أدوات جديدة تُقدّم أدلة على كيفية تشكّل الدماغ البشري
الأدمغة المصغّرة ودراسة الجينات تشيران إلى ما يجعل البشر مميزين
منذ أن كان أليكس بولن Alex Pollen صبيا يتحدث إلى والده عالم الأعصاب Neuroscientist، كان يريد أن يعرف كيف جعل التطور Evolution دماغ الإنسان مميزا جدا. إذ إنّ أدمغتنا أكبر، مقارنة بحجم أجسامنا، من أدمغة الحيوانات الأخرى، ولكن ليس الحجم فقط ما يهم، فكما يقول بولن: »الفيلة والحيتان لديها أدمغة أكبر.« أما أليكس الآن فهو عالم أعصاب بجامعة كاليفورنيا University of California في سان فرانسيسكو. إذ إنّ مقارنة التشريح Anatomy، أو حتى جينوم Genomes البشر والحيوانات الأخرى، قد كشف القليل من التغيرات الوراثية والتنموية التي جعلت أدمغتنا تسلك هذا الطريق.
وقد حدد علماء الوراثة Geneticists بعض الاختلافات الرئيسية في جينات البشر والقردة، مثل نسخة من الجينات FOXP2 التي تسمح للبشر بتكوين الكلمات. ولكن كيف للاختلافات البشرية في هذه الجينات أن تُشَكّل الدماغ في مراحل النمو على وجه التحديد، وكيف دفعت تطورها، ظلّت أمورا غامضة إلى حد كبير. ويقول سيمون فيشر Simon Fisher، عالم الأعصاب ومدير معهد ماكس بلانك لعلم اللغات النفسي Max Planck Institute for Psycholinguistics في نيميغن بهولندا، الذي يدرس الجين FOXP2: »لقد أُصبنا بالإحباط بعد عدة سنوات من استخدام الأدوات التقليدية.«
والآن، طبّق الباحثون أدوات جديدة لفهم الآليات الجزيئية وراء الميزات الفريدة للدماغ. ففي ندوة في الجمعية الأمريكية لعلم الوراثة البشرية The American Society of Human Genetics هنا أكتوبر الماضي، تحدث هؤلاء الباحثون عن تركيز النظر على الجينات المعبّر عنها في خلية دماغية واحدة، وكذلك النظر في الإطار العام لفهم كيف تعزز الجينات الاتصالات بين المناطق الدماغية الكبيرة. ويختبر بولن وآخرون أيضا عُضيّات Organoids دماغية، وهي كتل من بنى صغيرة من أنسجة زُرعت في المختبر، لفهم تفاصيل الآليات الجزيئية التي تحكم طيات الدماغ البشري الجنيني ونموه. ويقول فيشر الذي ساعد على تنظيم المحاضرة: »كنا نقتصر على النظر إلى البيانات التسلسلية وفهرسة الاختلافات من الرئيسيات الأخرى.« وأضاف: »الآن، لدينا هذه الأدوات الجديدة والمثيرة التي تساعدنا على فهم أي الجينات مهمة.«
وركزت معظم النقشات على تطوّر القشرة المخية Cerebral Cortex، الطبقة الخارجية المجعدة من الدماغ التي تنظم وظائف إدراكية أعلى مثل الذاكرة والانتباه واللغة والوعي والفكر. والقشرة البشرية هي مميزة، إذ لديها ثلاثة أضعاف عدد الخلايا مقارنة بتلك التي لدى الشمبانزي، وطيات أعمق كي تساعد على حشو تلك الخلايا الإضافية. وتبدأ هذه الاختلافات بالتكشف في المرحلة الأولى من تطور الجنين، ولكن الباحثين يعرفون القليل عن الجينات التي توجه هذا التحول والجزيئات التي تُرمزها.
وفي كلمته، شرح ويلاند هوتنر Wieland Huttner، عالم الأحياء الجزيئية Molecular Cell Biologist وعالم الأحياء العصبية التنموية Developmental Neurobiologist في معهد ماكس بلانك لبيولوجيا الخلايا الجزيئية وعلم الوراثة (اختصار المعهد: MPI-CBG) Max Planck Institute of Molecular Cell Biology and Genetics في درسدن بألمانيا، كيف قام فريقه بالبحث في قواعد بيانات للبروتينات والجينات الأخرى المُعبَّر عنها في الدماغ البشري في المراحل الأولى من النمو هذه. فقد توصلوا إلى ثلاثة بروتينات وُجدت في المصفوفة خارج الخلية التي تحيط بالخلايا النامية في أنسجة المخ الجنيني. عندما أضافوا هذه البروتينات إلى مزارع أنسجة مخ أجنة بشرية مجهضة، وجدوا أنّ الأنسجة شكلت طيات، كما هي الحال في الأجنة البشرية بعد مرور نحو 20 أسبوعا من فترة الحمل.
وما هو أكثر من ذلك، لاحظت كاتي لونغ Katie Long طالبة ما بعد الدكتوراه من معهد ماكس بلانك لبيولوجيا الخلايا الجزيئية وعلم الوراثة أن البروتينات الثلاثة شكّلت طيات فقط بعد أن تتجمع بجزيء غلايكن Glycan معقد آخر يسمى حمض الهيالورونيك Hyaluronic Acid.
(الصورة في الأعلى)عُضيّ ينمو مثل دماغ مصغّر في المختبر.
(أسفل الصورة) شريحة من عضي آخر يوفر نافذة على نمو القشرة الدماغية المبكرة، والتي تبين الخلايا السلف (الأرجواني) والخلايا العصبية (الأخضر).
ولهذا الجزيء المعقد العديد من الوظائف، مثل حمل الإشارات بين الخلايا وتعزيز نمو الخلايا، وهو السبب في أنها تُستخدم في كريمات الوجه. وعلى الرغم من أنّ الباحثين يعرفون أن حمض الهيالورونيك يظهر في النسيج العصبي، إلا أنهم لم يعرفوا أنه يؤدي هذا الدور الحاسم في نمو الدماغ البشري. ويقول لويس رايشاردت Louis Reichardt، مدير مؤسسة سيمونز لمبادرة أبحاث التوحد Simons Foundation Autism Research Initiative في مدينة نيويورك، والذي حضر النقاش: »لقد حددوا الجزيئات الرئيسية التي تسهل الطي القشري.«
ويعمل فريق هوتنر مع سفانتي بابو Svante Pääbo عالم الأحياء القديمة Paleogeneticist وباربرا تريوتلين Barbara Treutlein عالمة الفيزيائية الحيوية والكيمياء Biophysical Chemist، وهما من معهد ماكس بلانك لعلم الإنسان التطوري Max Planck Institute for Evolutionary Anthropology في لايبزيغ بألمانيا، على نمو عضيّات الدماغ، وهي أجزاء صغيرة من الأنسجة التي تنمو في المزرعة المخبرية بطريقة تشبه الدماغ الجنيني.
إذ قام الباحثون بتحفيز خلايا الدم البيضاء من البشر والقردة الأخرى لتشكيل الخلايا الجذعية Stem Cells، التي استعملوها لصنع العضيات. وتنمو هذه العضيات لعدة أسابيع، وأحيانا تصل إلى سنة، مما يسمح للباحث بمقارنة النمو وتحديد مكان وجود الاختلافات بين الأنواع. ويقول هوتنر: «إنّ العضيّات قوية جدا لأنك لا تستطيع الحصول على أنسجة دماغ جنين الشمبانزي،» لأنها أنواع مهددة بالانقراض.
وتنموا العضيّات من القردة العليا والبشر بطرق مماثلة بشكل ملحوظ.
وقد شكلت جميعها أنواع الخلايا الجذعية نفسها، التي تؤدي إلى خلايا “السلف” Progenitor التي بدورها تنقسم إلى خلايا عصبية وتنظّم في نهاية المطاف نفسها في ست طبقات من أنسجة المخ. ولكن عندما استخدم الباحثون المجهر الحيّ Live Microscopy لمشاهدة كيف تطوّرت العضيات التي بعرض 4 ملم، لاحظوا أنّ الخلايا السلف في الإنسان استغرقت فترة أطول بـ 50% من الفترة المستغرقة في للقردة العليا الأخرى لترتيب كروموسوماتها قبل الانقسام إلى خلايا وليدة Daughter Cells.
ويبدو أنّ الخلايا البشرية تستثمر المزيد من الوقت في مرحلة الطور الوسيط Metaphase من انقسام الخلايا. وعلى نحو ما، يبدو أن طول فترة المرحلة الطورية في المرحلة المبكرة من النمو تسبب إنتاج المزيد من خلايا السلف في وقت لاحق، كما يقول هوتنر. ويحاول باحثون آخرون كشف شبكة اتصال الدماغ البشري. وقد استخدمت عالمة الأعصاب Neuroscientist فينا كرينن Fenna Krienen، من كلية الطب بجامعة هارفارد Harvard Medical School في بوسطن، التصويرَ بالرنين المغناطيسي الوظيفي (اختصارا: fMRI) في 1000 شخص لإظهار أنّ العقول البشرية تُنشئ اتصالات متشابكة عبر مسافات شاسعة في القشرة المخيّة Cerebral Cortex . وعلى النقيض من ذلك، تحد خلايا القوارض العصبية من صلاتها بالمناطق المجاورة. وكرينن، ومشرف رسالة الدكتوراه في ذلك الوقت، راندي باكنر Randy Buckner في جامعة هارفارد، افترضا أنه مع توسع القشرة البشرية في مسار التطور، فقد أعادت التنظيم للسماح بِصِلاتٍ أكثر تعقيدا بين المناطق.
ومنذ ذلك الحين، تُجري كرينن جردًا للخلايا الموجودة في طبقات معينة من القشرة المخية الحديثة Neocortex. وفي العام الماضي ربطت هي وزملاؤها نتائج الرنين المغناطيسي الوظيفي بعلم الوراثة في أنسجة المخ لستة أشخاص بالغين.
وأفادوا في وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم Proceedings of the National Academy of Sciences بأنّ 19 جينا تحوّلت في المناطق نفسها مثل الاتصالات القشرية التي كشفها الرنين المغناطيسي الوظيفي. وفي الفئران، يُعبّر عن تلك الجينات في وقت سابق في النمو، في طبقات قشرية أخرى. ويبدو أنه في وقت ما على مدى تطور الرئيسيات والبشر، كانت هذه الجينات موجهة نحو أن تصبح نشطة في مرحلة لاحقة من التطور.
والآن، تستخدم كرينن طريقة تحليل الخلية الواحدة Single-cell الجديدة التي طوّرها مختبر ستيف مكارول Steve McCarroll’s lab في جامعة هارفارد Harvard (حيث تعمل الآن كطالبة ما بعد الدكتوراه) لتحسين هذه النتائج من طبقات من الأنسجة إلى خلايا واحدة. وهي تبحث في جميع الجينات – بما في ذلك 19 الأصلية وغيرها الكثير – التي تُمثلها كل خلية في المناطق المتصلة. وهي تأمل بتحديد أي جين يمثل نوع كل خلية عندما تعمل خلايا الدماغ اتصالات لمسافات طويلة، ولتعمل خرائط مماثلة في الرئيسيات الأخرى لجدولة ما تغيّر حين إعادة توجيه الأدمغة على مدى التطور.
وإلى جانب أهميتها التطورية، فإنّ لهذه الدراسات آثارا في الأبحاث المتعلقة بالاضطرابات العقلية. فمع امتداد الاتصالات عبر الدماغ، ينشأ المزيد من فرص الاتصالات المفقودة. والتوحد Autism وغيره من الاضطرابات العقلية المُعيَّنة قد يكون ناجما جزئيا عن »دوائر محددة أو مناطق من الدماغ [التي] لديها مشكلات في الاتصال،« كما تقول كرينن.
هذه التكنولوجيات الجديدة ببساطة مذهلة. ونحن نتعلم الكثير بكثافة
لويس رايشاردت، مؤسسة سيمونس لمبادرة أبحاث التوحد
ويقول رايشاردت، متحدثا عن المُقاربات المتنوعة والمفصّلة في المناقشة: »إنّ هذه التكنولوجيات الجديدة هي ببساطة مذهلة.» وأضاف: »نحن نتعلم الكثير وبكثافة.« ويقول إيفان إيشلر Evan Eichler، أحد علماء الوراثة Geneticist من جامعة واشنطن University of Washington في سياتل، لانزال في الأيام المبكرة لهذا الحقل الناشئ، ولكن من الواضح بالفعل أنّ أكثر من واحد أو اثنين من الجينات قد نحتت الدماغ البشري الفريد. ويقول: »إنّها تناغمٌ من العشرات من الأحداث البشرية التي بلغت ذروتها في هذا الجهاز المدهش.»