبة كبيرة بعض الشيء قبل 5 أو 6 أعوام» على حدِ قوله. وإضافة إلى ذلك، تعسّر ربط الإلكترونيات الدقيقة Microelectronics بالأنظمة الميكانيكية الخاصة بالروبوت، مثلما هي الحال عند تشغيل الآلة بكاملها على كميات ضئيلة من الطاقة.
ولتجاوز هذه العقبات، تعيَّن على ميسكن وزملائه في البداية الحصول على حاسوب مجهري Microscopic computer. وقد لجأوا إلى ديفيد بلاو David Blaauw، وهو مهندس كهربائي ومساعد بحثي من جامعة ميشيغان University of Michigan، يرجع إليه الفضل في إنتاج شريحة مزودة بمعالج ميكروي (صِغري) Microprocessor chip يبلغ عرضها نحو 100 ميكرومتر على وجه التقريب، وتحتوي على ذاكرة قابلة للبرمجة تتسع لـ128 بت فقط.
ومن ثم، قامت مايا لاسيتر Maya Lassiter، المهندسة الكهربائية من الجامعة UPenn، مع زملائها، بأخذ رقاقة شبه مُوصِّلة Wafer تضم آلاف النسخ من المعالج نفسه، وبنوا عليها جيشاً صغيراً من الروبوتات. استعملت لاسيتر تقنيات الليثوغرافيا Lithography القياسية من أجل حفر الأجزاء الأخرى المؤلِّفة للروبوتات بعد أن ثبّتت المزيد من المواد على الرقاقة. وكانت الروبوتات مستطيلة الشكل، وبلغ طولها نحو 300 ميكرومتر وبلغ عرضها 200 ميكرومتر، أي أنها ناهزت في حجمها حجم البراميسيوم Paramecium. تستعمل العديد من الروبوتات الدقيقة Microrobots التي تتحرك على الأسطح الجافة أرجلاً بالغة الصِّغَر، إلّا أن تصنيع تلك الزوائد الجسمية Appendages فائقة الرِقّة يعد أمراً غايةً في الصعوبة، ناهيك عن تعرضها للتآكل في غضون أسابيع قليلة. ولذلك، بادر لاسيتر وميسكن إلى تصميمِ روبوتٍ دقيقٍ قادرٍ على السباحة دون أن يحتوي على أجزاء متحركة.
تسبح الروبوتات الصغيرة في محلول بيروكسيد الهيدروجين Hydrogen peroxide مخفَّف على طبقٍ ضحل موضوع تحت المجهر. وبدلاً من الزعانف Flippers فإن لدى كل روبوت قطبا كهربائيا (إلكترود) Electrode على كل زاوية من زواياه. ويؤدي تعيين فرق الجهد بين قطبين كهربائيين على أحد جوانب الروبوت إلى توليد حقل كهربائي يتجه من قطب كهربائي إلى آخر. يدفع الحقل السائل الأيوني قليلاً في أحد الاتجاهين، في حين يشق الروبوت طريقه في الاتجاه المعاكس نحو القطب الكهربائي ذي الجهد الأعلى. ويستطيع الباحثون من خلال تغيير قيم الجهد على القطبين تحريك الروبوت نحو الأمام أو الخلف أو جعله ينزلق على أحد الجانبين أو أن يلتف أو حتى يدور حول نفسه. هذا ويمكن للروبوتات مواصلة السباحة لمدة تصل إلى 6 أشهر بعد فقدانها لأطرافها الرقيقة. «لقد كانت مفاجأة كبيرة أن يُفضي تبسيط هذا الأمر إلى جعله يدوم لفترة أطول مما توقعنا» كما قالت لاسيتر.
أمّا بالنسبة للطاقة، فيعتمد الروبوت على خلية شمسية Solar cell صغيرة تمتص الضوء من المجهر. ونظراً لبساطة الشريحة الدقيقة Microchip البالغ سعتها 128 بت، يحتاج الروبوت إلى نحو 75 نانووات – وهي عدة أجزاء بالألف من الطاقة التي يستهلكها مُنظّم ضربات القلب Pacemaker الحديث.
وأخيراً، شغّل الفريق الآلات الصغيرة التي كان الباحثون قد برمجوها من خلال سلسلة من الومضات الضوئية قبل أن يطلقوها. تحتوي الروبوتات على مستشعرات حرارية Temperature sensor بسيطة، إذ أعطاها الباحثون تعليمات بقياس درجة حرارة السائل المحيط وإعادة إرسال هذه القيمة. بدأ الروبوت بالرقص مترنِّحاً يمنةً ويسرةً، وهو مبرمج بحيث تترجم أوقات توقفه وحركته إلى رقمٍ ثنائي يشير إلى درجة الحرارة مُقاسةً بالدرجة السيليزية. «فعلياً، تمثّل حركة الروبوت البيانات بحد ذاتها» بحسب ما ذكرته لاسيتر للحاضرين في الاجتماع. وأكد الباحثون أن عمل الروبوتات كان مبرمجاً تبعاً للتفاوت في درجة الحرارة، ومقارنة القراءات بالقيم المأخوذة من مقياس الحرارة الماكروسكوبي (الكبير) Macroscopic thermometer الموضوع في المحلول.
أشار غولدمان إلى أن هذه التجربة كانت بمثابة خطوةٍ أولى. فالآن تسبح هذه الآلات في بيئة نظيفة ثنائية الأبعاد، ما يعادل حوض سباحة الأطفال بالنسبة إلى هذه الروبوتات الدقيقة، على حد قوله. سيتعين على الروبوتات التنقل في العالم الحقيقي ثلاثي الأبعاد الأكثر فوضى لتحقيقِ قدرٍ أكبر من الاستفادة كما يقول. وأردف قائلاً: «سيكون من الممتع جداً مشاهدة الباحثين وهم يواجهون تحديات التحرك في بيئات معقدة متناهية الصغر».
ذكرت لاسيتر أن للفريق البحثي طموحات أخرى أيضاً. كذلك، فإن بوسع الأقطاب الكهربائية Electrodes استشعار الحقول الكهربائية، وهو ما قد يُمكِّن الروبوتات من التواصل مع بعضها بعضا والتعاون على العمل. «سيتطلب التواصل ما بين الروبوتات مراجعة التصميم» كما قالت، وتابعت: «لذا فهذا ما نحن مهتمون به الآن».
بقلم: أدريان تشو
ترجمة: محمد كاتبي
المصادر العلمية:
doi: 10.1126/science.zjv6co5
حقوق المقالة:
©2024, American Association for the Advancement of Science. All rights reserved