أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
حياة

إعادة نظر شاملة في مرض باركنسون توفر بصيص أمل للعلاج

تتنامى الأدلة المشيرة إلى احتمال وجود فرعين منفصلين لأسرع الأمراض العصبية انتشارًا في العالم. فهل يمكن أن يفتح هذا الفهم الجديد الباب أمام علاجات طال انتظارها؟

بقلم ألكسندرا تومسون

قبل نحو عشرين عامًا، عاش عالم الأعصاب بير بورغامر Per Borghammer لحظة «هذه هي»، وهو يقرأ ورقة بحثية أعدّها فريق من الباحثين الذين سعوا إلى معرفة ما إن كان اضطراب سلوك نوم حركة العين السريعة (اختصارا: الاضطراب RBD)يمثل شكلًا مبكرًا لمرض باركنسون Parkinson’s Disease العصبي. يدفع الاضطراب RBD المصابين به إلى تمثيل أحلامهم بحركات فعلية في أثناء النوم، بدلًا من أن يكون جسمهم في حال ارتخاء، وفي كثير من الحالات، يُلاحَظ أن مرضى باركنسون كانوا مصابين بهذا الاضطراب قبل تشخيصهم بالمرض.
لكن بدلًا من الانطلاق من الدماغ، ركّز الفريق على فقدان الخلايا ‏العصبية في القلب؛ فعلى الرغم من أن مرض باركنسون ارتبط تقليديًّا ‏بتلف الخلايا العصبية في الدماغ، إلا أنه يصيب أيضًا الأعصاب ‏المسؤولة عن الوظائف اللاإرادية في القلب، مثل تنظيم معدل النبض ‏وضغط الدم. ويعلّق بورغامر قائلًا: «لدى جميع هؤلاء المرضى، بدا ‏القلب غير مرئي؛ لقد اختفى تمامًا».‏
بالتأكيد لم يكن القلب «غير مرئي» بالمعنى الحرفي، لكن لدى هؤلاء ‏الأشخاص كانت الخلايا العصبية التي تُنتج الناقل العصبي نورإبينفرين ‏Norepinephrine المسؤول جزئيًّا عن تنظيم معدل ضربات القلب، منهَكة إلى حد أن قلوبهم ‏لم تظهر في صور المسح باستخدام المتتبّعات المشعّة. ويرتبط هذا النوع ‏من فقدان الخلايا العصبية بمرض باركنسون، غير أن أيًّا من المشاركين ‏لم يكن قد شُخِّص بالمرض بعد، وكانت صور أدمغتهم طبيعية تمامًا.‏
ما لفت انتباه بورغامر هو أن مرض باركنسون لا يبدو أنه يسلك المسار ‏نفسه لدى جميع المصابين به؛ إذ يُعد الاضطراب ‏RBD‏ مؤشرًا قويًّا إلى ‏احتمال الإصابة لاحقًا بالمرض، لكن ليس كل من يعاني باركنسون ‏مُصابًا بهذا الاضطراب‎.‎
يقول بورغامر: «أدركتُ أنه لا بد من أن يكون لدينا – على الأقل – نوعان من ‏مرض باركنسون»؛ أحدهما يبدأ بفقدان الخلايا العصبية خارج الدماغ ‏قبل أن يمتد إليه، وفي الثاني يقتصر فقدان الخلايا العصبية على الدماغ منذ البدء، وبحلول العام 2019، كان بورغامر، وهو من جامعة آرهوس ‏Aarhus University‏ في الدنمارك، قد جمع ما يكفي من الأدلة ليطرح ‏رسميًّا نظريته القائلة بوجود نوعين لمرض باركنسون: ذاك الذي «يبدأ في ‏الدماغ أولًا»، والذي «يبدأ في الجسم أولًا».‏
بدأت الفكرة تكتسب زخمًا مع نشر 14 دراسة، إلى جانب دراسات أخرى ‏قيد الإعداد. وإذا كان بورغامر محقًّا، فإن إعادة تصور المرض بصفته ‏يتجلى في شكلين منفصلين قد تُحدِث تحولًا جذريًّا في أساليب علاجه، بل ‏وربما في وسائل الوقاية منه‎.‎
يقول تيموثي غرينامير ‏Timothy Greenamyre، طبيب الأعصاب من ‏‏جامعة بيتسبرغ ‏University of Pittsburgh‏ في ولاية بنسلفانيا: «أعتقد ‏أننا نقترب من معرفة الأسباب الجوهرية وراء مرض باركنسون… ‏سيكون ذلك إنجازًا رائعًا».‏
يأتي هذا في الوقت الذي تشتد فيه الحاجة إلى فهم أسباب المرض، مع تزايد ‏حالات الإصابة بـ «باركنسون» بوتيرة مقلقة؛ فقد قدّرت دراسة حديثة أن عدد ‏المصابين به سيصل إلى 25.2 مليون شخص حول العالم بحلول العام ‏‏2050، أي أكثر بمرتين من عدد المصابين المسجَّلين في العام 2021، ‏والذي بلغ نحو 12 مليونًا، حتى أن بعض الباحثين باتوا يصنفونه ‏‏«جائحة» (انظر: «مرض باركنسون في ازدياد»، الصفحة 32). وفي ‏المقابل، ما زال البحث عن علاجات أكثر فاعلية، فضلًا على علاج شافٍ، ‏يُراكم خيبات الأمل.‏
وُثِّقت أعراض مرض باركنسون، وهي: الرعشة، وعدم ثبات المشية، ‏وتيبس العضلات، منذ العام 600 قبل الميلاد. ولكن، لم يُعرف المرض ‏بهذا الاسم إلا في القرن التاسع عشر، بعد أن وصف الطبيب اللندني ‏جيمس باركنسون ‏James Parkinson‏ ما أسماه «الحركة الرعاشية ‏اللاإرادية» لدى ستة أشخاص، في مؤلَّفه «مقال عن الشلل الرعاش» ‏An ‎Essay on the Shaking Palsy‎‏ عام 1817. كان مرض باركنسون ‏حينها نادر الحدوث، واستغرق الأمر قرنًا من الزمن قبل التعرف على ‏أجزاء الدماغ المسؤولة عنه‎.‎

تناقص الدوبامين
نعرف حاليًا أن مرض باركنسون يصاحب تلاشي الخلايا العصبية ضمن ‏أجزاء الدماغ المسؤولة عن تنسيق الحركة، ومن أبرزها المادة السوداء ‏Substantia nigra‎‏. تسهم بعض هذه الخلايا العصبية في إنتاج الناقل ‏العصبي الدوبامين Dopamine، وعندما ينخفض مستوى الدوبامين، يحدث اضطراب ‏في مسارات الإشارات الطبيعية التي تتحكم في الحركة؛ مما يؤدي إلى ‏الأعراض الرعاشية التي وثقها الطبيب باركنسون.‏
يبدو أن هذا الانتكاس العصبي ينجم عن تراكم شكل غير طبيعي من بروتين ألفا-ساينوكلين Alpha-Synuclein. يوجد هذا البروتين في جميع أنحاء الجسم، ويؤدي دورًا جوهريًّا في تنظيم إفراز الناقلات العصبية، مثل الدوبامين عند المشابك العصبية التي تعد نقاط التقاء الخلايا العصبية ومواقع التواصل بينها.
يتطلب الأداء الوظيفي السليم للبروتينات داخل الخلايا امتلاكها الشكل الصحيح. وعندما ينثني بروتين ألفا-ساينوكلين على النحو غير السوي، قد تتكون تكتلات تُعرف باسم أجسام لوي Lewy bodies داخل الخلايا العصبية. تعمل أجسام لوي على تدمير الخلايا العصبية تدريجيًّا، إما بعرقلة إشاراتها، وإما بإحداث تلف في جدرانها، وإما بأن تتراكم في الميتوكوندريا Mitochondria؛ مما يُقلل من قدرة الخلايا على إنتاج الطاقة اللازمة لها.
مازال السبب وراء انطواء بروتين ألفا-ساينوكلين – على النحو غير الطبيعي له – غير معروف، ولكن من المرجح أن البروتينات ذات البنية غير المنتظمة تسهم في انتشار المرض بين الخلايا. يقول بورغامر إن إحدى الطرق التي تدافع بها الخلايا عن نفسها ضد البروتينات الضارة هي التخلص منها؛ بتحميلها داخل حويصلات صغيرة تُسمى الإكسوسومات Exosomes، وطردها خارج الخلية. ولكن المشكلة، يضيف بورغامر، هي أن «الخلية المجاورة، ومن دون تمييز، تعيد استيرادها، لتبدأ العملية من جديد لدى هذه الجارة».
من أجل تعميق فهمهم الأسباب وراء الخلل الذي يصيب ألفا-ساينوكلين، وكيف يحدث ذلك، شرع الباحثون في البحث عن المناطق التي يمكن أن تكون منطلقًا لهذا الخلل داخل الجسم. وفي تسعينيات القرن الماضي، شبَّه عالم التشريح العصبي هايكو براك Heiko Braak، من جامعة غوته Goethe University Frankfurt في فرانكفورت بألمانيا، انتشار تكتلات أجسام لوي «بتساقط أحجار الدومينو الواحد تلو الآخر». دفعه هذا إلى الافتراض أن المرض قد ينشأ خارج الجهاز العصبي المركزي، ويصل إليه بطريقة ما. وفي العام 2003، افترض براك أن بعض أنواع مسببات الأمراض قد تسبب التهابًا موضعيًّا في شبكة الخلايا العصبية الموجودة في الأمعاء، والمعروفة باسم الجهاز العصبي المعوي، لتبدأ عملية إتلاف بروتين ألفا-ساينوكلين. بعد ذلك، تنقل الخلايا العصبية في العصب المبهم، وهو ممر يربط الأمعاء بالدماغ، البروتين المثني على نحو مشوَّه إلى المناطق المعرَّضة للإصابة في الدماغ.
اكتسبت فرضية براك زخمًا متناميًا خلال السنوات التالية، إلا أن منتقديها ‏يرون أنها لا تفسر تطور مرض باركنسون في جميع الحالات. وفي ‏دراسة صغيرة، لكن محورية، أُجريت في العام 2020، قيّم بورغامر وجاكوب ‏هورساغر ‏Jacob Horsager، طالب الدكتوراه من جامعة آرهوس، ‏وزملاؤهما، حالة 37 شخصًا يعانون مرض باركنسون، 13 منهم يعانون ‏أيضًا الاضطراب ‏RBD، إضافة إلى 22 شخصًا يعانون فقط ‏الاضطراب ‏RBD‏. ولاحظ الفريق أن المصابين باضطراب النوم ‏السلوكي فقدوا كمية أكبر من الخلايا العصبية في القلب والأمعاء، مقارنةً ‏بالمرضى الذين يعانون باركنسون فقط. وهذا يشير إلى أن المرض نشأ في الجهاز ‏الهضمي والقلب قبل وصوله إلى الدماغ.‏
لكن ما هو أهم من ذلك، يقول بورغامر، أن الفريق وجد أيضًا أن ‏الأشخاص الذين لا يعانون الاضطراب ‏RBD‎‏ «يفقدون نظام الدوبامين ‏أولًا، بينما تكون قلوبهم وأمعاؤهم أقرب إلى حالتها الطبيعية»؛ مما يشير ‏إلى أن المرض بدأ لديهم في الدماغ. ‏
أدرك بورغامر أنه على الرغم من صحة فرضية براك بأن التدهور العصبي يبدأ ‏‏«في الجسم أولًا» لدى بعض مرضى باركنسون، إلا أن ذلك لا ينطبق ‏على الجميع. هناك مرضى آخرون تتأثر لديهم البنى المنتجة للدوبامين ‏في الدماغ منذ البدء، أي أنهم ينتمون إلى فئة «في الدماغ أولًا». ويقول ‏بورغامر: «إنهما فئتان منفصلتان تمامًا من دون أي تداخل».‏

الدماغ أولًا، الجسم أولًا
وفرت تحليلات أجراها بورغامر على مرضى باركنسون – بعد وفاتهم – أدلة ‏جديدة على أن المرض يسير على الأقل في مسارين مختلفين؛ ففي بعض ‏الحالات اقتصر وجود بروتين ألفا-ساينوكلين المثني على نحو مُشوَّه على ‏مركز الدماغ؛ مما يدعم فكرة أن المرض ينشأ في الدماغ. أما في حالات ‏أخرى، فكان هذا البروتين المشوَّه موجودًا فقط في الجزء السفلي من ‏جذع الدماغ، كأنه قد وصل إلى الدماغ حديثًا من مكان آخر في الجسم. ‏يقول جون هاردي ‏John Hardy، طبيب الأعصاب من جامعة ‏يونيفرسيتي كولدج لندن ‏University College London‏: «عندما تعثر ‏‏(على ذلك) في مئات الأدمغة، يصير الأمر مقنعًا جدًّا».‏
لم يكن فريق بورغامر هو الوحيد الذي تبنى هذه الفكرة؛ فقد اختبر طبيبَا ‏الأعصاب الزوجان فالينا وتيد داوسون ‏Valina and Ted Dawson، ‏من جامعة ‏جونز هوبكنز ‏Johns Hopkins University‏ في ولاية ‏ماريلاند الأمريكية، نظرية «الجسم أولًا» عبر حقن ألفا-ساينوكلين المشوَّه ‏في أمعاء الفئران. ويقول تيد داوسون: «بدا لنا منطقيًّا أن نختبر ‏الفرضية بأسلوب منهجي».
‏ في غضون شهر، وصل البروتين المشوَّه إلى أدمغة الفئران، متسببًا في ‏قتل الخلايا العصبية المنتجة للدوبامين، لتظهر لدى الفئران أعراض مثل ‏صعوبة الحركة، وفقدان حاسة الشم. تقول فالينا داوسون: «لقد ظهرت ‏لديها مجموعة الأعراض الكاملة المرتبطة بالمرض».‏

نعرف حاليًا أن مرض باركنسون يصاحب تلاشي الخلايا العصبية ضمن أجزاء الدماغ المسؤولة عن تنسيق الحركة

 

 

 

واللافت في الأمر أن هذا التأثير لم يُلاحَظ لدى الفئران التي قُطع عصبها ‏المبهم بعد فترة وجيزة من الحقن. وفي هذا السياق، يقول داريو أليسي ‏‏Dario Alessi، الباحث في المسارات الجينية لمرض باركنسون ‏من ‏جامعة دندي ‏University of Dundee‏ بالمملكة المتحدة، إن ‏‏«البيانات ‏مقنعة جدًّا».‏
نظرًا إلى كون إجراء هذا النوع من الأبحاث على البشر غير أخلاقي، يلجأ ‏العلماء إلى دراسة أشخاص خضعوا لعملية قطع العصب المبهم كخيار ‏علاجي أخير لقرحة المعدة؛ ففي إحدى الدراسات، تبيَّن أن الذين قُطع لديهم ‏العصب عند موضع اتصال المريء بالمعدة – أي «جذع» الشجرة ‏العصبية المتصلة بأعضاء الجهاز الهضمي – كانوا أقل عرضة للإصابة ‏بمرض باركنسون بنسبة %15، بعد عشرين عامًا، مقارنة بغيرهم من ‏أفراد المجتمع الذين لم يخضعوا لهذا الإجراء. وفي دراسة مستقلة، كشف ‏بورغامر وفريقه عن أدلة إضافية تدعم فرضية الصلة بين الأمعاء ‏ومرض باركنسون؛ إذ حلّلوا عينات من أنسجة الأمعاء أُخذت من 57 ‏شخصًا قبل ما يصل إلى عشرين عامًا من تشخيصهم بالمرض، ووجدوا ‏أن أكثر من نصفهم كانوا يحملون تراكيز مرتفعة من بروتين ألفا-‏ساينوكلين المشوّه، وهي أعلى بكثير من المستويات التي سُجّلت لدى ‏أشخاص لم يُصابوا بالمرض.‏
على الرغم من أن معظم الأبحاث المتعلقة بمرض باركنسون، الذي يبدأ ‏في «الجسم أولا»، ركّزت على الأمعاء، سعى بعض العلماء إلى تتبّع ‏بروتين ألفا-ساينوكلين المَطوي على نحو غير سوي في مواضع أخرى ‏من أجسام أشخاص لا يُعانون فقدان خلايا عصبية في الدماغ، ‏ووجدوه في الزائدة الدودية وتجويف الأنف، مثلًا. ويقول أليستير نويس ‏‏Alastair Noyce، المتخصص في علم الأعصاب من جامعة كوين ماري ‏Queen ‎Mary University ‎‏ في لندن: «أعتقد أن من المعقول أن يبدأ تسلسل ‏الأحداث المؤدي إلى مرض باركنسون في الأطراف، ثم ينتقل إلى الجهاز ‏العصبي المركزي». ‏
ويتّسق هذان النمطان الفرعيان من المرض مع التباين الكبير في طريقة ‏ظهوره لدى الأفراد. يقول فيليب شيبيرجانس ‏Filip Scheperjans، ‏أخصائي الأعصاب من مستشفى ‏جامعة هلسنكي ‏Helsinki University ‎Hospital ‎‏ في‏ فنلندا: «إن ما نُطلق عليه مرض باركنسون هو في الواقع ‏طيف واسع جدًّا، تتباين أعراضه بقدر كبير بين مريض وآخر».‏
مثلًا، يميل الأشخاص الذين تظهر لديهم علامات باركنسون الذي يبدأ في «الجسم ‏أولًا» – مَنْ تُرصَد لديهم تراكمات غير طبيعية من ألفا-ساينوكلين في ‏الأنسجة الطرفية خارج الدماغ – إلى الإصابة باضطرابات في الجهاز ‏العصبي اللاإرادي. وقد تظهر لديهم أعراض مثل اضطراب النوم ‏RBD، وانخفاض غير مبرر في ضغط الدم، واضطرابات بولية، ‏وإمساك، وذلك قبل سنوات من تأثر قدرتهم على الحركة. ويقول ‏بورغامر: «عندما تراهم في الشارع، قد لا يخطر في بالك أنهم يعانون ‏المرض. وفي %70 من هذه الحالات، تكون نتائج فحص الدوبامين ‏طبيعية، لكنها تتحوّل لاحقًا إلى غير طبيعية، عاجلًا أو آجلا».‏
في حالة باركنسون الذي يبدأ من الدماغ، تهيمن الأعراض الحركية منذ ‏المراحل الأولى للمرض. وتقول كميل كارول ‏Camille Carroll‏، من ‏جامعة بليموث ‏University of ‎Plymouth‏ في المملكة ‏ المتحدة: ‏‏«هؤلاء هم المرضى الأكثر عرضة للإصابة بالرعاش».‏

آفاق جديدة للعلاج
إدراك أن مرض باركنسون قد يكون – في الواقع – نوعين مختلفين من ‏المرض يفتح آفاقًا جديدة للعلاج. يقول بورغامر متسائلًا: «السؤال ‏الجوهري هو: لماذا يوجد نوع يبدأ في الدماغ وآخر في الجسم؟». ويتابع: ‏‏«إذا كانت هناك اختلافات – على المستوى الجزيئي، أو الجيني، أو ‏الخلوي – فقد تشكل هذه الاختلافات أهدافًا علاجية محتملة، لكننا لا نعلم ‏شيئًا عن ذلك، لأن أحدًا لم يدرس مرض باركنسون ضمن هذا الإطار من ‏قبل».‏
ويشير بورغامر إلى أن عددًا قليلًا فقط من المراكز الطبية حول العالم ‏لديها أجهزة التصوير المتطورة القادرة على التمييز بين النمطين (الجسم ‏أولًا والدماغ أولًا). ومع ذلك، يمكن أن تعتمد الدراسات في المستقبل على ‏تصنيف المشاركين إلى هاتين الفئتين؛ بحيث تُختبر الأدوية على ‏المرضى الذين يُرجَّح أن يحققوا أكبر استفادة منها. وقد يكون هذا التوجّه ‏بالغ الأهمية؛ خصوصًا عند استهداف ميكروبيوم الأمعاء الذي يمكن أن ‏يطرأ عليه تغيُّر جذري لدى مرضى باركنسون.‏
تعمل عدة فرق بحثية حاليًا على دراسة هذا الموضوع؛ ففي دراسة ‏نُشرت في العام 2020، حلَّلت العالمة المتخصصة في علم الأعصاب هايده ‏بايامي ‏Haydeh Payami ‎‏، من جامعة ألاباما ‏University of ‎‎Alabama‏ في برمنغهام، ‏ميكروبيوم الأمعاء لدى 490 شخصًا مصابًا ‏بمرض باركنسون، و234 آخرين غير مصابين به. وتبيَّن أن نحو %30 ‏من الأنواع البكتيرية في أمعاء المصابين كانت إما مرتفعة، وإما منخفضة ‏على نحو غير طبيعي، مقارنة بالأشخاص الأصحاء. ومن بين الأنواع ‏التي سُجِّل ارتفاع في نسبتها بكتيريا الإشريكية القولونية ‏‎(E. coli)‎، وقد ‏ثبت أن بعض سلالاتها تُحفّز الطيّ غير السوي لبروتين ألفا-ساينوكلين في ‏الأمعاء. يقول شيبيرجانس إن بعض أنواع البكتيريا قادرة أيضًا على ‏إثارة التهابات قد تُلحق الضرر بالخلايا العصبية المنتجة للدوبامين في ‏الأمعاء‎.‎
لكن هذه النتائج تطرح المعضلة القديمة المتعلقة بالتمييز بين الارتباط ‏والسببية: هل يملك الأشخاص المعرّضون للإصابة بباركنسون ‏ميكروبيوم معويًّا مختلفًا بطبيعته؟ أو أن الأعراض، مثل الإمساك، هي ‏التي تؤدي إلى هذه التغيُّرات؟ للتحقق من ذلك، أجرى فريق بقيادة عالم ‏الأحياء الدقيقة سركيس مازمانيان ‏Sarkis Mazmanian‏، من معهد ‏كاليفورنيا للتكنولوجيا ‏California Institute of Technology،‎‏ تجربة ‏نقل فيها عينات برازية من مرضى باركنسون إلى فئران خالية من ‏الجراثيم عُدّلَت جينيًّا للإفراط في إنتاج بروتين ألفا-ساينوكلين ‏الطبيعي. وبعد ستة أسابيع فقط، بدأت تظهر على الفئران علامات ضعف في ‏الحركة، ولم تعد قادرة على أداء الاختبارات الحركية المخصصة لها ‏بالكفاءة نفسها. وفي هذا السياق، تقول كارول: «هذه خطوة مهمة على ‏طريق إثبات العلاقة السببية».‏
أوحى هذا الأمر بفكرة مثيرة للاهتمام: هل يمكن أن تُسهم العملية ‏العكسية – أي زرع بكتيريا نافعة في أمعاء مرضى باركنسون – في ‏التخفيف من الأعراض؟ لقد أظهرت هذه الفرضية نتائج واعدة في ‏دراسات أُجريت على الحيوانات، بل في تجربة بشرية واحدة على الأقل ‏نُشرت في العام 2024، ولوحظت خلالها «فوائد طفيفة، ولكن طويلة الأمد» ‏في الأعراض الحركية لدى المصابين بالمرض في مراحله المبكرة‎.‎
لكن نتائج دراسات أخرى جاءت متفاوتة؛ ففي يوليو 2024، أجرى ‏شيبيرجانس وزملاؤه تجربة شملت 45 شخصًا مصابًا بمرض ‏باركنسون بدرجة خفيفة إلى متوسطة، تلقّى بعضهم زرعًا ميكروبيوميًّأ ‏ Faecal microbiome transplant‎ (اختصارا: زرع FMT) من متبرع سليم، بينما حصل الآخرون على حقن وهمية. وبعد ستة ‏أشهر لم تُسجَّل فروق ملحوظة في الأعراض الحركية بين المجموعتين. ‏غير أن مَنْ خضعوا للزرع احتاجوا إلى جرعات أقل من دواء الليفودوبا، ‏وهو دواء يعوّض نقص الدوبامين، مقارنةً بمن تلقوا العلاج الوهمي. ‏ويُرجِّح شيبيرجانس أن يكون الزرع قد حسَّن من قدرة أجسامهم على ‏الاستفادة من الدواء؛ ما قلّل الحاجة إلى جرعات أكبر، حتى مع تقدّم ‏الأعراض لديهم بدرجة مماثلة لمَنْ تلقوا العلاج الوهمي.‏
يواصل الباحثون استكشاف العلاقة بين ميكروبيوم الأمعاء وأعراض ‏باركنسون؛ إذ تُجرى حاليًا تجربتان إضافيتان لزرع الميكروبيوم البرازي ‏‏(زرع ‏‎(FMT، إلى جانب تجربة أخرى تختبر تأثير المضاد الحيوي ‏ريفاكسيمين في أعراض المرض، من خلال تأثيره في ميكروبيوم ‏الأمعاء. وعلى الرغم من أن تجربة يوليو 2024 لم تُصِب الهدف ‏المنشود تمامًا، فإنها قد تعزّز من جديد فرضية وجود نمطين فرعيين من ‏المرض. وبما أن المشاركين في التجربة لم يُصنَّفوا وفق هذين النمطين، ‏يبقى من غير الواضح ما إذا كان العلاج مفيدًا حصرًا للأشخاص الذين ‏ينشأ لديهم المرض في الأمعاء، مثلًا. ويقول هورساغر الذي لم يشارك ‏في الدراسة: «قد تكون هناك آليات نحاول استهدافها بعلاجات جديدة ‏‎]‎لكنها‎[‎‏ تنجح فقط مع نوع فرعي واحد».‏
ويُعد الباحثون هذه الخطوة بالغة الأهمية في مسار الوصول إلى ‏علاجات ذات فاعلية أفضل. يقول بورغامر: «علينا أن نتمكن من إعطاء ‏علاجات مُعدة خصيصًا للفئات الفرعية من المرضى الذين يمكنهم ‏الاستفادة منها حقًّا. كيف نصل إلى ذلك؟ عبر تصنيف المرضى إلى ‏أنماط فرعية».‏
أما هورساغر فيؤكد: «إذا صح هذا التصوّر، فهو يُحدث ثورة ‏حقيقية في فهمنا للمرض. علينا أن نبدأ التفكير فيه من منظور مختلف ‏تمامًا».‏

مرض باركنسون في ازدياد
باركنسون هو أسرع الأمراض العصبية التنكسية نموًّا في العالم. ‏والسؤال المطروح هو: لماذا؟ في البدء، عُزي ارتفاع معدلات الإصابة ‏إلى تزايد متوسط العمر المتوقَّع؛ إذ تُشخَّص معظم الحالات لدى من ‏تجاوزوا الستين من العمر. ويقول داريو أليسي Dario Alessi، من ‏جامعة دندي ‏University of Dundee‏ في المملكة المتحدة: «كلما ازداد ‏عدد المتقدمين في العمر، ازداد عدد المصابين بمرض باركنسون». لكن ‏هذا التفسير لا يكفي وحده؛ إذ يقول شيبيرجانس إن وتيرة ارتفاع الحالات تفوق ما يُتوقَّع، حتى لو أخذنا ‏في الاعتبار ازدياد أعمار الناس.‏
ويرى كثير من الباحثين أن المبيدات الحشرية تؤدي دورًا رئيسيًّا في هذه ‏الزيادة؛ فقد تناولتها عشرات الدراسات المرتبطة بمرض باركنسون على ‏مدى الأربعين عامًا الماضية. ويقول أليسي إن هذه المبيدات تخترق ‏الخلايا، وتلحق الضرر بالميتوكوندريا المسؤولة عن تزويد الخلايا ‏بالطاقة. ويضيف: «عندما يبلغ الضرر حدًّا لا يستطيع الجسم تعويضه، تبدأ الأعراض في الظهور». وعلى الرغم من أن أغلب هذه ‏الأبحاث تعتمد على الملاحظة، ولا تثبت العلاقة السببية بنحو قاطع، إلا ‏أن الكم الكبير من الأدلة المتواترة يعزز من مصداقية هذه الفرضية. ‏يقول أليستير نويس: «الدلائل قوية جدًّا، ومتسقة – إلى حد كبير – بين مختلف ‏الدراسات». وتُظهر دراسات أُجريت على العاملين في الزراعة أن ‏التعرّض الأكبر للمبيدات يرتبط بارتفاع احتمالات الإصابة. ويوضح لي ‏نيلسون ‏Lee Neilson‏، من جامعة أوريغون للصحة والعلوم ‏Oregon ‎‎Health & Science University‏: «كلما زاد استخدام ‏‎]‎المبيدات‎[‎ وقلّت ‏وسائل الحماية، ارتفع على ما يبدو خطر الإصابة».‏
يزداد التركيز أيضًا على تلوث الهواء؛ إذ تنبعث من عوادم السيارات ‏جسيمات دقيقة تُسمى ‏PM2.5‎، لا يتجاوز قطرها 2.5 ميكرومتر، ‏وتحتوي حتى على جسيمات أدق قادرة على اختراق الحاجز الدموي الدماغي، ‏وهو غشاء يحول دون دخول المواد الضارة في الدم إلى الدماغ، ما ‏يؤدي إلى التهابات قد تُلحق الضرر بالخلايا العصبية المنتِجة للدوبامين. ‏وفي دراسة حديثة، تبيَّن أن الأشخاص الذين تعرضوا لأعلى المستويات ‏من جسيمات‎ ‎PM2.5‎ ‎- استنادًا إلى عنوان سكنهم – كانوا أكثر عرضة ‏للإصابة بمرض باركنسون بنسبة %23، مقارنةً بأولئك الذين تعرضوا ‏لأدنى المستويات. ومع ذلك، مازال التوافق العلمي غير محسوم، نظرًا ‏إلى صعوبة تحديد مستويات التعرض للجسيمات بدقة، وتعقيد قياس تراكم هذا ‏التعرض لدى الأفراد على مدى حياتهم.‏.‎

© 2025, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى