أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
حياة

خطوات بسيطة وفوائد عظيمة: تقليل التوتر وتعزيز الإدراك ومقاومة المرض

نعلم جميعًا أن المشي له فوائد صحية كثير، لكن الأدلة العلمية المتزايدة يكشف أن المواظبة على ممارسة المشي الصحيح يعزز تلك الفوائد بشكل كبير

بقلم هيلين تومسون

كان المنظر أخَّاذًا وأنا أصعد الطريق الصخري الوعر نحو جبل ير وذفا، ‏المعروف أيضًا باسم سنودون. توقفتُ لأتنشق هواء الجبل النقي المحمّل ‏بنفحات عطرية خفيفة من الخلنج العسلي تشبه رائحة الزعتر البرِّي، ‏ولأستمتع بالسكون. استأنفت السير، ولم يتناه إلى سمعي سوى وقع أحذية ‏منتظم على الصخور. لكن سرعان ما استرعى انتباهي إيقاع أغنية «كل ‏ما تريده» ‏All That She Wants‎‏ الشهيرة لفرقة «إيس أوف بيْس» ‏Ace of Base‎‏. شيئا فشيئا، صار الصوت أقوى، وسرعان ما اتضح ‏مصدره حين مرّ بي متسلق آخر، تنطلق من حقيبته نغمات تلك الأغاني ‏التي اشتُهرت في تسعينيات القرن الماضي‎.‎
كل بمفرده، جميعنا نحاول بلوغ أعلى قمة في ويلز، لكن بأساليب ‏مختلفة. بعضنا يختار أقصر الطرق، ويتمهل آخرون ليستمتعوا ‏بالروائح العطرية والأصوات المنطلقة من حولنا، بينما يفضل آخرون سماع الأنغام التي تروق لهم فيحملونها معهم. وبغض النظر عن الطريقة، سيجني ‏الجميع فوائد من المشي: فهو يحسن صحة القلب ويقوي العضلات، ومجرد ‏الوجود في الطبيعة يعزز الصحة النفسية. ومع ذلك، قد يحقق بعضنا فائدة أكبر من الرحلة من غيرهم.‏
على الرغم من فائدة المشي بكل أشكاله، إلا أن اختيار المسار له دور ‏حاسم في تعزيز الفوائد الصحية بقدر كبير، كما يتضح. فبعض المناظر ‏الطبيعية والأصوات والروائح المميزة، وحتى أساليب المشي، يمكن أن ‏تحوّل تجربة المشي من نشاط جيد إلى تجربة متميزة حقا. تكشف ‏الدراسات، مثلا، أن بعض البيئات تخفض ضغط الدم أكثر من غيرها، ‏وتوضح كيف يمكن للمشي على الساحل أن يوفر بعض الفيتامينات التي نحتاج إليها يوميًّا، وكيف يمكن لأشكال معينة من التضاريس أن تعزز ‏القدرات الإدراكية. لذا، انتعل حذاء المشي واستعد ذهنيا للانطلاق معي ‏في رحلة لاكتشاف الأماكن والطرق المثلى للمشي.
ربماَ ترى في المشي مجرد وسيلة بسيطة للحفاظ على اللياقة ‏البدنية، لكن حان الوقت لإعادة النظر في هذا التصور. فقد تراكمت خلال ‏العقود الأخيرة أدلة متزايدة على أثره الإيجابي في الصحة النفسية. ‏ويُعزى ذلك جزئيًا إلى كونه من أكثر الحركات الإيقاعية ثباتا ‏واستمرارية في حياتنا. وتشير الدراسات إلى أن هذا الإيقاع يحفّز الدماغ إلى إنتاج موجات دماغية تُعرف بموجات «ثيتا»، بتردد يتراوح بين 7 ‏و8 هرتز، وهي موجات ترتبط بتحسين الذاكرة والوظائف الإدراكية، ‏فضلاً عن أثرها الإيجابي في تحسين المزاج وصفاء الذهن.‎ وثمة سبب آخر يرتبط بالتأثير الإيجابي للطبيعة في الصحة النفسية: ‏فمشاهدة المناظر الطبيعية وحدها تسهم في التخفيف من الاكتئاب، بينما يوفر التجوال قرب مجرى مائي راحة نفسية أكبر. ويرتكز ‏التفسير الشائع لهذا الأثر على ما يُسمى «نظرية استعادة الانتباه» ‏Attention Restoration Theory‏ التي تفترض أن تركيز الانتباه ‏وتوجيهه نحو المهام المختلفة يستهلك قدرا كبيرا من الطاقة الإدراكية، ‏ولا يمكننا الاستمرار في هذا الجهد سوى فترة محدودة قبل أن نشعر ‏بالإرهاق. وهذا الإرهاق يرتبط بانخفاض القدرة على ضبط النفس، ‏وظهور مشكلات صحية مثل السمنة والاكتئاب‎.‎
أما الطبيعة، فتوفر ما يُسمى «الافتتان الهادئ» Soft fascination‎، فهي تشدّ الانتباه ‏بلطف من دون أن تتطلب جهدا كبيرا، مما يساعد على تخفيف التوتر ‏وتجديد الطاقة المعرفية. وتُظهر صور الدماغ هذه الحالة من الاسترخاء ‏بوضوح، من خلال انخفاض النشاط في الفصين الجبهيين، وانتشار ‏الموجات الدماغية منخفضة التردد في مناطق واسعة من الدماغ‎.‎

بعض البيئات تخفض ضغط الدم أكثر من غيرها

 

 

كل هذا رائع من دون أدنى شك، لكن الأبحاث الحديثة تشير إلى أن نزهة ‏المشي الجيدة قد تمنحك ما هو أكثر بكثير‎. ولتوضيح ذلك، دعنا نسِرْ معًا في الغابة. المدهش أن الفائدة الصحية لا ‏تقتصر على مشهد الأشجار، بل تشمل رائحتها أيضا. فالأشجار والنباتات ‏تطلق مركَّبات عضوية متطايرة ‏Volatile Organic Compounds‎‏ ‏‏(اختصارا: المركبات‏‎ (VOCs ‎لأغراض شتى مثل جذب الحشرات الملقِّحة وإبعاد ‏الكائنات التي قد تضر بها. لكن هذه الروائح الكيميائية تؤثر في أجسادنا ‏كذلك‎.‎
خذ مثلاً مركب بيتا-بينين الذي تطلقه أشجار شائعة في المملكة المتحدة، ‏مثل التنوب سيتكا والصنوبر الاسكتلندي. عند استنشاقه، يُحدث هذا ‏المركَّب تأثيرات عدة؛ فهو مضاد للالتهاب، ويسهم في خفض ضغط ‏الدم، ويقلل من إفراز هرمونات التوتر. وقد بينت دراسات صغيرة أنه ‏يرفع عدد الخلايا القاتلة الطبيعية في الدم، وهي ضرورية لمحاربة ‏العدوى والسرطان. وفي دراسات أُجريت على الحيوانات، ثبت أن للبينين ‏أثرا وقائيا من السكتات الدماغية والنوبات القلبية والصرع‎.‎

رائحة طيبة
ولسنا في حاجة إلى العيش قرب غابة صنوبر كي نحظى بهذه الفوائد. يقول ‏عالم الأعصاب مايكل ليون ‏Michael Leon‏ من جامعة كاليفورنيا ‏‏University of ‎California، إيرفين‏، إن النزهة المثالية ينبغي أن تشمل ‏أكبر قدر ممكن من الروائح المتنوعة، «بالمعنى الحرفي، توقّف واستنشق ‏رائحة الورد». وقد كشفت أبحاثه عن مدى أهمية حاسة الشم للصحة. ‏ففي أكتوبر 2024، أشار هو وفريقه إلى أن فقدان الشم مرتبط بما لا يقل ‏عن 139 حالة طبية مختلفة. كما أظهرت دراساتهم أن استنشاق أربعين ‏رائحة مختلفة يوميا يمكن أن يحسِّن أعراض الخرف، وأن التعرض ‏لروائح متنوعة أثناء النوم قد يعزز الإدراك ويحسّن صحة مناطق الدماغ ‏المرتبطة بالذاكرة‎.‎
كما كشفت هذه الدراسة أن هذا التنويع المُسمى «الإثراء الشمي» ‏Olfactory enrichment‏ يسهم في تعزيز النشاط في الحُزمة الخطافية ‏Uncinate fasciculus، وهي مسار عصبيّ مرتبط بالذاكرة واللغة، ‏ويُعرف أنه يتدهور مع التقدم في السن، لا سيما لدى المصابين بمرض ‏ألزهايمر. ويرى ليون أن تحفيز هذه المنطقة عبر مدّ الدماغ بوفرة من ‏الروائح المتنوعة قد يحميها من هذا التدهور. ويضيف أن سكان ‏المجتمعات الغربية المترفة يعانون نقصًّا في التحفيز الشمِّي، ما ‏ينعكس سلبًا على صحتهم. ويقول: «نستحم كثيراً، ونقضي وقتاً أطول ‏داخل المباني، ولا نتنشق من الروائح ما اعتادته أدمغتنا عبر مسار ‏تطورها. لا يهمّ نوع الروائح التي نستنشقها أثناء النزهة ما دامت ‏عبقة، فكلما زاد تنوعها، كان ذلك أفضل».‏
وهذا يقودني إلى البحر. شاطئ ويست ويترينغ هو وجهتي المفضلة؛ ‏شريط طويل من الرمال الذهبية على ساحل سَسِكْس. هناك، أتجوّل ‏مستمتعة بنسيم البحر المشبع برذاذ مالح، وروائح الأعشاب البحرية ‏والسراخس الممتدة على حواف الكثبان الرملية. لطالما سمعنا أن زيارة ‏الشاطئ لاستنشاق هواء البحر مفيدة خلال فترة النقاهة، وها هي الأبحاث ‏الحديثة تؤكد ذلك. فهَوَاء البحر محمَّل بجزيئات دقيقة من النباتات ‏والطحالب والبكتيريا التي تدفعها الرياح عندما ترتطم بسطح الماء، ‏ويبدو أن بعض هذه الجزيئات له منافع صحية عديدة. وفي دراسة هي الأولى ‏من نوعها نُشرت هذا العام، عرَّض الباحثون خلايا رئوية لجرعات من ‏الهباء البحري جُمعت من ساحل أوستند في بلجيكا – وهي جرعات ‏مماثلة لما قد يتعرض له من يسير على طول ذلك الساحل. وقد أظهرت ‏النتائج تأثير هذه الجزيئات في التعبير الجيني ضمن مسارات خلوية ‏أساسية، من بينها تلك المسؤولة عن تعزيز الاستجابة الوقائية ضد ‏الأورام والالتهابات، فضلاً عن دعم عمليات الأيض.‏
ليس هذا فحسب، فقد توفر النزهة على الشاطئ بعض العناصر الغذائية ‏الحيوية. على مدى التاريخ، ساد الاعتقاد بأننا نحصل على العناصر ‏الغذائية حصريا من الطعام، إلا أن الباحثين بدؤوا في العام 2019 بتحدي ‏هذا المفهوم، مؤكدين أن مسار دخول هذه العناصر إلى الجسم ليس ‏بالضرورة أن يكون عن طريق الأكل فقط. ومن هنا جاء مصطلح«المغذيات الهوائية» ‏Aeronutrients الذي ابتكره كل من ستيف ‏روبنسون ‏Steve Robinson‏ من جامعة ريدينغ ‏University of ‎Reading‏ في المملكة المتحدة، وفلافيا فاييت مور ‏Flávia Fayet-‎Moore ‎‏ من جامعة نيوكاسل ‏University of ‎Newcastle‏ في ‏أستراليا‎.‎‏ ‏في ورقة بحثية حديثة، استعرض الباحثان الأدلة التي تُظهر أن ‏الرئتين قادرتان على امتصاص العناصر الغذائية من الهواء. ثم ينقل الدم ‏هذه العناصر إلى بقية أعضاء الجسم والدماغ. واستنتجا أن هذه المغذيات ‏الهوائية قد تكمل ما نحصل عليه من طعامنا من المنغنيز، والفيتامينات‎ A ‎وB12‎، وبعض الأحماض الدهنية الأساسية‎.‎‏ وبالفعل، وجدت دراسة ‏شملت أطفالاً يعيشون قرب مناطق ساحلية غنية بالأعشاب البحرية أن ‏مستويات اليود في بولهم أعلى بكثير مقارنة بأطفال يتبعون نظاما غذائيا ‏مشابها لكن يعيشون في مناطق ساحلية خالية من الأعشاب البحرية. ‏ويقترح الباحثون أن هذه الزيادة تُعزى إلى استنشاق الأطفال غاز اليود ‏المنبعث من الأعشاب البحرية‎.‎
تقول الكاتبة أنابيل آبس ‏Annabel Abbs، مؤلفة كتاب العلاج بالمشي ‏‏The Walking Cure‏ إن “الدراسات المتعلقة بهواء البحر مذهلة”. ‏وتنصح بشكل خاص بالمشي على قمم المنحدرات، نظرًا إلى الفوائد الصحية ‏الإضافية التي يمكن أن نحصل عليها منها. وتقول “ليس فقط لأن الهواء ‏البحري غني بالمغذيات، ولوفرة الضوء المنعكس الذي يحفز ‏السيروتونين ‏‎]‎الهرمون المسؤول عن تنظيم المزاج‎[‎، بل أيضاً لأن ‏الصعود والهبوط خلال المشي يُعد نوعا من تدريب المشي المتقطع». وقد ‏ثبت أن هذا التدريب الذي يقوم على التناوب بين المشي البطيء ‏والسريع، يُحسِّن اللياقة البدنية وقوة العضلات، ويساعد على التحكم ‏بمرض السكري من النوع الثاني. ومع أن هذا النوع من التدريب قد يبدو ‏مملا ويصعب الالتزام به فتراتٍ طويلة، تقول آبس إن المشي في ‏المناطق ذات التضاريس المتفاوتة والمتدرجة الارتفاع يجبرنا على ‏ممارسته بشكل طبيعي ومن دون أن نفكر في الأمر.‏

كل ما نحتاجه لتخفيف التوتر هو المشي مدة 20 دقيقة في مساحة ‏خضراء

 

 

 

فرضية السافانا
عندما نمشي، من المهم أن نأخذ في الاعتبار طبيعة الأرض من حولنا ‏والروائح المحيطة بنا وألا ننسى كذلك المشهد الطبيعي. أخيرًا، وجدتني ‏أتجول جنوب الحدود الاسكتلندية قرب بحيرة كيلدر. لم أختر هذا المكان ‏لمجرد وجود أشجار الصنوبر الكثيفة والمياه الجارية، بل لأن المشي ‏هناك أخذني إلى سهول واسعة ومكشوفة تتميز بمناظر طبيعية “كسورية ‏متوسطة” ‏Mid-fractal‏ وهي مناظر متوازنة بين البساطة والتعقيد، ‏تتخللها أشجار متناثرة وأنماط طبيعية متكررة تظهر تشابهاً على ‏مستويات مختلفة، وهي شائعة في الطبيعة، كالتكرار الذي نراه في ‏أغصان وفروع الأشجار، وتجعل المشهد مريحا للنظر. وتشير بعض ‏الدراسات إلى أن المناظر الطبيعية ذات التركيب الكسوري المتوسط – ‏مثل السافانا المنبسطة التي تتخللها أشجار متناثرة ليست معقدة جداً ولا ‏بسيطة جداً – تعزز صحتنا الذهنية والجسدية أكثر من أنواع المناظر ‏الأخرى‎.‎‏ مثلا، عندما التقطت كارولين هاغرهالCaroline Hägerhäll ‎‏ ‏وفريقها البحثي من الجامعة ‏السويدية للعلوم الزراعية ‏Swedish ‎University of Agricultural ‎Sciences‏ صورا لنشاط الدماغ لدى أشخاص ‏يشاهدون مناظر طبيعية ذات أبعاد كسورية مختلفة، وجدوا أن الصور ‏الكسورية المتوسطة تزيد من موجات ألفا وبيتا في الدماغ، وهي موجات ‏مرتبطة بالشعور بالهدوء والتركيز‎.‎
يقول بعض الباحثين إن تفضيلنا للمناظر الطبيعية الشبيهة بالسافانا يعود ‏إلى جذورنا التطورية، إذ كانت هذه البيئات تساعدنا على الأرجح على ‏رصد الحيوانات المفترسة وتوفر لنا أماكن للاختباء‎.‎
لكن كاثي ويليس ‏Kathy Willis، أستاذة التنوع البيولوجي من جامعة ‏‏أكسفورد ‏University of Oxford‏ ومؤلفة كتاب الطبيعة الجيدة: العلم ‏‏الجديد حول طرق تحسين الطبيعة لصحتنا ‏Good Nature: The new ‎‎science of how nature improves our health، تحذر من عدم ‏وجود أدلة قوية تدعم هذه الفكرة. ومع ذلك، فقد حمَّستها على تغيير ‏الطرق التي تسلكها أثناء المشي. وتقول: «إذا أتيحت لي الفرصة، أختار ‏التوجه نحو المرج القريب مني – وهو مشهد مفتوح تتخلله بعض ‏الأشجار المتناثرة – بدلاً من المشي في الغابة الكثيفة».‏
ربما يقول أحدكم: الوضع يختلف لديَّ، فأنا أقيم في المدينة، وليس بوسعي ‏أن أخرج في أي وقت للسير في مرج أو سهل أو لأصعد تلة. غير أن ‏أولريكا ستيغسدوتر ‏Ulrika Stigsdotter، أستاذة هندسة ‏المناظر ‏الطبيعية من جامعة كوبنهاغن ‏University of Copenhagen‏ ‏في ‏الدنمارك‏، لا ترى في ذلك عائقاً بالضرورة، وتقول: “قد يفكر البعض أن ‏التنزه في الحقول الخضراء هو وحده المفيد للصحة، ولكن في الحقيقة ‏هناك كثير من الأدلة التي تقترح أن المشي في المناطق الحضرية له ‏فوائد صحية أيضا”.‏
للمقارنة بين فوائد التنزه في حديقة نباتية بكوبنهاغن والتنزه في قلب ‏المدينة، درس فريقها الحالة الصحية والنفسية لمجموعتين من المشاركين. جمع ‏الباحثون بيانات عن ضغط الدم وتذبذب معدل ضربات القلب ‏والمقاييس النفسية للمزاج، قبل كل نزهة وبعدها. وتبين أن التنزه في أي ‏من المكانين يبعث على الراحة ويجدد النشاط أكثر من الجلوس في ‏الحافلة أو الوجود في المكتب‎.‎‏ وفي حين سجلت جولة المشي في الحديقة ‏أعلى النقاط في كل مؤشرات الصحة، ذكرت ستيغسدوتر أن نتائج “البيئة ‏الحضرية لم تقل عنها كثيرا”. ولفتت إلى أنه على الرغم من افتقار ‏المباني إلى اللون الأخضر، فقد تميزت بجمال معماري وتاريخ عريق، وهو ‏ما أثر ربما في جعل المشاركين يشعرون بالراحة. وتضيف أن الحديقة ‏المكتظة قد لا تستحوذ في المقابل على الاهتمام المطلوب الذي ننشده ‏للشعور بالراحة. وتلخص الفكرة بقولها: “لا يمكننا ببساطة تصنيف ‏المناطق الحضرية على أنها سيئة والمساحات الخضراء على أنها جيدة”.‏

المدينة مقابل الريف
مع ذلك، إن أتيحت لك فرصة مغادرة المدينة، فلا تفوت الأمر. ففي حين ‏يستقصي الباحثون أدق التفاصيل التي تجعل التنزه مفيدا، تسجل البيئات ‏غير الحضرية أفضل النتائج باستمرار. مثلا، الرحلات ضمن مجموعات ‏في الأراضي الزراعية فاعليتها أكبر في تخفيف التوتر من تلك التي تُنظم ‏في المدن. كما يبدو أن تنوع الحياة البرية مرتبط بشكل واضح بشعورنا ‏بالراحة بعد النزهة، فكلما زاد التنوع البيولوجي، تحسَّن شعورنا بالراحة. ‏وبالمثل، أظهرت دراسة صغيرة أن الأشخاص الذين تنزهوا في الطبيعة ‏لمسافة 1.8 كيلومتر خلال فترة الغداء سجلوا تحسنا ملحوظًا في تذبذب ‏معدل ضربات القلب في الليلة التالية مقارنة بمن ساروا في منطقة ‏حضرية مكتظة. وهذا يقترح أن أجسادهم تعافت على نحو أفضل من ‏ضغوط ذلك اليوم.‏
في أثناء خروجي للمشي خلال فترة الغداء، خطر لي سؤال آخر: ما المدة المناسبة للمشي؟ وهل تفي جولة سريعة حول الحديقة لاستنشاق ‏كمية كافية من المركَّبات العضوية المتطايرة (‏VOCs‎‏)؟ وعدا عن الفوائد ‏الجسدية، هل هناك مزايا للمشي مسافات أطول بكثير، مثل المشاركة في ‏الماراثون الخيري الذي اقترحته صديقتي، أو المشي أسبوعًا كاملًا على ‏طريق كامينو دي سانتياغو في إسبانيا كما يفعل أقاربي كل عام؟ تقول ‏ويليس إن النزهة القصيرة تكفي. وتضيف: “الأدلة الآن قوية جدا فيما ‏يتعلق بتغيُّر مستويات هرمونات التوتر؛ فالمشي مدة 20 دقيقة في مساحة ‏خضراء يكفي لنبدأ بملاحظة تأثيرها وستشعرون براحة أكبر”.‏
مع ذلك، قد يوفر المشي فتراتٍ أطول فوائد أكثر ديمومة. فقد أظهرت ‏دراسات يابانية أن الأشخاص الذين قضوا ست ساعات يمشون في غابات ‏الصنوبر على مدار ثلاثة أيام متتالية شهدوا زيادة ملحوظة في عدد ‏الخلايا القاتلة الطبيعية، وانخفاضاً في مستويات هرمونات التوتر، ‏واستمرت هذه التأثيرات الإيجابية لما لا يقل عن سبعة أيام. كما يقول ‏كثيرون إنهم يحققون فائدة نفسية من المشي مسافات طويلة، وهو ما تؤكده ‏دراسة شملت أشخاصاً في منتصف العمر وأكبر سنا ووجدت أن «المشي ‏لمسافات طويلة، من خلال توفير مساحة مميزة للتأمل، يمكن أن يساعد ‏بطرق تشبه إلى حد كبير الاستشارة النفسية المهنية». قد ينبع هذا التأمل ‏من تجربة حالة التدفق الذهني أثناء المشي الطويل، إذ تكشف الأبحاث أن ‏هذه الحالة تعطل مناطق القشرة الجبهية الأمامية في الدماغ المسؤولة عن ‏التخطيط وتنفيذ الأفكار، مما يعزز الشعور بالتركيز والهدوء. كما كشفت ‏دراسة على متسلقي درب جبال أبلاش الأمريكية أن نحو ثلثيهم اختبروا حالة التدفق ‏الذهني في مرحلة ما خلال مسيرتهم‎.‎
أما صعودي جبل ير وذفا فلا يرقى إلى هذا الطموح. لكن عندما أصل ‏إلى القمة، أشاهد الناس وهم يتوقفون للاستمتاع بالمنظر، أو يلتفون ‏لمشاهدة زنبق سنودون النادر، أو ينتظرون في طوابير لالتقاط صور ‏سيلفي عند القمة، فأتساءل ما التأثيرات الفسيولوجية التي أحدثها ‏اختيارهم طريقة المشي في ذاك اليوم، وكيف استفدت أنا نفسي من ‏قراراتي. من المؤكد أن موسيقى فرقة إيس أوف بيْس لا تناسبني، لكنني ‏سأحرص على الاستمتاع باستنشاق رائحة الزنابق في طريق العودة‎.‎

© 2025, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى