أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
فضاء

تدفقات الراديو السريعة: أخيرًا فك شيفرة رسائل من الفضاء العميق

إشارات غريبة من الفضاء تُدعى تدفقات الراديو السريعة أربكت الفلكيين لسنوات. وثمَّة موجة جديدة من الرصد تبدو مُهيَّأة لكشف الغموض

بقلم: دانييل كوزينز

ترجمة: تامر صلاح

نقطة اهتمام بسيطة بشأن تدفق سبيتلر Spitler Burst، وهي عنوان الموضوع الذي اختاره بول شولز Paul Scholz لرسالته الإلكترونية التي كانت جافة بشكل متعمد، لكن متسلمي الرسالة عرفوا على الفور معنى المحتوى. كان يعكف على كشفٍ من شأنه أن يحل أكبر لغز في علم الفلك.

كان ذلك في 5 نوفمبر 2015 عندما قضى شولز، وهو طالب دراسات عليا في جامعة ماكغيل McGill University في مونتريال بكندا، سنواتٍ في البحث عن بيانات من أكبر تلسكوب راديوي في العالم. وكانت شاشة الحاسوب تحدق في الناظر عارضةً خطوط التقويس Curving lines ، كل منها ومضة محتملة في سماء الليل. وفجأة، أدرك شولز أن أحدها بدا مألوفًا. كانت النبضات الراديوية بالمِلًي ثانية تنفجر من مجرة بعيدة بكثافة Intensity 500 مليون شمس – ولم تكن المرة الأولى.
يقول شامي تشاترجي Shami Chatterjee ، عالم الفلك في جامعة كورنيل Cornell University بنيويورك: «كان واضحاً على الفور أن هذا شيء مهم جدّاً». ولمدة عقد بعد أول اكتشاف لهذه الإشارات، المعروفة بتدفقات الراديو السريعة (اختصارًا: التدفقات FRB)، لم تكن لدينا أي فكرة عما يمكن أن يولدها. وتراوحت الاقتراحات من تصادم النجوم النيوترونية Neutron stars ، إلى الثقوب السوداء Black holes التي تقلب نفسها من الداخل إلى الخارج، إلى أشعة ليزر من مركبات فضائية غريبة Alien spacecraft. وحتى قبيل بضعة أشهر كانت لدينا أفكار تفوق قدرتنا على الرصد.
ومع ذلك، فمنذ الرسالة الإلكترونية لشولز، كان البحث عن مصدر التدفقات FRB يسير بخطى حثيثة، حيث تشير أدلة جديدة تحديدًا إلى مشتبه فيه غير عادي إضافة إلى أحدث التلسكوبات الراديوية التي تقدم أدلة جديدة. وحتى إذا لم يُحدّد السبب الدقيق قريبًا، فإن هذه الانفجارات الغامضة لا تزال تساعد على تسلط الضوء على الكون؛ مما يمنحنا لمحة عما يكمن في أكثر الفراغات إعتاما وبعداً في الكون. والتدفقات FRB ليست نادرة، فهي تمطرنا طوال الوقت من جميع الاتجاهات. غير أننا لم ننتبه لها لفترة طويلة؛ لأنها تختفي بمجرد ظهورها تقريبًا. وكان دنكان لوريمر Duncan Lorimer من جامعة وست فرجينيا West Virginia University والطالب ديفيد ناركيفيتش David Narkevic أول من رصدا واحداً من الانفجارات في عام 2007. وكان هذا بعد ست سنوات من اكتشافها مصادفة. كان الاثنان يبحثان في بيانات التلسكوب الراديوي المؤرشفة بحثًا عن ظاهرة مختلفة تماماً، النجوم الدوارة Rotating stars المعروفة بالبلسار (النجوم النابضة) Pulsars، عندما رأوا إشارةً غريبةً تباغتهم.

فهي تمكث لفترة من الزمن قدرها خمسة أقل من ملي ثانية، ويقدر أن انفجار لوريمر Lorimer burst أطلق كميةً كبيرة من الطاقة كالتي تنبعث من الشمس خلال شهر واحد. لم يكن هذا هو الشيء الغريب الوحيد حول هذه الإشارة. فقد وصلت موجاتها ذات التردد العالي في وقت سابق بجزء صغير من الثانية من موجاتها ذات التردد المنخفض؛ مما أعطاها مظهرًا غريبًا مشوهًا، كقوس قزح لضوء منبثق من منشور.
يدعى تشوش التلطيخ Smearing، هذا الناتج من تشتيت الضوء من الإلكترونات وجزيئات أخرى، بالتشتت Dispersion. وإذا قست كمية أكثر منها؛ فستكون قد سافرت أبعد وزادت المواد التي تمر عبرها من إشارة الراديو، أي هي أساساً علامة ذاتية على المسافة. وبناءً على مقياس التشتت لإشاراتها، قدّر لوريمر وزملاؤه أنها وصلت من مجرة تبعد نحو عدة بلايين من السنوات الضوئية.

أصول غامضة Mysterious origins
خمس نظريات قد تكون مصدر إشارات الفضاء المبهمة المعروفة بتدفقات الراديو السريعة (التدفقات FRB):
الشظايا الكونية Cosmic shrapnel
على الرغم من أن التصادمات بين الأجسام الفلكية الضخمة لا يمكن أن تُفسِّر تكرارَ التدفقات FRB (انظر: المقالة الرئيسية)، فقد يرجع منشأ الأحداث غير المتكررة إلى مثل هذه الانهيارات.
الثقوب السوداء Black holes
تحتوي كل مجرة في مركزها على ثقب أسود هائل. ومثلما تلتهم الغاز والغبار، فإنها تطلق في بعض الأحيان حزمةً من الإشعاع التي قد تتفاعل مع الجسيمات لإنتاج التدفقات FRB.
المذنبات المفقودة Lost comets
قد يكون لمذنبٍ محاصرٍ في سحب جاذبية نجم صغير كثيف بشكل لا يمكن تصوره، وربما ينفجر ذلك المذنب ويبعث موجات الراديو.
كائنات فضائية Aliens
اقترح بعض الباحثين النظريين أن التدفقات FRB ربما تكون نتيجة الحزم الراديوية المستخدمة لتشغيل الأشرعة الضوئية على متن مركبة فضائية غريبة.
الثقوب البيضاء White holes
إذا انقلبت الثقوب السوداء في النهاية نحو الخارج، فسيؤدي ذلك إلى التخلص من المادة بدلاً من امتصاصها، وقد تُطلق هذه المادة المحاصرة بطريقة تُولد التدفقات FRB.

إذا كنت تعتقد أن هذا يبدو سخيفًا، فأنت مع رفقة جيدة. فقد كانت الإشارة قوية بشكل لا يصدق، ويبدو أنها تنقلت مسافة طويلة دون أن تتأثر، لدرجة أن العديد من علماء الفلك واجهوا صعوبة في الاعتقاد أنها حقيقية. لكن في الأعوام الاثني عشر الماضية رصدت التلسكوبات الراديوية عشرات أخرى من التدفقات FRB، وكل ذلك مع قياسات التشتت التي تشير إلى أصول خارج المجرة. ومع ذلك، لم يكن هناك سوى إجماعٍ قليلٍ ذي أهمية حول ما يولدها.

تقول إميلي بتروف Emily Petroff ، عالمة فلك من معهد آسترون ASTRON، المعهد الهولندي للفلك الراديوي Netherlands Institute for Radio Astronomy: «من النادر أن يُقدّم إليك لغز من هذا القبيل»، «هذه الأشياء قصيرة جدًّا ويبدو أنها تأتي من أماكن بعيدة، بحيث يجب أن يكون المحرك المنتج لها شيئًا لا نظيرَ له في مجرتنا. مهما كان، لم نرَ أي شيء مثل ذلك من قبل».

مع وجود أمثلة قليلة يمكن الاعتماد عليها، فلا يسعنا سوى معرفة القليل. بينما يمنحك قياس التشتيت تقديراً تقريبياً للمسافة، لكنه لا يسمح لك بتحديد المجرات المضيفة. وهذا هو السبب في أن اكتشاف شولز بعام 2015 كان أمرًا مهمًا. وبفضل إشارة مكررة Repeating signal («مكرر Repeater» في دوائر فلك التدفقات FRB)، يمكنك العودة إلى الموضع باستخدام التلسكوبات ذات الدقة العالية وتحديد موقع المصدر بدقة أكبر.

هذا ما فعله تشاترجي وزملاؤه في أعقاب رسالة البريد الإلكتروني التي أرسلها شولز، وهو الآن في مرصد راديو دوميني للفيزياء الفلكية Dominion Radio Astrophysical Observatory بالقرب من بينتيكتون Penticton بكندا، وذلك بعد أن أقنعوا مصفوفة التلسكوب الراديوي الكبير جدّاً Very Large Array radio telescope في نيومكسيكو بالمغامرة بمنحهم وقتَ مراقبةٍ، وحدّدوا البقعة المناسبة في السماء. للغالب الأعم من 100 ساعة شاهدوا وانتظروا ولم يروا شيئاً. بعدها، حدثت ومضة! ثم ظهرت مرة أخرى، إشارة ثانية من المكان نفسه.

كان هذا هو تدفق سبيتلر، الذي سُمِّي على اسم عالمة الفلك لورا سبيتلر Laura Spitler التي شاهدته لأول مرة في 2 نوفمبر 2012، ويعرف رسميّاً بالتدفق FRB121102. ومنذ أن بدأنا الرصد المنتظم لها منذ أربع سنوات، فقد ظهرت مئات المرات. ويبدو توقيت تدفقاتها عشوائيّاً. ومع ذلك، تمكن علماء الفلك من استخدامها لمعرفة المكان الذي تنشأ فيه الإشارات. كما أفاد تشاترجي وآخرون في يناير 2017، أنها تأتي من مجرة قزمة Dwarf galaxy تبعد نحو ثلاثة بلايين سنة ضوئية عن الأرض.

وتلا ذلك المزيد من الأدلة على طبيعتها الحقيقية بعد عام، عندما نظر جيسون هيسلز Jason Hessels من جامعة أمستردام University of Amsterdam وزملاؤه عن كثب في الطريقة التي التوت بها Twisted الموجاتُ الراديوية المكررة Repeater’s radio waves أثناء انتشارها عبر الفضاء المعروفة بدوران فاراداي Faraday rotation، وهذا التأثير ناجم عن المجالات المغناطيسية Magnetic fields.

في البداية لم يجدوا شيئًا. ولكن عندما وسّعوا نطاق البحث للعثور على تأثيرات أكثر تطرفًا، حققوا نجاحًا: كان مقياس الدوران لتدفق سبيتلر FRB121102 كبيرًا بشكل لا يمكن تصديقه؛ مما يشير إلى تدخل مجالاتٍ مغناطيسية أقوى بكثير من أي شيء في مجرتنا، بما في ذلك الثقب الأسود الفائق في مركزها.

كان علماء الفلك يتطلعون إلى المشتبه فيهم المعتادين، بما في ذلك الثقوب السوداء القوية المذهلة (انظر: الأصول الغامضة). لكن لم تكن هناك طريقة لمعرفة أي منها المسؤولة، أو إذا كانت لها علاقة. ومن ثم هناك شكوك تُصّر على أن المجالات المغناطيسية الشديدة التي واجهتها التدفقات FRB ربما نجمت عن شيء في طريقه إلينا، بدلاً من أن تكون المصدر الذي نتجت منه الموجات.

حان وقت تشايم Time to CHIME

حتى مع توسع تدفق سبيتلر مرارًا، لم يكن هناك ما يكفي للاستمرار. لذلك في أوائل عام 2019 كان علماء الفلك في جميع أنحاء العالم ممتنين عندما أعُلن أن نوعًا جديدًا من التلسكوب يسمى التجربة الكندية لرسم خرائط كثافة الهيدروجين Canadian Hydrogen Intensity Mapping Experiment (اختصارًا: التلسكوب تشايم CHIME) حقق تقدمًا جديدًا، حتى قبل تشغيله بكامل طاقته.

صُمّم التلسكوب تشايم لرسم خرائط ثلاثية الأبعاد لغاز الهيدروجين في الكون المبكر، الذي يتوهج بضعف في الترددات الراديوية. بينما كان يُشيّد في وادٍ مُشجر بالقرب من بينتيكتون، أدرك الباحثون عن التدفقات FRB أنه سيكون أيضًا مثاليّاً لرصد ما يبحثون عنه.

وما يميز التلسكوب تشايم هو مجال الرؤية الواسع. فبينما تدرس معظم التلسكوبات الراديوية جزءاً صغيراً من السماء، فإنّ هذا التلسكوب يفحص نصف الكرة الأرضية الشمالي بالكامل يوميّاً. ويولد هذا سيلاً غير مسبوق في البيانات ومن المستحيل التدقيق فيه دون مساعدة من الخوارزميات المتطورة.

بحلول صيف عام 2018 كان التلسكوب في مرحلة ما قبل التشغيل؛ مما يعني أنه لم يكن يعمل بكامل طاقته. ومع أن مكونات التلسكوب قيد التثبيت، فإن النظام كان يعمل بجزء بسيط من قدراته التصميمية. ومن ثم، فاجأ الجميع عندما ظهرت التدفقات FRB وسط الفوضى المنظمة. 13 منها، ليصل المجموع إلى 65. «كان هذا احتفالًا كبيرًا»، كما تقول فيكتوريا كاسبي Victoria Kaspi من جامعة ماكغيل، التي تقود تعاون تلسكوب تشايم.

بعدها في بداية عام 2019، احتفلوا مرة أخرى، وتقول كاسبي: «تابعنا ما رأيناه، ثم لاحظ أحدهم وجود تدفقين من الموقع نفسه». ومن حيث لا ندري، كان لدينا مكرر ثانٍ.

أظهرت إشارة التكرار الجديدة، المعروفة بالتدفقات FRB180814، أن المكرر الأول لم يكن مصادفة. ونظراً لأننا وجدنا مكرراً آخَرَ في أول مجموعة من التدفقات التي اكتشفها تشايم ، فقد تكون المكررات شائعة.

والأهم من ذلك، أنه فقد كان هناك تشابه لافت بين الإشارتين. وكان لكل منهما سلسلة من النبضات الفرعية التي تحولت من الترددات العالية إلى الترددات المنخفضة أثناء مرورها عبر أجهزة الكشف. وكان هذا الاختزال متشابهاً لدرجة أنه عندما قدَّم باحثو التلسكوب تشايم نتائجهم في مؤتمر مؤخراً، خدعوا جمهورَهم لفترة وجيزة ودفعوهم إلى الاعتقاد أنهم ينظرون إلى إشارة خاطئة.

وهذا التشابه يجعل من المرجح أن المجالات المغناطيسية العالية التي اكتشفها هيسلز كانت نتاج مصدر التدفقات FRB، وليست الرحلة التي قطعتها.
والآن المشتبه فيهم الرئيسيون لهذا المصدر هي النجوم المغناطيسية Magnetars، وهي نجوم نيوترونية شابّة Young neutron stars تمثل أقوى مغناطيسات الكون، حيث تولد مجالاتٍ أقوى من الأرض بنحو ملايين البلايين من المرات. فهي تنفث الإلكترونات والجزيئات المشحونة الأخرى؛ فتسبب تراكم سحابة هائلة من الحطام المداري. ووفقًا لنموذج طوّره براين ميتزجر Brian Metzger من جامعة كولومبيا Columbia University في نيويورك وزملاؤه، فهذه وصفة مثالية للتدفقات FRB. ومع اصطدام المادة الموجودة في كل توهج جديد بالسحابة شديدة الممغنطة، فإن الموجات الصدمية Schock waves تثير الإلكترونات على الحافة الخارجية للسحابة بطريقة تنتج موجاتٍ راديويةً موجزةً.

مغناطيسية مذهلة Incredible magnetism
يعتقد بعض الباحثين النظريين أن التدفقات الراديوية السريعة تنتجها مجالات مغناطيسية عالية القوة. وهذا يشير تحديدًا، بصورة مباشرة، إلى فئة من النجوم النيوترونية المعروفة بالمغنِتار (النجوم المغناطيسية) Magnetar، ذات مجالٍ مغناطيسيٍّ شدته أقوى بنحو ملايين البلايين من المرات من الأرض.
المجال المغنطيسي للأرض: 0.5 غاوس Gauss
مغناطيس تجاري: 100 غاوس
آلات التصوير بالرنين المغناطيسي MRI : 70,000 غاوس
أقوى مغناطيس اصطناعي: 10,000,000 غاوس
نجوم نيوترونية نموذجية: 1,000,000,000,000 غاوس
نجم مغناطيسي: 1,000.000,000,000,000 غاوس

هذا السيناريو لا ينتج فقط تدفقاتٍ متكررةً بشكل عشوائي مثل تلك التي رصدناها، بل قد يفسر أيضًا الاختزال المتميز الذي شوهد داخل الإشارات الفردية. ويقول ميتزجر: «مع تباطؤ كل موجة صدمية Shock wave، فإن إشارة الراديو التي نلتقطها تتحول إلى ترددات منخفضة».

ولكن هناك ما هو أكثر. ليس لدينا حتى الآن مقياس دوراني للمكرر الثاني، غير أنّ القراءة السريعة الساذجة تتوافق بشكل جيد مع نظرية النجوم المغناطيسية. مجتمعةً، هذا يدفع العديد من الباحثين في الاتجاه نفسه. وتقول بيتروف: «نموذج المغِنتار هو المقبول».

حسناً، ليس الجميع. فعلى الرغم من أنّ الأغلبية تعتقد أن البنية التحتية للتدفقات FRB المتكررة تخبرنا بشيء عن آلية الانبعاثات، فلا يزال آخرون يعتقدون أنه قد تكون نتيجة للمواد التي تمر بها التدفقات أثناء رحلتها عبر الكون. ومن الممكن أيضًا وجود مصادر عديدة – إن تدفقات المرة الواحدة لها أصول مختلفة للمكررات، وتقول بيتروف: «يميل الأفراد إلى فكرة مفادها أنك لا تحتاج إلى نظرية واحدة».

وعلى أي حال، فإنّ الشيء الجميل في نموذج المغنتار هو أنه يقدم تنبؤات رصدية. أولاً، يجب أن تحمل أي تدفقات FRB نراها في المستقبل نفس نمط اختزال التردد. ثانياً، يجب أن تأتي من أنواع المجرات المعروفة بأنها تُنتج الكثيرَ من النجوم الصغيرة والمغنتارات الجديدة. ويقول تشاترجي: «إذا نظرنا إلى هذه الأنواع من الأماكن ووجدنا دائمًا التدفقات FRB؛ فإنّ هذا يعزز من ثقتنا».

وما نحتاج إليه الآن هو مزيد من التدفقات، ونحن على وشك الحصول على كميات كبيرة منها. وبمجرد تشغيله بشكل كامل هذا العام، سيتمكن التلسكوب تشايم من تحديد عدة مواقع يوميّاً. كما أنّ هناك مصفوفة الكليومتر المربع الأسترالي باثفيندر Australian Square Kilometer Array Pathfinder، وهي شبكة مكونة من 36 طبقًا راديوًا قادرًا على تحديد المجرات المضيفة حتى تدفق FRB واحد، ويقول تشاترجي: «يدخل مشروع البحث عن التدفقات FRB مرحلة جديدة…سيكون الأمر رائعاً».

لكن القصة لن تنتهي هناك. فإذا تمكنا من جمع عينة كبيرة بما فيه الكفاية، فإن الأمل هو أن التدفقات FRB ستكون قادرة على الإجابة عن بعض الأسئلة الأساسية المثيرة للاهتمام حول تاريخ الكون وبنيته.

وإحدى هذه المشكلات تدعى مشكلة باريون المفقودة the Missing baryon problem – الغياب الواضح لجزء كبير من مادة اعتيادية من الكون مصنوعة من جزيئات تدعى الباريونات Baryons التي تشكل نحو %5 من مادة الكون. أما النسبة المتبقية؛ فتشكلها المادة المعتمة Dark Matter والطاقة المعتمة Dark Energy. لكن حتى الآن، تمكنا فقط من اكتشاف نصفها. ويعتقد معظم الناس أن البقية مختبئة في مساحات شاسعة من الفضاء الفارغ بين المجرات. وتكمن المشكلة في أننا لا نمتلك أدوات حساسة بما يكفي لسبر تلك الفراغات، لا سيما أنّ ما تحتوي عليه من المفروض أن يكون هشًّا. ولكن نظرًا لأن رحلات التدفقات FRB الملحمية عبر الفضاء تنقلها عبر جزء من أحلك أركان الكون، فيجب أن تكون قادرة على أداء دور مسابير Probes في هذه الفراغات الكونية الغامضة.

هنا يكمن جمال التدفقات الراديوية. ومن خلال تشفير المعلومات حول الوسيلة التي تمر من خلالها، يمكنها مساعدتنا على تحديد مقدار المادة العادية التي تحويها هذه الفراغات – وهو قياس لا يمكن لأي مسبار آخر إجراؤه. ويقول جان- بيير ماكوارت Jean-Pierre Macquart من جامعة كورتين Curtin University في بيرث بأستراليا الغربية: «إن تشخيص التوزيع الباريوني للوسط المجري سيكون الميزة الأهم في علم التدفقات FRB».

ومن الأمور المثيرة أيضا احتمال أن تخبرنا دراسة مفصلة عن موجات الراديو المجدولة للتدفقات FRB عن قوة المجالات المغناطيسية في الفراغات البعيدة. وفي الوقت الحاضر، فإن معرفتنا لهذه المجالات شبه معدومة تقريبًا. وقد يخبرنا القياس الدقيق بما إذا كانت موجودة في لحظات مبكرة من الكون، وإذا كان الأمر كذلك، فما الدور الذي أدّته في تشكيل ما يبدو عليه الحاضر. ويقول فرانكو فازا Franco Vazza من جامعة بولونيا University of Bologna بإيطاليا: «إذا تمكنا من إثبات أنّ المجالات المغناطيسية كانت موجودة أثناء مرحلة التضخم Inflation period، وهي فترة التوسع التي حدثت مباشرة بعد الانفجار الكبير، فإنها يجب أن تصبح مكونًا أساسيّاً لأي نظرية كونية».

وهذه القياسات ليست بالأمر البسيط. تنتج التدفقات FRB بواسطة جرم كوني قوي مذهل وتواجه كل أنواع المواد على طول طريقها، وكل ذلك يساهم في قياسات التشتت والدوران التي نقرؤها عندما تصل إلى الأرض. ويتمثل التحدي في تفكيك المكونات المختلفة التي لن تصير ممكنة إلا بعد أن يرصد الجيل الجديد من التلسكوبات الراديوية طوفانًا من التدفقات FRB.

يقول ماكوارت: «هذه الأشياء كانت تنفجر تحت أعيننا لسنوات، ونستنتج أن هناك بضعة آلاف منها تمطر على الأرض كل يوم…إنها روعة كونية مذهلة. ولكن، حتى لو لم نكتشف قطُّ ما الذي يولدها، فإنها تمنحنا طريقة جديدة لدراسة الكون. فقد حان الوقت لتكون عالم فيزياء فلكية!»

New Scientist

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى