ملامسة الشمس
سيقترب مسبار باركر الشمسي من الشمس أكثر مما فعلت أي مركبة فضائية أخرى في التاريخ. تنظر جين غرين هنا في قدرته على حل أحد أكبر ألغاز نجمنا في اقترابه هذا
في يوم 12 أغسطس، 2018، انطلق مسبار باركر الشمسي Parker Solar Probe (اختصاراً: المسبار PSP) التابع للوكالة ناسا من قاعدة كيب كانافيرال الجوية في سماء فلوريدا قبل الفجر في مهمته ليكون أول مركبة فضائية على الإطلاق ”تلمس الشمس“. وفي وقت لاحق من هذا العام، في يوم 24 ديسمبر 2024، سيقترب باركر من الشمس إلى مسافة أقرب بسبع مرات من أي مركبة فضائية أخرى قبله، ليغوص في غلافها الجوي الخارجي الهالة الشمسية Corona وفي هذه العملية سيحطم الرقم القياسي السابق لسرعته ليكون أسرع مركبة فضائية من صنع الإنسان على الإطلاق.
وفي سابقة أخرى أيضاً، أطلقت الوكالة ناسا اسم شخص حي على هذا المسبار: عالم الفيزياء الفلكية البروفيسور المتبصّر يوجين باركر Eugene Parker، الذي اقترح في منتصف خمسينات القرن العشرين نظريات حول كيفية إصدار النجوم لطاقتها. أطلق على تدفق الطاقة هذا اسم الرياح الشمسية Solar wind، ووصف النظام المعقد للبلازما والمجالات المغناطيسية والجسيمات النشطة التي تشكّل هذه الظاهرة. كما طرح نظرية مثيرة للجدل حول سبب كون الهالة الشمسية أكثر حرارة من ”سطح“ الشمس وهي النظرية التي يقدم المسبار باركر دليلاً عليها. شهد البروفيسور باركر عملية إطلاق المسبار؛ لكنه، وللأسف، رحل في مارس 2022، عن عمر ناهز 94 عاماً.
تتمثل أهداف هذا المسبار هذا الإيكاروس Icarus المعاصر في تتبع دفق الطاقة التي تسخّن الغلاف الجوي الخارجي للشمس، وتسليط الضوء على أماكن ولادة الرياح الشمسية، واستكشاف كيفية انتقال جسيمات الرياح النشطة وتسارعها. وباقترابه من أقرب نجم لنا، نأمل أن يحل باركر سؤالاً آخر طال أمده: لماذا تكون الهالة الشمسية أكثر حرارة من ”سطح“ الشمس، وهي مفارقة تُعرَف بـ”مشكلة التسخين الإكليلي“ Coronal heating problem (انظر الصفحة ب،ت).
لقد استغرق الأمر ستة عقود قبل أن يمكِّن التقدم في الهندسة الحرارية Thermal engineering من بناء مركبات فضائية يمكنها النجاة من درجات الحرارة الحارقة والإشعاع عالي الطاقة والمجالات المغناطيسية التي تملأ الغلاف الجوي العلوي للشمس، أو الهالة الشمسية. لا يمكن رؤية الهالة الشمسية بسبب السطوع الطاغي للغلاف الضوئي للشمس، ويمكن رؤية الهالة الشمسية بسهولة أكثر عندما يغطي القمر الشمس في حادثة كسوف كلي، أو عندما يحجب جهاز رصد إكليل الشمس Coronagraph الدائري قرص نجمنا الشمسي.
تتجاوز حرارة الهالة الشمسية حداً هائلاً المليون درجة سيليزية، وهذه درجة ساخنة بما يكفي لانتزاع الإلكترونات من الذرات لتكوين البلازما Plasma – حيث تنفصل الإلكترونات سالبة الشحنة عن الأيونات موجبة الشحنة، مما ينتج بحراً من الجسيمات حرة الحركة بشحنة كهربية مفردة Individual electric charge. وتنطلق هذه المادة الباعثة للأشعة السينية والأشعة فوق البنفسجية، التي تحمل مجالات كهربائية ومغناطيسية، من الشمس بسرعة 1.61 3.22 مليون كم/ساعة على شكل رياح شمسية وهي تدفق مستمر من الغاز المتأين يملأ كامل المجموعة الشمسية، ويشكل فقاعة عملاقة، هي الغلاف الشمسي Heliosphere، تمتد إلى مسافة تزيد على 16.1 بليون كم.
قريبٌ من المصدر
الرياح الشمسية المرصودة بالقرب من الأرض هي تدفق ثابت نسبياً للبلازما مع بعض الاضطرابات أحياناً، نتيجة لانفجارات يسببها تأثير مغناطيسي توهجات شمسية وانبعاثات كتلية إكليلية كبيرة تنطلق بقوة من سطح الشمس. ولكن عندما تقطع هذه الرياح الشمسية مسافة تزيد على 150 مليون كم، فهي تفقد بصمة آلية الشمس في تسخين وتسريع تلك الرياح. ومن خلال الاقتراب من مصدر الرياح الشمسية، حيث تنتقل من سرعة دون صوتية إلى سرعة فوق صوتية، فسيلتقط المسبار باركر صورة مختلفة جداً.
ومع ذلك، ولرصد الفرن الإكليلي و”أخذ عينة“ منه مباشرة من مسافة قريبة، كان على باركر أولاً الوصول إلى هناك. وضعت خطة رحلة معقدة له، اشتملت على عملية إطلاق معزز الطاقة على متن صاروخ دلتا Delta IV-Heavy؛ وعلى إنجاز 24 عملية تحليق مدارية إهليلجية متطاولة جداً حول نجمنا بحلول شهر يونيو 2025، وعملية تسارع عند اقترابه من نقطة الحضيض (أقرب نقطة إلى الشمس في مداره) Perihelion، وعملية تباطؤ عند وصوله إلى نقطة الأوج (النقطة الأبعد في مداره) Aphelion، والدنو أكثر مع كل عملية اقتراب.
ستعني هذه التحليقات المدارية الكبيرة، التي ستأخذ شكل بتلات، أن يقضي باركر وقتاً أقل في بيئة الشمس القاسية، ليمكِّنه هذا من تجنُّب تأثيرات الشحن والأضرار الإشعاعية المحتملة لمعداته الإلكترونية، وتأمين نقل بياناته (انظر ”مزايا تصميم باركر“، الصفحة ب،ت). وقد تطلب الأمر تنفيذ 6 عمليات تحليق بمساعدة جاذبية كوكب الزُّهرة لإبطاء سرعة المسبار وضبط مداره. نفذت الأولى على مسافة 2,400 كم فقط من الزُّهرة، ووضعت باركر في مدار بيضاوي مدة 150 يوماً، أي ثلثي المدة المدارية السنة لتوأم الأرض هذا. وقد نفذ باركر ثلاث دورات حول الشمس عندما دار الزُّهرة حولها دورتين. أدى التحليق الثاني إلى تقصير هذه المدة إلى 130 يوماً؛ ثم ساعدت دورتان أخريان بتقليصها إلى 112.5 يوم (نصف مدة الدورة المدارية للزُّهرة)، ثم إلى 102 يوم بعد تنفيذ دورتين أخريين. وبعد 237 يوماً، قلل التحليق الخامس دورة المسبار إلى 96 يوماً فقط، لينجز باركر 7 دورات حول الشمس، مقابل 3 دورات للزُّهرة.
وقد أدت عملية تحليقه الأخيرة، في 21 أغسطس 2023، إلى تقليص مدة دورته إلى 92 يوماً فقط، لتقود باركر إلى الاقتراب من الشمس في عملية التحليق الرقم 18 والأقرب إليها في 28 ديسمبر 2023، ليضاهي بذلك سرعته ومسافته القياسية السابقة من خلال التحرك بسرعة مذهلة بلغت 635,266 كم/ساعة، ويقترب إلى مسافة 7.26 مليون كم فوق ”سطح“ الشمس (غلافها الضوئي) Photosphere أي أقرب مسافة إليها من أي مركبة فضائية أخرى قبله.
من المقرر أن يحلق باركر في شهر نوفمبر من هذا العام في آخر عبور له حول كوكب الزُّهرة ليضعه في مدار شمسي مدته 88 يوماً، ومن ثم سيغوص إلى أعمق مسافة له في هالة الشمس في شهر ديسمبر. وسيكون هذا هو الوقت الذي يصل فيه إلى أقرب مسافة له من الغلاف الضوئي للشمس، على مسافة تبلغ 6.2 مليون كم، في أثناء تحركه بسرعة قياسية تبلغ 692,000 كم/الساعة؛ وهي سرعة تعادل 0.064% من سرعة الضوء أي إنها سرعة تكفي للسفر من مدينة نيويورك إلى مدينة طوكيو في أقل من دقيقة!
معدات باركر العلمية
سيرسل إلينا باركر، هذا المسبار القوي والجريء، بحجمه الذي يقرب من حجم سيارة، بيانات علمية لم نرَ مثيلاً لها من قبل، من خلال عمل أربعة أجهزة رئيسة على متنه: الأول هو فيلدز FIELDS، وهو أداة تجري عمليات مسح مباشرة للرياح الشمسية من خلال قياس وتحليل كيفية تغير المجالات الكهربائية والمغناطيسية حول المسبار بمرور الوقت. وقد كشفت هذه البيانات عن تقلبات سريعة، تُدعى ”تعرجات“ Switchbacks في اتجاه المجال المغناطيسي الذي يتدفق شعاعياً إلى الخارج، بما يشبه الطريق الجبلي المتعرج. وخلال كل عملية تعرج تدوم من عدة ثوانٍ إلى عدة دقائق ينعكس المجال المغناطيسي على نفسه حتى يتجه مباشرة تقريباً إلى الشمس.
كما قاست المعدات سرعة موجات ألففين Alfvén waves وهي موجات كهرومغناطيسية – هيدروديناميكية مستعرضة تنشأ بالقرب من سطح الشمس وتشكل جزءاً من الرياح الشمسية. إنها جزء لا يتجزأ من البلازما الشمسية، ولكنها تنتقل في اتجاه المجال المغناطيسي. اعتقد العلماء سابقاً أن سرعة البلازما هي مفتاح تسخين الهالة، لكن باركر أظهر أنه عندما تتباين سرعة موجات ألففين تنشأ تعرجات في الموجات الشمسية، لتظهر هذه ”الانعراجات“ Kinks التي ربما تساهم في تسخين وتسريع حركة الرياح الشمسية (انظر: مشكلة التسخين الإكليلي). ومع عملية التحليق السادسة لباركر حول الشمس، أظهر الجهاز FIELDS أيضاً أن هذه التعرجات تتراصف باستقامة مع ”أنفاق“ funnel مغناطيسية تنشأ من بين الحبيبات العملاقة وهي فقاعات عملاقة تنقل البلازما الساخنة من باطن الشمس. وقد أشارت هذه الهندسة المغناطيسية إلى أن إعادة الاتصال المغناطيسي قد تعمل أيضاً على مد الرياح الشمسية بالطاقة. وبفضل جهاز FIELDS، فقد استطاع العلماء ”الاستماع“ إلى الشمس أيضاً، وذلك بفضل قدرة الجهاز على التقاط وتسجيل تردد وسعة موجات البلازما وتفاعلات الجسيمات. وبترجمة ذلك إلى موجات صوتية مسموعة، فقد تمكنوا من سماع ”أغنية“ الرياح الشمسية.
يهدف المسبار باركر إلى تفسير أحد أكبر الألغاز في الفيزياء الشمسية
تفترض فيزياء النجوم أنه كلما تعمقنا في بلازما النجم، زادت قيم الضغط فيه وصار أكثر حرارة. كثافة الغلاف الجوي الخارجي للشمس، أي الهالة الشمسية، هي منخفضة. كما أن حرارتها الفعلية (محتوى الطاقة لكل سنتيمتر مكعب) هي منخفضة أيضاً، حيث تنتج جزءاً واحداً من مليون جزء من ضوء سطح الشمس المرئي، أي غلافها الضوئي، على عمق 1,600 كم أسفل. ولكن مع أن بلازما الغلاف الضوئي هي أعلى كثافة بـ 10 ملايين مرة من الهالة الشمسية، إلا أن درجة حرارتها (مقياس لسرعة حركة الجسيمات) تبلغ 6,000°س فقط مقارنةً بدرجة حرارة الهالة الشمسية البالغة مليون درجة مئوية. لماذا؟ تُعرف هذه المفارقة بـ”مشكلة التسخين الإكليلي“ Coronal heating problem.
تساعد أرصاد باركر في حل هذا اللغز الذي طال أمدُه. تدعم أرصاده تفسيرين رئيسين. أولاً، الظاهرة الموجية Wave phenomenon: تمور الشمس باستمرار بطاقة ميكانيكية؛ حيث تتدفق خلايا ضخمة من البلازما المشحونة إلى الخارج مثل فقاعات في ماء يغلي، وتولِّد حركتها مجالات مغناطيسية متشابكة تطلق موجات مغناطيسية في الغلاف الجوي الخارجي. ترسل هذه الموجات جسيمات مشحونة تُدوِّم إلى الغلاف الجوي الخارجي، مما يؤدي إلى حدوث ”تعرُّجات“ مسببة للحرارة. ثانياً، التوهجات النانوية: قد يكون التسخين الإكليلي ناتجاً عن نفاثات بلازما صغيرة قصيرة العمر، بحرارة تبلغ نحو مليون درجة سيليزية، وتنبعث بنحو متقطع عبر كامل السطح. ومثل التوهجات الشمسية الأكبر، تنتج هذه التوهجات عن إعادة الاتصال المغناطيسي، عندما تتشابك خطوط المجال وتعيد انتظامها بنحو متفجر، مما يؤدي إلى تسريع الجسيمات خلفها وتسخينها. وتؤدي هذه ”النفاثات الصغيرة“ مجتمعةً إلى تسخين الهالة العلوية قبل أن تهرب على شكل رياح شمسية.
عدّ الرياح
في هذه الأثناء، كان هناك جهاز تجربة ثانية، هو SWEAP (اختصارٌ لـ Solar Wind Electrons Alphas and Protons، ويعني: الإلكترونات، وجسيمات آلفا، والبروتونات في الرياح الشمسية)، يحصي أعداد جسيمات الرياح الشمسية الأكثر وفرة والأحدث عمراً فيها الإلكترونات والبروتونات وأيونات الهيليوم ويقيس درجة حرارتها وسرعتها وكثافتها واتجاهها. عندما عبر باركر السطح الحرج لموجات ألففين وهو ذلك الحد الذي تتحول عنده الشمس إلى رياح شمسية لم يجد سلاسة في طبيعة الرياح الشمسية، وبدلاً من ذلك، كشفت الأداة SWEAP عن وجود تذبذبات، بصورة بروزات وانخفاضات، وعَزَتْها إلى تيارات إكليلية: نفاثات عملاقة من مادة شمسية ترتفع عبر الغلاف الجوي للشمس.
كان مفتاح نجاح تجربتي FIELDS وSWEAP هو قياساتهما القريبة وعالية الدقة وغير المسبوقة، حيث تمكنتا من حل التفاعلات بين الموجات والجسيمات في مدة أجزاء من الثانية فقط.
مزايا تصميم المسبار باركر
كيف تصنع مركبة فضائية يمكنها العمل على مسافة قريبة جداً من الشمس
لتحمُّل الحرارة والإشعاع الشديدين في الجوار المباشر لنجمنا، زُوِّد المسبار باركر الشمسي بدرع حماية شمسية سداسية الشكل، بقطر 2.3 م، يزن 73 كغم فقط، ومثبت على طرفه المواجه للشمس.
يبلغ سُمك هذه الدرع 11 سم، وتتكون من لوحين من مركب الكربون المقوى الثوري مع باطن من رغوة الكربون خفيفة الوزن. تقلل طبقة سطحية من الألومينا (أكسيد الألومنيوم) البيضاء العاكسة من الامتصاص؛ ومن ثم يمكنه تحمُّل درجات حرارة تصل إلى 1,370°س تقريباً، ليحمي حمولته من المعدات العلمية بدرجة حرارة معتدلة تبلغ 29°س.
تختبئ أنظمة باركر وأجهزته خلف الجزء المركزي من ظل الدرع، حيث تحجب إشعاع الشمس بالكامل. ومن دون هذه الدرع، سيتعطل المسبار في غضون ثوانٍ. ومع ذلك، يمكن أن يستمر انقطاع الاتصال اللاسلكي لأسابيع، ويأخذ وصول الاتصال اللاسلكي ثماني دقائق. ولكي يحمي نفسه، يعمل المسبار باركر بنحو مستقل: فبمجرد أن تكتشف أربعة أجهزة استشعار ضوئية آثار انبعاث مباشرة لأشعة الشمس من حدود الدرع، تنشط عجلات رد الفعل لإعادة المركبة إلى داخل الظل.
تُشَغَّل المركبة الفضائية نفسها بنظام مزدوج من الألواح الشمسية مصفوفات لوحات كهروضوئية. تتراجع المصفوفة الأولية، التي تُستخدم عندما تكون المركبة على بعد أكثر من 0.25 وحدة فلكية من الشمس، خلف الدرع في أثناء الدنو القريب. أما المصفوفة الثانوية الأصغر حجماً، فتستخدم سائل تبريد الأمونيا الذي يُضخ للحفاظ على درجة حرارة التشغيل، وتُستخدم عندما يقترب باركر من الشمس.
التجربة الثالثة على مسبار باركر هي جهاز WISPR (اختصارٌ لـ: Wide-Field Imager for Solar Probe، ويعني: جهاز التصوير واسع المجال على المسبار الشمسي). تمتلئ مجموعتنا الشمسية بالغبار، وهو إرث التصادمات داخل السديم الشمسي قبل بلايين السنين التي أنتجت الكواكب والكويكبات والمذنّبات وأجراماً سماوية أخرى. كان عالم الفلك الأمريكي هنري نوريس راسل Henry Norris Russell (1877-1957) قد تنبأ بأنه عند مسافة أقرب إلى الشمس يجب أن يكون هذا الغبار قد تسخَّن إلى درجات حرارة عالية، وأن الجسيمات الساخنة قد تسامت وتلاشت، تاركةً خلفها منطقة خالية من الغبار. يرى الجهاز WISPR مساحات واسعة من الهالة والرياح الشمسية، وتكشف صوره أن الغبار يبدأ فعلاً بالترقق في منطقة تبعد 13.2 مليون كم عن نجمنا، ويتناقص بثبات إلى حدود العمل الحالية للجهاز WISPR، على مسافة 6.5 مليون كم أقرب داخلاً.
كما سجلت الصور ثلاثية الأبعاد التي التقطها الجهاز WISPR الصدماتِ وغيرَها من البنى في الهالة والرياح الشمسية، بما في ذلك الانبعاثات الكتلية الإكليلية. وبما أن سرعة باركر تتطابق مع سرعة تدويم الشمس، فقد راقب العلماء تدفقات المادة طوال أيام، ورأوا أن الرياح الشمسية ليست سلسة كما اعتقدوا من قبل.
وفي أثناء العبور الثالث لباركر قرب كوكب الزُّهرة، وتحليقه في ظله مدة 11 دقيقة، فقد عبر ”ذيل“ الجسيمات المشحونة للكوكب. ونظر المسبار من خلال الغطاء السحابي الكثيف للزُّهرة لالتقاط الصور الأولى على الإطلاق لسطحه ليلاً بأطوال موجية مرئية، وفي العام 2020، رصد المسبار وجود حافة ساطعة تحيط بالكوكب يُعتقَد أنها توهُّج ليلي ناتج عن إعادة اتحاد ذرات الأكسجين في جزيئات عالية في الغلاف الجوي للكوكب.
كاشفات الجسيمات
أما الجهاز الرابع على متن باركر، واسمه (اختصارٌ لـ Integrated Science Investigation of the Sun، ويعني: التحقيق العلمي المتكامل للشمس)، فيتكون من كاشفين أو أداتي استشعار الجسيمات النشطة Energetic Particle Instruments (اختصاراً: الجهاز EPIs)، وقد انهمك الكاشفان بقياس الجسيمات الشمسية النشطة الصغيرة الإلكترونات والأيونات التي يسرِّعها النشاط الشمسي إلى عواصف تنطلق خارجاً بعد ذلك بسرعة تقرب من سرعة الضوء، لتصطدم بالأرض بعد عدة دقائق. يستخدم الكاشف (EPI-Lo) 80 جهازاً لقياس الجسيمات ذات الطاقة المنخفضة في مجال الرؤية الواسع، في حين يستخدم الكاشف (EPI-Hi) ثلاثة أجهزة استشعار للجسيمات لقياس تلك الجسيمات الأعلى طاقة.
وعند الاقتراب الشديد للمسبار باركر من الشمس، سيتمكن الجهاز من كشف 100,000 جسيم في الثانية، ليلقي الضوء على كيفية انطلاقها، ويكشف عن أحداث جسيمات نشطة لم تُرَ من قبل. كما قاس كاشفاه أيضاً أنواعاً نادرة من رشقات الجسيمات التي تحتوي على أعداد كبيرة من عناصر أثقل، مما يشير إلى أن هذه الأحداث شائعة، وأنها تحتوي على مجال واسع من أنواع الجسيمات، وأن مساراتها يعاد توجيهها وإطالتها بفعل التعرجات المذكورة سابقاً.
يبعد باركر الآن مسافة 694,000 كم عن سطح نجمنا، ويتحرك بسرعة 3,600 كم/الساعة. ولكن بعد منتصف العام 2025 ستنتهي رقصته المحسوبة مع الشمس. ومع استهلاكه لوقود الهايدرازين Hydrazine، لن يكون هناك مزيد من عمليات التصحيح لمداره، ولن تكون هناك قدرة على تحريك عجلات التفاعل لإعادة تموضع هوائي الاتصال، أو إعادة تموضع الدرع الحرارية. سيتفكك المسبار، ولن يبقى منه سوى القرص الكربوني لدرعه الأمامية التي تدور حول الشمس.
كاتبة في علوم الفلك، ومؤلفة دليل هاينز الفلكي Haynes Astronomy Manual.