أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
التاريخ

وظننّا أن الإنكا لم يستطيعوا الكتابة. هذه العُقَد تغيّر كلّ شئ

لغة مفقودة مُرمَّزَة في عُقد الحبال الملتوية تكشف خباياها أخيرا – وقد تغيّر ما نعرفه عن ثقافة الإنكا وتاريخهم.

بقلم: دانييل كوسينس
ترجمة: محمد قبازرد

لم يترك الإنكا أدنى شك في أن حضارتهم كانت حضارة متفاعلة وذكية تقنيا. إذ كانت، في ذروتها بالقرن الخامس عشر، الإمبراطورية الأكبر في الأمريكتين، ممتدّة تقريبا 5000 كيلومتر من الإكوادور اليوم إلى تشيلي. فهؤلاء هُم القوم الذين شيّدوا صرحا ملكيّا طاول السّحب عرف بـ ماتشو بيتشو [القلعة الضائعة] Machu Picchu ، وبنوا شبكة واسعة من الطرق المعبّدة كاملة مع جسور معلّقة من العشب المنسوج. لكن التناقض في حالة الإنكا هو أنه على الرغم من كل هذا التعقيد، لم يتعلّموا الكتابة قطّ.

أو هل علموها؟ ربما لم يترك أيّ سجل مدوّن، ولكنّهم خلّفوا حبالا معقودة ملوّنة، سُمّي كل واحد من هذه الأدوات “كيبو” Khipu. ونحن نعلم أن هذه الحبال المتشابكة بدقة هي عبارة عن َعدّاد خرزيّ لتدوين الأرقام. ولكن، كانت هناك إشارات مُحيِّرة على أنّهم ربّما رمَّزوا أساطير وأغاني وقصصا فقدت منذ أمد بعيد أيضا.

وعبر قرنٍ من البحث لم يتمكن أحد من جعل هذه العقد تتكلّم. ولكنّ الاكتشافات العلمية الأخيرة بدأت بفكّ هذا اللغز الغامض من الأنديز، كاشفة أولى علامات الرّمزية الصوتية اللفظية لهذه الخيوط. والآن يشارف عالمان أنثربولوجيّان على حل ما يعادل حجر رشيد Rosetta Stone في هذا الصّدد؛ مما قد يفكّ الشيفرة في نهاية المطاف ويغيّر إدراكنا للحضارة التي قد سرد تاريخها فقط من خلال عيون الأوروبيين الذين حاولوا التقليل من شأنها.

مع بداية العقد الثالث من القرن السادس عشر، صادف الفاتحون الإسبان فرانسيسكو بيتزارو Francisco Pizzaro “الإنكا” لأول مرّة. وذهل الفاتحون بالمدائن الصخرية العظيمة الضخمة وبالذهب وبالكنوز. ولكن، مع فرض الإسبان سّيطرتهم على إمبراطورية الإنكا وفرض طقوسهم عليها، صاروا مفتونين بنّمط تنظيم مجتمعه.

قصر إنكا الملكي المعروف بـ ماتشو بيتشو

حكم الإنكا العشرة ملايين نسمة الخاضعين لحكم مملكتهم ضمن ما تسامى ليكون نظاما فيدراليا. فقد تركّزت السّلطة في منطقة كوسكو Cusco بالجنوب عند حدود دولة بيرو اليوم، ولكن السلطة تقسَّمت عبر عدّة مستويات هرمية عبر سلسلة ولايات فرعية ذاتية الحكم. ولم يكن هناك مالٌ ولا سوقٌ اقتصادية. وكان إنتاج وتوزيع الطعام والسلع محكوما بشكل مركزي. وكانت للشعب أراضيهم الخاصة ليزرعوها، إلا أنّ كلّ فرد كان يُمنح ما يلزمه من ضروريّات من قبل مخازن الدولة ومستودعاتها كأجرة مقابل عمل، وكل ذلك يُدار من خلال نظام ضريبي متقن جدا.

” فكّ شيفرة الكيبو، وعلّنا في نهاية الأمر نقرا تاريخ الإنكا الأصلي.”

لقد تجادل المؤرّخون فيما لو كانت إمبراطورية الإنكا اشتراكية مثالية فاضلة أم ملكيّة قهرية استبدادية. غير أنّه لا يختلف أحد على كفاءتها. ويقول غاري أورتون Gary Urton الإنثربولوجي من جامعة هارفارد Harvard University: “إداريا أتكلّم، كان نظاما خارقا ومحكما جدا، ويبدو أنه قد عمل بشكل جيّد.”

 وكانت البيانات الموثوق بها المتمثلة بالتّعداد السّكاني والسّجلات الضّريبية وعمليات جرد المخازن والمستودعات، مفتاحَ ذلك النّجاح. لهذا اعتمد الإنكا على الكيبومايوك Khipumayuq أو كتبة الكيبو وهم طاقم خاص مدرّب بمقدوره عَقْد الحبال وقراءتها.

وتتألّف أغلب حبال الكيبو المتبقية لدينا اليوم من حبل رئيسيّ بسمك قلم رصاص، تعلق به قلائد من حبال، تعلق بها بدورها توابع فرعية خيطية. ووصف الإسبان كيف كانت الحبال تسجل كل المعلومات بأنواعها. وفي عام 1609، كتب الشاعر غارسيلاسو دي لا فيغا Garcilaso de la Vega، هو ابن أميرة من الإنكا وفاتح إسباني، أنه كان لديهم: “منهج مثير للإعجاب لعدّ كلّ شيء في مملكة إنكا، شاملا كلّ الضرائب والأتاوات المدفوعة والمستحقّة، والذي أحصوها بعقد الخيوط المختلفة الألوان.”

ولدينا من الأسباب ما تدعونا إلى الاعتقاد أن حبال الكيبو قد تدوّن أشياء أخرى، مرورا بالقصص والحكايات والأساطير والخرافات، وأشياء من قبيل المعلومات السّرديّة التي تكتبها كثير من المجتمعات. وكان دي لا فيغا واحدا من الكثير من المؤرخين الذين لمّحوا إلى هذا، كاتبا في أحد نصوصه أنّ الإنكا “دوّنوا كل ما يمكن عدّه على العقد، حتى ذكر الحروب والنزاعات، والوفود التي زارتهم، وكافة الخطابات والمداولات التي كانوا قد تلفّظوا بها.” هذا صحيح، وصحيح أن دي لا فيغا كان ميّالا إلى الغرائب ومولعا بالتناقضات. ولكن، يبدو أنّ ثلث الكيبو تقريبا معقود بحياكة دقيقة محبوكة أكثر من البقية، وكأنها تتضمّن نوعا مختلفا من المعلومات. وكانت هذه الحيثية محطّ جدل لعقود من الزمن، ولكن لم يكنْ بمقدور أحد ما قراءتها.

وأتت أولى دلالات الإفصاح عن خبايا الكيبو في عشرينات القرن الماضي، حين حلّل الإنثربولوجي ليلاند لوكي Leland Locke مجموعة منها محفوظة في المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي American Museum of Natural History في نيويورك. وقد تنبّه ليلاند لأنّ العقد مرتّبة في صفوف كصفوف حبات الخرز في أداة العدّاد تقريبا (انظر: الشكل). كما لاحظ أنّ كلّ صفّ من العقد على ارتفاع معيّن دلّ على وحدات – عشرات ومئات، وهلم جرّا – الأمر الذي وافق نسق النظام الحسابي العشري الذي استخدمه الإنكا لتقسيم المجموعات لأغراض ضريبية.

أجّج هذا الاكتشاف موجةً من الاهتمام بالكيبو. ولكن، وحتى حلول عقد التّسعينات من القرن الماضي، لم تكن لدينا أدنى فكرة عما تعنيه هذه الأعداد. ويتساءل أورتون: “هب أنك قرأت العدد 76 مثلا، لأي شيء يعود يا ترى؟”

لتجيب عن ذلك، سيتعين عليك تباعا ترجمة الكيبو إلى لغة دارجة. سيكون الأمر مكافئا لحجر رشيد الذي حوى ترجمة من اللغة المصرية الهيروغليفية إلى نظيرتها الإغريقية القديمة. وفي غياب مثل هذا الحجر، أمضى أورتون السنوات الخمس والعشرين الأخيرة بعناية متتبعا التحويل الرقمي لتفاصيل كل حبل كيبو كان بمقدوره العثور عليه في المتاحف أو المقتنيات الخاصة عبر العالم. واليوم، يحوي مشروعه الخاص بقاعدة بيانات الكيبو تفاصيلَ تسعمئة حبل منها.

هناك عوامل متغيّرة شتى في حبال الكيبو: لون الخيوط، وتصميم العقد، والاتجاه الذي شدّت إليه. وبقضائه ساعات لا تحصى متأملا لها ومستغرقا فيها، بدأ أورتون يؤمن بأن الاختلافات الثنائية المزدوجة لأشكال هذه العقد قد تكون ترمز إلى معلومات معينة. وعلى سبيل المثال، العقد العادية المربوطة باتجاه واحد قد تعني “مدفوع” بينما بالاتجاه الآخر ستعني “غير مدفوع”. وبحلول عام 2012 كان أورتون قد طوّر فرضيّة أكثر دقة مقترحا أن الاتجاه الذي شدّت إليه العقد، وألوان الخيوط، وبعض التراكيب من هذين المظهرين الاثنين، تطابقت مع الحالة الاجتماعية للأفراد الذين وثّقت ضرائبهم المالية، بل وأسماءهم. ولكن من دون ترجمة الكيبو، يبدو مقدّرا لهذه الفكرة أن تظلّ غير مُختبَرة.

لاحقا في عام 2016 كان أروتون يستعرض مكتبته الخاصة عندما انتقى كتابا تضمّن وثيقة التعداد السكاني الإسباني لحقبة العقد السابع من القرن السابع عشر 1670. وكانت تلك الحقبة التي لقّبها المستعمرون بحقبة الريفيستا Revisita -أي حقبة إعادة التقييم أو الغربلة- للعشائر الست الساكنة حول قرية ريكوي Recuay في أقليم وادي سانتا فالي Santa Valley غرب دولة بيرو اليوم. وأُعدَّت هذه الوثيقة في الإقليم نفسه وفي الوقت نفسه اللذين تأتي منهما قاعدة بيانات تتألف من ستتة حبال كيبو، أي نظريا يتعين أن يرصد السجل والكيبو الأرقام نفسها.

وبمراجعته للوثيقة، فقد وجد أورتون أن هناك 132 من دافعي الضرائب قُيّدوا في الوثيقة وهناك 132 حبلا على الكيبو. وتوافقت أيضا التفاصيل الدقيقة، إذ تطابقت الأعداد على الحبال مع الغرامات التي ذكرت الوثيقة أنها قد سُوّيت. بدا أن هذا هو التطابق الذي كان قد بحث عنه منذ أمد بعيد.

وعلى الرغم من ذلك، فقد كان أورتون يكافح ليميّز بين التفاصيل للعلاقات بين حبال كيبو وادي سانتا فالي من جهة، والوثائق الإسبانية من جهة أخرى. وانتهى به الأمر إلى السماح لطالب من جامعة هارفارد يدعى ماني ميراندو Manny Merando بأن يلقي نظرة على الموضوع. ونال ميراندو الإطراء التام لمهاراته. وكان يتحدّث اللغة الإسبانية الأم، وكان متخصصا بالاقتصاد، كما كان نابغة في جداول البيانات. أنشأ ميراندو جداول بيانات الكيبو بعناء بالغ، ونقّب فيها باحثا عن نماذج توافقية. في هذا العام وللمرة الأولى، أظهر هو وأورتون أن النمط الذي شدّت من خلاله القلائد الخيطية على حبل الكيبو الرئيسي يحدّد أيّ عشيرة ينتمى إليها الفرد.

يقول جيفري سبلتستوسر Jeffery Splitstoser من جامعة جورج واشنطن George Washington University في العاصمة واشنطن، الذي يتخصّص بكيبو إمبراطورية واري Wari Empire  التي سبقت الإنكا: “إنه حقا إنجاز مهم، إنه يمنحنا أسلوبا جديدا لنفسّر هذه المعطيات.” لا يزال السؤال عالقا إلى الآن: فيما لو تضمّنت حبال الكيبو هذه قصصا أيضا.

لم يكنْ أورتون الساعي الوحيد إلى إيجاد معنى للأعداد والأسماء لحبال الكيبو. فقد أمضت سابين هايلاند Sabine Hyland عالمة الأجناس البشرية في جامعة سانت آندرو St Andrews University بالمملكة المتحدة، العقد الماضي باحثة في منطقة الأنديز الوسطى عن مجتمعات ذوات تقاليد كيبوية عريقة باقية. وتبدأ سابين بالبحث عن ذكر للكيبو في السجلات الأرشيفية قبل السفر إلى القرى النائية على أمل أنها كانت لا تزال محفوظة هناك.

وتفشل هذه الاستراتيجية أكثر مما تصيب، إلا أن إصرار هايلاند في عام 2015 أتى بثماره. فبعد مشاهدة برنامج وثائقي عن عمل هايلاند، اتصلت سيدة من ليما -عاصمة بيرو- بخصوص حبال الكيبو في قرية سان خوان دي كوياتا San Juan de Collata النائية حيث ترعرعت. ودعيت هايلاند لرؤية حبليْن اثنيْن من الكيبو بعد أشهر من المفاوضات مع المجتمع البيروفي. وظنّ القرويّون أن هذيْن الحبليْن كانا عبارة عن رسالة عقائدية صوتية أعدها زعماء محليون خلال الثورة ضد الإسبان في أواخر القرن الثامن عشر. حينها، تكلم الناس الإسبانية أيضا، ولذلك هناك سجلّات مدوّنة متوافقة مع الحدث.

حفظت حبال الكيبو بعيدا في غرف تحت الأرض في كنيسة القرية. وكانت هايلاند وزوجها أول الأجانب الذين رأوها، ولم تكن هايلاند محبطة إذ تقول: ” كانت لحظة لا تصدّق، ولكن لم يكن لديّ متسع من الوقت لأبهر لأن هذه اللحظة كانت هي فرصتي الكبرى لأدرسها وليست لديّ فسحة زمنية طويلة لهذا.” كانت لديها 48 ساعة قبل اضطرار خازن كنوز القرية والمسؤول عن حبل الكيبو للسفر والالتحاق باحتفال حيّ مجاور.

” نظام الكتابة ثلاثي الأبعاد فهو يعتمد على اللّمس وكذلك النّظر.”

تحت رقابة مشدّدة، صوّرت هايلاند الحبالَ وراجعت الكتابات وسجّلت الملاحظات. واحتوى كل حبل كيبو على مئات العلائق والقلائد الخيطية التي كانت أكثر رونقا وإحكاما من أي شيء كانت قد رأته على الإطلاق. كان واضحا أنّ بالإمكان التعرّف على ألياف أحشاء الحيوانات المختلفة المستخدمة بواسطة اللّمس فقط. وأخبرها القرويّون أن حبال الكيبو كانت “لغة الحيوانات” وشدّدوا على أنّ هذه الألياف لها أهميّتها.

كشف تحليلها أخيرا أن القلائد الخيطية أتت على هيئة 95 مزيج مختلف من الألوان، ونوع الليفة، واتجاه ثنية العقدة. وكان هذا ضمن نطاق من الرموز التي توجد بشكل مثالي في نظام الكتابة المقطعية Syllabic Writing System حيث يصطفّ صفّ من الرموز (فلنقل مثلا الحروف ق-ط-ة) مع صوت للفظة ( كلمة ” قطّة “). وتقول هايلاند: “قلت لنفسي هذا رائع قد يكون هذا نظام كتابة مقطعية؟’” ومنذ ذلك الحين افترضت هايلاند أن حبال الكيبو تتضمّن تركيبا من الرموز الصوتية والكتابية معا، حيث الرمز يشي بالكلمة ككل.

وعمدت هايلاند في مطلع هذا العام [2018] إلى قراءة قليل من حبال الكيبو. إذ تقول: “حين تعمل على فكّ شفرة أي شيء، فإنّ إحدى أهم الخطوات في هذا المسعى على الإطلاق هي أن تتبيّن أيّ المعلومات التي قد تكون كُرّرت في مواضع عدّة.” ولما كان يعتقد أن حبال كيبو قرية كوياتا هي حروف، فعلى الأرجح أنها رمّزت المُرسلين والمستقبِلين. هنا حيث بدأت هايلاند بحثها، فقد عرفت من القرويّين أن الحبل الرئيسي لأحد الكيبوّات تضمّن شرائط تظهر وسام Insignia واحد أو اثنين من زعماء العشيرة.

سابين هايلاند وهي تمسك بواحدة من كيبوات قرية كوياتا المذهلة.

غامرت هايلاند واعتبرت أن الشرائط تعود إلى شخص يدعى Alluka – تلفظ أيوكا – واعتبرت أيضا أنه ربما كان كاتب هذه الرسالة قد ذَيَّل اسمه في نهايتها، الأمر الذي يعني أن آخر ثلاث قلائد خيطية يمكنها أن تعرض بوضوح المقاطع “أي” “يو” “كا”.

اللغز الغامض

على فرض أنّ ذلك كان صحيحا، فقد بحثت هايلاند عن حبال على كيبو ثانٍ له اللون نفسه والعقد المربوطة نفسها كما في الحبال التي كانت قد عاينتها بعناية على الكيبو الأول. وتبيّن أن أوّل حبليْن من آخر ثلاثة حبال تطابقا، وهو التطابق الذي تمّم المقطع اللفظي “أكا”؛ المقطع اللفظي الأخير كان مبهما. وكانت الليفة الحبليّة عبارة عن ليفة بنّية مذهّبة صنعت من شعر الفينوكا، وهو حيوان من فصيلة الجمليّات. أدركت هايلاند أنّ المصطلح الخاص لهذه الصّبغة في اللغة المحلية الكيشوانية هو “بارو” Paru، كما أن محاولة جمع هذا المصطلح مع سائر المقاطع الصوتية أعطت -مع قليل من التّصرّف- اسم عشيرة “ياكابار” Yakapar الذي اتّضح أنه كان اسم سلالة أخرى شاركت في الثورة التي وثّقتها حبال الكيبو هذه.

وتضيف هايلاند: “نحن نعلم من الشهادات المكتوبة أن أحد حبال الكيبو صنع بواسطة عشيرة ياكابار، وأرسلت إلى قرية كوياتا، ونحن نعتقد أن هذه هي الحبال.” وتزعم هايلاند أن حبال كيبو كوياتا تحتوي بالفعل على قصة ما.

على كل، حتى لو أصابت هايلاند، فمن المحتمل أن هذه الحبال المكتشفة مؤخّرا تأثّرت بالكتابة الإسبانية. ويقول أورتون: “إحساسي هو أنّه لو كانت هناك أيّ عملية محاكاة صوتية Phoneticisation فهي إعادة لاكتشاف للكيبو.” قد يكون كيبو كوياتا بالمثل نسخة إقليمية، بل ربّما نسخة وحيدة.

فهايلاند هي أوّل من اعترف بأننا لا نفهم الربط بين هذه الكيبوّات وتلك العائدة زمنيا إلى ما قبل وصول الإسبان. وعلى الرغم من ذلك، فهذا لا يقلل من تشويقها. وتسترسل هايلاند قائلة: “حتى لو حُرِّفت هذه الكيبوّات المكتشفة مؤخّرا أو أثّر فيها أبجديّا، فما أزال أعتقد أنّ كون هؤلاء القوم طوّروا هذا الأسلوب الكتابي الملموس هو أمر مذهل مدهش.”

ستقضي هايلاند السنتيْن القادمتيْن باذلة جهدا أكبر في بيرو، محاولة تقصّي كيبو كوياتا، باحثة عن أمثلة شبيهة في مكان ما هناك.

ويسلّط أورتون حاليا انتباهه أيضا على الكيبو الصّوتي، على الرغم من أنّ لديه منظورا مختلفا عن كيفية ترميزها للمعلومات. إذ يشكّ في أنها عملت بالنظام السيماسيوغرافي Semasiographic System وهو نظام الرموز الذي ينقل المعلومات دون التقيّد بلغة واحدة محدّدة. وبعبارة أخرى، ستكون لغة قريبة من لغة علامات الطريق، إذ كلنا يعلم ماذا تعني الرّموز دون حاجتها إلى إصدار أيّ صوت. ويقول أورتون: “أخذا بالاعتبار أنّ الإنكا أداروا حضارة متعدّدة الأعراق واللغات، يبدو هذا الرأي منطقيا.”

ليس هناك دليل قاطع أنّ أيّ إسباني عاش تلك الحقبة تعلم القراءة أو الكيبو أو إعداده. ويترتّب على هذا أن الكيبو كانت أكثر تعقيدا من الكتابة التقليدية، أو ربما أكثر اختلافا وتباينا من الناحية المبدأية. تقول هايلاند: “إنه نظام الكتابة الذي هو في جوهره نظام ثلاثي الأبعاد، معتمد على اللمس اعتماده على النظر.” وهذا يضعنا أمام لغز غامض فريد من نوعه.

إنه يمنحنا أيضا مفهوما مهما. ولو استخدم الإنكا الكيبو بهذه الطريقة، لأخبرنا هذا الأمر بنظرتهم للعالم. وتضيف هايلاند: “مع نظام كتابي معتمد على اللمس، يتعين عليك امتلاك أسلوب مختلف للعيش في هذا العالم.”

كادراختراعات الإنكا

إنك تحتاج فقط إلى النظر إلى الموقع الأثري لتوماماتشي Tombomachy في بيرو لترى كم كان الإنكا خلاّقين مهرة. ويقع الموقع بقرب منطقة كوسكو Cusco التي كانت ذات مرة عاصمة إمبراطورية الإنكا، ويتضمّن هذا الموقع صخورا مدرّجة تتخلّلها ممرات وقنوات مائية. نحن لا نعرف وظيفتها، ولكن ربما كانت ثكنة عسكرية أو منتجعا لصفوة الساسة الإنكا. بكلا الحاليْن، إنها تبيّن كيف أنّ بمقدور هؤلاء القوم أن يُنظموا العمل ويشيّدوا مثل هذا الموقع.

فوق رقعة مسطّحة صغيرة وسط مناطق جبلية حيث عاشوا، شيّد الإنكا أيضا شرفات لزراعة المحاصيل. ويعتقد أنهم ابتكروا محطات للتجارب الزراعية أيضا، حيث اختبروا المحاصيل التي بمقدورها النمو أفضل على شرفات متفاوتة الارتفاع.

ويبدو الأمر غريبا أن كل هذا الإتقان ظهر، ولكن الكتابة لم تظهر. وهذا أحد أسباب الاعتقاد أنّ حبالهم المعقودة قد تدوّن الأفكار والحكايات، وليس الأعداد فحسب (انظر: المقال القصة الرئيسية).

فقد اهتموا كثيرا بنقل الكيبو. وكان الرسل يطوون الحبال فوق أكتافهم ويركضوا بها عبر إمبراطورية الإنكا. وللسفر عبر الإقليم بنيت شبكة كبيرة من الطرق، كما شيّدت جسور مرصوفة بالأعشاب. والجسر الأخير الباقي المعروف بـ كويشواشاكا Queshwachaca  هو جسر يعلو نهرا في الأنديز. ويتعاون السكان المحلّيون معا كلّ عام ليجدّدوا حبال الأعشاب المرصوفة فيه.

دانييل كوسينس Daniel Cossins هو عضو هيئة تحرير نيوساينتيست.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى