تَحَكَّمْ في مفاتيح عقلك لتحسين طريقة تفكيرك
اكتشف العلماء أن النقطة الزرقاء الصغيرة من الخلايا العصبية، والمعروفة باسم الموضع الأزرق، تتحكم في طريقة تفكيرك، وهو ما يشير إلى وجود طرق لزيادة التَّعلُّم والإبداع والتركيز واليقظة
بقلم دافيد روبسون
ضع إصبعك على الجزء الخلفي من جمجمتك، عند نقطة مستوية تقريبًا مع الجزء العلوي من أذنيك؛ هنا، تحت الشعر والجلد والعظام، بالقرب من تجويف مملوء بالسوائل في جذر دماغك، تقبع حزمة صغيرة من الخلايا المصطبغة بلون اللازورد. هذا هو الموضع الأزرق Locus coeruleus الذي يعني باللاتينية «النقطة الزرقاء». يبلغ قطره بضعة ملليمترات فقط. وعلى الرغم من حجمه الصغير فإن له سلطة كبيرة على أفكارك.
كشفت الأبحاث أن هذا التركيب الدماغي مفيد في تنسيق معالجتنا العقلية. في بعض الأحيان يُطلَق عليه اسم «المفتاح الرئيسي» Master switch للدماغ، وربما من الأفضل تخيله كعلبة التروس Gearbox (الغيارات) في السيارة. تقول باحثة علم الأعصاب التي صارت كاتبة، ميثو ستوروني Mithu Storoni: «يمكن له أن يحدَّد أداء عقلك؛ بحيث يتناسب مع النوع المُحدَّد من العمل العقلي الذي تقوم به». عندما يكون الموضع الأزرق في «الغيار المناسب» Right gear نشعر بالسعادة حين الانخراط في المهمة التي نقوم بها. ومع ذلك، في كثير من الأحيان، يمكن أن يبقى في الغيار الخاطئ؛ مما يؤدي إما إلى المماطلة الحالمة، وإما إلى الإحباط المحموم.
النقطة الزرقاء الصغيرة في الدماغ قد تكون قابلة للتدريب، مع نتائج فورية على الإدراك والسلامة العقلية
حتى وقت قريب، كنا نعرف القليل جدًّا عن طرق التحكم في هذه التحولات، لكن هذا يتغير. اتضح أن هذه النقطة الزرقاء الصغيرة في الدماغ قد تكون قابلة للتدريب، مع نتائج فورية على الإدراك والسلامة العقلية، وهذا يعني أنه باستخدام التقنيات الصحيحة يمكنك تبديل الغيارات، والتأثير في حالتك العقلية؛ من مدى تركيزك ومستويات التوتر التي تشعر بها، إلى قدرتك على القيام بقفزات إبداعية، وأن تكون سريع البديهة.
استغرقنا الأمر ما يقرب من قرنين ونصف القرن لنعرف الموضع الأزرق معرفة تعطيه حقه. اكتشف هذا التركيبَ الدماغيَّ (الذي يحتوي على ما يصل إلى 50,000 خلية عصبية (عصبون) Neurons فقط)، لأول مرة، طبيبُ ماري أنطوانيت Marie Antoinette، فيليكس فيك دازير Félix Vicq d’Azyr، في أواخر القرن الثامن عشر، بعد أن لاحظ وجود بقعة زرقاء صغيرة في جذع الدماغ، وهي كتلة من الأنسجة العصبية التي تربط المخ بالحبل الشوكي. ومع ذلك، فإن ما فعلته هذه النقطة الزرقاء الصغيرة بالضبط ظلَّ لغزًا غير مُستَكشَف حتى فترة طويلة من القرن العشرين، وحتى بعد أن لاحظ الباحثون اليابانيون في أربعينات القرن العشرين، في القرود، أن الأضرار التي لحقت بهذه البنية تؤدي إلى فقدان الوعي.
كشفت التجارب اللاحقة عن أن قوة الموضع الأزرق مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بمظهره المُمَيَّز؛ فهو المنتج الرئيسي في الدماغ لناقل عصبي Neurotransmitter يسمى النورأدرينالين Noradrenaline، أو نورإيبينفرين Norepinephrine، الذي يُخزِّنه في حزم زرقاء اللون. عندما تصبح خلية داخل الموضع الأزرق نشطة، فإنها تطلق تلك الحزم على طول امتداداتها إلى خلايا عصبية أخرى داخل الدماغ؛ حيث يُعدِّل النورأدرينالين النشاط الكهربائي لهذه الخلايا؛ استجابة لإشارات الخلايا الأخرى. يقول جيمس «ماك» شاين James ‘Mac’ Shine، من جامعة سيدني University of Sydney، أستراليا: «يزيد [النورأدرينالين] احتمال إطلاق الخلية للإشارات العصبية استجابة للإشارة العصبية التالية، ويجعل أي إطلاق للإشارة أكثر قوة وتأثيرًا».
وبعبارة أخرى، تصبح الخلايا أكثر تفاعلًا، والنتيجة هي تقوية التواصل. كما يقول: «يُسهِّل ذلك من إيصال الرسائل [بين مناطق الدماغ]».
وهذا يؤثر بشكل مباشر في يقظتنا – أو استثارتنا – كما يقول العلماء في بعض الأحيان. تقول ستوروني: «النورأدرينالين هو أحد أهم محددات الاستثارة». ومع ذلك، لفترة طويلة، لم نكن على علم بالقدرات الكاملة للموضع الأزرق. كان يُعتَقَد أنه المفتاح الذي يشتغل عندما تكون متوترًا أو خائفًا – مما يؤدي إلى استجابة الكر أو الفر Fight-or-flight response – ولا يفعل الكثير في الأوقات الأخرى. نشأ هذا الرأي جزئيًّا لأن التجارب كانت تكافح لقياس التقلبات الدقيقة في نشاطها؛ أما الآن فلدينا وسائل أفضل بكثير لالتقاط تلك الفروق الدقيقة.
النقطة الزرقاء في دماغك
حاليًا، يمكن لتصوير الدماغ المتطوِّر مشاهدة النقطة الزرقاء في أثناء عملها، وهو إنجاز كان مستحيلًا في السابق؛ بسبب حجمها وموقعها. ومع ذلك، في كثير من الأحيان، تُستخدَم تدابير بديلة لمراقبة نشاط المنطقة. يرتبط الموضع الأزرق مباشرة بالتغيرات في حدقات أعيننا؛ حيث تتسع حدقاتنا أكثر مع زيادة نشاط الموضع الأزرق، ومن ثمَّ فإن تتبع هذه الحركات – مع الحفاظ على مستويات الضوء ثابتة – يوفر نافذة على نشاطها. وفي الوقت نفسه، أظهرت التحقيقات المجهرية أن النقطة ليست بنية متجانسة، كما كان الاعتقاد سابقًا. تقول سوزان سارة Suzan Sara، من كلية فرنسا College of France في باريس: «هناك تعقيد تشريحي أكبر بكثير»، وهو ما قد يساعد في شرح كيفية تنسيقها الأنماطَ المختلفةَ من نشاط الدماغ.
وصل هذا البحث الآن إلى نقطة حرجة، مع وجود العديد من الأوراق العلمية التي تدعو إلى تقدير أكبر للموضع الأزرق. ومما له أهمية خاصة اكتشاف أن للموضع الأزرق أربعة أنماط مختلفة من النشاط، ولكل منها آثار مميزة في تفكيرنا وسلوكنا، وهذا هو ما دفع ستوروني إلى وصف النقطة الزرقاء بأنها «نظام التروس» Gear system في الدماغ، في كتابها الجديد «مفرط الفعالية.. قم بتحسين عقلك لتغيير طريقة عملك» Hyperefficient.. Optimise your brain to transform the way you work.
وفقًا لهذه الاستعارة، فإن الغيار صفر هو الحالة التي يكون فيها الموضع الأزرق عندما تكون نائمًا؛ يكاد يكون صامتًا تمامًا في هذه المرحلة، ولا يُفعَّل إلا ليُرسلَ إشاراتٍ عابرةً يبدو أنها تعزز من التخزين طويلِ الأجلِ للذكريات. اكتشفت سارة هذا التأثير عن طريق المصادفة، في أثناء العمل مع أوكسانا إيشينكو Oxana Eschenko، في معهد ماكس بلانك لعلم التحكم الآلي البيولوجي Max Planck Institute for Biological Cybernetics في تيوبنغن، ألمانيا؛ قامتا أولًا بتدريب الفئران لتجد طريقها عبر متاهة، ثم سجَّلتا نشاط دماغ القوارض في أثناء نومها، ووجدتا أن الموضع الأزرق أرسل إشاراتٍ بشكل متقطع بعد نحو ساعتين من الانتهاء من المهمة. تقول سارة: «يبدو أن هذا التنشيط مرتبط ارتباطًا مباشرًا بأداء الذاكرة الذي تقيسه بعد يوم واحد. وإذا حجبْتَ هذا النشاط، فسترى عجزًا في الذاكرة».
من شرود الذهن إلى التركيز
بمجرد أن نستيقظ، ينتقل الموضع الأزرق إلى الغيار الأول، وهو همهمة منخفضة من النشاط الأساسي. يعمل النورأدرينالين على نقل الدماغ إلى مرحلة الوعي بسلاسة، لكنها حالة من الاستثارة المنخفضة، ونتيجة لذلك يكون التركيز الحاد غير موجود، وقد نكون عرضة للتشتت الذهني.
مع زيادة مستويات النورأدرينالين، يصبح التواصل عبر مختلف مناطق الدماغ أسهل. تستجيب الخلايا العصبية في قشرة الفص الجبهي Prefrontal cortex أولًا، وهي المنطقة المرتبطة – عادة – بضبط النفس والتفكير المجرَّد؛ لأنها حساسة للمستويات المنخفضة من النورأدرينالين. والأهم من ذلك، أن همهمة النشاط في الموضع الأزرق تصاحبها الآن ارتفاعات سريعة في النورأدرينالين التي تُطلَق استجابةً للمحفزات ذات الصلة. وهذا المزيج من النشاط الأساسي المعتدل، والارتفاعات السريعة لإطلاق الناقل العصبي هما سمة من سمات الغيار الثاني، ويسمحان للدماغ بمعالجة المعلومات الجديدة بشكل أكثر كفاءة. إذا كانت هذه الارتفاعات كبيرة بما فيه الكفاية، يمكن أن تؤدي إلى «إعادة ضبط الشبكة»، وهي تحويل التركيز إلى المعلومات الجديدة والمهمة، وهو أمر ضروري للتفكير المرن. تقول سارة: «تعيد تنظيم مقدم الدماغ، وتحديدًا في اللحظة التي تحتاج فيها إلى تحويل انتباهك وتكييف سلوكك».
قد تنشأ مشكلاتٌ عندما تتحول الهمهمة إلى هدير. هذا ما يحدث في الغيار الثالث. هنا، يمكن لمستويات عالية من تدفق النورأدرينالين من الموضع الأزرق أن تُنشِّطَ مناطق الدماغ المرتبطة بالمعالجة الانفعالية Emotional processing. تميل هذه المناطق إلى أن تحتوي على مستقبلات تستجيب فقط عندما تصل تركيزات الناقل العصبي إلى عتبة Threshold أعلى، وهو ما قد يؤدي إلى استجابة الكر أو الفر، وهي مفيدة إذا كنا في خطر، ونحتاج إلى أن نكون في حالة تأهب قصوى. مع الأسف، يمكن للعديد من المواقف التي لا تنطوي على خطر، مثل الضغط في العمل، أن تضع الموضع الأزرق في الغيار الأعلى. قد نشعر بعد ذلك بالإرهاق، في حين يكون ما نحتاج إليه هو تركيز أكبر.
في الأشخاص الذين يعانون القلقَ أو اضطرابَ الكرب التالي للصدمة PTSD، قد يصبح الموضع الأزرق عالقًا بسهولة في الغيار الثالث الذي يتميز بإثارة عالية. تقول سارة: «نحن نعلم أن هناك إطلاقًا متزايدًا للنورأدرينالين، في اليقظة، وكذلك في النوم، لدى المرضى الذين يعانون اضطراب الكرب التالي للصدمة».
ومن المثير للاهتمام أن آلية التروس – هذه – متورطة أيضًا في اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه ADHD. يبدو أن المشكلة هنا تتعلق بنقل الغيارات بشكل سريع، بحيث يصير من الصعب البقاء منخرطًا في مهمة ما. قد تعمل أدوية اضطراب فرط الحركة، ونقص الانتباه الحالية، جزئيًّا من خلال معالجة هذا الاختلال. على سبيل المثال، نعلم أن الريتالين Ritalin يرفع مستويات الدوبامين Dopamine، وهو ناقل عصبي مرتبط بنظام المكافأة في الدماغ. يمكن لهذا أن يزيد من الشعور بالمكافأة المرتبطة بالمهام، ومن ثمَّ، الاهتمام بها.
لكن الريتالين يحافظ – أيضًا – على مستوى النورأدرينالين في الدماغ عند مستوى أكثر ثباتًا؛ مما قد يؤدي – بعد ذلك – إلى تخفيف نشاط الموضع الأزرق، من خلال حلقة تغذية راجعة Feedback loop. يقول شاين: «إن [التركيب الدماغي] شديد الحساسية لكمية النورأدرينالين الحر، ومثل منظم الحرارة، يقلل معدل إطلاقه إذا ارتفعت تركيزات النورأدرينالين المحلية بشكل كبير». وجدت دراسة حديثة أن الأشخاص المصابين باضطراب فرط الحركة، ونقص الانتباه، الذين يتناولون الريتالين أظهروا أنماطًا من تَوسُّع الحدقة Pupil dilation التي تشير – بالطبع – إلى تنشيط الموضع الأزرق، مقاربة لأنماطها في الأشخاص الذين لا يعانون اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه.
بالنظر إلى هذه النتائج، يعتبر العديد من علماء الأعصاب الآن أن النشاط المعتدل للموضع الأزرق (أي عندما يكون في الغيار الثاني) هو مفتاح الأداء المعرفي الأمثل Optimum cognitive performance، وهو المستوى الأنسب بين الوضع الحالم والوضع الهائج. تقول ستوروني: «هذه هي الحال عندما تكون قشرة الفص الجبهي مشغولة تمامًا، وتعمل في أفضل حالاتها».
وهناك أدلة أخرى تدعم هذا الرأي؛ على سبيل المثال، في العام 2016، اختبر العلماء في جامعة ليدن Leiden University، في هولندا، انتباه المشاركين بسلسلة من صور المدن أو الجبال التي تتحول سريعًا من صورة إلى أخرى. كان على المتطوعين الضغط على مفتاح المسافة Space عندما يرون المناظر الطبيعية الحضرية، وتركه عندما يرون قمم الصخور. في أثناء أدائهم المهمة، قَاسَتْ آلةُ تتبعِ العينِ تَوسُّعَ حدقة العين. ومما لا شك فيه أن الأداء الأكثر دقة حدث عندما أشارت الحدقات إلى وجود نشاط معتدل للموضع الأزرق، النشاط المميز للغيار الثاني. تشير دراسات أخرى إلى أن هذا التركيز المتزايد يساعدنا على الاحتفاظ بمزيد من المعلومات في ذاكرتنا قصيرة الأمد، وهي قدرة أساسية لأي مهمة عقلية معقدة.
يبدو أن التحول إلى الغيار الثاني يعزِّز – أيضًا – فرصة «الإبداع التقاربي» Convergent creativity الذي يشتمل على وميض من البصيرة، أو لحظة إلهام Aha! moment. أظهرت الأبحاث السابقة أن إعطاء الناس موعدًا نهائيًّا وشيكًا يمكن أن يعجِّل بحل الألغاز الأسهل، في حين أن العكس تمامًا صحيح بالنسبة إلى الألغاز الأصعب. كان السبب غير واضح في السابق، لكن ديفيد بيفرسدورف David Beversdorf، من جامعة ميسوري University of Missouri، الذي حلل دراسات الإبداع المتقارب، يشير إلى أن النقطة الزرقاء تحمل الإجابة.
ويقول إنه مع المشكلات الأسهل، قد يرفع الضغط الإضافي نشاطه قليلًا من خط أساس منخفض إلى النقطة المثلى. ومع زيادة صعوبة المهمة، فإن القلق بشأن الوفاء بالموعد النهائي يضع الموضع الأزرق في حال من النشاط الزائد؛ مما يؤدي إلى تفكير أكثر ضبابية Foggier thinking. تقول ستوروني: «بمجرد أن تبدأ في القلق أكثر من اللازم، فإنك تميل إلى الغيار الثالث».
خلق حالة من الاندماج التام
حتى أن الأبحاث الحديثة تشير إلى أن الغيار الثاني يدعم «حالة الاندماج التام» الشهيرة، وهي الشعور بالانخراط التام في مهمة؛ لدرجة أنك تنسى مرور الوقت. يقول ديمتري فان دير ليندن Dimitri van der Linden، من جامعة إيراسموس في روتردام Erasmus University Rotterdam، بهولندا: «يجد الناس الاندماج التام مجزيًّا. بحيث يمكنهم قضاء ساعات في النشاط نفسه». لمعرفة ما إذا كان هذا يعتمد على الموضع الأزرق، قدم هو وزملاؤه للناس لعبة حاسوب صعبة، اضطروا فيها إلى تَذكُّر سلسلة من المخلوقات الغريبة التي استمرت في الظهور على الشاشة، في حين قام الفريق بقياس التقلبات في قُطْر الحدقة ونشاط الدماغ. من المؤكد أن مشاعر المشاركين بالاندماج التام تتوافق مع نشاط الموضع الأزرق؛ حيث كانوا أكثر عرضة لاختيار عبارة «كنت مندمجًا تمامًا» ‘I was in the zone’، عندما أظهروا علامات التحول
إلى الغيار الثاني.
يحدث الاندماج التام عندما تشارك في نشاط يمثل تحديًّا كافيًّا بالنسبة إليك؛ لذلك قد يكون اختيار صعوبة المهمة الصحيحة إحدى الطرق لتغيير التروس العقلية، وتسخير قوة الموضع الأزرق. يشير شاين – أيضًا – إلى أدلة على أن ممارسات مثل التأمل يمكن أن تعزز التركيز العام والتنظيم الانفعالي. ويقول: «أعتقد أنه وسيلة لتدريب نظام الاستثارة (الذي يشكل الموضعُ الأزرقُ جزءًا منه)، بحيث يكون لديك تَحكُّمٌ أكثر وعيًا في الحياة اليومية».
وهناك استراتيجية أخرى، وهي تحقيق أقصى استفادة من الاتصال بين العقل والجسم. تقول ستوروني: «إن الموضع الأزرق له علاقة مباشرة بالجهاز العصبي المستقل Autonomic nervous system، الذي ينظم أشياء مثل معدل ضربات القلب والتنفس». وهذا يعني أن الحركة الجسدية يمكن أن تؤثر في وضع التروس. على سبيل المثال، يمكن للتمرين الخفيف – مثل المشي السريع – في الصباح الباكر أن ينقلنا من الغيار الأول إلى الغيار الثاني، ولكن للنزول من الغيار الثالث، يمكننا أن ننخرط في اليوغا والتحكم في التنفس.
اسْتَفدْ من إيقاعاتك اليومية
تقترح ستوروني، في كتابها، أن نستمع إلى إيقاعاتنا اليومية Circadian rhythm، أيضًا، وأن نخطط لأنشطتنا حول التغيرات الطبيعية في الاستثارة. قد تكون تلك المهام التي تتطلب الإبداع هي الأنسب لبداية اليوم، عندما نتحول تدريجيًّا إلى الغيار الثاني. ويمكن أن تجمع بين التفكير الترابطي والتحليلي. من الأفضل ترك العمل الأكثر تركيزًا، والذي يتضمن معالجة مكثفة للمعلومات، حتى وقت لاحق من الصباح، عندما نكون في الغيار الثاني، أو نحو الساعة 3 أو 4 مساءً، عندما يعود معظم الناس إلى ذروة التركيز، بعد انخفاض الاستثارة في منتصف النهار.
كما قد نعيد النظر في الطريقة التي ندير بها عملنا. يمكن للمهام الرتيبة، أو المملة، أن تحولنا إلى الغيار الأول، على سبيل المثال، بحيث نخسر تركيزنا ونبدأ أحلام اليقظة. هنا، يتضمن الحل زيادة الحمل العقلي. تقول ستوروني: «ربما من خلال القيام بشيء ما بالتوازي، وهو شكل من أشكال تعدد المهام». يعد الاستماع إلى الموسيقى أحد الخيارات، ولكن في بعض الأحيان قد تحتاج إلى شيء يتطلب مزيدًا من التركيز، مثل كتاب صوتي مثلًا. مع العمل المُكثَّف، نواجه مشكلة معاكسة: لا يمكن للدماغ قضاء كثير من الوقت في الغيار الثاني، قبل أن يبدأ في الشعور بالإرهاق؛ لهذا السبب يجب أن نخصِّص فترات راحة منتظمة.
في المستقبل، يمكن للتكنولوجيا الجديدة أن تزيد من قدرتنا على تدريب موضعنا الأزرق. تشير ستوروني إلى سلسلة من التجارب الحديثة التي زودت المشاركين بتعليقات في الوقت الفعلي حول تمدد حدقة العين، والتي تم تقديمها كدائرة على شاشة الحاسوب. قبل أن يبدأوا التجربة، شُجِّعوا على التفكير في المشاهد التي قد تزيد – أو تقلل – من مشاعر اليقظة العقلية. اختار أحد المشاركين أن يتخيل القفز من منحدر إلى البحر لزيادة الإثارة، وتخيل نفسه وهو يطفو بسلام في الهواء لتقليله. نجح التدريب: على مدار ثلاث جلسات يومية، تمكن المشاركون من التحكم بشكل أفضل في الموضع الأزرق، وهي حقيقة أكدها فحص التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي Functional MRI scan الذي يقيس نشاطه مباشرة.
قد تضطر إلى الانتظار بعض الوقت؛ حتى تصبح هذه المعدات متاحة على نطاق واسع؛ لكن مجرد معرفتك عن تروس عقلك يمكن أن تحدث فرقًا. المفتاح هو الوعي الذاتي: أي ملاحظة متى يكون تحفيز عقلك قليلًا أو زائدًا، وتكييف سلوكك بشكل مناسب. ربما استغرق الأمر أكثر من قرنين من الزمن، ولكن حان الوقت لنتعلَّم جميعًا احترام النقطة الزرقاء الصغيرة لدينا.
© 2024, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC