أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
غير مصنف

كهفٌ في فرنسا يكشف كيف انقرض النياندرتال

إن الاكتشافات التي جرى التوصل إليها من جينومات آخر إنسان نياندرتال تعيد كتابة قصة كيف حلّ نوعنا محلهم

بقلم أليسون جورج

قبل نحو 41,000 عام، لفظ آخر إنسان نياندرتال Neanderthal أنفاسه الأخيرة. وفي تلك اللحظة، صرنا الهومينين (أشباه البشر) Hominin الوحيدين المتبقين، الناجين دون غيرنا من عائلة الهومينين ثنائية الأرجل التي كانت متنوعة فيما مضى.

لن نعرف أبدًا متى أو أين حدث هذا الأمر الجلل، لكننا نعلم أن النياندرتال انقرض بصورة مريبة في الوقت نفسه الذي وصل فيه البشر الحديثون إلى أراضيه. كان السبب الدقيق لانقراضه محل جدال حامٍ لفترة طويلة؛ لكن الاكتشافات المذهلة من جينومات Genome آخر نياندرتال، والتي كانت مختفية في كهف رائع في فرنسا، ترسم الآن صورة مفصلة لهذه اللقاءات الأولى، وما حدث بعدها.

يقول لودوفيك سليماك Ludovic Slimak، من مركز بيولوجيا علم الإنسان وعلم الجينوم Centre for Anthropobiology and Genomics في تولوز بفرنسا: «هذه نقطة تحول رئيسية في فهمنا للنياندرتال وعملية انقراضه».

يشترك نوعنا Species، الإنسان العاقل هومو سابينس Homo sapiens، والنياندرتال في سلف مشترك، لكن النياندرتال انفصل عن سلالتنا قبل ما لا يقل عن 400,000 عام، وظهر في أوراسيا Eurasia، من البحر الأبيض المتوسط Mediterranean إلى سيبيريا Siberia. أما نوعنا فهو أصغر عمرًا؛ إذ ظهرت أحافيره أول مرة في إفريقيا قبل نحو 300,000 عام، وظهر الهومينين (أشباه البشر) الذين يشبهوننا تشريحيًّا – إلى حد كبير – قبل ما لا يقل عن 195,000 عام. غادر البشر الحديثون القارة في موجات قبل نحو 170,000 عام، ويُعتقد أنهم وصلوا أوروبا الغربية قبل نحو 43,000 عام، وحلّوا حينها، وفقًا لوجهة النظر الراسخة، محلّ النياندرتال في غضون بضعة آلاف عام فقط.

هناك اختلافات جلية في مظهر النوعَين. كان إنسان نياندرتال أقصر وأكثر اكتنازًا منا، وكان قفصه الصدري وحوضه أعرض، وكان وجهه ذا قوسَين حاجبيتَين Brow ridge بارزتَين. كان يُنظر إلى النياندرتال سابقًا على أنه شرس، ووحشي، وغير ذكي، لكن سمعته تغيرت تمامًا في العقود الأخيرة؛ إذ ظهرت أدلة على أن نياندرتال كان ماهرًا في صنع الأدوات، ودَفَنَ موتاه، وربما رسم على جدران الكهوف، واخترع مواد معقدة، مثل قطران البتولا Birch tar الذي كان يسُتخدَم غراءً، فضلًا على أشياء أخرى. وفقًا لهذه النظرة الجديدة، لم يكن مختلفًا عنا كثيرًا.

لكن لماذا انقرض، في حين غزا البشر الحديثون العالم؟ طُرِحَت تفسيراتٌ عديدة، بما في ذلك الفوضى المُناخية الناجمة عن انقلاب حقل الأرض المغناطيسي Magnetic field، أو ثورانٌ بركاني هائل. لكنّ نجاح هومو سابينس يعقّد أي فرضية تتعلق بمثل هذه الكوارث الكبرى، فلماذا لم يتأثر البشر الحديثون؟

هناك فكرةٌ شائعة أخرى، وهي أن النياندرتال أٌبيدَ في الواقع على يد البشر الحديثين الوافدين، سواء عمدًا أو من دون قصد، بإدخال الأمراض، أو أنه لم يتمكن من التنافس مع البشر الحديثين على الموارد. ويرى آخرون أن النياندرتال لم ينقرض في واقع الأمر، بل اندمج في سلالتنا بالتهاجن Interbreed. ومن المؤكد أن ما بين 1% و4% من جينومات البشر حاليًا من ذوي الأصول غير الإفريقية مشتقةٌ من النياندرتال.

ما قد يساعد على توضيح الأمور هو دليل ملموس على ما حدث حين التقى النوعان. ومن المذهل أن علماء الآثار عثروا على هذا الدليل، وذلك في كهف في فرنسا.

مفاجأةٌ في الداخل

كهف ماندرين Grotte Mandrin هو ملجأ صخري على منحدر تل يطلّ على وادي نهر الرون Rhone river في جنوب شرق فرنسا، وكان لزمن طويل ممرًّا مهمًّا للحياة البرية يربط البحر الأبيض المتوسط Mediterranean بشمال أوروبا. لأكثر من 80,000 عام، كان هذا المكان موقعًا قيمًا للهومينين؛ إذ تمتع بإطلالات ممتازة على قطعان الحيوانات (لكنه حاليًا يطلّ على طريق سريع مزدحم وخط سكة حديدية). بدأت عمليات التنقيب في الكهف في العام 1990، وما وجده سليماك وزملاؤه – منذ ذلك الحين – هو إعادة كتابة ما نعرفه عن وقت وصول البشر الحديثين إلى أوروبا وتفاعلاتهم مع النياندرتال المقيم فيها. يقول كريس سترينغر Chris Stringer، من متحف التاريخ الطبيعي Natural History Museum في لندن: «يواصل موقع كهف ماندرين تقديم المفاجآت».

وبواسطة الأدوات الحجرية والقطع الأثرية Artefact الأخرى في طبقات الرواسب على أرضية الكهف، نعلم أن النياندرتال بدأ استخدام هذا المأوى قبل نحو 80,000 عام، واستمر في زيارته – بصورة دورية – حتى وقت انقراضه، لكن الحفريات الأثرية كشفت عن بعض الأشياء غير المتوقعة في التراب.

كانت المفاجأة الأولى في تسعينات القرن العشرين؛ إذ اكتُشِفَ 1,500 رأس حجري مثلثي صغير يشبه رؤوس الأسهم في طبقة من الرواسب في أرضية الكهف، يعود تاريخها إلى ما بين 52,000 و57,000 عام قبل الآن. كانت هذه القطع مختلفة عن أي قطع أثرية تعود إلى النياندرتال؛ مما اكتُشِف في طبقات أخرى في الكهف، لكنها كانت متطابقة تقريبًا مع قطع أثرية تركها البشر الحديثون في الفترة الزمنية نفسها تقريبًا، في موقع يُسمى قصر عقيل Ksar Akil في لبنان، على بعد نحو 3,000 كم. ثم في العام 2018، عُثِر على سن تعود إلى طفل من هومو سابينس في الطبقات نفسها، محصورة بين طبقات من الأدلة على سكن النياندرتال.

أظهرت هذه النتائج مجتمعة أن البشر الحديثين وصلوا إلى المناطق المطلة على البحر الأبيض المتوسط في فرنسا قبل نحو 54,000 عام، أي قبل نحو 10,000 عام من الاعتقاد السائد. وتقول ريبيكا راغ سايكس Rebecca Wragg Sykes من جامعة كيمبريدج University of Cambridge: «كانت هذه أخبارًا هائلة؛ لأنها وضعت نوعنا في أوروبا الغربية قبل فترة طويلة من الخط الأحمر الذي يمتد من نحو 40,000 إلى 42,000 عام قبل الآن، وهو ما تشير البيانات – حتى ذلك الوقت – إلى أنه كان الحد الأقصى لوجود نوعنا».

أول من زار كهف ماندرين هو النياندرتال، تلاه البشر الحديثون لفترة من الزمن امتدت جيلًا أو ربما جيلَين. وبعد ألفية أو ألفيتَين عاد النياندرتال، ثم حلّ محله مرة أخرى البشر الحديثون. لم يُعثَر على هذا النوع من التسلسل السكاني في أي مكان آخر، وهو ما يعقّد فكرة استبدال السكان البسيطة لتفسير اختفاء النياندرتال. تقول راغ سايكس: «كهف ماندرين فريدٌ من نوعه؛ لأنه الموقع الوحيد الذي لدينا فيه أي دليل على عودة النياندرتال».

رمزٌ شريطي من السخام

ومن المدهش، بالقدر نفسه، أن كهف ماندرين يقدّم أيضًا رؤية دقيقة لهذه الحركة، وذلك بفضل تقنية رادتها سيغولين فانديفيلد Ségolène Vandevelde، إحدى عضوات فريق سليماك من جامعة باريس University of Paris بانثيون سوربون Panthéon-Sorbonne؛ فعندما أشعل زوار الكهف النيران، غطى الدخان الجدران والسقف بالسخام Soot. في الفترات التي كان فيها الكهف غير مسكون، تكونت طبقةٌ من كربونات الكالسيوم Calcium carbonate فوق السخام، وذلك في فترة لا تزيد على شهرين. وتكررت هذه العملية كثيرًا؛ مما أدى إلى ظهور قشور متناوبة باللونين الأبيض والأسود على أسطح الكهف، والتي تشبه – تحت المجهر – رمزًا شريطيًّا Barcode، يمثِّل فيه كل شريط زيارة مختلفة.

تكسّرت شدفٌ من هذه القشرة ودُفنت في طبقات الرواسب على أرضية الكهف. وبما أن شدف السخام دليلٌ على الزيارة، يمكن للطبقة الرسوبية أن توفر تأريخًا. وأكملت القطع الأثرية التي عُثِر عليها في الطبقات الصورة؛ مما مكّن علماء الآثار من تحديد من كان يزور الملجأ ومتى، على مدى فترة 80,000 عام.

وتشير الأدلة مجتمعة إلى أن الفترة الفاصلة بين أول نار أشعلها البشر الحديثون في الكهف، قبل نحو 54,000 عام، والنار السابقة التي أشعلها النياندرتال، لم تتجاوز العام؛ مما يوفر دليلًا قاطعًا على أن نوعَي الهومينين هذَين كانا في المنطقة نفسها في الفترة نفسها.

يقول سليماك: «إن المجموعتين… تشاركتا هذه المنطقة. وفي تلك اللحظة، كان السؤال هو: ما صور التفاعل مع النياندرتال المحلي؟». يعتقد سليماك أن النوعين تعاونا، مشيرًا إلى أدلة على أن البشر الحديثين القادمين استخدموا حجارة صوان لأدواتهم، كالتي استخدمها النياندرتال المحلي، وبعض هذه الحجارة من مواقع قَصيّة تبعد 95 كم. ويقول: «من المرجح أن العلاقات كانت طيبة، وكانت هناك أراضٍ متشاركة ومعرفة متشاركة».

ما حدث بعد ذلك معقدٌ؛ فبعد رحيل أول مجموعة من البشر الحديثين، قبل نحو 54,000 عام، عاد النياندرتال بعد 1,000 إلى 2,000 عام إلى كهف ماندرين. وسكنَت هذه المجموعة التي عادَت الكهفَ في الـ 12,000 عام التي تلت ذلك، لكن حين انتقلت المجموعة الثانية من البشر الحديثين إلى الكهف، اختفت كل آثار النياندرتال – ليس من هذا الكهف فقط، بل من معظم أنحاء أوروبا، باستثناء بعض المناطق، ربما في أقصى الشمال والجنوب. فلماذا إذن تزامن هذا اللقاء مع اختفاء النياندرتال، مع أنّه تمكن من البقاء لمدة 12,000 عام بعد لقائه الأول بالهومو سابينس؟

وهنا أيضًا يقدم كهف ماندرين بعض الإجابات؛ ففي العام 2015 أزال سليماك بعض الأوراق الميتة خارج الكهف، فاكتشف بعض الأسنان في الأرض، وتبيَّن أنها تعود إلى النياندرتال. يقول سليماك: «كان ذلك مفاجأة كُبرى».

وبدأت عملية تنقيب شاقةٌ، إذ أُزيلت الرواسب حبةً حبةً باستخدام ملاقط للحفاظ على كل قطعة من المعلومات. وحتى الآن، عثر الفريق على 31 سنًا، إلى جانب شدف من جمجمة، ويد، وعظام أخرى، كلها من الشخص نفسه.

أطلق سليماك على حفرية Fossil النياندرتال هذه اسم ثورين Thorin، نسبة إلى ملك الأقزام Dwarf king في رواية الهوبيت The Hobbit لجيه آر آر تولكين J. R. R. Tolkien. وأرسل سليماك قطعة من أسنان ثورين لتحليل الحمض النووي DNA، لكنه لم يكن متفائلًا: فالحمض النووي DNA لا يُحفظ عادة في المُناخات الدافئة، ولم تنجح المحاولات السابقة لاستحصال مادة جينية Genetic من الموقع، لكن هذه المرة، أفلح الباحثون في التوصل إلى اكتشاف مبهر.

أظهر التحليل الجيني أن ثورين كان ذكرًا؛ كما أشار تحليل النظائر Isotope في عظامه، والرواسب المحيطة به إلى أنه عاش في فترة ما بين 42,000 و45,000 عام قبل الآن؛ ما يجعله «أحد آخر النياندرتالات»، وفق قول سليماك. لكن على الرغم من أن تأريخ ثورين جعله – بصورة قاطعة – من أواخر النياندرتالات، فإن جينومه لا يتطابق مع جينوم أيٍّ من أفراد نوعه الذين عاشوا في الفترة نفسها. يقول سليماك: «كان ثورين مختلفا تمامًا».

في الواقع، بدا جينوم ثورين مشابهًا لجينوم نياندرتال أقدم بكثير، نياندرتال يعود إلى نحو 105,000 عام قبل الآن. واجه الباحثون مشقة لأعوام في محاولة فهم هذا اللغز، ليدركوا لاحقًا أن ثورين يتحدر من سلالة لم تكن معروفة من قبل، وهي بقايا من مجموعة سكانية قديمة انحرفت عن مجموعة النياندرتال الرئيسية قبل نحو 105,000 عام من الآن، وظلت في عزلة شديدة، تعيش في مجموعات صغيرة لأكثر من 50,000 عام.

يقول سليماك: «لا اندماج بين النياندرتال الكلاسي ومجموعة ثورين. لم يعد الأمر مجرد مسألة النياندرتال والهومو سابينس، بل صار مسألة مجموعات مختلفة من النياندرتال، شديدة التباين والانعزال».

وادي نهر الرون Rhone river في جنوب شرق فرنسا. صورة: Yarr65/ Shutterstock

الموت في عزلة

وجّه تحليل ثورين، إلى جانب إعادة النظر في جينوم نياندرتال متأخر آخر عاش قبل نحو 43,000 عام، فيما يُعرف الآن بوسط فرنسا، سليماك وفريقه إلى أنّ هناك مجموعة على الأقل، أو مجموعتَين على الأرجح، غير معروفتَين من النياندرتال المعزول استمرت حتى نهاية النوع.

وتتوافق هذه الرؤى عن مجموعة ثورين أيضًا مع الاكتشافات حول البنية الاجتماعية لمجموعات أخرى من النياندرتال؛ إذ وجدت دراسةٌ أُجريت في العام 2022، وحللت جينومات 13 إنسان نياندرتال عاشوا قبل ما بين 44,000 و59,000 عام، من موقعين في جبال ألتاي Altai mountains في سيبيريا Siberia، مستويات عالية من تماثل الألائل Homozygosity – أي وراثة جينات متطابقة من كلا الوالدين، وهو ما يُعرَف بالاستيلاد الداخلي Inbreeding – مما يشير إلى أنهم ربما عاشوا وتكاثروا في مجموعات صغيرة كانت تضم نحو 20 فردًا في الفترة نفسها، وكان تفاعلهم ضئيلًا مع الغرباء. تقول راغ سايكس: «عمومًا، يتوافق هذا مع الصورة الأوسع التي تفيد بأن النياندرتالات المتأخرة لم تكن مترابطة ترابطًا كبيرًا بعضها مع بعض».لكن لماذا؟ يظنّ سليماك في أن الغزو الأول للإنسان الحديث، على الرغم من قصر مدته، كان ذا تأثير مزعزع للاستقرار في مجموعات النياندرتال، مشيرًا إلى أن إنسان النياندرتال – في كهف ماندرين – شارك في البداية أراضيه ومصادر المواد مع البشر الحديثين، ثم توقف بعد ذلك. يقول: «بعد غزو الإنسان العاقل لتلك المنطقة، بدأت هذه المجموعة العيش في مناطق متجزئة جدًّا، من دون أي تبادلات مع السكان الآخرين».

كان لغياب التبادل بين مجموعات النياندرتال في مختلف أنحاء أوروبا تبعاتٌ في بقاء النوع، لاسيما لأنّ الاستيلاد الداخلي المرتبط بذلك ربما أدّى إلى تدهور لياقة السكان الجينية. كما أن هذه العزلة تعني أن النياندرتال لم ينتفع من تبادل الأفكار. وفي كهف ماندرين، ينعكس تأثير هذه العزلة الاجتماعية في القطع الأثرية التي عُثر عليها في الموقع؛ فالأسلحة الحجرية القليلة التي انتُشلت من طبقة الرواسب التي تعود إلى سلالة ثورين كانت كبيرة وذات أشكال مثلثية غير متقنة إلى حد ما، على عكس القطع الأثرية التي عُثر عليها في مواقع أخرى تعود إلى نياندرتال من الفترة نفسها.

تتناقض هذه الأسلحة تناقضًا صارخًا مع الأجسام الصغيرة التي تشبه رؤوس الأسهم الموجودة في طبقات الإنسان الحديث، قبل عصر ثورين وبعده، والتي إن كانت تُسْتَخْدَم كمقذوفات لأتاحَتْ استراتيجية صيد آمَنَ لقتل الحيوانات من بعد. ويبدو أن نظام السلاح هذا نشأ بفضل تبادل البشر الحديثين المعلومات عبر شبكة اجتماعية واسعة النطاق؛ ففي نهاية المطاف، عُثِرَ على رؤوس أسهم بالتصميم نفسه في لبنان. يقول سليماك: «يعني هذا أن هذه الجماعات استخدمت شبكات عالية الأهمية للحفاظ على التواصل. الشبكة الاجتماعية قوية جدًّا وكبيرة جدًّا». ويرى سليماك أن تقييس تقنيات صنع الأدوات جعل البشر الحديثين أكثر كفاءة؛ إذ مكّنتهم شبكاتهم الاجتماعية الواسعة من نشر أفضل ممارساتهم؛ ما منح هومو سابينس أفضلية على النياندرتال الذي كان يعمل في عزلة. ويقول سليماك: «تعمل هذه الكفاءة كموجة، وقد أتت هذه الموجة على كل الأُناس السابقين».

تبادلٌ جيني من طرف واحد

لكن على الرغم من العزلة العميقة التي عاشتها بعض مجموعات النياندرتال المتأخرة، تهاجنت أحيانًا مع البشر الحديثين. لكن الغريب في الأمر هو أنه على الرغم من ظهور الحمض النووي DNA للنياندرتال في أحافير هومو سابينس، فلا توجد أي علامة على وجود الحمض النووي DNA للبشر الحديثين في أيٍّ من أفراد النياندرتال المتأخرين الذين سُلْسِلَت Sequence جيناتهم حتى الآن. وتقول ماتيا هادينياك Mateja Hajdinjak، من معهد ماكس بلانك لعلم الإنسان التطوري Max Planck Institute for Evolutionary Anthropology في لايبزيج Leipzig بألمانيا: «نعلم أن هذه المجموعات تداخلت لآلاف الأعوام في أوروبا، ومع ذلك فإننا نجد أن هذا التدفق الجيني وحيدُ الاتجاه إلى حد كبير، من النياندرتال إلى البشر الحديثين، وليس العكس».

هناك العديد من التفسيرات المحتمَلة لهذا التبادل الجيني أحادي الاتجاه؛ فقد يكون ذلك راجعًا ببساطة إلى ندرة البيانات؛ إذ لم يُسَلْسَل سوى عدد قليل نسبيًّا من جينومات النياندرتال، أو ربما كان حمض النياندرتال النووي DNA أهمَّ لبقاء البشر الحديثين من الصورة المعاكسة – كتعزيز وظيفة الجهاز المناعي Immune system – ومن ثمّ احتُفِظ به في الأجيال اللاحقة بواسطة الانتخاب (الانتقاء) الطبيعي Natural selection.

أو قد يكون الأمر وفق هادينياك: «ربما كانت الممارسات الاجتماعية» هي التي أدت إلى إبقاء الأطفال المولودين بواسطة الاستيلاد الداخلي بين البشر في مجموعات البشر الحديثين، لا في مجموعات النياندرتال. ويظنّ سليماك في أن نساء النياندرتال كن ينضممن إلى مجموعات البشر الحديثين، لكن العكس لم يحدث.

يقول سترينغر: «فقدت أعدادهم الصغيرة أصلًا أفرادًا في عمر الإنجاب لمصلحة الأنواع الأخرى، من دون أي تعويض في المقابل – وهي وصفة لكارثة ديموغرافية». ويضيف أنه أيًّا كانت الأسباب وراء الخلل الجيني – اجتماعية أو بيولوجية أو كليهما – فإنها أسهمت في زوال آخر نياندرتال.

لا يموت الناس في حادث انفجاري… بل يموتون في هدوء

كل هذا يشير إلى أن نهاية النياندرتال كانت عملية طويلة ومعقدة. ويقول سليماك إن البحث عن تفسير كارثي مفرد لانقراض النياندرتال، كانفجار بركاني، أمرٌ خاطئ «لا يموت الناس في حادث انفجاري … بل يموتون في هدوء».

© 2025, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

Back to top button