تلاشي الكروموسوم Y قد يسهم في فهم تدهور صحة الرجال
يختفي الكروموسوم Y الغامض من الخلايا مع التقدم في السن. والآن، تكشف الأبحاث عن الآثار طويلة المدى التي قد تزيد من فرصة الإصابة بالأمراض وقد تقلل متوسط العمر المتوقع.
بقلم ليام درو
تتفوّق النساء على الرجال في معدلات طول العمر، وهي حقيقة راسخة وثَّقتها أقدم السجلات، وتؤكّدها البيانات في جميع أنحاء العالم، في عصرنا الحالي. وقد سعى العلماء إلى تفسير هذا التفاوت، من خلال فرضيات شتى؛ منها أن الرجال أكثر ميلًا إلى المجازفة أو إلى التدخين، وأن هرمون الإستروجين لدى النساء يوفر لهن الوقاية من بعض الأمراض، أو أن امتلاكهن زوجين من الكروموسوم X يمنحهن ميزة بيولوجية، مقارنة بامتلاك الرجال نسخة واحدة منه. ومع أن بعض هذه التفسيرات قد يشرح جانبًا يسيرًا من الفارق، إلا أن كثيرًا منها ثبتت محدوديته، أو دحضته الأدلة، ولم يُطرَح بَعْد تفسير واحد شامل يُرضي متطلّبات الدقة العلمية.
أخيرًا، طرح باحثون تفسيرًا بديلًا لافتًا يعزو جانبًا كبيرًا من هذا التفاوت إلى الكروموسوم Y تحديدًا. وتقول هذه الفرضية إن الرجال، مع تقدمهم في السن، يفقدون هذا الكروموسوم من عدد كبير من خلاياهم؛ مما يسهم في الإصابة بالأمراض المرتبطة بالشيخوخة.
لا يكون فقدان الكروموسوم Y بهذه الطريقة أمرًا محسوسًا، أو قابلًا للرصد المباشر. ويقول لارس فورسبيرغ Lars Forsberg، من جامعة أوبسالا Uppsala UniversitY في السويد: «على حد علمي، لا توجد بيانات تشير إلى أن الرجال الذين يفقدون الكروموسوم Y يشعرون بذلك». إلا أن الأدلة المتوافرة حاليًا تُظهر أن نسبة ملحوظة من الرجال المسنين يتأثرون بهذه الظاهرة، وتكشف دراسات حديثة عن تبعاتها طويلة الأمد على الجهاز المناعي، فضلًا على زيادة خطر الإصابة بالسرطان وأمراض القلب ومرض ألزهايمر.
يقول كينيث والش Kenneth Walsh، من جامعة فرجينيا University of Virginia: «إذا كنت رجلًا، فلن ترغب في أن تفقد الكروموسوم Y، فهذا سيُقصِّر عمرك بلا شك». والإدراك المتزايد لأهمية هذا الكروموسوم في الصحة العامة يفتح آفاقًا جديدة لاستراتيجيات الحفاظ على صحة أفضل مع تقدم الرجال في السن.
يمتلك معظم البشر 22 زوجًا من الكروموسومات، إضافة إلى زوج من الكروموسومات الجنسية: إما XX وإماXY . والكروموسوم Y هو المسؤول الرئيسي عن تحديد الجنس البيولوجي للجنين (مع التمييز بين ذلك وبين الهوية الجندرية)، كما يؤدي دورًا رئيسيًّا في الحفاظ على إنتاج الحيوانات المنوية لدى الذكور البالغين. وهو أحد أصغر الكروموسومات؛ إذ لا يتجاوز حجمه ثلث حجم الكروموسوم X تقريبًا، ويحتوي على عدد قليل من الجينات. إلا أنه يتمتع بعديد من الخصائص التي تجعل تحليله بالغ التعقيد؛ ما جعله آخر كروموسوم بشري استُكمل تحديد تسلسله الجيني بالكامل، وذلك في العام 2023، بعد أن ظل أكثر من نصف شفرته الجينية مجهولًا، وما زال العديد من وظائفه غير مفهوم تمامًا.
أظهرت دراسات جينية – منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي – أن بعض الرجال يفقدون الكروموسوم Y بشكل دائم في جزء من خلاياهم. ولكن العلماء تعاملوا حينها مع هذه الظاهرة على أنها مجرد أثر جانبي غير ضار مرتبط بالتقدم في العمر. وفي ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، لاحظ اختصاصيون في بيولوجيا السرطان أن بعض الأورام لدى الرجال تفتقر إلى الكروموسوم Y، لكن هذا الاكتشاف لم يحظَ باهتمام كبير، نظرًا إلى محدودية الأبحاث المتعلقة بدور هذا الكروموسوم في وظائف الجسم لدى البالغين، عدا دوره المعروف في الخصوبة.
غير أن منحى الأبحاث تغيَّر جذريًا في العام 2014، عندما كشفت دراسة صحية طويلة الأمد، شملت 1153 رجلًا سويديًّا في السبعينيات والثمانينيات من أعمارهم، بمحض المصادفة عن عارض بالغ الأهمية. سُحبت من المشاركين عينات دم لتحليل الحمض النووي DNA، ولاحظ لارس فورسبيرغ وزملاؤه أن الكروموسوم Y كان مفقودًا في نسبة ملحوظة من خلايا الدم لدى نحو %8 من المشاركين. ثم تبيَّن للفريق – وعلى نحو لافت – أن متوسط عمر الرجال الذين فُقِد الكروموسوم Y من بعض خلايا الدم لديهم كان أقصر بخمس سنوات ونصف السنة، مقارنةً بمن احتفظوا به.
وتوصل فورسبيرغ، بالتعاون مع مشرفه حينذاك يان دومانسكي Jan Dumanski، من جامعة أوبسالا، إلى أن فقدان الكروموسوم Y يرتبط بزيادة ملحوظة في معدلات الإصابة بالسرطان، وبمعدلات مرتفعة جدًّا للإصابة بمرض ألزهايمر؛ ففي إحدى الدراسات تبين أن الرجال الذين فقدوا هذا الكروموسوم كانوا أكثر عرضة للإصابة بألزهايمر بنحو سبعة أضعاف، مقارنة بأقرانهم ممن لم يفقدوه.
يقول دومانسكي إن هذه النتائج «أثارت قدرًا كبيرًا من الجدل، ولم يرغب أحد في تصديقها في البدء». لكن دراسات لاحقة، أشمل نطاقًا وأوسع حجمًا، أكدت صحة هذه النتائج، وكشفت عن روابط إضافية بين فقدان الكروموسوم Y وعدد من الحالات المرضية الأخرى. وكان أبرزها ما توصَّل إليه كينيث والش وزملاؤه في العام 2022، حين حللوا بيانات أكثر من 200 ألف مشارك في دراسة البنك الحيوي البريطاني UK Biobank، ووجدوا أن فقدان هذا الكروموسوم يرتبط بزيادة خطر الإصابة بعدة أنواع من أمراض القلب.
لفهم أسباب فقدان الكروموسوم Yوتأثيره، لا بد – أولًا – من استيعاب آلية تلاشيه. يحتوي جسم الإنسان البالغ على نحو 30 تريليون خلية، تتجدد منها يوميًّا نحو 300 مليار خلية. وتشكل الخلايا الدموية، المولودة من الخلايا الجذعية المكوّنة للدم في نخاع العظم، نحو 90% من هذه الخلايا الجديدة، بما في ذلك نحو 100 مليار خلية دم بيضاء.
يحدث فقدان الكروموسوم Y خلال عملية الانقسام الخلوي المصاحِبة لتجدّد الخلايا. ويؤكد فورسبيرغ أن هذه الظاهرة «شائعة إلى حدّ كبير، وليست حدثًا شاذًّا أو نادرًا»، ويرجِّح أنها تحدث، بدرجات متفاوتة، لدى جميع الرجال، غير أن التقدّم في السن يزيد من احتمال وقوعها بصورة ملحوظة؛ ففي دراسة أُجريت في فبراير 2025، وشملت 25,000 ذكر تراوحت أعمارهم بين ثلاث سنوات وخمس وتسعين سنة، تبيَّن أن %5.11 منهم فقدوا الكروموسوم Y فيما لا يقل عن %5 من خلايا الدم البيضاء. لكن هذا الفقدان كان شبه معدوم لدى من هم دون الخمسين من العمر، في حين أنه لوحظ لدى %6 من الرجال، في الفئة العمرية ما بين الخمسين والستين، وارتفعت النسبة لتتجاوز %40 بين من تجاوزوا سن الثمانين.
وإلى جانب الشيخوخة، يُعدُّ التدخين ثاني أبرز عوامل الخطر المعروفة. كما أقيم رابط بين فقدان الكروموسوم Y والتعرّض لتلوّث الهواء، ومبيدات الأعشاب التي تحتوي على مركّب الغليفوسات، وكذلك المياه المُلوَّثة بالزرنيخ.
ولم يتضح بعد إن كانت الخلايا المنقسمة أكثر عرضة لفقدان الكروموسوم Y دون غيره من الكروموسومات. وربما يعود ذلك إلى صغر حجمه، واحتوائه على عديد من تكرارات الحمض النووي DNA، ما قد يجعله أكثر عرضة لأن يتلاشى. غير أن النقطة الجوهرية، كما يوضح دومانسكي، تكمن في أن الخلية الذكرية قادرة على البقاء بعد فقدان الكروموسومY ، في حين أن فقدان أي كروموسوم غير جنسي «يُلحق ضررًا فادحًا بالخلية ويؤدي إلى موتها».
في الواقع، يبدو أن الخلايا الجذعية المكوّنة للدم، والتي فقدت الكروموسوم Y، تزدهر وتتكاثر فتُنتج عددًا كبيرًا من خلايا الدم التي تسري في الجسم. وتضيف النظرية أن هذه الخلايا المتحوّلة تُسهم في نشوء الأمراض الكبرى المصاحِبة للتقدم في السن. قد يحدث لدى الإناث أيضًا فقدان أحد الكروموسومين X، وربما بوتيرة مماثلة لفقدان الكروموسوم Y، غير أن الخلايا المتأثرة تبدو أقل قدرة على البقاء والتكاثر، ومن ثمّ فهي أقل وفرة.
يقول دومانسكي إن أحد الأسئلة الكبرى المطروحة في هذا المجال هو تحديد أنواع الخلايا الأخرى لدى الرجال، والتي قد تكون عرضة لفقدان الكروموسوم Y. ومن المهم التمييز بين هذه الظاهرة والسؤال المتعلق بفقدان الجنس البشري الكروموسوم Y بالكامل، في السياق التطوري عبر الأزمنة الجيولوجية (انظر: «هل سيختفي الكروموسوم Y نهائيًّا؟»، إلى اليسار). كما تختلف هذه الحالة عن فقدان الكروموسوم Y في الخلايا التناسلية الذكرية الذي قد يؤدي إلى ولادة أطفال ثنائيي الجنس، وهو نادر الحدوث إلى حد كبير. ومن المهم أن نشير إلى أن أغلبية كبيرة من الدراسات المُنجَزة – حتى الآن – أُجريت على رجال متوافقين جندريًّا Cisgender men، وهم الذين وُلدوا ذكورًا، وتنسجم هويتهم الجندرية مع جنسهم البيولوجي. وعلى الرغم من أنه من المرجح أن يمر أشخاص آخرون يحملون الكروموسوم Y بتجربة مماثلة لفقدان هذا الكروموسوم، فإن مدى تأثّرهم الفعلي لايزال موضع بحث.
مشكلة جسيمة
مع ذلك، فإن اكتشاف فقدان الكروموسوم Y – في نسبة ملحوظة من خلايا الدم – في أجسام عدد كبير من الرجال كبار السن، واقتران ذلك بانخفاض في متوسط أعمارهم، يقترح أن الأمر لا يقتصر على أن يكون مجرد ظاهرة بيولوجية عارضة، بل يشير إلى وجود خلل عميق ومقلق، قد تكون له تبعات صحية جسيمة.
افترض فورسبيرغ ودومانسكي، منذ البدء، أن اختلال وظيفة الجهاز المناعي قد يكون الرابط المحتمل؛ ففي عام 2021، مثلًا، تبيَّن لهما – مع زملائهما – أن فقدان الكروموسوم Y يُغيِّر من تعبير عديدٍ من الجينات في الخلايا المناعية البشرية. ونتيجة لذلك، يقول دومانسكي: «يكون الجهاز المناعي لدى الذكور أكثر هشاشة». وقد يُفضي هذا إلى عديد من التأثيرات غير المباشرة والنتائج المتسلسلة، لا سيما في ظل تنامي الوعي بأهمية الجهاز المناعي في الحفاظ على الصحة العامة، وليس فقط في مكافحة العدوى؛ إذ إن الخلل المناعي يرتبط بعدد من الحالات المرضية، أبرزها السرطان، وأمراض القلب، ومرض ألزهايمر.
لكن هذا الطرح ليس محل إجماع. يقول جون بيري John PerrY، من جامعة كامبريدجUniversitY of Cambridge ، مثلًا: إن فقدان الكروموسومY ، ومعظم الأمراض المرتبطة به، ليسا إلا مظهرين متوازيين للمشكلة الجوهرية، وهي ازدياد عدم استقرار الجينوم المرتبط بالتقدم في السن. ويضيف بيري: «إن العاملَيْن الأكثر تأثيرًا في تحديد احتمالية فقدان الكروموسوم Y، ومدى شدته، هما العمر والتدخين». وكلاهما يُعد من أبرز العوامل التي تزيد من خطر حدوث خلل في الجينوم والإصابة بالمرض؛ لذا يُرجّح أن العمليات التي تُلحِق الضرر بالحمض النووي DNA هي التي تؤدي أيضًا إلى فقدان الكروموسوم Y. ويقول «ليس من المستغرب أن نجد ارتباطات بين فقدان الكروموسومY وكل المشكلات الصحية تقريبًا».
لقد ثبت أن لفقدان الكروموسوم Y دورًا في الإصابة بالسرطان
في العام 2019، نشر بيري وزملاؤه دراسة تناولت الأسس الجينية المرتبطة بمخاطر فقدان الكروموسوم Y لدى نحو مليون رجل. وكشفت الدراسة عن 156 متحورة جينية على صلة بزيادة احتمال فقدانه. وتبيَّن أن هذه الجينات تُسهم – إلى حدّ كبير – في إصلاح تلف الحمض النووي DNA، وتنظيم الانقسام الخلوي، ما يقترح أن فقدان الكروموسوم Y هو نتيجة ثانوية لاختلال هذه العمليات، وليس سببًا مباشرًا في سلسلة التطورات المَرَضية.
لاختبار هذه الفرضية، تقصَّى فريق بيري ما إذا كانت النساء اللواتي يحملن المتغيرات الجينية نفسها (التي تجعل الرجال أكثر عرضة لفقدان الكروموسوم Y) يُصَبْنَ هن أيضًا بمزيد من الأمراض المرتبطة بالتقدم في العمر. وقد تبيَّن أنهن يُصَبن بالفعل. يقول بيري: «كان ذلك دليلًا قاطعًا على أن المسألة تتعلق بجينات تهيئ لعدم استقرار الجينوم، وأن فقدان الكروموسوم Y لدى الرجال ليس سوى أحد تجليات هذا الخلل».
يُقر فورسبيرغ بوجود هذه الآلية، لكنه يؤكد أن هذا لا ينفي احتمال أن تكون لفقدان الكروموسوم Y عواقب صحية مباشرة كذلك. وقد أيَّدت دراسات أحدث هذا الدور السببي في تدهور الصحة، وأسهمت في دحض الفكرة الراسخة بأن الكروموسوم Y، باستثناء دوره في تحديد الجنس والإنجاب، خامل جينيًّا إلى حد كبير.
بدأت الأبحاث المتعلقة بالآليات الكامنة وراء هذه العملية عندما حوّل والش اهتمامه إلى الكروموسومY ؛ فبعد سنوات من تركيزه على معرفة كيف تسهم الطفرات في خلايا الدم في ظهور أمراض القلب والأوعية الدموية، أراد التحقق مما إذا كان فقدان الكروموسوم Y يمكن أن يسبب في مشكلات صحية مباشرة. ولتحقيق ذلك لجأ فريقه إلى فئران التجارب؛ في البدء عدّل الباحثون – جينيًّا – الخلايا الجذعية المكوِّنة للدم في الفئران لجعلها خالية من الكروموسومY ، ثم أخذوا فئرانًا سليمة، واستأصلوا خلاياها المكوِّنة للدم، ووضعوا بدلًا منها الخلايا المُعدَّلة الخالية من الكروموسوم Y. هكذا، صارت لدى هذه الفئران خلايا دم تفتقر إلى الكروموسوم Y، بمعزل عن أي عوامل أخرى قد تُسبب فقدانه في الظروف الطبيعية.
يقول والش إن هذه الفئران تصاب – لدى بلوغها مرحلة الشيخوخة – بضعف في وظائف القلب، وتدهور في القدرات الإدراكية، و«تموت في وقت مبكر». وقد أظهر ذلك أن فقدان الكروموسوم Y من الخلايا المناعية يمكن أن يسبب مشكلات صحية بنحو مباشر. وألهم هذا الاكتشاف والش وزملاءه تحليلَ بيانات البنك الحيوي البريطاني، وهو مشروع واسع النطاق وطويل الأمد يدرس العلاقة بين الجينات والصحة. وهكذا، وجدوا علاقة بين نسبة خلايا الدم التي فقدت الكروموسومY ، واحتمال الوفاة بأمراض الجهاز الدوري خلال السنوات الإحدى عشرة التالية؛ فقد ارتفع – مثلًا – خطر الوفاة بنسبة %31 لدى الرجال الذين فقدت %40 أو أكثر من خلاياهم البيضاء الكروموسوم Y.
بعد ذلك، استخدم الباحثون الفئران المُعدَّلة جينيًّا لفهم كيف، على وجه التحديد، يمكن أن يؤدي فقدان الكروموسوم Y إلى إصابتها بأمراض القلب؛ فوجدوا أن قلوب هذه الفئران، بل ورئاتها وكُلَاها أيضًا، تراكم فيها نسيج ندبي مفرط، أو ما يُعرف بالتليُّف Fibrosis، ويُرجَّح أن السبب هو نشاط الخلايا المناعية التي تفتقر إلى الكروموسومY . وعندما أعطى الفريق تلك الفئران دواءً مضادًّا للتليُّف، تبيَّن أنه يقيها الإصابة بأمراض القلب.
إذا تأكد هذا التأثير في التليف لدى البشر أيضًا، يقول والش إن الأطباء قد يتمكنون – في المستقبل – من استخدام أدوية مضادة للتليف على سبيل الوقاية من أمراض القلب لدى من يعانون فقدان الكروموسوم Y.
اتضح أخيرًا أن لفقدان الكروموسوم Y دورًا في الإصابة بالسرطان؛ ففي مركز سيدارز- سيناي الطبي Cedars-Sinai Medical Center ، في لوس أنجليس، وفي أثناء إجراء دان ثيودورويسكو Dan Theodorescu أبحاثًا على سرطان المثانة، وهو مرض يصيب الرجال بمعدل يزيد بنحو أربعة أضعاف مقارنة بالنساء، تساءل عمّا إذا كان للكروموسوم Y دور في هذا التفاوت بين الجنسين. للتحقق من ذلك، أنشأ هو وزملاؤه خلايا سرطانية من المثانة، بعضها يحتفظ بالكروموسوم Y، وبعضها الآخر يفتقر إليه، ثم حقنوها في أجسام فئران التجارب. وكانت النتائج لافتة: فقد نمت الأورام التي تفتقر إلى الكروموسوم Y بسرعة أزيد بمرتين، مقارنة بتلك التي احتفظت به.
وعندما دقق باحثو فريق ثيودوريسكو في قواعد البيانات البشرية، وجدوا أن ما بين 10 و40 في المئة من أورام المثانة لدى الرجال تفتقر إلى الكروموسوم Y، وأن الوفاة تحدث في هذه الحالات بوتيرة أسرع بكثير، مقارنة بمن تحتفظ أورامهم بهذا الكروموسوم. غير أنه عندما زرع الباحثون خلايا الأورام الخالية من الكروموسوم Yفي أطباق بتري في المختبر، تبيَّن لهم أنها تتكاثر بوتيرة مماثلة لتكاثر الخلايا المحتفظة بالكروموسوم، وهو ما يقترح أن تسارع النمو المُلاحَظ داخل الجسم لا يعود إلى سرعة انقسام الخلايا التي فقدت الكروموسوم، بل قد يكون مرتبطًا بقدرة هذه الخلايا على التملص من الجهاز المناعي.
أيَّدت تجارب لاحقة هذا التصور؛ إذ وجد ثيودوريسكو وزملاؤه أن فقدان الكروموسوم Y، في خلايا سرطان المثانة، يدفعها إلى إنتاج بروتينات تُنهك الخلايا التائية T cells، وهي نوع من الخلايا المناعية تُعرف بقدرتها على التعرف على الأورام ومهاجمتها. ومع تراجع قدرة هذه الخلايا على مكافحة الخلايا السرطانية، ينمو الورم بوتيرة أشد ضراوة.
ينطوي هذا الاكتشاف على أهمية كبيرة فيما يتصل بمسارات العلاج. فمثبطات نقاط التفتيش المناعيةImmune checkpoint inhibitors – وهي أدوية أحدثت تحولًا جذريًّا في علاج السرطان خلال العقد الماضي - تعمل على تعطيل آلية الإنهاك هذه؛ مما يتيح للخلايا التائية مهاجمة أنواع مختلفة من السرطان بفاعلية أكبر. ولاحظ فريق ثيودوريسكو أن هذه الأدوية أثبتت فعالية أكبر في محاربة أورام المثانة التي تفتقر إلى الكروموسوم Y، مقارنة بالأورام التي تحتفظ به. وجاءت البيانات السريرية لتؤكد هذا الاتجاه؛ إذ يستجيب مرضى سرطان المثانة الفاقدون للكروموسوم Y للعلاج بمثبطات نقاط التفتيش المناعية على نحو أفضل من أولئك الذين لا يزال الكروموسوم موجودًا في خلايا أورامهم.
هل سيختفي الكروموسوم Y تمامًا؟
المسبب الرئيسي
يعمل الباحثون حاليًا على معرفة ما إن كان لفقدان الكروموسوم Y دورٌ مماثل في سرطانات أخرى غير سرطان المثانة؛ فقد خلصت دراسة نُشرت في العام 2023، بقيادة إستر راينبايEsther Rheinbay ، من جامعة هارفارد Harvard University ، إلى أن غياب الكروموسوم Y في خلايا الأورام هو أمر «شائع جدًّا» في عديد من أنواع السرطان، ما يقترح اتساع نطاق تأثيره.
تشير دراسات أجراها والش وثيودوريسكو – كذلك – إلى مسبب محتمل لهذه التأثيرات، وهو جين في الكروموسوم Y يُعرف باسمUTY. يُنتج هذا الجين إنزيمًا يضطلع بدور في تنظيم عمل جينات أخرى، لا سيما تلك التي تعبّر عنها الخلايا المناعية، ولذا يُرجَّح أن يؤدي فقدانه إلى تغييرات واسعة في التعبير الجيني، يشتبه الباحثون في أنها تسهم في ظهور مشكلات صحية.
وعلى الرغم من التحفظات التي أبداها بيري، فإن الرسالة العامة، وفق تعبير ثيودوريسكو، هي أن «فقدان الكروموسوم Y أمر سيئ». وما زال من غير المعروف مدى مساهمة هذا العامل في الفارق بين متوسط أعمار الذكور والإناث على وجه الدقة، وإن كان دومانسكي يقدّر أن النسبة قد تتجاوز النصف.
ومن الأسئلة الجوهرية التي لم تجد جوابًا بعد، ما إذا كانت التغيرات في نمط الحياة التي تعزز الشيخوخة الصحية، مثل تحسين النظام الغذائي، والحصول على قسط كافٍ من النوم، وتجنّب التوتر المفرط والإكثار من الكحول، يمكن أن تبطئ من فقدان الكروموسوم Y.
يقول دومانسكي: إن نظرتنا إلى أهمية الكروموسوم Yالذي أُهمل فترة طويلة «تشهد تحولًا جذريًّا». ويضيف: «نحن بصعوبة بدأنا نفهمه».
منذ أن تطورت الكروموسومات X وY في الثدييات، قبل نحو 200 مليون عام، حافظ الكروموسوم X على استقراره إلى حد كبير، في حين فقد الكروموسوم Y نحو %97 من جيناته الأصلية. ويُعد هذا الكروموسوم هو الأسرع تغيرًا في الجينوم البشري، وهو ما يثير مخاوف من تلاشيه على نحو تتعذر معه استعادته، ومن ثم احتمال اندثاره النهائي.
وقد يبدو، للوهلة الأولى، أن هذا يشكل تهديدًا لوجود الذكور أنفسهم؛ لكن ثمة أنواعًا من الثدييات تخلّت بالفعل عن الكروموسوم Y، ومع ذلك فهي لا تزال تضم ذكورًا وإناثًا؛ مثلًا: يفتقر جرذ الشوك من جزيرة أمامي إلى هذا الكروموسوم، غير أن جينًا آخر في شفرته الوراثية تطور ليؤدي دورًا جديدًا كليًّا في تحديد الجنس.
يستبعد كينيث والش، من جامعة فرجينيا، أن يمر البشر بتغيرات مماثلة. ويقول إن حجم الكروموسوم Y استقر لدى معظم الأنواع على امتداد 25 مليون سنة، بعد مرحلة أولية من الانكماش السريع. ونظرًا إلى أن هذا الكروموسوم قد يحتوي على جينات تؤدي أدوارًا أساسية في الخلايا المناعية، وربما في مواقع أخرى أيضًا (انظر الموضوع الرئيسي)، يبدو مستقبله في تلك الأنواع، ومنها الإنسان، مضمونًا..
© 2025, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC