مراصد قمرية قد تُحْدِثُ ثورة في فيزياء الكون
بينما تستعد البشرية للعودة إلى القمر، يفكر العلماء بإجراء تجارب قمرية ضخمة يمكن أن تحدث ثورة في الفيزياء الفلكية.

بقلم ريبيكا بويل
عندما حلَّق مايكل كولينز Michael Collins فوق الجانب البعيد من القمر، خلال بعثة أبولو 11 عام 1969، أدرك أنه سيُذكَر بصفته الإنسان الأكثر عزلةً في التاريخ. وقد وصف في مذكّراته أنه لم يشعر آنذاك بالخوف، بل ملأه شعور غامر تقريبًا بالبهجة، وهو يفكِّر في كل ما يوجد على الجانب الآخر من القمر: نيل أرمسترونغ Neil Armstrong، وباز ألدرين Buzz Aldrin على سطح القمر، ومن ورائهما كل مخلوقات الأرض، وكل ما أنجزته البشرية عبر تاريخها. أما على الجانب الذي حلق فوقه، فلم يكن هناك، كما كتب كولينز في مذكراته، سوى شخص «واحد… ومعه ما لا يعلم به إلا الله».
وبعد مرور نصف قرن، بدأ المشهد القمري الذي ارتبط في أذهان البشر بالفراغ والسكون يزداد ازدحامًا ونشاطًا؛ فالتخطيط لإرسال بشر يمكثون فترات أطول على سطح القمر لا يقتصر على وكالة ناسا NASA ووكالات الفضاء العالمية الأخرى، بل يعمل باحثون من مختلف أنحاء العالم على وضع مخططات تفصيلية لتحويله إلى أقوى مختبر لفيزياء الفلك في التاريخ. وقد يُسهم ذلك في الإجابة عن أكثر أسئلتنا عمقًا وتعقيدًا: كيف اشتعلت النجوم الأولى؟ لماذا تطوَّر الكون على هذا النحو؟ وهل هناك كائناتٌ حيّة أخرى في هذا الكون الفسيح؟
يقول جان هارمز Jan Harms، عالِم الفلك من معهد غران ساسو للعلوم Gran Sasso Science Institute في إيطاليا: «على سطح القمر، يمكن أن نفكر في مفاهيم يستحيل عمليًّا تحقيقها هنا على الأرض»؛ إذ تبدو الظروف على القمر كأنها مُعدَّة خصيصًا لاستضافة مراصد متقدمة يمكنها تقديم إجابات عن بعضٍ من أعقد الأسئلة المتعلقة بالكون وأكثرها إرباكًا؛ فالهدوء والسكون الاستثنائيان اللذان يميّزان الجانب القمريّ الذي لا نراه مطلقًا من الأرض، قد يجعلان منه نافذةً مفتوحةً على تاريخ الكون؛ بدءًا من المجرات الأولى، وصولًا إلى الطاقة المظلمة الغامضة التي تجعل الكون يتمدد بوتيرة متسارعة. لكن قبل ذلك، علينا أن نبني هذه المراصد.
يقول مارتن إلفيس Martin Elvis، من مركز هارفارد-سميثسونيان للفيزياء الفلكية Harvard-Smithsonian Center for Astrophysics في ولاية ماساتشوستس الأمريكية: «قبل عشر سنوات، كان مجرد التفكير في هذا الأمر مستبعدًا تمامًا. لم يكن ثمة مسار عملي معقول يسمح بوضع معدات ضخمة على القمر؛ لذا كان جميع علماء الفلك، تقريبًا، بمن فيهم أنا شخصيًّا، يتعاملون مع هذه الفكرة على أنها ضرب من الخيال. أما حاليًا، فيجدر التفكير في الأمر بجدية. وبمجرد أن يبدأ علماء الفلك في التفكير في أمرٍ ما، حتى ينطلقوا في ابتكار حلول خلَّاقة». وها هي بعض تلك الأفكار الخلاقة في طريقها إلى أن تتحول إلى واقع ملموس.
ومن بين أكثر هذه الأفكار جرأةً، نصب تلسكوبٍ راديويّ على الجانب البعيد من القمر؛ وهو المكان الأكثر هدوءًا في المجموعة الشمسية بأكملها. فالتكنولوجيا التي اخترعها البشر تنشر الموجات الراديوية في الفضاء منذ أكثر من مئة عام، والجانب البعيد من القمر هو المكان الوحيد الذي لا تصل إليه هذه الموجات. وهذا يجعله – على الأرجح – الموقع الوحيد في المجموعة الشمسية الذي يمكن فيه التقاط الإشارات الراديوية الضعيفة القادمة من أعماق الكون، من دون أن تُحجَب بالكامل بفعل الضوضاء الراديوية الصادرة عن الأرض.
من القمر إلى ظلمات الكون الأولى
الموجات الراديوية هي أداة جوهرية لقياس الأجسام الكونية الخافتة والبعيدة جدًّا. وعلى الرغم من قدرتنا على رؤية النجوم والمجرات البعيدة، من خلال جميع أطوال موجات الضوء، فإننا لا نستطيع ’رؤية’ الكون قبل ظهور الضوء إلا عبر الموجات الراديوية. ولهذا السبب – تحديدًا – يسعى علماء الكونيات إلى فهم الحقبة التي سبقت ولادة النجوم الأولى، والمعروفة باسم العصور الكونية المظلمة Cosmic Dark Ages؛ لأنها الفترة التي حدَّدت مسار الكون، وأثّرت في نشأة المجرات، وأسباب تكوينها، وأماكن وجودها. وللوصول إلى دراسة هذه الحقبة، ينبغي تتبُّع جزيئات الضوء، أو الفوتونات، التي انبعثت من ذرّات الهيدروجين الأولى التي تكونت بعد نحو 380 ألف سنة من الانفجار العظيم Big Bang.
تقول نيفيديتا ماهيش Nivedita Mahesh، عالمة الفلك من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا California Institute of Technology: »هذا هو السبيل الوحيد لتحقيق ذلك. لا تتوافر أي معلومات أخرى متاحة لعلم الكونيات».
لكن المشكلة تكمن في أن هذه الفوتونات الأولى لا يمكن رصدها إلا على شكل موجات راديوية منخفضة التردد، وهي الترددات نفسها المُستخدَمة في البث الإذاعي إف إم FM على الأرض. ومن ثم، فإن رصدها من كوكبنا يكاد يكون مستحيلًا؛ نظرًا إلى انعكاسها عن الغلاف الجوي للأرض. لكن الجانب البعيد من القمر قد يوفر نقطة مراقبة مثالية لذلك». ومن خلال دراسة توزُّع هذه الفوتونات الصادرة عن ذرّات الهيدروجين الأولى، يمكن لعلماء الفلك رسم خريطة لحقبة الظلام الكوني.
ويمكن لتلسكوب راديوي، على الجانب البعيد من القمر، أن يرصد أيضًا الشفق القطبي والمجالات المغناطيسية للكواكب الخارجية البعيدة التي يمتصها الغلاف الجوي، وتغمرها الضوضاء الراديوية الأرضية. ويمكن أن يساعدنا ذلك على فهم كيف يتأثّر كوكب خارجي – وأي نوع من الحياة عليه – بالنجم الذي يدور حوله. تقول ماهيش: «يمكن لمثل هذا المرصد عندها الإجابة عن سؤال جوهري: إذا كان الكوكب الخارجي مُحاطًا بمجال مغناطيسي فهل يحميه هذا المجال من التوهجات القادمة من نجمه؟ [وإن ثبت ذلك]، فقد يكون ذلك كوكبًا واعدًا لمواصلة دراسته بحثًا عن مؤشرات إلى الحياة».
عدا عن ذلك، يُعدُّ القمر الموقع الأفضل لتحسين قدرات مقراب أفق الحدث Event Horizon Telescope (اختصارا: التلسكوبEHT )، وهو شبكة من التلسكوبات الراديوية التي التقطت الصور الأولى للثقوب السوداء. ومن شأن تحسين جودة الصور المُلْتَقَطة للثقوب السوداء أن يعزز قدرة علماء الفيزياء الفلكية على فهم هذه الأجرام الكونية الغريبة، واختبار صحة نظريات الجاذبية. كما أن وضع المراقبات الراديوية على سطح القمر، وربطها بالتلسكوبات الأرضية سيحيلان التلسكوبEHT إلى مرصد عملاق يتمتع بقدرات هائلة.
وقد بدأت بالفعل الجهود العملية التي تتيح تحقيق هذه الأهداف؛ ففي العام 2024، أرسلت الوكالة ناسا إلى القمر معدات مخصصة لتنفيذ أول تجربة للرصد الفلكي بالموجات الراديوية، تُعرف باسم رصد غلاف الإلكترونات الضوئية بالموجات الراديوية من سطح القمر Observation at the Lunar Surface of the photoElectron Sheath (اختصاراً: التجربة ROLSES-1). هبطت معدات التجربة على الجانب القريب من القمر، في موقع قريب من قطبه الجنوبي. وحملتها إليه مركبة صنعتها الشركة إنتويتيف ماشينز Intuitive Machines، وهي شركة خاصة. ولكن المركبة انقلبت بعد وقت قصير من هبوطها، ما حدَّ من مدة عملها، وكمية البيانات التي جمعتها. ومع ذلك تمكن الباحثون من التقاط موجات راديوية من الأرض والمشتري. وقد أثبتت هذه التجربة الأولية أن جهازًا صغيرًا على سطح القمر قادر بالفعل على رصد الموجات الراديوية، وهو ما شجّع العلماء على المطالبة بمزيد منها.
التجربة التالية المرتقبة هي التجربة الكهرومغناطيسية على سطح القمر Lunar Surface Electromagnetics Experiment، وتعرف اختصاراً باسم LuSEE-Night، وهي تجربة تعدها ناسا، ومن المقرر إرسالها إلى الجانب البعيد للقمر في عام 2026. ستقوم أجهزة استقبالها بقياس الضوء الراديوي منخفض التردد القادم من مجرتنا، في خطوة صغيرة ستقربنا من دراسة الفوتونات المنطلقة من ذرّات الهيدروجين الأولى في الكون. وبمجرد أن يتمكّن علماء الفلك من فهم طبيعة الضوضاء الراديوية البيضاء الصادرة عن المجرة، سيتمكنون من فصل الإشارات المهمة المطلوبة لإجراء التجارب الكونية.
يعمل مهندسو ناسا أيضًا على مشروع بناء التلسكوب الراديوي للحفرة القمرية Lunar Crater Radio Telescope، وهو عبارة عن هوائي ضخم يُوضَع داخل حفرة على الجانب البعيد من القمر. مازال هذا المشروع في مرحلة التخطيط، لكن بعض التصاميم تتضمن إرسال أسطول من الروبوتات القادرة على تسلُّق الجدران إلى الحفرة. بعد هبوطها، ستمدّ الروبوتات أسلاكًا عبر حافة الحفرة لتُشكّل شبكة تشبه بيت العنكبوت هي الهوائي. وفي مركز الشبكة-الهوائي سيُعلَّق مستقبل راديوي. وتتراوح المقترحات الخاصة بقطر هذا الهوائي بين 350 مترًا وكيلومتر واحد، ومع ذلك، فإن أي تلسكوب قمري يقع في الحد الأدنى من هذا النطاق سيظل من بين أكبر أجهزة استقبال الموجات الراديوية التي بناها البشر على الإطلاق.
تموجات في نسيج الزمكان
يمكن للقمر أيضًا أن يتيح مجالًا جديدًا لدراسة موجات الجاذبية؛ وهي التموجات التي تحدث في نسيج الزمكان نتيجة الاصطدامات الكونية الهائلة. ومقارنةً بالرصد التقليدي المبني على الضوء فقط، فإن إضافة القدرة على اكتشاف هذه التموجات تشبه اكتساب حاسة فلكية جديدة، كأن نكتسب القدرة على أن نسمع بعد أن كنا نرى فقط.
حتى وقتنا الحالي، تمكن علماء الفلك على الأرض من رصد موجات الجاذبية الناتجة عن اندماج أزواج من الثقوب السوداء والنجوم النيوترونية. ويمكن أن توفر الأرصاد – في المستقبل – معلومات أكثر تفصيلًا عن طبيعة الأجسام الكونية، وقوانين الجاذبية ذاتها. لكن المشكلة تكمن في الأرض نفسها؛ فهي كوكب يعجّ بالنشاط الزلزالي وحركة الصفائح التكتونية، فضلًا على الرياح والمياه والمد والجزر، وحتى قطعان الفيلة والبشر. ومن ثم، ولكي تعمل بكفاءة، يتعين على أجهزة الليزر التي تلتقط موجات الجاذبية في مرصد مقياس التداخل الليزري لموجات الجاذبية Laser Interferometer Gravitational-Wave Observatory (اختصاراً: المرصد LIGO) إلغاء جميع مصادر الضوضاء الأرضية، وأن تحافظ على درجة برودة متدنية جدًّا، وأن توضع داخل حيز مفرَّغ تمامًا من الهواء. أما على القمر، فالنشاط الزلزالي ضئيل جدًّا، كما تنعدم فيه الرياح والمياه، ولا توجد عليه فيلة أو بشر، على الأقل ليس بعد. إضافةً إلى أن الضغط على سطحه يزيد فقط بنحو 10 مرات عن الضغط داخل الأنابيب المفرغة المستخدمة في المرصد LIGO. وذلك، يقول جان هارمز إن إنشاء مثل هذه المراصد، وكذلك تشغيلها، سيكونان أسهل بكثير على القمر.
ويضيف هارمز: «حتى باعتماد مفهوم المرصد LIGO نفسه، قد نتمكن من التقاط ترددات أكثر انخفاضًا، ورؤية مصادر لا يمكن للمرصد LIGO رصدها، مثل أزواج الثقوب السوداء ذات الكتلة الأكبر. سيتيح ذلك حقًّا إمكان تحقيق اكتشافات علمية جديدة باستخدام» مرصد قمري. ويتابع: «وحالما يتوافر لديك مرصد مشابه للمرصد LIGO على القمر، ستتمكن حينها من دمج عمليات الرصد بينهما».
تكمن قوة المراصد التداخلية Interferometers،
مثل المرصد LIGO، في استخدام عدة كواشف متزامنة تعمل معًا كجهاز واحد عملاق. وهي تُسمى تداخلية؛ لأنها تعتمد على تقنية التداخل التي تجمع الإشارات من كواشف متعددة، وكلما ازدادت المسافة بين هذه الكواشف، زادت حساسية وقوة المرصد بشكل عام. ويقول هارمز إنه نظرًا إلى المسافة الهائلة بين محطات الرصد على الأرض والقمر، قد يتمكن علماء الفلك من التنبؤ بوصول موجة جاذبية، وتوجيه المراصد الضوئية – وتلك التي تعمل بالأشعة تحت الحمراء، وبالأشعة السينية – بدقة نحو مصدرها.
من جهة أخرى، تقول تجازمين غِل Jasmine Gill، من مركز هارفارد-سميثسونيان للفيزياء الفلكية Harvard-Smithsonian Center for Astrophysics إن استخدام كاشف لموجات الجاذبية على القمر سيسمح للعلماء بدراسة ظواهر وأجسام كونية نادرة، مثل اللحظات الأخيرة لانهيار النجوم العملاقة (السوبرنوفا)، وفهم كيف تتحوّل هذه النجوم المنفجرة إلى نجوم نيوترونية أو ثقوب سوداء.
تقول غِل: «مازلنا غير قادرين على التقاط تلك اللحظات الأخيرة من الانهيار، أو اللحظات التي تليه مباشرةً». فهناك – ببساطة – قدرٌ هائل من الضوضاء على الأرض، وهي ضوضاء لا يمكن التنبؤ بها. وتُضيف: «لكن إذا ذهبنا إلى القمر، فسنكون قادرين على ذلك».
قد يتيح لنا القمر رؤية نوى السوبرنوفا المنهارة
باشر العلماء العمل على مشروع هوائي الليزر التداخلي القمري Lunar Interferometer Laser Antenna، وهو مقترح لإنشاء مرصد مشابه للمرصد LIGO على سطح القمر. ويتضمّن التصميم الحالي إنزال ثلاث مركبات فضائية على حواف حفرة قمرية كبيرة، تباعد بينها بضعة كيلومترات. ستحتوي كل مركبة على أجهزة ليزر ومرايا ونظام عزل للاهتزازات يقلل من تأثير أي هزات قمرية محتملة. ويقول الفريق الذي يعمل على المشروع، من جامعة فاندربيلت Vanderbilt University في ولاية تينيسي الأمريكية، إن هذه المنظومة بسيطة نسبيًّا بحيث يمكن إطلاقها خلال العقد المقبل.
ومع ذلك، قد تُشكّل التطورات الأخرى الجارية على سطح القمر عقبة أمام هذا المقترح؛ فقد شهد استكشاف القمر تسارعًا ملحوظًا خلال العقد الماضي، وتضع وكالات الفضاء خططًا متنوعة لبناء محطات طويلة الأمد، وزيادة النشاط البشري هناك. وعلى الرغم من أن ذلك مازال بعيد المنال، فإن دخول القمر في عصر التصنيع قد يفضي إلى أن تنشأ عليه بعض الظروف الأرضية التي يسعى الفلكيون إلى تجنبها بالذهاب إلى هناك. تقول غِل: «بمجرد أن نشرع في أنشطة التعدين، أو بناء الطرق والسكك الحديد، سنقضي على الفور على تلك البيئة النقية. لكن يمكننا – ببساطة – زيادة قدرة الليزر، والتأكد من أن أجهزة الرصد تواصل عملها بكفاءة». وتضيف أن هذه الترقيات، على غرار تلك التي تُجرى على نحو دوري على المرصد LIGO، ستتطلب زيارات منتظمة من رواد الفضاء لصيانة المعدات وتحديثها، إلا أن هناك، على ما يبدو، طريقة أبسط لتحقيق ذلك.
يهدف مشروع الهوائي القمري لموجات الجاذبية Lunar Gravitational-wave Antenna، (اختصارًا: الهوائي LGWA) الذي تبنيه وكالة الفضاء الأوروبية ESA، إلى استخدام القمر نفسه كجهاز استشعار لموجات الجاذبية، وذلك بقياس اهتزازاتها في أثناء مرورها عبر كتلة القمر بأكملها. بالقرب من قطبي القمر، تنساب أشعة الشمس إلى السطح بزوايا حادّة جدًّا، ومن ثم فإن ضوء النهار لا يصل – على الإطلاق – إلى قيعان بعض الفوهات التي تبقى درجات الحرارة فيها متدنية جدًّا، وتنخفض إلى 246 درجة سيليزية تحت الصفر أو أقل. وهذه البرودة الشديدة والضغط المنخفض مثاليان لالتقاط موجات الجاذبية العابرة. ومن خلال تركيب مستشعرات اهتزاز بسيطة في إحدى هذه الفوهات دائمة الظُلمة، سيتمكن الهوائي LGWA من رصد موجات الجاذبية القادمة من أجسام وظواهر كونية باهتة جدًّا، يتعذر رصدها من الأرض، مثل الثقوب السوداء الأولى.
إن استخدام كاشف لموجات الجاذبية على القمر سيسمح للعلماء بدراسة ظواهر وأجسام كونية نادرة
هذه الفكرة ليست جديدة تمامًا؛ فقد حملت مهمة أبولو 17 التي هبطت على القمر عام 1972، معدات تجربة أولية لقياس موجات الجاذبية تُسمى مقياس الجاذبية على سطح القمر Lunar Surface Gravimeter، صحيح أنها لم تعمل كما ينبغي، لكن إعادة تصميم شيء مشابه، وبحساسية أعلى، ليس بالمهمة الصعبة، كما يؤكد هارمز بقوله: «أنجزت أبولو 17 الجزء الأصعب، والآن كل ما علينا هو إعادة المحاولة».
يُعد القمر، كذلك، مكانًا مثاليًّا للرصد الفلكي التقليدي؛ فعلى مدى السنوات القليلة الماضية، بُهر علماء الفلك قاطبة بالصور التي التقطها التلسكوب جيمس ويب James Webb Space Telescope، (اختصاراً: التلسكوبJWST)، والتي هي في طور إحداث ثورة في فهمنا لتاريخ الكون. لكن في إمكاننا بناء مراصد أكثر تطورًا منه على القمر؛ حيث يمكن للفوهات القمرية الطبيعية أن توفر مواقع مثالية لإقامة مرصد بالأشعة تحت الحمراء أقوى منه.
التلسكوب الأكبر على الإطلاق
يقود جان-بيار مايار Jean-Pierre Maillard، من معهد باريس للفيزياء الفلكية Paris Institute of Astrophysics، مشروعًا طموحًا لتصميم تلسكوبٍ يعمل بالأشعة تحت الحمراء، يمكن تثبيته داخل إحدى الفوهات القمرية المظلمة؛ حيث تظل درجات الحرارة منخفضة بما يكفي لضمان كفاءة أدائه. وتتميز هذه الحفر بشكلها الدائري المقعر الذي يُعد مثاليًّا لإنشاء تلسكوبٍ عملاق. أما الطاقة، فيمكن توليدها على حافة الفوهة؛ حيث تسطع الشمس باستمرار على قِمم تُعرف باسم قِمم الضوء الأبدي. وتتيح الجاذبية الضعيفة للقمر إمكان نشر مرآة عملاقة، وهو أمرٌ غير ممكن على الأرض؛ لأن قوة جاذبيتها تؤدي إلى تشوه زجاج المرايا وانحنائه. يقول إلفيس: «على القمر تزول كثير من المشكلات التي نواجهها على الأرض». وتُظهر دراسات مايار أن بناء تلسكوب عملاق يعمل بالأشعة تحت الحمراء على القمر يمكن أن يزيد من حساسية الرصد، إلى درجة تجعله يتفوق على أي مرصد مماثل سبق أن صنعناه، سواء على الأرض أو في الفضاء.
لكن مشروع التلسكوب العامل بالأشعة تحت الحمراء سيواجه، أكثر من أي مشروع آخر، التحدي الجوهري المتمثل في غبار القمر. ويقول الفيزيائي ميهالي هوراني Mihály Horányi، من جامعة كولورادو بولدر University of Colorado Boulder، إن كثيرًا من العلماء، بل وحتى الجيولوجيين، لا يُدركون تمامًا مدى صعوبة التعامل مع الغبار القمري.
فبعد أن سار ألدرين Aldrin وأرمسترونغ Armstrong على سطح القمر، خلال مهمة أبولو 11، عادا إلى زميلهما كولينز Collins وقد غطاهما الغبار بالكامل. وكان هذا الغبار ذا شحنة كهربائية عالية جعلت إزالته عنهما مستحيلة. وبعد طلعتين أو ثلاثٍ للسير على سطح القمر، صارت تغطي رواد فضاء مهمات أبولو كمية كبيرة من الغبار، إلى حد باتت معه أي طلعة إضافية تهدد حياتهم؛ فالغبار الذي تراكم في كل مشبك وقفل في البدلات الفضائية ومركبات الهبوط كان يمكن أن يؤدي إلى خلل في الإغلاق المحكم، وحدوث تسرُّب للهواء. ويؤكد هوراني أن المهمات المستقبلية يجب أن تضع هذه المخاطر في الحسبان؛ فما جدوى مرآة مقعرة مثالية إذا تحولت إلى وعاء عملاق يجمع الغبار؟
عدا عن ذلك، فإن الغبار القمري لا يظل مستقرًا على السطح؛ بل إنه يرتفع عن سطح القمر عند شروق الشمس وغروبها لأسباب لا يفهمها العلماء تمامًا بعد. وهذا السلوك قد يعيق أيضًا عمل أجهزة الليزر فائقة الحساسية المخصصة لرصد موجات الجاذبية، بل وقد يؤثر حتى في المراصد الراديوية؛ لذلك يأمل هوراني وآخرون في إرسال بعثات علمية لدراسة الغبار القمري وسلوكه الغامض، قبل الشروع في بناء أي مرصد على سطح القمر.
إلى جانب مشكلة الغبار، ستواجه المراصد الفلكية على القمر تحديات أخرى لا تقل صعوبة، مثل الإشعاع الكوني الشديد، والفوارق الحرارية الهائلة بين نهار القمر وليلِه. ومن هنا جاء اسم مهمة لوسي-نايت LuSEE-Night التي تستعد ناسا لإطلاقها قريبًا؛ إذ ستكون من أُولَيات المركبات الفضائية المُصمَّمة لتحمّل ليل القمر الطويل الذي يمتد أسبوعين متواصلين.
لقد تغيّر المشهد كثيرًا منذ أن حلق كولينز فوق الجانب البعيد من القمر، وكان أول إنسان يفعل ذلك؛ فسطحه يعج اليوم بمركبات الهبوط والعربات الجوالة، وقد لا يطول الأمر قبل أن تنضم إليها التلسكوبات وأجهزة رصد موجات الجاذبية والأطباق الراديوية. لم يعد السؤال: هل سيحدث ذلك؟ بل متى سيحدث؟
يقول ريتشارد غرين Richard Green، من جامعة أريزونا University of Arizona، ورئيس مجموعة العمل المختصة بعلم الفلك القمري في الاتحاد الفلكي الدولي International Astronomical Union إن «القمر سيستقبل بعثات بشرية على نحو منتظم خلال عقدٍ من الزمن أو أقل». ويضيف أن على العلماء، في هذه الأثناء، أن يبدأوا التفكير جدّيًّا في تحديد المناطق التي ينبغي تخصيصها للأبحاث الفلكية. ويقول في هذا السياق: «نطمح خلال عامٍ أو أقل إلى إعداد قائمة بالمواقع الفعلية التي نراها الأنسب لاستكشافها لأغراض علم الفلك».
قد تُظهر المركبات المدارية، في المستقبل، سطحًا تغطيه شبكات من خطوط نقل الطاقة، وتتوزع عليه الهوائيات الراديوية المضبوطة لالتقاط إشارات من بدايات الكون، وفوهاته القاتمة تغطيها أجهزة استشعار بالأشعة تحت الحمراء التي تمتص الضوء المنبعث من أعماق المجرات البعيدة. ولعل هذه المشروعات الطموح ستقربنا من الإجابة عن السؤال نفسه الذي راود كولينز وهو يحلق وحيدًا فوق سطح القمر: تُرى، ما الذي يوجد هناك أيضًا؟
© 2025, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC