بدأت الكائنات البحرية بالتوهّج قبل نصف بليون سنة
الإضاءة البيولوجية، التي تطوِّرت لمراتٍ عديدة عبر شجرة الحياة، هي أقدم ممّا كان يُظن سابقاً
بقلم فاي جاكوبس
تبدأ أطراف المرجان الخيزراني الأشعث Shaggy bamboo coral (إيزيديلا تنتاكيولوم Isidella tentaculum) في التلألؤ بضوءٍ مائلٍ للزُرقة عند وخزها بإحدى أذرع الغطَّاسة العاملة عن بُعد Remotely operated submersible. يخترقُ هذا الوميض ظلمةَ أعماقِ البحر إذ تُشكِّل العديد من المرجانيات الثُمانية Octocorals، وهي مجموعةٌ قديمةٌ ومتنوعةٌ من اللافقاريات البحرية Marine invertebrates، التي تشمل أقلام البحر ريشيّة الشكل Quill-shaped sea pens، والمرجان الخيزراني Bamboo corals، وغيرها من أنواع Species المرجان الرخو Soft corals ومَراوِح البحر Sea fans المتموِّجة – حدائقاً وارفةً تحت الماء.
تستطيع ثلاثة أرباع جميع الحيوانات البحرية إنتاج ضوئها الخاص تقريباً، ولكن يكتنفُ الغموض أصل هذه القدرة. والآن، تشير الأبحاث التي نُشِرت في دورية وقائع الجمعية الملكية Proceedings of the Royal Society B في 23 أبريل 2024 إلى نشأةِ هذه الخاصية في المرجانيات الثُمانية Octocorals قبل ما لا يقل عن 540 مليون سنة – أي قبل نحو 300 مليون سنة ممّا كان يظنّه العلماء سابقاً. تُظهِر هذه النتائج «الكم الذي ما زلنا بحاجةٍ إلى تعلُّمه» عن الكائنات التي تُضيء محيطات الأرض، كما تقول هيذر براكن-غريسوم Heather Bracken-Grissom، عالمة البيولوجيا البحرية التطورية من جامعة فلوريدا الدولية Florida International University، والتي لم تشارك في هذا العمل البحثي.
تستخدم معظم الحيوانات المضيئة بيولوجياً Bioluminescent التفاعل الكيميائي الأساسي نفسه: إنزيم اللوسيفيريز Luciferase، الذي يضيفُ الأكسجين إلى أحد أنواع المُركَّبات المعروفة باللوسيفيرين Luciferin، ممّا يؤدّي إلى إنتاج الضوء كنتاجٍ ثانوي. وتشير الأبحاث السابقة إلى تطوّر هذه القدرة 94 مرةً منفصلةً على الأقل، وذلك على الرغم من احتواءِ بعض مجاميع الحيوانات المضيئة بيولوجياً Bioluminescent على بضعِة أعضاءٍ «باهتين»، وهو ما يشير إلى فقدان الآلية الكيميائية الأساسية بصورةٍ مفاجئةٍ.
«تَظهرُ هذه الخاصية تارةً وتختفي تارةً أخرى خلال التطور»، كما يقول تود أوكلي Todd Oakley، عالم البيولوجيا التطورية من جامعة كاليفورنيا في سانتا باربارا University of California, Santa Barbara، المتخصّص في دراسة أصول الرؤية والإضاءة البيولوجية Bioluminescence، والذي لم يشارك في هذه الدراسة.
حتى وقتٍ قريبٍ، كان العلماء يعتقدون أن خاصية الإضاءة البيولوجية Bioluminescence لدى الحيوانات ظهرت لأول مرة قبل 267 مليون سنة في الصدفيات Ostracods – وهي عبارة عن مجموعة من القشريات البحرية Marine crustaceans بالغة الصِغر التي عادةً ما يُشار إليها باسم «يَراع البحر» Sea fireflies، والتي تستعمل المُخاط المضيء بيولوجياً Bioluminescent mucus لتأدية عروض التزاوج Courtship displays المتلألئة. غير أن الأبحاث الحديثة تشير إلى تمتُّعِ الأجداد الأقدم للمرجانيات الثُمانية Octocorals الحديثة بالقدرة على إنتاج الضوء أيضاً. وفي حين تلجأ العديد من الحيوانات البحرية المضيئة بيولوجياً Bioluminescent إلى الاستعانة بقدراتها من أجل الصيد أو التواصل أو استمالة الأقران، فإن المرجانيات الثُمانية Octocorals لا تتوهج عموماً إلّا في حال تعرُّضها للوخز، وهو ما يجعل الوظيفة المرتبطة بلمعانها غير واضحة. «لسنا متأكدين من السبب الكامن وراء استعانة المرجان بالإضاءة البيولوجية Bioluminescence في الوقت الحالي»، كما تقول دانييل ديليو Danielle DeLeo، عالمة البيولوجيا البحرية من مؤسسة سميثسونيان Smithsonian Institution، والمؤلِّفة الرئيسية للدراسة الجديدة.
لمعرفة المزيد، سَلْسَلت ديليو وزملاؤها جينومات Genome sequencing المرجانيات الثُمانية Octocorals وأجروا تجارب على الحيوانات الحيّة لوضع شجرة تطوّرية Evolutionary tree مُفصّلة -والتي قاموا بمعايرتها باستخدام الأحافير Fossils ذات الأعمار المعروفة – واضعين مخطّطاً لأنواع المرجانيات الثُمانية Octocorals الحديثة التي تتوهج وتلك التي لا تتوهج. ومن ثم، قدَّروا متى عاش أقرب سلفٍ مشتركٍ Common ancestor للمرجانيات الثُمانية Octocorals المتوهّجة، استناداً على أوقات الإنتاج والمدّة التي ستستغرقها الاختلافات الجينية بين الأنواع للظهور.
اكتشف الباحثون أن أجداد المرجانيات الثُمانية Octocorals كانوا يُضيئون المحيط منذ نحو 540 مليون سنة – أي قبل أن تبدأ الصدفيات Ostracods بطرح مادتها اللزجة المتوهّجة Glowing goo بمئات ملايين السنين.
إنّه «لإنجازٌ علمي» في فهمنا لتطوّر الإضاءة البيولوجية Bioluminescence، كما تقول إديث ويدر Edith Widder، عالمة البيولوجيا البحرية ورئيسة جمعية أبحاث وحفظ المحيطات Ocean Research & Conservation Association، والمتخصّصة في مجال الإضاءة البيولوجية Bioluminescence.
وعلى الرغم من أن المرجانيات الثُمانية Octocorals الحديثة تعيش ضمن نطاقٍ محددٍ من الأعماق، إلّا أن أسلافها انتشرت في أعماق المحيطات بالدرجة الأولى، كما تُشير ديليو. وفي تلك الظروف الحالكة، كانت قدرتها على التوهج قد ساعدتها على جذب الفرائس أو التواصل أو منحتها ميزات أخرى. «في أعماقِ البحار، يعدُّ إنتاج الحيوانات لضوءها الخاص نمطاً للحياة»، كما يقول جيمس مورين James Morin، عالم البيولوجيا البحرية من جامعة كورنيل Cornell University، والذي أرست أبحاثه أساس فهمنا الحالي للإضاءة البيولوجية Bioluminescence لدى الصدفيات Ostracods.
غير أنّ الباحثون ما زالوا غير متيقنين من سبب ظهور هذه الخاصية في المقام الأول. وكما تلاحظ ويدر، فإن العديد من اللوسيفيرينات Luciferins تمثّل «كاسحات» ممتازة لجزيئات الأكسجين الضارة وغير المستقرة المعروفة بالجذور الحرّة Free radicals، لذا فقد يكون المسار قد تطوّر في بادئ الأمر بقصد حماية الخلايا من هذا الإجهاد التأكسدي Oxidative stress.
فمن المحتمل أن إصدار الضوء كان مجرد نتاجٍ ثانوي لا أكثر في بادئ الأمر. وتقول ديليو إن الإضاءة البيولوجية Bioluminescence قد تعمل أيضاً بمثابةِ نوعٍ من «أجهزة التحذير من السرقة» بالنسبة إلى المرجانيات الثُمانية Octocorals، ممّا يتيح لها إخافة الحيوانات المفترسة المحتملة.
ومستقبلاً، تخطّط هي وزملاؤها للاستعانة بشجرة عائلة المرجانيات الثُمانية Octocorals التي وضعوها للتنبؤ بعدد الأنواع الحديثة التي احتفظت بالقدرة على إنتاج الضوء، وتلك التي كانت قد فقدت هذه القدرة مع مرور الزمن. ومن خلال العمل بذلك، يأملون في كشف أسرار الأنواع المرجانية Corals التي لم تحظَ بالدراسةِ بعد، وتلك التي لا يزال العِلم يجهلها. «ما زال أمامنا الكثير ليتم اكتشافه»، كما تقول، وأردفت: «يعدّ مقدار التنوع المتروك للتوثيق والاستكشاف في المحيطات مهولاً».
© 2024, American Association for the Advancement of Science. All rights reservedC