أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
فيزياء

تعرف إلى الفيزيائية التي تبحث عن الجاذبية الكمية في أقواس قزح الجاذبية

تعتقد كلوديا دي رام أن للغرافيتونات، وهي جسيمات افتراضية يُعتقد أنها تحمل الجاذبية، كتلة. وإذا كانت محقة، يمكننا أن نتوقع رؤية «قوس قزح» على شكل تموجات في الزمكان

بقلم جوشوا هوغيغو 

تهدر المراوح بصوتٍ عالٍ، وتضخ الهواء إلى الأعلى بسرعة 260 كيلومتراً في الساعة. تتقدم كلوديا دي رام Claudia de Rham نحو الغرفة الزجاجية مرتدية بدلة زرقاء فضفاضة وخوذة حمراء ونظارات بلاستيكية، وفجأة تصير معلقة في الهواء، مع ابتسامة عريضة على وجهها، متحمسةً لتجربة محاكاة للسقوط الحر Free Fall.

لقد أقنعتُ دي رام، وهي عالمة فيزياء نظرية من جامعة إمبريال كوليدج لندن Imperial College London، بمرافقتي للقفز بالمظلة في الأماكن المغلقة Indoor Skydiving في آي فلاي لندن iFLY London. بدا ذلك ملائماً نظراً لتكريسها جزءاً كبيراً من حياتها لاستكشاف حدود الجاذبية Gravity وطبيعتها الحقيقية، ولم يكن إطلاقنا لأنفسنا من الطائرة خياراً، على الأقل في هذه المناسبة.

وكما تصف في كتابها الجديد جمال السقوط The Beauty of Falling، تدربت دي رام لتكون طيارة ومن ثمَّ رائدة فضاء، إلا أن مشكلة طبية أفسدت فرصها في الهروب النهائي من الجاذبية. ولكنها واصلت كفيزيائية نظرية استكشاف هذه القوة المألوفة والغامضة بطريقة أكثر عمقاً، وتركت انطباعاً بطرح سؤال جذري: ما وزن الجاذبية؟

وهي تشير بذلك إلى الغرافيتون Graviton الجسيم الافتراضي Hypothetical Particle الذي يعتقد أنه يحمل هذه القوة. فإن كانت لديه كتلة كما تعتقد دي رام، فإن ذلك من شأنه أن يفتح نافذة جديدة على الجاذبية. ومن بين أمور أخرى، قد نكتشف أخيراً «قوس قزح الجاذبية» Gravitational Rainbow الذي قد يكشف عن وجود الغرافيتونات، ومعه الوصف الكمي الذي طال انتظاره للجاذبية.

لقد كان ذلك مذهلاً، وممتعاً حقاً. ما تشعر به ليس الجاذبية فعلاً، إنه ضغط الهواء. ولكن من المذهل كيف تتمكن من اللعب هناك، من خلال موازنة ضغط الهواء والجاذبية نفسها

تجعل دي رام الأمر يبدو سهلاً عندما تطفو في الهواء. فسرعان ما تصعد إلى أعلى الغرفة، على ارتفاع نحو عشرة أمتار. وتصف ذلك عند خروجها وهي تحيي المدربين بالقول: «لقد كان ذلك مذهلاً، وممتعاً حقاً. ما تشعر به ليس الجاذبية فعلاً، إنه ضغط الهواء. ولكن من المذهل كيف تتمكن من اللعب هناك، من خلال موازنة ضغط الهواء والجاذبية نفسها».

بعد أن وضعنا أقدامنا على الأرض مرة أخرى، أخبرتني دي رام بأنها كانت مأخوذة دائماً بالقوة التي تبقيها على الأرض وتنظم حركة الكواكب Planets والمجرات Galaxies في معظم أنحاء الكون. وبدأت القصة عندما كان عمرها خمس سنوات فقط، عندما كانت تعيش في إكيتوس Iquitos في منطقة الأمازون Amazon البيروفية. وتتذكر أنها كانت تتأرجح في الأرجوحة هناك حين لاحظت الشعور بانعدام الوزن Weightlessness لأول مرة. وتكتب في كتابها: «في حين كنت أحدق في النجوم… كنت غالباً ما أتخيل أنني أطفو في الفضاء الخارجي، خارج الزمن متغلبة على الجاذبية. أثارت هذه اللحظة ما سيصبح افتتاناً بالموضوع مدى الحياة».

تنقلت دي رام مع والديها اللذين كانا يعملان في مجال التنمية المستدامة مراراً في طفولتها، من بلد إلى آخر. وتقول إن التفكير في شيء عالمي مثل الجاذبية كان مريحاً على نحو غريب وسط كل الاضطرابات. وتوضح: «انتابني شعور بالاستقرار مصدره كوني جزءاً من شيء أكبر بكثير مني».

أثناء دراستها للحصول على درجة الدكتوراه في كندا لاحقاً، تدربت كطيار وتقدمت بطلب لتصبح رائدة فضاء لدى وكالة الفضاء الأوروبية European Space Agency. نجحت في اجتياز عدة جولات اختبار، تضمنت إحداها محاكاة لمهمة إنقاذ عبر غابة وهمية. ومن بين أكثر من 8 آلاف مرشح، وصلت إلى آخر 42. ولكن بعد ذلك كشفت سلسلة من الاختبارات الطبية أنها مصابة بمرض السل الكامن Latent Tuberculosis Infection، ما يعني أنها غير مؤهلة.

ولحسن الحظ، كانت دي رام تعمل أيضاً على إيجاد طريقة أخرى للتغلب على الجاذبية، ليس بالهروب من قبضتها في الطائرات أو الصواريخ، ولكن من خلال محاولة اكتشاف كيفية عملها على المستوى الأساسي.

من الصعب تصديق ذلك بالنظر إلى المعادلات للمرة الأولى. لكن بالنسبة إلي، هي واضحة جداً، وتتجاوز تقريباً أي شكل من أشكال التواصل

لقد انجذبت لدراسة الجاذبية لبساطتها. وتقول إنه عندما يتعلق الأمر بوصف طريقة عملها على المستويات الكونية، يجب أن تزيل معظم التعقيدات. وتوضح «من الصعب تصديق ذلك بالنظر إلى المعادلات للمرة الأولى، لكن بالنسبة إلي، هي واضحة جداً، وتتجاوز تقريباً أي شكل من أشكال التواصل».

النسبية العامة
المعادلات التي تشير إليها دي رام هي تلك الخاصة بنظرية النسبية العامة General Theory of Relativity لألبرت آينشتاين Albert Einstein، والتي تصف الجاذبية بأنها نتيجة لتشويه كتلة نسيج الزمكان Space-time. وفي صميم النظرية يوجد مبدأ التكافؤ Equivalence Principle، والذي ينص أساساً على أنه لا يمكنك التمييز بين الجاذبية والتسارع Acceleration. ويفترض بصورة خاصة أن مقاومة الجسم للتسارع وقوة الجاذبية التي تتعرض لها تتناسب في الحالتين مع كتلته. إنها مصادفة غريبة، لكن التجارب أكدتها دائماً. وإلى جانب ثبات سرعة الضوء يدعم المبدأ فهمنا الحالي للجاذبية.

يمكنك أن تنظر إلى هذا التكافؤ كما فعل آينشتاين في تجربة ذهنية Thought Experiment شهيرة. تخيل أنك في مصعد في الفضاء، تتسارع نحو «الأعلى». داخل المصعد، ستشعر بقوة تثبتك على الأرض، ولكن ستكون معرفة ما إذا كان هذا هو
التأثير الطبيعي لجاذبية الأرض أو أنك تتسارع في الفضاء مستحيلة. وحقيقةً كان استحضار شيء يشبه تقريباً هذه التجربة الذهنية جزءاً من متعة القفز بالمظلات في الأماكن المغلقة. عندما أغمض عيني في الأسطوانة، والهواء يندفع إلى جانب أذني، لا يمكن تمييز ذلك عن السقوط الحر أثناء القفز بالمظلات Skydiving الحقيقي.

كتاب كلوديا دي رام الجديد جمال السقوط.
صورة: Princeton University Press

تصف النسبيةُ العامة الجاذبيةَ بأنها إحدى القوى الأساسية الأربع Four Fundamental Forces المعروفة في الطبيعة. ومع ذلك، فهي حالة استثنائية. إذ إن القوى الثلاث الأخرى موصوفة ضمن نظرية الكم Quantum Theory، ما يعني أنها تأتي في
أجزاء منفصلة Discrete Chunks. وبالنسبة إلى غالبية علماء الفيزياء، يجب أن تتوافق الجاذبية مع القالب نفسه. لكننا ما زلنا لا نمتلك دليلاً على ذلك، بغض النظر عن الوصف الكمي Quantum Description للجاذبية.

سعت دي رام من جانبها إلى إحراز تقدم من خلال التفكير العميق في الغرافيتونات، الحوامل الافتراضية لقوة الجاذبية. فكل قوة من القوى الأساسية يحملها جسيم «بوزون» Boson مكافئ، بعضها كتلته صفر، وآخر له كتلة صغيرة جداً. أرادت دي رام أن تعرف: ما كتلة الغرافيتون؟

لم تكن أول من طرح هذا السؤال، ففي الأبحاث السابقة حول الفكرة، كانت أي محاولة لإعطاء الغرافيتونات كتلة تعني أنها ستأتي في أشكال متنوعة، أحدها ستكون له طاقة سلبية Negative Energy. وبما أن ذلك بدا مستحيلاً فيزيائياً، وُضعت فكرة الغرافيتونات ذات الكتلة، والمعروفة بالجاذبية الكتليةMassive Gravity جانباً. لكن دي رام شعرت بأن الأمر أكبر من ذلك. وبالعمل مع زوجها أندرو تولّيAndrew Tolley – وهو أيضاً فيزيائي من إمبريال كوليدج لندن، وغريغوري غابادادزي Gregory Gabadadze من جامعة نيويورك New York University، تمكنت من وضع إطار جديد ثابت للجاذبية الكتلية التي لا تقذف جزيئات الطاقة السلبية. كانت هذه هي المرة الأولى التي يقدم فيها أي شخص إطاراً عملياً يمكن أن تكون للغرافيتونات فيه كتلة. وفي عام 2020 فازت بجائزة بلافاتنيك Blavatnik award عن «تطوير إطار معادلات رياضيات مبتكر تنتج منه نظرية دقيقة وقابلة للتطبيق للجاذبية الكتلية، وعميقة التأثير في فهمنا للعديد من المشكلات الأساسية في علم الكونيات Cosmology وفيزياء الجسيمات Particle Physics».

موجات الجاذبية
واحدة من أكبر المشكلات المستمرة هي ما إذا كانت الجاذبية تأتي فعلاً على شكل غرافيتونات. وحتى لو كانت هذه الجسيمات موجودة ولها كتلة، فإنها ستكون صغيرة جداً، ما يجعل التقاطها صعباً جداً. ومع ذلك، هناك طريقة واحدة لمعرفة ذلك تتضمن موجات الجاذبية Gravitational Waves، «التموجات في الزمكان» التي رُصدت للمرة الأولى في عام 2015 باستخدام مرصد موجات الجاذبية بالتداخل الليزري Laser Interferometer Gravitational Wave Observatory (اختصارا: المرصد LIGO). ولم يكن هذا الاكتشاف دليلاً على وجود الغرافيتونات في حد ذاته؛ فموجة الجاذبية تحمل طاقة أكبر بأضعاف من طاقة الغرافيتون. لكن الموجات، كما تقول دي رام، لا تزال قادرة على الكشف عن وجود هذه الجسيمات الافتراضية.

غالباً ما نفكر في سرعة الضوء، لكننا لا نفكر كثيراً في سرعة الجاذبية، أي في السرعة التي تنتقل بها موجات الجاذبية. فإذا كانت الغرافيتونات عديمة الكتلة Massless، فإن موجات الجاذبية تنتقل بسرعة الضوء ولا شيء مثير للاهتمام فيما سيحدث. ومع ذلك تقول دي رام، إذا كانت لها كتلة فإننا نتوقع أن تتحرك الترددات المنخفضة Low Frequencies لموجات الجاذبية ببطء أكبر. عند الترددات المنخفضة جداً، قد يؤدي ذلك إلى خلق نوع من «قوس قزح الجاذبية» Gravitational Rainbow، وهو يسمى بهذا الاسم لأنه سيكون مشابهاً لما يحدث عندما ينكسر Refracted الضوء في قطرات المطر، لكن من دون الألوان.

حتى الآن ليس لدينا التكنولوجيا الحساسة بما يكفي لاكتشاف الترددات المنخفضة جداً التي قد تظهر فيها أقواس قزح هذه. ولكن حالما يتحقق ذلك، يمكننا البحث عنها، وإذا عثرنا عليها، فلن يكون ذلك دليلاً على وجود الغرافيتونات فحسب، بل أيضاً على أن لها كتلة. تتابع دي رام: «في مخيلتي، لا شك في أنه يجب أن يوجد غرافيتون. ولكن مع ذلك، فإن اكتشاف ذلك حقاً سيكون أمراً مهماً. بالتأكيد إنه موضوع يستحق جائزة نوبل».

حالياً، دي رام مشغولة باستكشاف ما إذا كان يمكن لأفكارها حول الجاذبية الكتلية أن تساعد على تفسير أسرار الكون الأخرى أيضاً، مثل الطاقة المعتمة Dark Energy، وهي القوة الغامضة المسؤولة عن التوسع المتسارع للكون Accelerating Expansion، وقد تقودنا إلى نظرية جاذبية أعمق. ونعلم أن النسبية العامة تنهار عند الطاقات العالية جداً، ما يشير إلى أنه يجب أن توجد طريقة أفضل وأكثر اكتمالاً لفهم الجاذبية.

تقول دي رام: «نعلم أن هناك ما يجب أن يأتي بعد ذلك. ونعلم أننا لا نمتلك حتى الأدوات واللغة لفهم كيفية طرح الأسئلة الصحيحة على أنفسنا. قد يبدو ذلك محبطاً جداً، ولكنه مذهل في الوقت نفسه، لأنه يخبرنا أن علينا أن نكتشف الكثير».

وتشير دي رام في هذا الشأن إلى أن الفيزياء الأساسية تشهد تحولاً حالياً. فعلى مدى العقد الماضي أو نحو ذلك، كان هذا المجال يبحث عن فيزياء تتجاوز ما نعرفه فعلاً من خلال اختبار أفكار حول جسيمات جديدة محددة. 

ولكن نظراً لأن هذه الجهود تعود خالية الوفاض، نحن بحاجة إلى طرق لتوسيع نطاق البحث، وتقول: «نحن مدفوعون إلى رسم حيز المتغيرات التي يُعد النظر إليها مثيراً للاهتمام ومفيداً».

يقوم منهجها على النظر إلى الخصائص التي تحتاج إليها أي نظرية موحدة قياسية Standard Unified Theory، وهي نظرية توحد الجاذبية مع القوى الأخرى، لتتوافق مع قوانين الطبيعة المعروفة، ثم العمل مرة أخرى لمعرفة العواقب التي قد تترتب على هذه القوانين والتي يمكننا قياسها. ولفهم أحد جوانب الأمر، قد يفيد التفكير في الكيفية التي يمكن من خلالها لفوتونات الضوء أن يكون لها استقطابان Polarisations، إما نحو اليمين أو اليسار، بناءً على كيفية تذبذب الضوء عبر الفضاء. 

وإذا كان الغرافيتون عديم الكتلة، فإننا نتوقع الشيء نفسه بالنسبة إلى موجات الجاذبية، وسيكون لها استقطابان فقط. إذا لم يكن كذلك، فمن الممكن أن توجد استقطابات إضافية، وقد توصلت دي رام إلى أن القياس الدقيق لخصائص هذه الاستقطابات الإضافية يمكن أن يختبر أنواعاً معينة من نظريات أكثر اكتمالاً في الفيزياء، بما في ذلك نظرية الأوتار String Theory.

وبينما كنا نخلع بدلاتنا، وصل بعض اللاعبين الجدد للتدرب استعداداً للقفز بالمظلة. إنهم ماهرون جداً، ويستخدمون حركات يد صغيرة للشقلبة وتدوير أجسادهم في الهواء بتزامن. سيخضعون قريباً لقوة الجاذبية في أعمق حالاتها، وسيرمون أنفسهم من الطائرة ويندفعون نحو الأرض. تقول دي رام، في إشارة إلى مغامراتها في الجاذبية، الجسدية والفكرية على حد سواء: «إن ما يربط بين كل ذلك هو الاستكشاف حقاً».

© 2024, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى