تاريخ موجز لستيفن هوكينغ: تراث من المفارقة
وافت المنية ستيفن هوكينغ Stephen Hawking، عالم الفيزياء النظرية الشهير، عن عمر ناهز السادسة والسبعين.
وقد صرح أبناؤه لوسي وروبرت وتيم في بيان صحفي قائلين: “نشعر بحزن عميق لوفاة والدنا الحبيب اليوم.
كان عالِما عظيما ورجلا استثنائيا ستحيا أعماله وإرثه لسنوات طوال. فقد كانت شجاعته وإصراره وعزمه وألمعيته وخفة دمه مصدر إلهام للكثيرين حول العالم.”
لقد قال ذات مرة: ‘لن يكون الكون ذا شأن ما لم يكن موطنا للأشخاص الذين نحبهم’.. سنفتقده للأبد.”
توفي ستيفن هوكينغ عن عمر ناهز ستة وسبعين 76 عامًا.
توفي عالِم الفيزياء النظرية الشهير عالميًّا صباح يوم الأربعاء، ونعيه مازال متدفّقًا بوابل التعازي!
ستيفن هوكينغ أكثر العلماء الذين حظوا بالتقدير والاعتراف في عصرنا الراهن، وله منزلة أيقونية. وبيع من كتابه –الذي حدّد أسلوبا في الكتابة- تاريخ موجز للزمن A Brief History of Time أكثر من عشرة ملايين نسخة منذ أن نُشر لأول مرة في مستهل عام 1988، كما تُرجم إلى أكثر من خمس وثلاثين لغة. وظهر في مسلسل رحلة النجوم: الجيل القادم Star Trek: the Next Generation وحلقة مسلسل آل سمبسون ونظرية الانفجار الكبير The Simpsons and The Big Bang Theory. وكانت بدايات حياته محور موضوع فيلم نظرية كل شيء The Theory of Everything الذي تم إنتاجه في عام 2014 وفاز عنه الممثل إدِي ردمين Eddie Redmayne بجائزة الأوسكار في الأداء المتميز. وعادة ما كان مرجعا يتم اللجوء إليه للإدلاء بتصريحات تنبؤية في شيء، بداية من السفر عبر الزمن والحياة على الكواكب الأخرى إلى سياسية الشرق الأوسط والروبوتات البغيضة. وكان لديه حس فكاهي محبَّب وموقف جريء، وهما سمتان بشريتان مستساغتان، وعندما تتحدان بعقله البشري الفائق، جعلت هوكينغ قابلا للتسويق إلى حد كبير.
ولكن مكانته الثقافية – التي ضخمتها إعاقته و العاصفة الإعلامية التي أثارتها – عادة ما طغت على إرثه العلمي. وهذا أمر مؤسف لعالِم اكتشف ما قد يتضح أنَّهُ المفتاح الرئيس لنظرية كل شيء، وطوّرَ فهمَنَا للزمن والمكان، وساهم في تشكيل مسار الفيزياء على مدار العقود الأربعة الماضية، والذي لاتزال نظراته الثاقبة تدفع بالتقدم في علم الفيزياء الأساسية حتى الآن.
الاستهلال بالانفجار الكبير
بدأتْ حياة هوكينغ البحثية بخيبة أمل. فعندما وصل إلى جامعة كامبريدج في عام 1962 ليبدأ بتحضيره للدكتوراه، وأُبلغ أن فريد هْويل Fred Hoyle – مُشرفه المختار – كان لديه بالفعل عدد كبير من الطلاب. وكان هويل -أشهر عالم فيزياء فلكية في ذلك الوقت-جاذبا لأكثر الطلاب طموحًا. ولم يتمكن هوكينغ من التنافس على الانضمام إلى مجموعته. وبدلا من ذلك، فقد عمل مع إشراف دنيس سياما Dennis Sciama، وهو عالم فيزياء لم يكن هوكينغ يعرف عنه شيئا. وفي العام نفسه، شُخِّص هوكينغ بمرض التصلب الجانبي الضموري Amyotrophic lateral sclerosis، وهو مرض عصبي حركي تنكسي Degenerative motor neuron disease يسلب الأشخاص سريعا قدرتهم على تحريك عضلاتهم إراديا. وقيل له إنه سيعيش لمدة عامين فحسب.
ومع أن جسم هوكينغ قد ضَعُف إلا أن عقله ظل متقدا. وبعد أن قضى عامين في دراسته للدكتوراه أضحى يعاني مشكلةً في المشي والكلام، ولكن اتضح أن المرض يتقدم متناميا بشكل أبطأ مما كان الأطباء يخشونه في البداية. وفي أثناء ذلك جددتْ خطبتُه لجين وايلد – التي أنجب منها لاحقا ثلاثة أطفال وهم روبرت ولوسي وتيم –الدافعَ لديه لأن يحقق تقدما حقيقيا في مجال الفيزياء.
وكان عمله مع سياما له مزاياه. فقد كانت شهرة هويل تجعله لا يبقى في مكتبه إلا نادرًا، أما سياما فكان متاحا ومتحمّسا للكلام. والنقاشات بينهما حفّزت هوكينغ الشاب لأن يتابع تحقيق رؤيته العلمية الخاصة على أرض الواقع. وكان هويل يعارض بشدة نظرية الانفجار الكبير (وفي الحقيقة، فقد صاغ مصطلح “الانفجار الكبير” على سبيل التهكم). وعلى الجانب الآخر كان سياما سعيدا ببحث هوكينغ حول مسألة بداية الزمن ونقطة انطلاقه.
سهم الزمن
كان هوكينغ يدرس أعمال روجر بنروز Roger Penrose التي أثبتت أنه إذا كانت نظرية النسبية العامة لآينشتاين صحيحة، فلا بد أن تكون في قلب كل ثقب أسود نقطة يتحلل فيها الزمن والمكان، ألا وهي الحدث المنفرد Singularity. وأدرك هوكينغ أنه لو عُكِس اتجاه سهم الزمن، سيسري الشيء نفسه على الكون بأكمله. وبتشجيع من سياما، اشتغل هوكينغ على المعادلات الرياضياتية وتمكن من إثباتها والبرهنة عليها: أي أن الكون بدأ – وفقا للنظرية النسبية العامة – في حدث منفرد.
ولكن هوكينغ كان على دراية بأن آينشتاين لم تكن له الكلمة الفيصل. فنظرية النسبية العامة – التي تصف الزمن والمكان على نطاق كبير – لا تأخذ في حسبانها ميكانيكا الكم – التي تصف سلوك المادة الغريب على نطاقات أصغر بكثير. وكانت هناك حاجة ماسة إلى “نظرية كل شيء” المجهولة لتوحّد النسبية العامة وميكانيكا الكم. وبالنسبة إلى هوكينغ، فلم يكن الحدث المنفرد في أصل الكون يدل على انهيار المكان والزمن، وإنما كانت يدل على الحاجة إلى جاذبية كمّيّة Quantum gravity.
ولحسن الحظ، فقد قدَّم الرابطُ الذي صاغه هوكينغ بين الحدث المنفرد عند بنروز والحدث المنفرد في الانفجار الكبير مفتاحًا رئيسا لإيجاد مثل هذه النظرية. فإذا أراد علماء الفيزياء أن يفهموا أصل الكون، فهوكينغ حدد لهم بالضبط أين يجب أن يبحثوا: ألا وهو ثقب أسود.
كانت الثقوب السوداء موضوعا جاهزا للبحث في بدايات السبعينات من القرن العشرين. ومع أن كارل شفارتسشيلد Karl Scwartzchild اكتشف أن مثل هذه الأشياء تترصد مختبئة في معادلات النسبية العامة التي ترجع إلى عام 1915، فقد نظر إليها المنظِّرون على أنها حالات رياضياتية شاذة Mathamatical anomalies وكانوا مترددين في تصديق أنها يمكن أن تكون كائنة بالفعل.
ومع أن الأمر مخيف نجد أن عملها واضح بشكل معقول: فالثقوب السوداء لديها مجالات جاذبية قوية جدا لدرجة أنه لا يمكن لأي شيء أن يهرب منها، ولا حتى الضوء نفسه. فأي مادة تسقط في ثقب من الثقوب السوداء، تفنى إلى الأبد في العالَم الخارجي. ولكن هذا يمثِّل طعنة دامية في قلب الديناميكا الحرارية Thermodynamics.
التهديد الديناميكي الحراري
القانون الثاني من قوانين الديناميكا الحرارية من أكثر قوانين الطبيعة رسوخًا. وينص على أن الإنتروبيا Entropy، أو مستوى الاضطراب Disorder في نظام ما، تتزايد باستمرار. والقانون الثاني يبلور ماهية الملاحظة الرصدية التي تقول إن مكعبات الثلج ستذوب وتتحول إلى بِركة ماء، ولكن بِركة الماء لن تتحول بشكل تلقائي مطلقا إلى كتلة ثلج. فأي مادة تحتوي على إنتروبيا، ولذلك ما الذي يحدث عند إلقائها في ثقب أسود؟ هل تضيع الإنتروبيا معها؟ إذا كان الأمر كذلك، فإن كل الإنتروبيا في الكون ستضيع وستنتهك الثقوبُ السوداء القانونَ الثاني من قوانين الديناميكا الحرارية.
اعتقدَ هوكينغ أن ذلك حسن. فقد كان سعيدا بالتخلص من أي مفهوم يقف عائقا في سبيل الوصول إلى حقيقة أعمق. وإذا كان ذلك يعني التخلص من القانون الثاني فليتخلص منه.
بيكنشتاين ونقطة التحوُّل
ولكن هوكينغ التقى بندِّه في فصل دراسي صيفي خاص بالفيزياء في عام 1972 بمنتجع التزلج في “ليه هووش” بفرنسا. كان الباحث جاكوب بيكنشتاين Jacob Bekenstein، المتخرج في جامعة برنستون، يعتقد أن القانون الثاني من قوانين الديناميكا الحرارية لا بد وأنه يسري أيضا على الثقوب السوداء. وكان بيكنشتاين يدرس مشكلة الإنتروبيا وتوصَّل إلى حل ممكن بفضل إحدى نظرات هوكينغ الثاقبة السابقة.
الثقب الأسود يخفي الحدث المنفرد بحدٍّ Boundary يُعرَف بأفق الحدث Event horizon. فلا يمكن لأي شيء يعبر أفق الحدث أن يرجع إلى الخارج أبدًا. وبيّنت أعمالُ هوكينغ أن منطقة أفق حدث الثقب الأسودِ لا تتناقص أبدا على مرِّ الزمن. كما أن المادة عندما تسقط في الثقب الأسود تزيد من منطقة أفق حدثه.
وأدركَ بيكنشتاين أن هذا هو المفتاح لحل مشكلة الإنتروبيا. ففي كل مرة يقوم الثقب الأسود بابتلاع المادة، يتّضح أن الإنتروبيا الخاصة بها تتلاشى، وفي الوقت ذاته يتزايد أفق الحدث. ولذلك اقترح بيكنشتاين للحفاظ على القانون الثاني: ماذا لو كانت منطقة الأفق ذاتها هي مقياس الإنتروبيا؟
ونفر هوكينغ من هذه الفكرة على الفور وغضبَ لأن عمله قد استخدم لإثبات مفهومٍ معيبٍ للغاية. فمع الإنتروبيا تأتي الحرارة، ولكن الثقب الأسود لا يمكنه أن يكون مُشِعًّا للحرارة – فلا يمكن لأي شيء أن يهرب من قبضة جاذبية الثقب الأسود المهيمنة. و خلال استراحة بين المحاضرات التقى هوكينغ بزميليه – براندون كارتر Brandon Carter الذي كان يدرس أيضا تحت إشراف سيامي و كذلك جيمس باردين James Bardeen من جامعة واشنطن University of Washington – وواجهوا بيكنشتاين.
أزعج الخلافُ بيكنشتاين، فيقول متذكِّرا ذلك الموقف: “هؤلاء الثلاثة أعلى منّي مرتبة. وكنت قد فرغتُ من رسالتي للدكتوراه للتو. وإنك لتقلق ولتتساءل عمَّا إذا كنتُ مجرد غبيٍّ فهؤلاء الثلاثة يعرفون كنه الحقيقة.”
وعندما عاد هوكينغ إلى جامعة كمبريدج، شرع في البرهنة على إثبات خطأ بيكنشتاين. ولكنه بدلا من ذلك، فقد اكتشف الشكل الدقيق للعلاقة الرياضياتية بين الإنتروبيا وأفق الثقب الأسود. فبدلا من أن يئِد الفكرة في مهدها أثبتها. وكان ذلك أكبر نقطة تحوُّلٍ عند هوكينغ.
إشعاع هوكينغ
اعتنق هوكينغ الآن بفكرة أن الديناميكا الحرارية تؤدي دورا ما في الثقوب السوداء، وفكّر قائلا إن أي شيء له إنتروبيا له أيضا درجة حرارة، وأي شيء له درجة حرارة يمكنه أن يشعَّ.
وأدرك هوكينغ أن خطأه الأصلي يتمثَّل بأنه وضع فقط في حسبانه نظرية النسبية العامة التي تقود إن لا شيء – لا جسيمات ولا حرارة – يمكنه أن يهرب من قبضة الثقب الأسود. وهذا يتغير عندما تدخل ميكانيكا الكم في الحسبان. فوفقًا لميكانيكا الكم، فإن الأزواج العابرة من الجسيمات وضديدات الجسيمات تظهر دائما ناشئة من الفارغ فقط لتفنى وتختفي في طرفة عين. وعندما يحدث هذا بالقرب من أفق حدثٍ، يمكن أن ينفصل زوج الجسيم وضديد الجسيم: فيقع أحدهما خلف الأفق، في حين أن الآخر يهرب، وهو الأمر الذي يتركهما عاجزين للأبد عن أن يلتقيا ويفنيا في بعضهما. وتسبح الجسيمات اليتيمة بعيدا عن حافة الثقب الأسود على شكل إشعاع. وتصير عشوائية الخلق الكمِّي عشوائية الحرارة.
يقول شين كارول Sean Carroll، وهو عالم فيزياء نظرية من معهد كاليفورنيا للتقنية California Institute of Technology: “أعتقد أن معظم علماء الفيزياء سيتفقون على أن أعظم إسهام أدلى به هوكينغ يتمثل بتنَبُّئِهِ بأن الثقوب السوداء تُصدِر إشعاعًا.” ويضيف قائلا: “مع أننا مازلنا لا نمتلك إثباتا تجريبيا على أن تنبؤ هوكينغ صحيح، فإن جميع الخبراء تقريبا يعتقدون أنه كان على صواب.”.
التجارب التي تختبر وتسبر أغوار تنبؤ هوكينغ تجارب صعبة للغاية لأنه كلما ازداد حجم الثقب الأسود، قلتْ درجة حرارته. فبالنسبة إلى ثقب أسود كبير الحجم – وهو النوع الذي يستطيع علماء الفلك دراسته من خلال التليسكوب – تكون درجة حرارة الإشعاع غير دالة، بحيث إنها لا يمكن قياسها. وكما لاحظ هوكينغ ذاته مِرارًا، كان ذلك هو السبب الذي جعله لم ينل جائزة نوبل. ومع ذلك، فقد كان التنبؤ كافيا لأن يضمن له مكانا رئيسا في حوليات العلوم ويجعل الجسيمات الكمية التي تسبح بعيدا عن حافة الثقب الأسود تُعرف للأبد بإشعاع هوكينغ.
اقترح البعض أنه من الأنسب أن تُسمَّى هذه الجسيمات بإشعاع بيكنشتاين وهوكينغ، ولكن بيكنشتاين ذاته يرفض ذلك، قائلا: “إن إنتروبيا الثقب الأسود يُطلق عليها اسم إنتروبيا بيكنشتاين وهوكينغ، وهذا جيد. فقد كتبتُها أولا، ثم حسب هوكينغ القيمة العددية للثابت، وبذلك توصلنا مَعًا للمعادلة كما هي اليوم. أما الإشعاع، فكان خاصًّا بهوكينغ فعلا. فلم تكن لديّ أدنى فكرة عن كيفية إشعاع الثقب الأسود. وقد قدّم ذلك هوكينغ بوضوح جلي، ولذلك ينبغي أن نطلق عليه اسم إشعاع هوكينغ.”
نظرية كل شيء
معادلة إنتروبيا بيكنشتاين وهوكينغ هي المعادلة التي طلب هوكينغ أن تُنقش على قبره. وهي تمثل المزيج النهائي لكل علوم الفيزياء لأنها تحتوي على ثابت نيوتن، الذي يرتبط بالجاذبية ارتباطا واضحا؛ وثابت بلانك، الذي يكشف ميكانيكا الكم ذات التأثير؛ وسرعة الضوء، وهي كلمة السر في نسبية آينشتاين؛ وثابت بولتسمان، وهو باكورة الديناميكا الحرارية.
كان وجود كل هذه الثوابت يلمّح إلى وجود نظرية لكل شيء، تتوحد فيها كل مجالات الفيزياء؛ كما أنه يؤكد بقوة هاجس هوكينغ الأصلي القائل إن فهم ماهية الثقوب السوداء سيكون المفتاح الذي نفتح به تلك النظرية الأعمق.
قد تكون نقطة تحول هوكينغ قد حلّت مشكلة الإنتروبيا، ولكنها أثارت في أعقابها مشكلة أكثر صعوبة. فإذا كان بإمكان الثقوب السوداء أن تصدر إشعاعا، فإن هذه الثقوب ستتبخَّر في النهاية وتختفي متلاشية. ولذلك، فماذا يحدث لكل المعلومات التي سقطت في جعبة هذه الثقوب؟ هل تتلاشى هذه المعلومات أيضا؟ ولو كان الأمر كذلك، سينتهك ذلك مبدأ أساسيًّا من مبادئ ميكانيكا الكم. وعلى الجانب الآخر، فإذا هربت المعلومات من قبضة الثقب الأسود، سينتهك عرض نظرية النسبية لآينشتاين. وباكتشاف هوكينغ إشعاع الثقب الأسود، جعل القوانين النهائية للفيزياء تتضارب مع بعضها البعض، وتولَّدَتْ مفارقة فقدان المعلومات في الثقب الأسود.
جازف هوكينغ بمكانته في بحث آخر يمثل نقطة تحوّل، ولكنه أيضا مثار خلاف أكبر، وهذا البحث بعنوان انهيار القابلية للتنبؤ في انهيار الجاذبية Breakdown of predictability in gravitational collapse، ونشره في مجلة Physical Review D في عام 1978. وقال فيه إنه عندما يشعُّ الثقب الأسود كتلتَه، يأخذ معه كل المعلومات الموجودة فيه، وذلك على الرغم من الحقيقة الماثلة في أن ميكانيكا الكم تمنع ضياع المعلومات صراحة. وسرعان ما انقسم علماء الفيزياء الآخرون ما بين مؤيد ومعارض لهذه الفكرة، في جدل لايزال مستمرا حتى الآن. في الواقع، فإن الكثير من علماء الفيزياء يشعرون بأن ضياع المعلومات أكبر عقبة مُلِّحة على طريق فهم جاذبية الكم.
يقول رفائيل بوسو Raphael Bousso من جامعة كاليفورنيا University of California في بيركلي: “إن حجة هوكينغ التي نادى بها عام 1976 والماثلة في أن الثقوب السوداء تفقد المعلومات تعد إنجازا مهما للغاية، وربما كان اكتشافا من أهم الاكتشافات في الجانب النظري من الفيزياء منذ انبثاق هذا العلم وظهوره.”
تسليم
بحلول أواخر التِّسعينات القرن العشرين، جعلت النتائج التي كشفت عنها نظرية الأوتار String theory معظمَ علماء الفيزياء النظرية مقتنعين بأن هوكينغ كان خاطئا فيما يخص فقدان وضياع المعلومات، ولكن هوكينغ المعروف بعناده رفض التسليم بخطئه. ولم يغير رأيه إلا في عام 2004. وأعلن عن تغيير رأيه ببراعة متميزة، بأن ظهر في مؤتمر في دبلن وأعلن رؤيته المُحدَّثة: الثقوب السوداء لا يمكن أن تفقد المعلومات.
ولكن اليوم هناك مفارقة جديدة تُعرف بالجدار الناري Firewall ألقت بظلال الشك حول كل شيء (انظر: مفارقة هوكينغ). ومن الواضح أن السؤال الذي طرحه هوكينغ يقع في جوهر البحث بشأن جاذبية الكم.
يقول كارول: “يثير إشعاع الثقب الأسود ألغازًا خطيرة مازلنا نسعى جاهدين إلى أن نفهمها. فمن الإنصاف أن نقول إن إشعاع هوكينغ هو الدليل الأكبر الوحيد الذي نمتلكه على التصالح النهائي بين ميكانيكا الكم والجاذبية، وربما كان أكبر تحدٍّ يواجه الفيزياء النظرية الآن.”
ويقول بوسو إن إرث هوكينغ سيتمثل بأنه “وضع إصبعه على الصعوبة الأساسية في البحث عن نظرية كل شيء.”
واصل هوكينغ توسيع آفاق حدود الفيزياء النظرية بمعدل يكاد يكون مستحيلا طوال بقية حياته. وحقق تقدمات مهمة على طريق فهم الآلية التي تسري بها ميكانيكا الكم على الكون كله، وهو الأمر الذي جعله ويقود الطريق في مجال يُعرف باسم الكوزمولوجيا الكميّة Quantum cosmology. فمرضه المُتزايد اضطرَّه إلى أن يتناول المشكلات بطرق مبتكرة ساهمتْ في حدسه الملحوظ حول موضوعه. فعندما فقد هوكينغ القدرة على كتابة معادلات معقدة طويلة، وجد طُرقا جديدة ومبتكرة لحل المشكلات في رأسه، في العادة من خلال إعادة تخيُّل هذه المشكلات في شكل هندسي. ولكن مثل آينشتاين الذي سبقَه، لم ينتج هوكينغ شيئا أكثر تمردا وثورية من أعماله التي أنتجها في مستهل حياته.
ويقول كارول: “أكثر أعمال هوكينغ تأثيرا هي تلك الأعمال التي قام بها في سبعينات القرن العشرين عندما كان أصغر سنا، وهذا اعتيادي جدا حتى في حالة علماء الفيزياء الذين ليسوا مصابين بمرض جهاز عصبي مُوهِن.”
هوكينغ النجم
في أثناء ذلك، دفع نشر كتاب تاريخ موجز للزمن هوكينغ بسرعة الصاروخ نحو اعتلاء منصة النجومية الثقافية، وأظهر الفيزياء النظرية بثوب جديد. ولم يبدُ عليه قطُّ أنه يأبه بذلك. وتقول هيلين مياليه Hélène Mialet، عالمة أنثروبولوجيا/علم دراسة الإنسان من جامعة كاليفورنيا في بيركلي، حيث أثارت حول نفسها الجدل عام 2012 بنشر كتابها هوكينغ مُدْمَجًا Hawking Incorporated: “أمام الكاميرا، أدّى هوكينغ شخصيَّة هوكينغ. كان يبدو عليه أنه يؤدي الدور الذي تفرضه مكانته الثقافية.” وفي هذا الكتاب درست الطريقةَ التي ساعد بها المحيطون به على تكوين نمط صورته العامة والحفاظ عليها.
ومما لا شك فيه أن تلك الصورة العامة جعلتْ حياتَه أسهل مما كانت ستكون عليه لولاها. فمع تقدم مرض هوكينغ، قدّم علماء التقنية عن طيب خاطر الكثيرَ من الآلات المعقّدة التي تتيح له سبل التواصل. وهذا بدوره جعله يواصل القيام بالشيء الذي سيتذكره الناسُ به في النهاية، ألا وهو علمه.
ويقول كارول: “فعل ستيفن هوكينغ أكثر مما فعله أي عالم آخر منذ آينشتاين لتطوير فهمنا للجاذبية. فقد كان عالِم فيزياء نظرية رائدا على مستوى العالَم، ومن الواضح أنه أفضل العلماء في العالم في عصره ممن اعتنوا بنقطة الالتقاء بين الجاذبية وميكانيكا الكم، وقام بكل ذلك متحدّيًا مرضًا خطيرًا. وهو مصدر إلهامٍ، ومن المؤكد أن التاريخ سيتذكّره هكذا.”
مفارقة هوكينغ
في عام 2012، وجَّه أربعة علماء من جامعة كاليفورنيا بسانتا باربارا – وهم أحمد المهيري Ahmed Almheiri ودونالد مارولف Donald Marolf وجوزيف بولتشنسكي Joseph Polchinski وجيمس سولي James Sully، المعروفون جماعيا بالرباعي AMPS – صدمةً لمجتمع الفيزياء بالنتائج التي توصلوا إليها من جراء تجربة ذهنية.
عندما تسبح أزواج من الجسيمات وضديدات الجسيمات بالقرب من أفق حدث ثقب أسود، يتشارك كل زوج نقطة اتصال تسمى التشابك Entanglement. ولكن ماذا يحدث لهذا الرابط والمعلومات التي يحتوي عليها عندما يسقط أحد هذا الزوج ويترك توأمه يصير جسيمًا في إشعاع هوكينغ (انظر: المقالة الرئيسية)؟
تقول إحدى المدارس الفكرية إن المعلومات يُحافظ عليها عندما يتبخر الثقب، وإنها توضع في ترابطات دقيقة بين جسيمات إشعاع هوكينغ.
ولكن الرباعي AMPS طرح السؤال التالي: كيف تبدو هذه المعلومات للملاحظين داخل الثقب الأسود وخارجه؟ وهنا تظهر” أليس” و”بوب”.
ووفقا لبوب الذي يظل خارج الثقب الأسود، فإن ذلك الجسيم فصَلَه الأفقُ عن شريكه ضديد الجسيمِ. ولكي يحتفظ الجسيم بالمعلومات، فلا بد أن يتشابك مع جسيم آخر من جسيمات إشعاع هوكينغ.
ولكن ماذا يحدث من وجهة نظر أليس التي تسقط في الثقب الأسود؟ تقول نظرية النسبية العامة إن الجاذبية تختفي بالنسبة إلى الراصد الذي يسقط سقوطا حُرًّا، ولذلك لا ترى أليس أفق الحدث. فبالنسبة إليها، يظل الجسيمُ محلُّ النظر متشابكا بشريكه ضديد الجسيم لأنه لا يوجد أفق ليفصل بينهما. وهنا تولد المفارقةُ.
ولذلك، من منهما على صواب؟ هل هو بوب أم إنها أليس؟ لو كان بوب على صواب، فإن أليس لن تواجه مكانا فارغا عند الأفق كما تزعم نظرية النسبية العامة. فهي ستحترق بفعل جدار إشعاع هوكينغ، أي الجدار الناري. أما إذا كانت أليس هي التي على صواب، فإن المعلومات ستضيع، وهو الأمر الذي ينتهك قاعدة أساسية من قواعد ميكانيكا الكم. ويقول رافائيل بوسو من جامعة كاليفورنيا في بيركلي: “هذا الجدل الحامي حول مفارقة هوكينغ انعكاسٌ للمجازفات التي أثارتها أعمالُه: عند تحويل الجاذبية إلى كم، ما الذي يُعطي؟ وما مقدار ما يمنحُه؟” تنتظرُنا الإجابةُ في نظرية كل شيء. (أماندا غيفتر Amanda Gefter)