مسبار الطاقة المعتمة يؤكد نموذج الكون الآخذ بالاتساع
تتطابق النتائج الأولية المأخوذة من الأداة الروبوتية مع التوقعات حول كيفية تطور الكون على مرِّ أحد عشر بليون سنة الماضية
بقلم دانيال كليري
لقد اجتازت النظرية القياسية للكوزمولوجيا (علم الكونيات) Standard theory of cosmology – التي تفيد بأنّ الكون Universe يتألّف من مادةٍ غير معروفة ليس بوسعنا رؤيتها بنسبة 95% – اختبارها الأكثر صرامةً حتى الآن. وتؤكد النتائج الأولية المعلن عنها، بدقة ناهزت 1%، والمأخوذة من أداةٍ صُمِّمت لدراسة الآثار الكونية للطاقة المعتمة Dark energy التي يلفّها الغموض أن الكون تطور على مدى أحد عشر بليون سنة الماضية مثلما توقع العلماء النظريون.
كانت هذه النتائج، التي استُعرِضت يوم 4 أبريل 2024، في سلسلة من المحاضرات التي ألقيت في اجتماعٍ للجمعية الفيزيائية الأمريكية American Physical Society في مدينة ساكرامنتو بولاية كاليفورنيا، واجتماعٍ لمؤتمر موريون Moriond في إيطاليا، إضافة إلى مجموعة من الطبعات الأولية التي نُشِرت على موقع arXiv، والمأخوذة من أداة التحليل الطيفي للطاقة المعتمة Dark Energy Spectroscopic Instrument (اختصاراً: الأداة DESI)، التي وثّقت أكثر من 6 ملايين مجرة في الفضاء العميق Deep space بهدف بناء أكبر خريطة ثلاثية الأبعاد للكون تُجمع حتى وقتنا هذا.
«إنها أداةٌ جبّارةٌ ونتيجةٌ كبرى»، كما يقول إريك غوايزر Eric Gawiser، عالم الكوزمولوجيا من جامعة روتغرز Rutgers University، الذي لم يشارك في الدراسة، وتابع قائلاً: «الكون الذي كشفت الأداة DESI الستار عنه معقولٌ جداً، وترافقه تلميحاتٌ مشوقة عن كونٍ أكثر إثارةً للاهتمام».
وضِعت النظرية القياسية في الكوزمولوجيا (علم الكونيات) قبل نحو 25 عاماً من أجل مواءمة الملاحظات المتضاربة، وأثبتت جدارتها الملحوظة. وخلال أواخر تسعينات القرن العشرين، توقع الباحثون العثور على كونٍ آخذٍ بالتباطؤ بفعل سَحبِ الجاذبية المتواصل للمادة المرئية Visible matter، إضافة إلى المادة المعتمة الباردة Cold dark matter (اختصاراً: المادة CDM) غير المرئية. وعوضاً عن ذلك، عثروا على دليلٍ يشير إلى أن تمدد الكون كان آخذاً بالتسارع. إن أبسط تفسير لهذه «الطاقة المعتمة» Dark energy هو أنّ الفضاء الفارغ مُشبع بقدر ثابت من الطاقة، وهو ما يكسبه المرونة المُشتِّتة للمادة. أمكن للعلماء النظريين تفسير هذه القوة من خلال إضافة ثابتٍ كوني Cosmological constant، لامدا Lambda، على نظرية الجاذبية Theory of gravity لألبرت آينشتاين Albert Einstein.
غير أن العديد من العلماء النظريين لا يشعرون بالرضا حيال النموذج Lambda-CDM، لأنه لا يفسر السبب وراء احتواء الفضاء الفارغ على تلك الكمية المحددة من الطاقة، أو سبب احتواءه على طاقة من عدمه. ولذلك، طوّر الباحثون مجموعةً من الأدوات البارزة على الأرض وفي الفضاء لقياس سرعة تباعد الكون. ويكمن الهدف من ذلك في التحقق مما إذا كان الثابت الكوني Cosmological constant ثابتاً بالفعل على مرِّ التاريخ. وفي حال لم يكن كذلك، فقد يفتح هذا الباب أمام نظريات كوزمولوجية أخرى.
كان توزع المجرات Distribution of galaxies من أكثر الطرق الفعالة المستخدمة في قياس التمدد. وبالنظر إلى أكبر المقاييس، فإن المجرات لا تتوزع على نحوٍ متساوٍ، بل تميل إلى التكتُّل سويةً في عناقيد Clusters. وهذا نتاجٌ يرجع إلى الوقت الذي تبِعَ الانفجار الكبير (العظيم) Big bang قبل 13.8 بليون سنة حين لم يكن للمجرات، بل حتى للنجوم، وجودٌ يُذكر، وكان ثمة كتلة غازية من الجسيمات، شملت نوى الهيدروجين Hydrogen والهيليوم Helium – وهي نوع من الجسيمات المعروفة بالباريونات Baryons.
دوَّت الموجات الصوتية في هذه الكتلة الغازية كالتموجات على سطح البركة، وهو ما تسبب في تكتّل الباريونات Baryons لتُشكِّل نوى المجرات وعناقيد المجرات المستقبلية. وفي الوقت الذي كان يبرد فيه الغاز، تجمدت الموجات -التذبذبات الصوتية الباريونية (اختصاراً: الأمواج BAOs) – في مسافات مميزة على امتداد توزع المادة. وظلت تلك المسافة ثابتة في يومنا هذا على شكل النزعة نحو وجود مسافة فاصلة ما بين المجرات تبلغ 490 مليون سنة ضوئية. والسؤال الذي يطرحه العلماء النظريون هو: هل نمو هذا المقياس الكوني آخذ بالتسارع، وفقاً للثابت الكوني Cosmological constant، أم أن تسارعه يتفاوت مع مرور الوقت؟
عمِلت استطلاعات المجرات السابقة على ترسيخ الطاقة المعتمة Dark energy عند قيمة ثابتة متناهية الدقة، إلّا أن التلسكوبات الصغيرة نسبياً لم تستطع الرؤية إلى مسافات بعيدة. صُمِّمت الأداة DESI لتأخذ الخطوة التالية: توثيق المزيد من المجرات، والنظر إلى الأزمنة الغابرة على مر أحد عشر بليون سنة – وهو ما يشكل 80 % من تاريخ الكون.
إذ تستفيد الأداة من التلسكوب الواقع على قمة جبل كيت في ولاية أريزونا، البالغ قطره 4 أمتار، والذي أعيد تهيئته بمطيافٍ Spectroscope ليعمل على جمع الضوء من 5,000 مجرة في آنٍ واحد. تعمل أذرعٌ روبوتيةٌ Robot arms بالغة الصِغَر على وضع أطراف لـ5,000 ليف بصري Optical fiber حتى تتطابق مع مواقع المجرات على المستوى البؤري Focal plane للتلسكوب، وتعيد موضعتها بسرعة عند تحرك التلسكوب إلى قسم مختلف من السماء. أمكن للباحثين قياس مسافة كل مجرة على نحوٍ أفضل من خلال فصل الضوء الصادر عنها إلى طيف Spectrum.
تستطيع الأداة اكتشاف المجرات التي قد يرجع تاريخها إلى تسع بلايين عام. كذلك، اعتمد الفريق البحثي على أكثر من 700 ألف كويزار (نجم زائف) Quasar، وهي أجسام مُتَّقِدة التوهج تقع في مراكز المجرات المحتوية على ثقوبٍ سوداء فائقة الكتلة Supermassive black holes. فلا توجد كويزارات Quasars كافية للحصول على قيمة ثابتة مقبولة لمقياس الأمواج BAO عبر رسم مواقعها، ولذلك، بدلاً من ذلك، لجأ فريق الأداة DESI إلى استعمال الكويزارات Quasars كإضاءة في الخلفية. وينتج من مرور ضوء الكويزار Quasar من سُحب غاز الهيدروجين المتداخلة الواقعة بين المجرات، سلسلة من خطوط الامتصاص الطيفية Spectral absorption lines المعروفة بغابة ليمان-ألفا Lyman-alpha forest. يزود موقع كل خط في الطيف الباحثين بفكرة عن مدى بُعد السحب الغازية Gas clouds. يمكن حساب إشارة BAO من توزع تلك السُحب.
باشرت الأداة DESI رسم خرائط للمجرات Galaxies والكويزارات Quasars في عام 2019، وفي المشروع الجديد، يصف التعاون الذي ضم 900 شخص النتائج المتمخضة عن عملية جمع البيانات في عامها الأول. بمعزلٍ عن غيرها، تُظهر نتائج أداة DESI أن الكون نما طبقاً لنموذج Lambda-CDM بدقةٍ تزيد على 1%. عبّر المتحدث المشارك كايل داوسون Kyle Dawson من جامعة يوتا University of Utah عن «ابتهاجه» إزاء تمكّن الأداة DESI من تحسين دقتها إلى حدٍ كبير مقارنة بدقة جميع الاستطلاعات السابقة في غضون عامٍ واحد فقط من جمعها للبيانات.
تقدم بيانات أداة DESI تلميحاً مشوقاً عند الدمج بينها وبين مجموعات البيانات المستقاة من أدوات أخرى، مثل القمر الصناعي الأوروبي بلانك Planck، وهو ما مفاده أنّ التسارع المعزوَّ إلى الطاقة المعتمة Dark energy قد يتفاوت إلى حدٍ ما على مر التاريخ الكوني – بعبارةٍ أخرى، أنّ الثابت الكوني Cosmological constant ليس ثابتاً بصورةٍ مطلقةٍ. فلا يحمل هذا الانحراف دلالةً إحصائيةً Statistically signifi cant تقود الباحثين نحو الجزم ببُطلان نموذج Lambda-CDM (قد يزول ذلك مع جمع أداة DESI لمزيدٍ من البيانات)، ولكنه يدفع العلماء النظريين نحو التفكر بالأمر. «يمثِّلُ فهمه تحدياً لنا»، كما يقول داوسون.
ستعالج أداة DESI ذلك التحدي عما قريب من خلال مجموعة بيانات ستستغرق ثلاث سنوات لجمعها، تليها مجموعة ستستغرق خمس سنوات لجمعها. كذلك ستدلو أدوات جديدة أخرى بدلوها، ومن جملتها القمر الاصطناعي الأوروبي إقليدس Euclid الذي أُطلِقَ العام الماضي، ومرصد فيرا سي روبين Vera C. Rubin Observatory التابع للولايات المتحدة، وهو تلسكوب استطلاعي يبلغ قُطره ثمانية أمتار، سيبدأ بالرصد من تشيلي اعتباراً من عام 2025، وتلسكوب نانسي غريس رومان الفضائي Nancy Grace Roman Space Telescope التابع لوكالة ناسا NASA المقرر إطلاقه في عام 2027. يقول غوايزر: «لقد حلّ عصر الكوزمولوجيا الدقيقة من خلال استطلاعات المجرات».
© 2024, American Association for the Advancement of Science. All rights reservedC