عرّاب الغان GANFATHER: الرجل الذي منح الآلات هبةَ التخيّل
من خلال جعل الشبكات العصبية تتبارى ضدّ بعضها البعض، أنشأ إيان غودفيلو أداة ذكاء اصطناعي قويّة. يجب عليه الآن، وعلينا جميعا، مواجهة العواقب.
في ليلة من ليالي عام 2014، ذهب إيان غودفيلو Ian Goodfellow إلى حانة للاحتفال مع زميل له، وهو طالب دكتوراه كان قد تخرّج لتوّه. وفي حانته المفضّلة في مونتريال، طلب بعض الأصدقاء مساعدته على مشروع شائك كانوا يعملون عليه: جهاز حاسوب يمكنه إنشاء الصور بنفسه.
كان الباحثون يستخدمون بالفعل الشبكات العصبية Neural networks، وهي خوارزميات Algorithms صُمِّمت بطريقة فضفاضة على غرار شبكة العصبونات في الدماغ البشري، كنماذج «مولّدة» لإنشاء بيانات جديدة معقولة خاصة بها. لكن النتائج لم تكن جيدة للغاية في كثير من الأحيان: كانت صور الوجه المُولَّدة بالحاسوب تميل إلى الضبابية، أو تحتوي على بعض الأخطاء مثل الآذان المفقودة. كانت الخطة التي اقترحها أصدقاء غودفيلو هي استخدام تحليل إحصائي معقد للعناصر التي تشكل الصور، وذلك لمساعدة الحواسيب على إنشاء الصور بأنفسها. ولكن هذا الحل كان يتطلّب قدرًا هائلا من المعالجات الحسابية المعقدة number-crunching، وأخبرهم غودفيلو ببساطة أنّه لن ينجح.
بعد ذلك، وأثناء تفكيره في المشكلة وهو يشرب جعّته، خطرت له فكرة: ماذا لو جعلت شبكتين عصبيّتين تتباريان ضدّ بعضهما البعض؟ شكّك أصدقاؤه في الأمر، ولكن بمجرّد عودته إلى المنزل قرّر تجربة الأمر. عمل غودفيلو في الساعات الأولى على ترميز برنامجه، ثم اختبره، وقد نجح الأمر في المرّة الأولى.
أصبح ما اخترعه في تلك الليلة يسمّى الآن GAN، اختصارا لـ «شبكة التعارض”التوليدية» Generative Adversarial Network. وقد أحدثت تلك التقنية إثارةً هائلة في مجال تعلّم الآلة Machine learning، وحوّلت مُنشِئها إلى أحد مشاهير الذكاء الاصطناعي.
في السنوات القليلة الماضية، أحرز الباحثون في مجال الذكاء الاصطناعي AI تقدّما مثيرا للإعجاب باستخدام تقنية تسمّى التعلم العميق Deep learning. قُم بتزويد نظام تعلّم عميق بما يكفي من الصور، وسيتعلّم مثلا التعرّف على أحد المشاة وهو على وشك عبور الطريق. فهذه المقاربة جعلت من بعض الأشياء ممكنة، مثل السّيارات ذاتيّة القيادة، وتقنية المحادثة التي تشغّل أليكسا Alexa، وسيري Siri، وغيرهما من المساعدين الافتراضيّين.
ولكن في حين يستطيع الذكاء الاصطناعي للتعلم العميق التعرّف على الأشياء، إلا أنّه لم يكن جيّدا في إنشائها. وتهدف التقنية GAN إلى إعطاء الحواسيب شيئا أقرب إلى صفة «التخيل”.
ستتحسّن قدرة الحواسيب المستقبلية كثيرا في التغذّي
بالبيانات الأوّلية، والعمل على ما تحتاج أن تتعلّمه منها.
لن يؤدي ذلك فقط إلى تمكينها من رسم صور جميلة أو تأليف ألحان موسيقية؛ بل سيقلّل اعتمادها على البشر من أجل توجيهها بشأن العالم وطريقة عمله. وغالبا ما يحتاج مبرمجو الذكاء الاصطناعي في الوقت الحاضر إلى إخبار الآلة عن نوع بيانات التدريب التي يتم تغذيتها بها بالتحديد: تحديد الصور التي تحتوي، وتلك التي لا تحتوي، على مُشاةٍ يعبرون الطريق، وسط ملايين من الصور. وهذا ليس مكلفا للغاية ويتطلب الكثير من العاملين فحسب، بل يحدّ كذلك من مدى تعامل النظام مع أبسط حالات الخروج عمّا دُرِّب عليه. ولكن في المستقبل، ستتحسّن قدرة الحواسيب كثيرا في التغذّي على البيانات الأوّلية، والعمل على ما تحتاج أن تتعلّمه منها، دون الحاجة إلى إخبارها بشيء.
من شأن هذا أن يمثل قفزة كبيرة نحو الأمام فيما يعرف لدى الذكاء الاصطناعي بـ «التعليم غير الخاضع للإشراف» Unsupervised learning، إذ يمكن لسيّارة ذاتية القيادة أن تُعلّم نفسها بشأن العديد من حالات الطرق المختلفة دون مغادرة المرآب، كما يمكن لروبوت أن يتوقع العقبات التي قد يواجهها في مستودع مزدحم، دون الحاجة إلى أخذ جولةٍ فيه.
إن قدرتنا على تخيّل العديد من السيناريوهات المختلفة والتفكير فيها هو جزء ممّا يجعلنا بشراً. وعندما ينظر مؤرخو تكنولوجيا المستقبل إلى الوراء، فمن المرجح أن يروا التقنية GAN كخطوة كبيرة نحو إنشاء آلات ذات وعيٍ مشابه للوعي البشريّ. وقد وصف يان ليكون Yann LeCun، وهو كبير علماء الذكاء الاصطناعي لدى فيسبوك، التقنية GAN بأنّها: «أروع فكرة ظهرت في التعلم العميق خلال العشرين سنة الأخيرة”. وقال أندرو نغ Andrew Ng -الذي كان في السابق كبير العلماء العاملين على محرك البحث الصيني بايدوBaidu- إن التقنية GAN «تمثّل تقدّما مهما وأساسيًّا،» يلهمُ مجتمعًا عالميًا ناميًا من الباحثين.
عرّاب الغان، الجزء الثاني: نادي قتال الذكاء الاصطناعي
يشغل غودفيلو الآن منصب عالم أبحاث في فريق غوغل برين Google Brain بمقرّ الشركة في ماونتن فيو Mountain View بكاليفورنيا. وعندما التقيت به هناك مؤخراً، كان لا يزال يبدو متفاجئاً من مكانته الرفيعة، ووصف الوضع بأنّ فيه «شيئا من السرياليّة”. الأمر الآخر المفاجئ أيضا، بعد اكتشافه ذلك، هو أنّه يمضي معظم وقته الآن في محاربة أولئك الذين يرغبون في استخدامه لغايات شرّيرة.
ويكمن سحر التقنية GAN في هذا التنافس بين الشبكات العصبيّة، فهو يحاكي ذلك الإقدام والإحجام بين مزوّر صور وبين محقّق فني يحاول كل منهما باستمرار خداع الأخر. تُدرَّب كلتا الشبكتين على مجموعة البيانات ذاتها. بعدها تُكلَّف الشبكة الأولى، والمعروفة بالمولّدة Generator، بإنتاج مخرجات اصطناعيّة كالصور والكتابة اليدويّة، بحيث تكون واقعيّة قدر الإمكان. أما الثانية والمعروفة بالمُميِّزة Discriminator، فتعمل على مقارنة هذه المُخرجات بصور أصلية من مجموعة البيانات الأساسية، وتحاول تحديد أيّها مزيّف وأيّها حقيقي. وعلى أساس هذه النتائج، تعدّل الشبكة المولّدة متغيّراتها Parameters لإنشاء صور جديدة. وتستمر هذه العملية حتى تصبح الشبكة المميِّزة غير قادرة على التفريق بين الزائف وبين الحقيقيّ.
وفي أحد الأمثلة التي حظيت بتغطية إعلامية واسعة في العام الماضي، درّب باحثون في شركة Nvidia، وهي شركة شرائح إلكترونية استثمرت بشكل كبير في الذكاء الاصطناعي AI، الشبكة GAN على إنشاء صور لمشاهير خياليين من خلال دراسة شخصيات حقيقية. ولم تكن جميع صور النجوم المزيفة التي أنتجتها مثالية، لكن بعضها كان واقعيًا بشكل مثير للإعجاب. وعلى عكس مناهج تعلم الآلة الأخرى التي تتطلب عشرات الآلاف من صور التدريب، يمكن أن تصبح التقنيات GAN بارعة مع بضع مئات من الصور فقط.
لكن هذه القوّة من الخيال لا تزال محدودة، فبمجرّد تدريب هذه التقنية على الكثير من صور الكلاب، فإنّ باستطاعتها خلق صورة مزيّفة مُقنِعة لكلب يحتوي على نمط مختلف من البقع مثلا، ولكنّها لا تستطيع تصوّر حيوان جديد تماما. كما أن لجودةِ بياناتِ التدريبِ الأصلية تأثيرا كبيرا في النتائج. وفي أحد الأمثلة على ذلك، بدأت التقنية GAN بإنشاء صور قطط مع أحرف عشوائية مُدمَجة فيها، والسبب في ذلك هو أن بيانات التدريب كانت تحتوي على صور لقطط تحمل تعليقات فكاهيّة، فعلّمت الآلة نفسها أن الكلمات جزء ممّا يعنيه أن تكون قطّة.
كما أن التقنية GAN متقلّبة أيضا، وذلك بحسب كلام بيدرو دومينغوس Pedro Domingos، الباحث في تعلّم الآلة من جامعة واشنطن University of Washington. فإذا كان خداع الشبكة المُمَيِّزة سهلا، فإن مخرجات الشبكة المولّدة لن تكون واقعيّة. كما أن مُعايرة Calibrating الشبكات العصبيّة المتبارية قد تكون صعبة، وهو ما يفسّر سبب ابتكار شبكات GAN لأشياء غريبة أحيانا، مثل حيوانات برأسين.
ومع ذلك، لم تردع هذه التحديات الباحثين. فمنذ أن نشر غودفيلو وآخرون معه أول دراسة عن اكتشافه عام 2014، كُتبت مئات الأوراق عن التقنية GAN هذه، حتى أن أحد المعجبين بالتكنولوجيا أنشأ صفحة ويب تسمى «GAN zoo”، وهي مخصصة لتتبّع الإصدارات المختلفة من هذه التقنية.
إنّ التطبيقات الفورية الأكثر وضوحا لهذه التقنية ستكون في المجالات التي تنطوي على الكثير من الصور، كالألعاب والأزياء. mمثال على ذلك: كيف ستبدو شخصية لعبة ما وهي تركض في المطر؟ ولكن بالنظر إلى المستقبل، يعتقد غودفيلو أن التقنية GAN ستحقق المزيد من التقدم المهم، إذ يقول: «هناك الكثير من المجالات العلمية والهندسية التي نحتاج فيها إلى تحسين شيءٍ ما،» مشيرا إلى الأدوية التي تحتاج إلى أن تكون أكثر فاعليّة، أو البطاريات التي تحتاج إلى أن تعمل بكفاءة أكثر. ويضيف: «ستكون هذه هي الموجة الكبيرة القادمة.”
ويستخدم العلماء في الفيزياء عالية الطاقة أجهزة حاسوب قوية لمحاكاة التفاعلات المحتملة لمئات الجسيمات تحت الذرية، في آلات مثل مصادم الهادرون الكبير Large Hadron Collider (اختصارا: المصادم LHC) في سيرن CERN ببسويسرا. وتكون هذه المحاكاة بطيئة، وتتطلّب قوة حوسبة هائلة. لذا قام باحثون في جامعة ييل Yale University ومختبر لورانس بيركلي الوطني Lawrence Berkeley National Laboratory بتطوير التقنية GAN تتعلم توليد تنبؤات دقيقة للغاية حول كيفيّة تصرّف جسيّمٍ معيّن، وذلك بعد أن درّبوها على بيانات محاكاة موجودة، وهي تفعل ذلك بسرعة أكبر.
كذلك يُعدّ البحث الطبّي مجالا آخر واعدا. وتعني مخاوف الخصوصية أن الباحثين لا يستطيعون الحصول أحيانا على ما يكفي من البيانات الحقيقيّة للمرضى، وذلك لتحليل سبب عدم نجاح دواء ما مثلا. يمكن للتقنية GAN المساعدة على حلّ هذه المشكلة، وذلك بتوليد سجلات مزيفة تكاد تكون بجودة السجلات الحقيقيّة، وذلك كما يقول كيسي غرين Casey Greene من جامعة بنسلفانيا University of Pennsylvania. ويمكن مشاركة هذه البيانات على نطاق واسع، ممّا يساعد على تعزيز البحث، على عكس السجلات الحقيقيّة التي تكون محميّةً بصرامة.
عرّاب الغان، الجزء الثالث: زملاء سيّئون ولكن، هناك جانبٌ مظلم. فوجود آلة مصمّمة لخلق أشياء مزيّقة واقعيّة يعد سلاحا مثاليا بيد مزوّدي الأخبار المزيّفة الذين يرغبون في السيطرة على كل شيء، من أسعار الأسهم حتى الانتخابات. وتستخدم أدوات الذكاء الاصطناعي بالفعل لتركيب وجوه الأشخاص على أجسام نجوم المواد الإباحيّة، وتقويل السياسيّين ما لم يقولوه. ولم تنشئ التقنية GAN هذه المشكلة، ولكنّها ستزيدها سوءا.
ويعمل هاني فريد Hany Farid، الذي يدرُسْ الطب الشرعي الرقمي في كلية دارتموث Dartmouth College، على إيجاد طرق أفضل لاكتشاف مقاطع الفيديو المزيفة، مثل الكشف عن التغييرات الطفيفة في لون الوجوه، والتي يسببها الشهيق والزفير، وهو أمر يصعب على التقنية GAN محاكاته، لكنّه يحذّرنا من أن التقنية ستتكيّف بدورها على هذا الأمر. ويعلّق فريد قائلا: «إنّ موقفنا في جوهره عبارة عن موقف ضعيف.”
ستحدث لعبة القطّ والفأر هذه في مجال الأمن الإلكتروني أيضا. ويعمل الباحثون بالفعل على إبراز خطورة هجمات «الصندوق الأسود”، والتي تُستخدم فيها شبكات GAN لمعرفة نماذج تعلّم الآلة، والتي تقوم فيها العديد من البرامج الأمنيّة بتحديد البرمجيّات الخبيثة Malware . وبعد أن يعرف المهاجم الكيفيّة التي تعمل بها خوارزمية المُدافع، يمكنه زرع رمز ضار. ويمكن استخدام المقاربة نفسها لتفادي فلاتر الرسائل غير المرغوب فيها، وغيرها من الدفاعات.
يدرك غودفيلو هذه المخاطر جيّدا، وهو يترأّس الآن فريقا في غوغل يركّز على جعل تعلّم الآلة أكثر أمانا، كما يحذّر مجتمع الذكاء الاصطناعي ويدعوهم لتعلّم الدرس من موجات الابتكار السابقة، والتي لم يعالج فيها التقنيّون مسألة الأمان والخصوصية إلا متأخرا. وبحلول الوقت الذي تنبّهوا فيه للمخاطر، كان الأشخاص السيئون قد تركوا بصمة مهمة. ويقول غودفيلو: «من الواضح أنّنا قد تجاوزنا البداية، ولكن كلّي أمل بأن نحقّق تقدّمًا كبيرا في مجال الأمان قبل أن نذهب أبعد من ذلك.”
ومع ذلك، فهو لا يعتقد أنه سيكون هناك حل تكنولوجي بحت للتزييف، ويقول إنّه سيكون علينا بدلا من ذلك الاعتماد على الحلول المجتمعيّة، مثل تعليم الأطفال التفكير الناقد، وذلك بتدريسهم مواد مثل الخطاب والنقاش. ويقول: «في الخطاب والنقاش، أنت تتنافس مع طالب آخر، وتفكّر في كيفية صياغة ادعاءات مضللة، أو كيفية صياغة ادعاءات صحيحة مقنعة للغاية.» ربما سيكون غودفيلو على حق، ولكن الخلاصة القائلة إن التقنية لن تستطيع حل مشكلة الأخبار المزيّفة هي خلاصة لا يرغب الكثيرون في سماعها.