أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
مقالات الإشتراك

جُسيمات النيوترينو

توجد هذه الجسيمات الشبحية في كل مكان، لكنك لن تستطيع رؤيتها. هنا يتحرى غوفرت شيلينغ قصتها.

ارفعْ إبهام يدك أمامك لحظةً: هل تشعر بشيء معين؟ ربما لا تشعر بشيء يُذكر. ومع ذلك هناك نحو مئة بليون جسيم نيوترينو Neutrino تخترق إبهامك هذه في كل ثانية، يوماً بعد يوم. هذه الجسيمات شبه الشبحية موجودة في كل مكان حرفياً حتى أنها تمر عبْر الكواكب والنجوم، كأن الكون كان شفافاً أمامها.

بشحنة كهربائية صفرية Zero electrical charge، وكتلة صغيرة جداً لا تُذكر Negligibly small mass، وعدم قابلية Susceptibility للتأثر بالقوة النووية الشديدة، فإن جسيمات النيوترينو هي أسرع الجسيمات الأولية زوالاً في الطبيعة. ومع ذلك لم نكن لنوجد من دونها.

في العام 1930 اكتشف العلماء الذين كانوا يدرسون التحلل الإشعاعي شيئاً غريباً: ففي بعض المرات بدا أن الطاقة ”تختفي“ Disappear في أثناء عملية التحلل. اقترح الفيزيائي النمساوي وولفغانغ باولي Wolfgang Pauli بجرأة وجود جسيم مُحايد Neutral لم يُكتشف بعد لتفسير هذا النقص. وأطلق إنريكو فيرمي Enrico Fermi على هذا الجسيم الافتراضي اسم النيوترينو Neutrino (ويعني باللغة الإيطالية ”الجسيم المحايد الصغير“).

هذه النيوترينوات هي شديدة المقاومة Reluctant للتفاعل مع أي شيء، ولذلك ليس مستغرباً أن الجسيم الجديد لم يُكتشف تجريبياً إلا بعد 26 عاماً، في العام 1956، على يد فريد رينز Fred Reines وكلايد كوان Clyde Cowan. لقد استفادا من حقيقة أنه في حالات نادرة، تتفاعل جسيمات النيوترينو فعلاً مع بعض الذرات، وتغير هوية الذرة في هذه العملية. وضعت التجربة خزاني ماء بجوار مفاعل نووي كان يُنتج اصطناعياً جسيماتِ نيوترينو بكميات كبيرة. في بعض المرات النادرة جداً، كان أحد هذه النيوترينوات يتفاعل مع بروتون في الماء، فيتحول إلى نيوترون ويطلق أشعة غاما Gamma radiation يمكن رصدها.

رينز وكوان يُخرِجان زميلاً لهما من خزان المياه الخاص بتجربة كشف النيوترينو

مشكلة ثقيلة

في الطبيعة تنشأ جسيمات النيوترينو أيضاً بكميات وفيرة كنواتج ثانوية لتفاعلات الاندماج في قلب النجوم، مثل شمسنا. وفي الواقع فإن الغالبية العظمى من المئة بليون نيوترينو التي تخترق إبهامك في كل ثانية هي نيوترينوات شمسية.

في ستينات القرن العشرين شرع الفيزيائي الأمريكي الرائد راي ديفيس Ray Davis في الإمساك بها. وجاءت النتائج مفاجِئة. وضع ديفيس جهازه الكاشف على عمق ميل تحت الأرض في منجم ذهب مستنفد، مستخدماً الأرض لحماية تجربته من الأشعة الكونية Cosmic rays. تكونت التجربة من خزان ضخم مملوء بـ 100,000 غالون (454,610 لترات) من مادة البيركلوروإيثيلين Perchloroethylene سائل التنظيف الجاف. كانت النيوترينوات تتفاعل مع تناثر لذرات الكلور في السائل، وتغيُّرها إلى ذرات آرغون Argon يمكن قياسها بعد ذلك. تمثلت المشكلة في أن ديفيس لم يجد سوى ثلث عدد جسيمات النيوترينو الشمسية التي تنبأت بها الحسابات.

ولم تحل مشكلة النيوترينو الشمسي بصورة مقنعة إلا قبلَ مطلع القرن الحالي، وذلك بفضل التجارب الكبيرة التي نُفذت في اليابان وكندا. لم يكن هناك خطأ في الحسابات. بدلاً من ذلك، فإن كثيراً من النيوترينوات التي كانت تجربة ديفيس حساسة لها (المعروفة باسم نيوترينوات الإلكترون) قد غيّرت هويتها في أثناء رحلتها التي يبلغ طولُها 150 مليون كم، هي المسافة من الشمس إلى منجم الذهب في ولاية داكوتا الجنوبية South Dakota.

أول رصد لجسيمات نيوترينو في العالم، في غرفة فقاعات الهيدروجين، في العام 1970

يعرف الفيزيائيون الآن ثلاثة أنواع من جسيمات النيوترينو (نيوترينوات الإلكترون Electron neutrinos، ونيوترينوات الميون Muon neutrinos، ونيوترينوات التاو Tau neutrinos)، وهي تتحول باستمرار من نوع إلى آخر فيما بينها وهذا أمر لا يفعله أي جسيم أولي آخر. ومع أن هذا السلوك حل مشكلة جسيمات النيوترينو الشمسية، إلّا أنه خلق أيضاً لغزاً جديداً: فهو يعني أن جسيمات النيوترينو يجب أن تكون لها كتلة، مهما كانت ضئيلة.

تبحث تجربة IceCube عن جسيمات النيوترينو عميقاً تحت جليد القطب الجنوبي

وشعر علماء الكون Cosmologists بالحماسة لذلك: فهل يمكن لجسيمات النيوترينو أن تحل لغز المادة المعتمة Dark matter في الكون (وهو موضوع أحد الأجزاء المقبلة من هذه السلسلة)؟ مع أننا نعلم الآن أنها أخف وزناً بكثير من أن تكون هي جسيمات المادة المعتمة على الرغم من وفرتها المذهلة. ومع ذلك يعتقد بعض الفيزيائيين أنه قد يكون هناك نوع رابع من جسيمات النيوترينو (نسخة ”عقيمة“ Sterile أثقل بكثير) يمكن أن تؤدي الغرض وهذا افتراض لم يُحسَم بعد.

وفي الوقت ذاته ستحاول أجهزة الكشف الضخمة الموجودة تحت الأرض مثل التلسكوب آيس كيوب IceCube (في القطب الجنوبي الجغرافي) والتلسكوب KM3NeT (تحت الإنشاء في قاع البحر الأبيض المتوسط) والتلسكوب ديون DUNE (الذي سيُبنى في منجم الذهب ذاته الذي استخدمه راي ديفيس) التقاط أكبر عدد ممكن من جسيمات النيوترينو من أجل فهم خصائصها وسلوكها بصورة أفضل، ودراسة الأصول الكونية لأكثرها نشاطاً ربما نوى المجرّات النشطة التي تستمد طاقتها من الثقوب السوداء.

غوفيرت شيلينغ Govert Schilling:
صدر أحدث كتبه بعنوان: الفيل في الكون The Elephant in the Universe عن دار مطابع جامعة هارفارد
ستكشف هذه الأجهزة الحساسة أيضاً عن جسيمات النيوترينو الناتجة عن انفجارات السوبرنوفا في مجرّتنا درب التبانة. فمن دون الطاقة الإضافية لهذه الجسيمات الدافقة، لن تكون النجوم الضخمة قادرة على تفجير ذاتها بذاتها، وإطلاق عناصرها الثقيلة في الكون. وهذه العناصر الثقيلة هي ما تتكون منه الأنظمة الكوكبية؛ وهذا يعني أنه لولا جسيمات النيوترينو لما كانت هناك كواكب صخرية، فضلاً عن وجود أشخاص عليها يرفعون إبهامهم. 


جسيمات نيوترينو من الانفجار الكبير

تجربة جديدة يمكن أن تكشف عن جسيمات متبقية منذ زمن نشأة الكون

في مختبر تجربة PTOLEMY في جامعة برينستن، كُلِّف كريس تالي بقياس الكتلة الضئيلة لجسيمات نيوترينو الانفجار الكبير

وفقاً لمعرفة كونية، لا بد أن كميات هائلة من جسيمات النيوترينو قد أُنتجت وأُطلقت في أثناء الانفجار الكبير (العظيم) Big bang. وحالياً، ينبغي أن تتخلل هذه النيوترينوات كل زاوية في الكون، بكمية متوقعة تبلغ نحو 330 من جسيمات نيوترينو الانفجار الكبير Big Bang neutrinos لكل سنتيمتر مكعب واحد. ومع الأسف، فمن المتوقع أن تحمل نيوترينوات الانفجار الكبير طاقة ضعيفة جداً، وهو ما يعني أن التقنيات الحالية ليست حساسة بما يكفي لرصدها.

لكن هذا قد يتغير قريباً. فقد ابتكر الفيزيائي كريس تولي Chris Tully وزملاؤه في جامعة برينستن تجربة حساسة جداً، تعرف باسمها المختصر PTOLEMY، وستكون قادرة على اكتشاف هذه الخلفية الكونية Cosmic neutrino background من جسيمات النيوترينو وقياس الكتلة الضئيلة للجسيمات العابرة Fleeting particles. وهناك نموذج أولي لتجربة PTOLEMY في قيد الإنشاء الآن، ومن شأن النسخة الكاملة من التجربة أن تختبر افتراضاتنا العزيزة علينا عن بدايات نشأة الكون وتطوره اللاحق.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

Back to top button