أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
العلوم الطبيعيةفيزياءفيزياء نظرية

هذا الجسيم الواحد قد يحل خمسا من ألغاز الفيزياء العملاقة

انسَ بوزونات هيغز: لقد أزاح علماء الفيزياء النظرية الستارَ عن رابطٍ مفقود يفسر المادة المعتمة وما حدث في الانفجار الكبير وغير ذلك، وهم الآن في سباقٍ لإيجاد ذلك الرابط.

بقلم: مايكل بروكس Michael Brooks
ترجمة: همام بيطار

911، حالةٌ طارئة! فأكثرُ جسيمات الكون أهميةً مفقودةٌ. ويعلم فلوريان غورتز Florian Goretz علم اليقين أنّ هذه القضية ليست بالقضية التي يتجه بها إلى مكتب الشرطة، لكنّه ينتظر على أحرَّ من الجمر استجابةً لذلك. إن 911 ليس برقم هاتف، لكنّه رقم مبنى يقع على الحدود الشمالية لأكبر مسرعات الجسيمات في العالم.

يشغّل مسرع الجسيمات سيرن CERN مصادم الهادرونات الكبير LHC الذي يصل طوله إلى 27 كيلومترا والذي يعمل أسفل الحدود الفرنسية السويسرية، وأشهر ما ذاع صيت سيرن لأجله هو تأكيده وجود بوزونات هيغز Higgs Boson في شهر يوليو من عام 2012. كان ذلك أمرا عظيم الشأن، لكنّه لا شيء مقارنة بالجسيمات التي يسعى غورتز إلى البحث عنها هناك. وحلّت بوزونات هيغز مشكلة الكيفية التي تحصل من خلالها الجسيمات الأساسية على كتلتها، وستكون ربيبات غورتز هذه قادرةٌ على حل خمسٍ من مشكلات الفيزياء العالقة منذ أمدٍ طويل دفعة واحدة؛ فمن مسائل الجسيمات تحت الذرية غير المفسرة إلى لغز منشأ الكون وحتى تحديد المادة المعتمة الغامضة التي يبدو أنّها تهيمن على مكوناته اليوم. وعلى حدّ قول جوليا زاندرغي Giulia Zanderigh، الباحثة النظرية في الجسيمات من جامعة أكسفورد University of Oxford: “إنّ حل أيٍّ من هذه المعضلات سيعتبر اكتشافا مثيرا يستحق جائزة نوبل في الفيزياء.”

هل هذا أمر جيد لدرجة لا يمكن معها أن يكون حقيقيا؟ ربّما، لكنّ غورتز ليس وحده من يسعى إلى ذلك، فهو يتعاون ويتنافس من مكتبه الكائن في معهد ماكس بلانك للجسيمات وفيزياء الجسيمات الفلكية Max Planck Institute for Particle and Astroparticle Physics في هيديلبرغ بألمانيا، مع باحثين من كافة أنحاء العالم لوصف خصائصه وللتنبؤ بما سيمكنه القيام به. وإذا كانوا محقين، فسيلبّي المبنى 911 نداءهم، وسيختبر توقعاتهم، يتحقق من أكثر جسيمات الكون الموجودة حتى الآن أهمية.

والسبب وراء الأهمية الكبيرة لذلك هو أنه أولا سيساعدنا على تحديد ماهية الجسيم، فغالبا ما نتخيل الجسيمات على أنّها كرات زجاجية مجهرية، تتدافع حول بعضها البعض في مكانٍ فارغ أو أنّها تتصل ببعضها البعض داخل كيانٍ صلب. ولكن إذا أردنا فهم سلوك الجسيمات فعلينا التخلي عن هذه النظرة. وعوضا عن ذلك، سيكون من الأفضل التفكير في الكون على أنّه ممتلئٌ بالحقول المتأرجحة، والتي تجعلها اضطراباتها على المستوى الكمّيّ (الكمومي) واضحةٌ جليّا لنا على هيئة جسيمات أو حقول.

“كانت بوزونات هيغز إنجازا عظيما، لكنّها ستصبح أمرا لا يُذكر مقارنة بذلك.”

يستحضر علماء الفيزياء النظرية دوما حقولا موجودة أو غير موجودة بغية حل إحدى المعضلات الأساسية أو غيرها. ولأن كلّا منها ينتج جسيما، يمكن الحصول على دليل تجريبي عبر كاشف الجسيمات.

كانت هذه هي الحال كذلك مع حقول هيغز المصحوبة ببوزونات هيغز، وقد اقترحت للمرة الأولى عام 1964 لتفسير المدى القصير للقوى النووية الضعيفة، لتعطي كتلة لجسيماتٍ أساسية في هذه العملية. واستغرق الأمر خمسين عاما قبل العثور على بوزونات هيغز. وفي تلك الأثناء ظهر العديد من الثقوب في النظرية، واستمر الفيزيائيون بسدها بالمزيد من الجسيمات الافتراضية، بلغت أحيانا عدة جسيمات في كل مرة.

ففي نظرية التناظر الفائق Theory of supersymmetry على سبيل المثال، حظي كل جسيم معروف بشريكٍ أعظم منه كتلة، وهو تضاعفٌ افتُرض لحل ثلاثٍ من مشكلات فيزياء الجسيمات دفعة واحدة. وربما لم يكن ذلك مناسبا، فالإشارات الدالة على هذه الجسيمات فائقة التناظر كان من المفترض أن تظهر عند تشغيل مصادم الهادرونات الكبير للمرة الأولى عام 2009، ومن ثمّ بعد تطويره عام 2015، لكنّ شيئا من ذلك لم يحدث.

وعلى العكس من ذلك، فقد كان علماء نظريون آخرون شديدي البخل من حيث افتراض عدد الجسيمات؛ ففي عام 2016 اقترح غوليرمو باليستيروس Guillermo Ballesteros من جامعة باريس ساكليه University of Paris-Saclay في فرنسا حل خمسة ألغاز بإضافة ستة جسيماتٍ إضافية، في فرضيةٍ عُرفت بالفرضية SMASH.

ولكن غورتز والعاملين معه رأووا في ذلك إسرافا، فعوضا عن الحلم بالمزيد من الجسيمات الجديدة، تساءلوا: ماذا لو أمكن طي بعضٍ من هذه الجسيمات المفترضة في جسيم واحد؟ سيخفف ذلك من الحرج الواقع على العلماء النظريين بالتأكيد، وبدلا من اعترافهم بعدم قدرتهم العثور على مجموعة كاملة من الجسيمات، قد يتمكنون بذلك من التركيز على اقتناص جسيم واحد.

لقد كانت النتيجة جسيما يشبه سكين الجيش السويسري بمجموعة مدهشة من الأدوات مجهزة لحل جميع أشكال المعضلات الشائكة. وجاءت أولى تلك الجسيمات في عام 1977 حين كان كلٌّ من روبيرتو بيتشي Roberto Peccei وهيلين كوين Helen Quinn من جامعة ستانفورد يواجهان واحدة من أكثر معضلات الديناميكا الكيميائية الكمّيّة إزعاجا، وهي النظرية التي تصف التفاعلات الحاصلة على مستوى البروتونات والنيوترونات.

ظهرت معضلة التناظر القوي Charge-parity (اختصارا: التناظر CP) هذه لأن القوى القوية الحاصلة داخل البروتونات والنيوترونات ينبغي أن تخرق نمطا من التناظر المعروف بتناظر CP في حالاتٍ معينة. وحقيقةُ أنّنا لم نرصد مثل هذه الاختراقات تحتاج إلى تفسير من نوع ما، وكان اقتراح بيتشي وكوين للالتفاف على ذلك مكافئا لتقديم مجال جديد يعالج خرق التناظر غير المرئي.

وفي محاولةٍ لتأكيد وجود هذا الحقل، اكتشف الفائز بجائزة نوبل فرانك ويلشيك Frank Wilczek أنّه وكما هي الحال في جميع الحقول الكمّيّة التي تتموج Ripple بشكلٍ كافٍ، يولِّد الحقل الجديد إمكانية ظهور جسيم جديد، وبناء عليه صاغ ويلشيك مصطلحَ أكسيون Axion.

في هذه الأثناء، كانت مشكلةٌ أخرى في فيزياء الجسيمات آخذة بالظهور، فقد كان كلٌّ من كولين فروغات Colin Froggatt من جامعة غلاسكو University of Glasgow في المملكة المتحدة وهولغر نيلسن Holger Nielsen من معهد نيلز بور Niels Bohr Institute في جامعة كوبنهاغن University of Copenhagen في الدنمارك يراهنان على الكواركات، وهي جسيماتٌ تحت ذرية تتحد معا لتؤلف البروتونات والنيوترونات ومن ثم جميع المواد. وهناك ستة كواركات، لكنّها تختلف بشدة فيما بينها من حيث الكتلة، فالكوارك العلوي up quark تبلغ كتلته 80000 ضعف كتلة الكوارك الذي يليه. ويقول غورتز: “لا يمكن فهم ذلك، فقد كنت تتوقع أن تكون للكواركات كتلٌ متقاربة نوعا ما، وإذا كانت الأمور مختلفةً جدّا في الطبيعة، فعليك معرفة سبب وجود هذا التناقض الكبير.”

شرح الصورة: التجربة NA62 التي جرت في سيرن قد تكشف عن أكسيفلافون بريٍّ Wild Axiflavon.

لقد اقترح فروغات ونيلسن ما أطلقا عليه حقل فلافون Flavon field لحل المشكلة. ويقدم هذا الحقل تناظرا يُكسَر بطرقٍ مختلفة وبواسطة كواركات مختلفة. وينتج من ذلك أن للكواركات كتلا متفاوتة بشدة، وهو تنبؤ يتطابق مع النتائج التجريبية.

حسنا، كيف لجسيمين يختلفان ظاهريا أن يتحدا ليؤلفا جسيما واحدا؟ لقد أماطت مجموعتان مستقلتان من الفيزيائيين اللثام في العامين الماضيين عن مصادفةٍ كونية: الجسيمات التي ينتجها حقل فلافون لها مكونٌ يبدو شبيها بالأكسيون. ويقول غورتز: “لقد تبين أنه في حال كان الأكسيون يتألف من مكونات حقل فلافون، فإنه لا يزال يحل معضلة التناظر CP القوي.” وفي الوقت نفسه، يقدم حقل فلافون حلّا للكتل الإشكالية للكواركات.

تتمخض عن هذا التزاوج بين الأكسيونات والفلافونات المزيدُ من المزايا، وهي تُعرف بالأكسيفلافونات Axiflavons أو الفلاكسيون Flaxion، ويعتمد ذلك على من توجه إليه حديثك. فقد أذهلت البنية العملاقة للكون التي افتُرضت منذ أواخر سبعينات القرن الماضي، والتي دخلت فترة من التضخم فائق السرعة تلا الانفجار الكبير. وربما سبّب جسيم يُعرف بالإنفلاتون Inflaton مثلَ هذا التوسع في الزمن والمكان، وقد شكّك البعض في إمكانية أن يكون هذا الجسيم إما أكسيون أو فلافون. وإضافة إلى ذلك، فقد جذب فشل البحث التقليدي عن المادة المعتمة الانتباه للأكسيونات كمرشحات محتملة بديلة للمادة المعتمة. وحتى في شكلها الجديد (الأكسيفلافون)، ما زال كلا الاستخدامين أمرا مطروحا للنقاش.

“إنه لأمر مثير، حتى ولو كان ذلك حتى الآن يقع في عوالم من التخمين”

إذا لم يكن ما سبق كافيا، فللأكسيفلافون قدرةٌ فائقةٌ إضافية، فوفقا لغورتز: “نحن نعمل على توحيدٍ أكبر: الأكسيفلافونات مع بوزونات هيغز.” إنها قفزة نظرية مهمة، فهي تلك القفزة التي ستحل معضلة أساسيّة أخرى. عندما اكتُشف بوزون هيغز عام 2012، كان أخف وزنا مما كان يتوقع كثيرٌ من الفيزيائيين. وتقول النظرية إن طاقته ينبغي أن تبلغ مقدارا هائلا يقترب من 1019 غيغا إلكترون فولت، لكنّها تزن ما يمنح طاقة تُقدر بـ 125 غيغا إلكترون فولت. ولا يستطيع أحد تفسير فارق السبع عشرة مرتبة في الأُسِّ المرفوع له هذا الرقم. ولكن أكسيفلافون مُشكَّلٌ بطريقةٍ مناسبة قد يكون قادرا على الحفاظ على كتلة بوزونات هيغز ضمن حدود وزن بعيد عن عقول العديد من الفيزيائيين.

عموما، ربما كان الأكسيفلافون في موضع الكشف عن خمسٍ من أكثر معضلات الفيزياء صعوبة في جولةٍ واحدة: ثبات غير متوقع للتناظر CP في تفاعلات القوى القوية، وكتل للكواركات المتباينة تباينا شديدا، والتوسع المفاجئ للكون، ومنشأ المادة المعتمة، والكتلة الضئيلة المفاجئة لبوزونات هيغز. ويقول ويلشيك: “يبدو جليّا أنّ بإمكان المرء معالجة العديد من مشكلات الفيزياء العالقة (ما وراء النموذج القياسي Standard model) ضمن هذا الإطار المرجعي البسيط.”

إنّها أمورٌ مثيرة حقا، لكن ذلك يبقى طي عوالم من التخمين حتى اللحظة. والمفتاح لتغيير ذلك يكمن في المبنى 911، موطن التجربة NA62 في سيرن. وعلى الرغم من أنّ شهرة هذا المبني لا تضاهي شهرة مواقع تجارب أكبر أخرى، لكن التجربة NA62 مع ذلك تسعى نحو هدفٍ أساسي: تطوير فهمنا للكواركات عبر دراسة اضمحلال أزواج الكواركات- ضديدات الكواركات.

ونأمل بأن تجد التجربة NA62 أمرا غير متوقع في طاقات نواتج هذه الاضمحلالات يشير إلى ما يكمن خلف النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات. لكن، وبسبب خصائص الأكسيفلافونات قد تخرج إلى الوجود عبر العملية كمنتج إضافي من نواتج الاضمحلال. وهذه التجربة وثيقة الصلة بالتحليل الذي ينبغي إجراؤه في أبحاث الأكسيفلافون، على حد قول بابيت دوبريتش Babette Dobrich ، أحد القائمين على التجربة NA62.

ولكنّ ما سبق كان كفيلا بتحمس غورتز تحمسا حذرا حين يقول: “إنّه يجعلني متفائلا فإيجاد مثل هذا الجسيم ليس مستحيلا.”

حقولٌ خصبة Fertile fields

متى سنتأكد ممّا سبق؟ ربما فورا. ويتوقف ذلك كلّه على مقدار ثقل الأكسيفلافون. وتقول دوبريتش: “إنّ كتلة الأكسيفلافون غير معروفة، وهي تبدو عند هذه النقطة، إذا وُجدت، غير واضحة. وإذا نجح غورتز وزملاؤه بطيّ جسيم هيغز داخل أكسيفلافون، فستكون الكتلة الناتجة مقيدة بإحكام وسيعلم القائمون على التجارب مكان البحث عنها بدقة.”

بالطبع، لا شيء يضمن ذلك، لكن الولع بجسيمات متعددة المهام يزداد شعبية. وقد اقترح باحثون من معهد وايزمان للعلوم Weizmann Institute of Science جسيماتهم -التي هي على شاكلة سكين الجيش السويسري- في هيئة تسلسل هرمي، يمكنه إنجاز مهامٍ أقل أو أكثر من تلك التي ينجزها الأكسيفلافون بطرقٍ عدة.

وإجمالا، تبدو هذه أياما واعدة في فيزياء الجسيمات؛ فلدينا كل الأسباب للاعتقاد أنّنا على مشارف سبقٍ علمي. إذ يقول الفيزيائي من جامعة كامبريدج ديفيد تونغ David Tong: “يهيمن احتمال وجود حقول جديدة ما زال علينا اكتشافها، ويبدو ذلك معقولا بالاستناد على أساس من التواضع فقط، لكنّ كلّا من المادة المعتمة والتضخم يشيران بقوة إلى الحاجة إلى شيءٍ جديد.”

وفي حين يجنح هذا الجيل من العلماء النظريين بخيالهم إلى أماكن بعيدة، إلا أن أعمال الأجيال السابقة تكبح أي مبالغة. وفي هذا الصدد يقول باليستيروس: “لا يمكنك أن تتخيل جسيما جديدا وتفترض أنه سيكون ناجعا وسيحل كلّ مشكلاتك، فهنالك قيودٌ نظرية وتجريبية عليك التوافق معها.”

و برأي غورتز، مع كمٍّ هائل من الأفكار الجديدة التي تجمع مشكلات عديدة في مشكلةٍ واحدة، هذه الأيام أيامٌ رائعة لتكون فيزيائيَّ جسيماتٍ. وخاصة أنّ هذا الركن الصغير في سيرن قد يعثر على دليل ينهي حالة الطوارئ. ولعل النداء 911 يؤتي ثماره.

أهمية التناظر The importance of symmetry

إن معرفة المكان الذي قد توجد فيه الجسيمات الجديدة عمل شاق، والكاشف الأقوى الذي بحوزتنا هو التناظر: وهو الفكرة القائلة إن شيئا ما يبدو ذاته شكلا ويسلك السلوك نفسه حين تتغير بعض جوانب موضعه واتجاهاته ووجهاته، فللدائرة على سبيل المثال تناظر دوراني كلي، أما المربع فتناظره دوراني منكسر؛ فهو يحتل المواضع نفسها عند تدويره بمضاعفات الزاوية 90 درجة فقط.

حين يُكسر التناظر، تكون هنالك ساعات عمل كثيرة بانتظار الفيزيائيين؛ فيقول ديفيد تونغ: “إن انكسار التناظر أمر لا نكتفي بالقول إنّه حدث فقط، فدوما هناك أسبابٌ أدّت إلى حدوثه.” وينطبق ذلك على التناظرات الأكثر تعقيدا التي تنشأ في فيزياء الجسيمات. وبدلا من تدوير الجسيم أو تحريكه، قد تتمكن من استبداله بجسيمه المضاد المعاكس له بالشحنة. وإذا لم تشهد أي اختلافٍ في تفاعلاتهما، سيكون ذلك تناظرا. فعلى سبيل المثال، يفني إلكترونان بعضهما البعض بالطريقة نفسها التي تفعل بها البوزيترونات ذلك، ويعكسان فيزياء ممائلة لتلك الكائنة تحت انعكاس الشحنة، ونسمي ذلك تناظر الشحنة Charge symmetry.

القلب مهم Flipping important

من التناظرات الأخرى المهمة هو عكس الزمن. تخيّل أنّك تشاهد تسجيلا لمباراة سنوكر على شاشة التلفاز، وتلمح الكرة تمس حواف الطاولة، بالضغط على زر الإعادة، ستشاهد الآن الكرة تتحرك عائدة نحو الحافة، فإذا ارتدت بزاويةٍ تختلف عما رأيته مسبقا، فسيكسر تناظر الانعكاس الزمني.

وثالث التناظرات المهمة الأساسية هو تناظر التكافؤ Parity symmetry، فهنا عند مشاهدتك مباراة السنوكر ستشاهد اللقطة الابتدائية معكوسة في مرآة. وإذا ارتدت عن الحواف بزاوية مختلفة في انعكاس المرآة، فسيكسر ذلك تناظر التكافؤ.

أحيانا، لا يتعين عليك فعليا تحديد تناظر تمّ كسره، بل ستحدد أين كان ينبغي أن يُكسر هذا التناظر (لكنّه لم يُكسر). فعلى سبيل المثال، في عام 1964، طبّق موراي جيل-مان Murray Gell-Mann اعتبارات التناظرات على النموذج القياسي في فيزياء الجسيمات وخرج بالفكرة القائلة: ينبغي أن توجد مجموعة من الجسيمات التي حتى وإن وُضعت مع البعض بطرقٍ معينة، ستؤلف البروتونات والنيوترونات التي نجدها في نواة الذرة. وكان حدس جيل- مان الرياضياتي صائبا: فكواركاته التي خمن وجودها عُثر عليها في أبحاث تالية على الجسيمات، وفاز جيل- مان بجائزة نوبل في الفيزياء لجهوده.

ولتطوير الفكرة إلى ما وراء ذلك، يمكننا الجمع بين بعض هذه التماثلات ومشاهدة ما إذا كان أمر مثيرٌ للاهتمام سيحدث. ولنأخذ تناظر الشحنة والتكافؤ (CP) مثالا، فالأنظمة التي تنتهك أحدها أو الآخر في المحصلة ستبدو مثل بعضها البعض إذا فرضت عليها كلا التحولين. وبعبارة أخرى، يمكنك العثور على منظورين مختلفين، كانعكاس جسيم حقيقي ومكافئه من ضديد المادة في مرآة، من خلالها يبدو سلوك الأشياء هو نفسه.

وترجع أهمية هذه التناظرات الكبيرة لأننا نرغب أحيانا في مشاهدتها تنكسر: فالقوانين والجسيمات والقوى في الفيزياء لها جذورها في انكسار التناظر. وهي تخلق ما يسميه ديفيد غروس David Gross من معهد كافلي للفيزياء النظرية Kavli Institute for Theoretical Physics في جامعة كاليفورنيا University of California بسانتا باربارا، “نسيج العالَم” Texture of the world.

لقد دفعت هذه الاعتبارات فلوريان غورتز Florian Goertz، من معهد ماكس بلانك للجسيمات وفيزياء الجسيمات الفلكية Max Planck Institute for Particle and Astroparticle Physics في هيديلبرغ، إلى اقتراح وجود جسيم جديد يمكنه منفردا حل خمس من أكثر المشكلات العالقة في الفيزياء.

يختتم غورتز قائلا: “التماثل التام أمرٌ ممل، وإذا كُسر التناظر قليلا فقد تحدث أمورٌ مثيرة حقا.”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى