أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
فيزياء نظريةميكانيكا الكم

اكتشاف جديد في نظرية الكم قد يحل أكبر ألغازها

يُحوّل "انهيار الدالة الموجية "Wave function collapse سُحُبَ الاحتمالات الكمية المبهمة إلى العالَم الواقعي الذي نعرفه- لكن لا أحد يعرف الكيفية التي يحدث بها هذا. غير أن تجارب جديدةً استطاعت أخيراً كشف الواقع أثناء حدوثه

بقلم: فيليب بال

ترجمة: محمد الرفاعي

في عالم الذرات والجسيمات المتناهي الصغر، لا تبدو الأشياء كأشياءٍ أبدًا، بل تكون على شكل سُحُبٍ من الاحتمالات Clouds of possibilities المبهمة. ويبدو أن الأشياء تكون هنا وهناك وفي كل مكان، ويبدو أنها هذه وتلك في الوقت نفسه – إلى أن تنظر إليها. وحينها يتحول الغموض الكمي فجأةً إلى شيء واضحٍ يمكن وصفه، وهو شيء يمكن أن يُسمى “حقيقيًا” Real.

هذا ما نعرفه. والمشكلة أن ميكانيكا الكم Quantum mechanics؛ النظرية التي تصف هذا العالم غير المؤكد، أحجمت عن الإفصاح عن الكيفية التي يحدث بها ما يُسمى “انهيار” Collapse الاحتمالاتِ الغامضة إلى اليقين الثابت. ويفضّل بعض الفيزيائيين تجنب السؤال بالكامل. بينما يشير آخرون إلى ضرورة إضافة شيء جديدٍ لنستكمل فهمنا للكيفية التي تنشأ بها الحقائق الملموسة من عالَم الكم.

لكن ماذا لو كانت الصورة الكاملة موجودةً منذ البداية، لكننا لم نكن ننظر إليها بعنايةٍ كافية؟ هذا هو الاقتراح المذهل الذي اقترحته تجربةٌ حديثة، وأعطتنا وللمرة الأولى، لمحةً عما يجري داخل الانهيار عندما يحدث. ولا يزال الفيزيائيون يحاولون التعرف على ما لاحظوه، ومن السابق لأوانه الحديث بثقةٍ عما يعنيه هذا. غير أن هناك تلميحاتٍ تقول إن أحدث النتائج بإمكانها أخيرًا أن تشير إلى الطريق الذي يفضي إلى فهم الكيفية التي ولد بها عالمنا الذي نعرفه من مملكة الكم.

تتمع نظرية الكم بمقامٍ رفيعٍ في العلم لأنها تستطيع وصف العالم تحت (دون) الذري بدقةٍ لا مثيل لها. وقد طُوِّرَت في عشرينات القرن الماضي لتشرح لِمَ تسلك الجسيمات تحت الذرية، كالإلكترونات، سلوكًا موجيًا، بينما يمكن للموجات الضوئية أن تسلك سلوكاً مشابهاً لسلوك الجسيمات – ولِمَ تكون الطاقة التي تملكها محدودةً بقيمٍ معينةٍ. وكان الفيزيائي إروين شرودينغر Erwin Schrödinger ممن حاولوا الإجابة عن هذا التساؤل. واشتق معادلةً تصف هذا السلوك الغامض باستعمال مفهومٍ رياضياتي يسمى الدالة الموجية Wave function. وهذا يسمح لك بأن تحسب بدقةٍ احتمالات أيٍ من الخواص الممكنة المتعددة، كالمكان، سَيُشَاهد إن دُرِسَ جسمٌ كميٌّ ما.

وبعد ذلك بعقدٍ من الزمن، قدّم جون ڤون نيومان John von Neumann فكرةً صارت تُعرف بانهيار الدالة الموجية Wave function collapse: إن اختيار ناتجٍ Outcome واحدٍ من كل الاحتمالات الموجودة في الدالة الموجية أثناء عملية قياسٍ Measurement  يَحدُثُ، أي الاختيار، عشوائيًا وفوريًا، على الرغم من أن القياسات المتكررة للشيء ذاته توافق الاحتمالات التي تتنبأ بها معادلة شرودينغر. وهذا التحول المفاجئ والغامض من عددٍ كبيرٍ من الاحتمالات إلى واحدٍ  يُعرف بتفسير “كوبنهاغن” لميكانيكا الكم Copenhagen interpretation of quantum mechanics. وعلى الرغم من هذا، فقد فضّل نيلز بور Niels Bohr، وهو أحد مؤسسي هذا التفسير، أن يتجنب بالكامل الإجابةَ عن سؤال ماذا يحدث عندما نجري القياس.

لا يوجد تبريرٌ نظريٌّ يجعل من انهيار الدالة الموجية الطريقةَ الصحيحة لوصف ما يحدث عندما نجري القياسات، والأمر نفسه ينسحب على أي تفسيرٍ لماهية الانهيار. وما قام به ڤون نيومان هو انتزاعُ نتيجةٍ مميزةٍ من معادلة شرودينغر، متغاضيًا عن مشكلةٍ مهولةٍ في صميم نظرية الكم.

والانهيار هو “مصطلحٌ غامضٌ بحد ذاته” على حد وصف زلاتكو ماينڤ Zlatko Minev من جامعة ييل Yale University. ويقول: “إنه يلقي بالغموض على مفهوم القياس وعلى الآلية التي يغير بها القياس حالة نظامٍ كميٍّ State of a quantum system”.

ولذا، فليس من المستغرب أن باحثي نظرية الكم حاولوا أن يأتوا بأفكارٍ مختلفةٍ عما يحدث حقًا. ففي تفسير العوالم المتعددة Many worlds مثلاً، لا ضرورة لوجود انهيار الدالة الموجية. ووفقًا لهذا التفسير، عندما نجري قياسٍ ما، فإنّ كل النتائج الممكنة الموجودة في الدالة الموجية تُشاهد في العديد من العوالم المنفصلة، والتي تتفرع من عالمنا لحظة إجراء القياس، فما يحدث حقاً هو انفصالٌ  Split لا انهيار. وفي تفسيرٍ آخر، يُعرف غالباً بميكانيكا البومي Bohmian mechanics، يمكن تخيل الدالة الموجية كقوة ناشرة Spread-out force تقود حالةً حقيقةً وحيدةً، وفيها تكون للجسيمات خواصّ وأماكن مُحَدّدة يمكن وصفها باستعمال متغيراتٍ لا يمكننا التوصل إليها.

” لقد حلم مؤسسو نظرية الكم بإجراء تجارب كهذه “

 

وهناك أيضاً مقاربةٌ تُعرَفُ بـ “الانهيار الموضوعي” Objective collapse ، وتقول إن انهيار الدالة الموجية هو عمليةٌ ملموسةٌ وحقيقية ، لكنها عشوائية، وتضيف إلى معادلة شرودينغر القليلَ لتفسر هذا الأمر.

ولكل حلٍ من هذه الحلول مشكلاته، وهو ما يفسر لماذا تناقش الفيزيائيون بحدةٍ ودون طائل لعقودٍ بحثاً عن الحل الأفضل، دون وجود دليلٍ قويٍّ يستتندون إليه. وهذا بالتحديد ما أراد ماينڤ وزملاؤه تصحيحه العام الماضي (2019) بتجربةٍ واعدةٍ مصممةٍ لجعل القياسات الكمية أكثر حساسيةً من أي وقتٍ مضى.

ولفهم نتائجهم، فقد اعتمدوا على صيغةٍ في ميكانيكا الكم أقل شهرةً من غيرها تُعرف بنظرية المسار الكمي Quantum trajectory theory (اختصاراً: نظرية QTT) طُوِرَت في تسعينات القرن الماضي، وكان الهدف منها متابعة المسار الذي يسلكه جسمٌ كمي في الفراغ بكل حالاته الممكنة أثناء قياسه. ويقول ماكس سكلوسهاور Max Schlosshauer من جامعة بورتلاند University of Portland في أوريغون: ” النظرية   QTT أداةٌ رائعةٌ ومستخدمةٌ على نطاقٍ واسع لوصف التطورات الكمية “.

لا شيءَ في النظرية QTT ينحرف عن ميكانيكا الكم الاعتيادية. ولكن لديها ما يميزها. فعلى عكس معادلة شرودينغر التي تصف الأنظمة الكمية في الحالة المعزولة فقط، بإمكان هذه النظرية وصف الطريقة التي تتفاعل فيها الأشياء الكمية مع بيئتها، ناثرةً خواصها الكمية في عمليةٍ  تُعرف بإزالة الترابط  Decoherence، فتردّ عليها البيئة المحيطة بعمليةٍ تُعرف بالفعل العكسي Back-action. ويعتبر ماينڤ النظرية QTT ” صيغةً محسنةً ومطورةً من ميكانيكا الكم”.

المشكلة أن هناك صعوبةً هائلةً في استعمال النظرية QTT لتحليل التجارب، والسبب أنك إذا استعملتها؛ تعين عليك أن تعرف كل شيء يحدث تقريباً.  فعلى سبيل المثال،  تخيل محاولة رصد ذرةٍ قد تقفز ” قفزةٍ ” كميةٍ  بين حالتي طاقة، مطلقةً  فوتونًا ضوئيًا في خضم ذلك. ولِتُطَبِقَ النظرية QTT في هذا السياق، يجب أن تتابع الذرة عبر مراحل زمنيةٍ متناهيةٍ في الصغر لترى إذا أُطْلِقَ فوتون بالفعل. ولا يجب أن يفوتك أي فوتون. وكلما تفحصت الحالة، وجب أن تأخذ بالاعتبار الفعل العكسي الناجم عن عملية الفحص. ولا يمكن صراحةً المبالغة في  تقدير صعوبة الأمر. ويقول ماينڤ: “حتى الآن، المقياس الزمني الذي يحدث فيه القفز أو الانهيار أسرع من أن يُقاس”.

ولكن هذا قد تغير، والفضل يعود إلى الفريق الذي يقوده مايكل ديفوريت Michel Devoret المشرفُ على رسالة دكتوراه ماينڤ، والذي يضم أيضًا الباحث النظري هاورد كارميكايل Howard Carmichael من جامعة أوكلاند University of Auckland في نيوزيلاندا New Zeland، وقد ساهم الأخير في تطوير النظرية QTT. وقد استخدم الفريق بتاتٍ كميّةً Quantum bits فائقة الموصلية  Superconducting كالتي توجد في الحواسيب الكمية ليشكلوا ذرةً اصطناعيةً ويشاهدوها تقفزُ من حالةٍ طاقة إلى أخرى إلى أخرى. واستعملوا الموجات الميكروية Microwave ليثيروا هذه ” الذرة “، ومن ثم راقبوها وهي تبث فوتونات الموجات الميكروية عندما عادت إلى حالتها قبل الإثارة.

ولكن الحقيقة أعقد من ذلك. فـ “الذرة” استمرت بالقفز إلى حالة الطاقة المثارة، ومن ثم، وتحت تأثير الفعل العكسي المُحْدَثِ بمراقبتها عادت إلى حالة طاقتها الأصلية. ولم “تثبت” الذرة في الحالة المثارة إلى أن حدثت قفزةٌ كميةٌ حقيقيةٌ. الآن، وللمرة الأولى، يمكن متابعة حركة هذه الذرة في قفزها ورجوعها. ويعلّق ماينڤ على ذلك: ” لقد حلم مؤسسو نظرية الكم بأداء تجربةٍ كهذه التجارب كالتي نجريها حاليًا “.

ما رآه الباحثون كان قفزةً كميةً تحدث خلال فترةٍ زمنيةٍ: ظاهرةٌ تحدث بانسيابية، وليس فجأةً كما افترض بور ومؤيدوه. وتبدأ هذه القفزات في لحظاتٍ عشوائية، لكنّ كان هناك ما يشبه العلامات المبكرة التي تظهر عندما يكون حدوث هذه القفزة حتميًا: عودةُ الذرة إلى حالتها الأصلية والمحدثة بالفعل العكسي تصبح ضعيفةً جدّا. وبفضل هذا الإنذار المبكر بحدوث القفزة، صار الباحثون قادرين على إطلاق الموجات الميكروية على البتات الكمية Qubits ليوقفوا ويعكسوا القفزة التي كانت على وشك الحدوث، وهو ما  لم يسبقهم إليه أحد.

ما علاقة كل هذا بالانهيار؟ على الرغم من أنها لم يُعلَّق عليها كثيرًا الكثير وقتها، إلا أن تجارب القفزات الكمية كانت تَدْرُسُ أيضًا العملية المعروفة بانهيار الدالة الموجية – فهذا يمثل نتيجةً لا مفر منها للرصد المستمر. وفي هذه الحالة، وبينما كانت النواة الاصطناعية تُدفَعُ بشكلٍ مستمرٍ إلى إحدى حالاتها المثارة، أدت عملية القياس إلى التسبب بانهيارها إلى الحالة الأساسية قبل الإثارة. والأمر نفسه ينطبق على التحول إلى الحالة المثارة. وبذلك، فالنتيجة تقول إن “الانهيار” هو بحد ذاته عمليةٌ حقيقيةٌ ملموسةٌ وانسيابيةٌ، تمثل ناتجًا تراكميًا للأفعال العكسية الناجمة عن الرصد المستمر للنظام، وقد تُشاهد وهي تحدث.

انهيار الانهيار

وقد اقترح هذا العمل فكرة تجنب مفهوم “الانهيار” بالكامل أثناء القياس. وهذا يعني التحكم في التفاعل الحاصل بين الكيان الكمي والبيئة، بحيث يكون الفعل العكسي مهملاً، وهو ما يعني تصغير قيم الاضطرابات بشكلٍ كبير. وهذا النوع من القياسات سيوفر أعلى  درجات الدقة الممكنة ضمن حدود مبدأ الشك لهايزينبرغ Heisenberg’s uncertainty principle، والذي يقول إن هناك حدودًا للدقة التي يمكن تحقيقها أثناء قياس خاصتين. وهذا يعني إمكانية نقل مجال دراسة النظام إلى ما يُعرف بـ “حدّ هايزينبرغ” Heisenberg limit، متحرراً بذلك من أي تأثيرٍ للأفعال العكسية. وقد كان هذا، ولفترةٍ طويلةٍ، هدفًا لطرق الكشف الكمية عالية الحساسية، كقياس الوقت الذي يستغرقه فوتونٌ لينتقل في كاشفٍ لموجات الجاذبية (الثقالية) Gravitational-wave، وقد يمكن لهذا أن يؤدي دورًا مهمًا في مجال الحوسبة الكمية Quantum computing (انظر: التصحيحات الكمّية ).

ويقول ديفورت عن هذا: “وبافتراض أننا نمتلك أجهزةً  ذات إمكاناتٍ عاليةٍ لتعطينا مُخرجات التجارب، فسيكون بمقدورنا إجراء قياساتٍ مفيدةٍ دون حصول الانهيار”، ويضيف قائلًا: “ولا تفصلنا سوى بضع سنواتٍ عن إجراء قياسات كهذه”.

وفي الوقت الحالي، لدينا الكثير لنستخلصه من النتائج التي توصل إليها الفريق – وليس أقلها عدم الحاجة إلى فكرة انهيار الدالة الموجية أصلاً. فهذا الانهيار ليس إلا طريقة بسيطة في الحديث عن التغيرات التي تحدث عندما يتشابك  Entangledنظامٌ كميٌ مع البيئة ويضطرب بسببها. ويقول ماينڤ عن هذا: “إن كلمة ’ انهيار‘ يعتريها خطأ جسيم”. ويضيف قائلًا: “إنها من بقايا نقاشاتٍ تعود إلى عشرينات القرن العشرين، وتقدم صورةً ذهنيةً خاطئةً. أما النظرية QTT؛ فتزيل الستار الذي حجب عنّا آلية عمل الانهيار، وتخبرنا بعدم وجود شيءٍ كهذا أصلاً”.

قد يبدو هذا تغيّرًا جوهريًا، إلا أنه مدعومٌ بتجربةٍ حديثةٍ أخرى أجراها ماركوس هينريش Markus Hennrich وزملاؤه من جامعة ستوكهولم University of Stockholm في السويد، وذلك بالتعاون مع أدان كابيلو Adán Cabello من جامعة إشبيلية University of Seville في إسبانيا وغيرهم. وقد استطاعوا إجراء قياسٍ مميزٍ و”مثاليٍ” لا يسبب تحطم الحالة الكمية (وهو الأمر الذي سيحدث إنْ رصدنا فوتونٍ بفعل امتصاصه) وإنما يغيرها إلى حالةٍ أخرى يمكن قياسها. وهذا الأمر ينطبق أيضًا على التراكب Superposition: وهي حالةٌ كميةٌ يمكن فيها أن يُنْتِجَ القياس أكثر من نتيجة. ويدمر القياسُ التراكبَ في الحالة الطبيعية، لكن يمكن لهذا التراكب أن ينجو إن كان القياس “مثاليًا “.

لم يسبق لأحدٍ إجراء ذلك، لكن هينريش وزملاؤه نجحوا في ذلك بقياس أيونات سترونتيوم  Strontium ionsمثبتةٍ كهربائياً. ومرةً أخرى، شاهد الباحثون تغيرًا تدريجيًا وسلسًا في الحالة عوضًا عن عملية الانهيار التقليدية الفورية المدمرة. وعندما تُستَعمَلُ ميكانيكا الكم بالشكل الصحيح، فإنّها

” تصف القياسات على أنها عمليةٌ تتطلب الوقت وتخبرنا بالكيفية التي تطورت بها الحالة الكمية، ” حسب قول كابيلو.

“الفكرة التي مفادها أن القياسات الكمية تتضمن ما يكاد يكون تحولًا سحريًا انتهت”

 

حسناً، كيف يمكن الآن أن نفهم عملية ظهور الحقيقة الملموسة التي نألفها من عالم الكم؟ ويقول هانس مويج Hans Mooij، وهو متخصصٌ بالإلكترونيات الكمية من جامعة ديلفت للتكنولوجيا Delft University of Technology في هولندا، إن التجاربَ التي تكشف تفاصيل القياس الدقيقة “سوف تقود حتمًا إلى إعادة تفسير فيزياء الكم”، حتى وإن لم يكن من الواضح حتى الآن ما سينتج من كل هذا.

وليبسِّط لنا مويج الفكرة، فإنّه يقول إن الأمر يتطلب ” تغييراً كاملاً في التفسيرات المرتبطة بتفسير كوبنهاغن، أمّا انهيار الدالة الموجية” – وعبارة بور “لا تسأل” التي لم يمل من تكرارها، والانهيار غير المفسر الذي تحدث عنه نيومان، فكلها تبدو بلا فائدةٍ الآن. والفكرة التي مفادها أن القياسات تتضمن تحولًا فوريًا بل سحريًا حتى، هي اليوم فكرةٌ ميتةٌ، على حد وصف كابيلو.

فقط  أضف الجهل؟

ستؤدي إزالة الظاهرة المعروفة بالانهيار إلى زوال الحاجة إلى استخدام تفسير العوالم المتعددة لنظرية الكم، والتي – أي العوالم المتعددة- تسعى إلى تجنب الحاجة إلى الانهيار على حساب تشكيل عوالم متزايدة. ويقول كارميكايل: ” ومن وجهة نظري، فهذا التفسير قد عفا عنه الزمن “، لكنه يعترف قائلاً: “هناك دائمًا مجالٌ للأخذ والرد”.

ومن وجهة نظر كارميكايل، إن ما يبدو أنه عملية ظهور ليس مختلفاً كثيراً عن فكرة الانهيار الموضوعي Objective-collapse، أما الفرق فيكمن في أن الدافع العشوائي الذي يُجبِرُ نظام الكم على اختيار حالة الطاقة التي يكون عليها ينبع من البيئة بشكلٍ طبيعي، لا من معادلاتٍ رياضياتية مشتقةٍ من نظرية الكم القياسية وموضوعةٍ خصيصًا لتفسر اختيار النظام لهذه الحالة أو تلك. ويقول إن المعادلة التي تخص أكثر نماذج الانهيار الموضوعي شهرةً “هي بشكلٍ رسميٍ مكافئةٌ لنسخة النظرية QTT التي استعملناها في تجربة ييل” – وبات مصطلح “الانهيار” العشوائيُّ نابعاً الآن من إضافة الفعل العكسي الكمي.

ويمكن القول، إذاً، إن هذا يزيل الاعتراض الشائع الذي يُرْفَعُ في وجه الانهيار الموضوعي – والذي يقول إن إضافة مصطلحٍ جديدٍ إلى معادلة شرودينغر ليس إلا حلاً مؤقتاً. غير أن الأمر ليس بهذه السهولة. فبالنسبة إلى بعض داعمي هذا النموذج، هذه الإضافة جوهرية ولا يمكن أن يحل مكانها تأثيرٌ غامضٌ وعشوائيٌ للبيئة. ومن دون الانهيار الموضوعي  ” لن يكون هناك شيءٌ عشوائيٌ، لن يتبقى سوى جهلنا بالحالة الدقيقة للبيئة”، هذا ما قاله دانييل سودارسكي Daniel Sudarsky من الجامعة الوطنية المستقلة Universidad Nacional AutÓnoma في المكسيك، ويضيف قائلًا: “وإضافة الجهل إلى الصورة لن يوفر غالبًا فهمًا أفضل للوضع الراهن مقارنةً بعدم إضافة الجهل”.

وأخيراً، يقول سودارسكي إن جعل البيئة العامل الوحيد في الانهيار لا يساهم إلا في إرجاع أصله إلى مجموعةٍ أوسع من تعاريف النظام: فإذا اعتبرت أن الكون كله نظامٌ كميٌ كبيرٌ محكومٌ بمعادلة شرودينغر، فلن يبقى هناك ما ينهار.

وبأخذ تاريخ الجدال الطويل حول طريقة تفسير ميكانيكا الكم بالاعتبار، سيكون من السابق لأوانه توقع الوصول إلى نتيجةٍ بسهولةٍ. والباحث النظري روديريش تومولكا Roderich Tumulka، من جامعة تيوبينغن University of Tübingen في ألمانيا، أشار إلى أن النظرية QTT تتخذ موقفاً غامضاً من التفسيرات، مما يقترح إمكانية تطوير نسخٍ من الميكانيك البومي أو العوالم المتعددة لا تتعارض مع هذه المشاهدات الجديدة. وبالتأكيد، هناك بعض الباحثين الذين يصرون على أن النتائج الجديدة لا تحمل تبعاتٍ على الطرق المختلفة لفهم ميكانيكا الكم. وبالنسبة إلى ليڤ ڤايدمان Lev Vaidman من جامعة تل أبيب، وهو مناصرٌ قديمٌ لفكرة العوالم المتعددة، تجربة ييل “تؤكد أن ميكانيكا الكم القياسية والأدوات تعمل بشكلٍ جيد إلا أنها عديمة الأثر في التفسيرات”.

وحتى إن لم تكن ميالًا إلى أيٍ من البدائل الغريبة لتفسير كوبنهاغن، فإنّ هناك شيئاً واحداً مؤكداً: إصرار  بور على أن ظهور العالَم الفيزيائي الملموس من مملكة الكم هو مجرد شيء يحدث، ولا مكان للأسئلة، لم يعد خيارًا مقبولا. بإمكاننا الآن مشاهدة الأمر يحدث، ولسنا بحاجةٍ إلى الانهيار لنصفه.

والتحدي اليوم يكمن في البحث في إمكانية استعمال هذه الأفكار لتستبدل بعصا الانهيار السحرية نظريةَ قياسٍ كميٍّ كاملةٍ. ويختم مويج قائلاً: ” أتمنى أنني لم أكن متقاعدًا وأنني مازلت أعمل في مجال التجارب، لأن هذا سيكون بالتأكيد في غاية التشويق”.

التصحيحات الكمية

لطالما نُظِر إلى العملية التي يتحول فيها عالم الكم الغامض المليء بالاحتمالات إلى الأمور المؤكدة “التقليدية” الموجودة في العالم الملموس بوصفها طريقًا باتجاهٍ واحد. لكن، قد يتغير هذا الأمر. الفيزيائيون القائمون على التجربة التي أعطتنا أولى التلميحات عما يحدث في هذه العملية (انظر: المقال الأساسي) يعتقدون اليوم أن بإمكانهم عكسها – وهو إنجازٌ سيدفعنا قدمًا في مسعانا إلى تطوير الحواسيب الكمية Quantum computers، وذلك باستغلال الخواص الغريبة لفيزياء الكم في تسريع بعض العمليات الحسابية. وفي العام الماضي (2019)، ادعت شركة غوغل Google أنها حققت الإنجاز الذي طال انتظاره المتمثل بصناعة حاسوبٍ كميٍّ، باستطاعته وخلال بضعة دقائق أن يحل مسألةً يتطلب حلها بأفضل الحواسيب التقليدية آلاف السنوات. ولكن إحدى أكبر العقبات التي تعترض الحواسيب الكمية في خضم حلها لمشكلات العالم الحقيقي هي صعوبة تصحيح الأخطاء التي لابد أن تحدث عندما يغير البت الكمي، أو الكيوبت، وهو الوحدة الأساسية في الحاسوب الكمي، حالته عشوائياً من 1 إلى 0 على سبيل المثال. فهناك دائمًا احتمالٌ قائمٌ بوقوع هذه الأخطاء في الحالة الكمية الحساسة في الكيوبت المستخدم في الحوسبة، وهو ما يسبب “ضجيجًا ” Noise قد يشوش على الحسابات إن لم يصحح. وإذا أمكن إيقاف انتقالٍ Transition مشابهٍ يُعرف بالقفزة الكمية Quantum jump لحظة حصولها، وتوقع متى ستحدث، فإنّ زلاتكو ماينڤ من جامعة ييل وزملاءه قد يتوصلون إلى حل. والفكرة هي كالتالي: باستخدام أداة كشفٍ عالية الحساسية، بإمكانك رصد الكيوبتات بعناية مما يخولك توقع حدوث الخطأ وتصحيحه فورًا، بل ربما منعه. وحسب ما قاله ماينڤ، هذه الطريقة: ” تمكننا من التدخل في العملية التي تسبب الضجيج في الحواسيب الكمية، مما قد يسمح لنا بعكسها قبل أن تعطل عملية الحوسبة برمتها “. ويرى ويليم أوليفير William Oliver، وهو فيزيائيٌ تجريبيٌ من معهد مساشوستس للتكنولوجيا Massachusetts Institute of Technology إمكانية تحقيق هذا الأمر. ويقول عن ذلك: “بفرض أن هناك علامةً  تشير إلى أن قفزةً على وشك الحدوث” -علامةً لا تكشف المعلومات الموجودة في الكيوبت، وهو الأمر الذي قد يدمر حالة التشابك الكمي  Quantum entanglement في الكيوبت التي تعتمد عليها عملية الحوسبة: ” بإمكاننا أن نتخيل إمكانية تصحيح هذه القفزة عندما تحدث “. يجري العمل على تطوير تقنياتٍ أخرى لتصحيح الأخطاء، إلا أن هذه التقنية تستأصل المشكلة من جذورها.

© 2020, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى