كيف تولِّد الجبال بؤرة مضطربة ساخنة
طائرات ترصد موجات الجاذبية الجوية، وهي تنعطف نحو الدوامة القطبية، في القارة المتجمدة الجنوبية
بقلم: إريك هاند
ترجمة: صفاء كنج
المحيط الجنوبي شهير بعواصفه، وهو موطن لأمواج أعلى من أعمدة الهاتف. ولكن على ارتفاع 50 كيلومتراً، يكون الطقس عاصفاً بالقدر نفسه، حتى وإن لم نر ذلك بالوضوح نفسه. هناك، تتكسر موجات قوية في الهواء وتتحطم وتدفع بالطاقة إلى طبقة الستراتوسفير Stratosphere وتغير اتجاه الرياح التي تساعد على التحكم في المناخ.
على امتداد عقدين عرف الباحثون أن منطقة قريبة من خط العرض 60° جنوباً، على طول ممر دريك Drake Passage بين طرف أمريكا الجنوبية والقارة القطبية الجنوبية Antarctica من الأرض تقع البؤرة الساخنة Hot spot لهذه الموجات التي يُصطلح على تسميتها موجات الجاذبية Gravity waves. وقد اشتبهوا منذ فترة طويلة بأن موجات الجاذبية هذه (التي لا ينبغي الخلط بينها وبين موجات الجاذبية المنتقلة عبر الفضاء) تطلقها جبال الأنديز الجنوبية وشبه الجزيرة القطبية الجنوبية Antarctic Peninsula، التي تلفح الرياح الغربية قممها على ارتفاع آلاف الأمتار. ولكن المُحيِّرَ في الأمر هو أن هذه البؤرة الساخنة تقع على بعد مئات الكيلومترات من الجبال. وحالياً، تتعقب طائرة تحلق على علو مرتفع موجات الجاذبية الناشئة التي تنطلق إلى الأعلى من الجبال وتنحني أو تنكسر Refracting باتجاه تلك البؤرة الساخنة.
وهذه الظاهرة تساعد على تفسير سبب تنبّؤ النمذجات المناخية درجات حرارة باردة على نحو بجانب الواقع فوق القطب الجنوبي. وتقول تريْسي موفات-غريفن Tracy Moffat-Griffin، الاختصاصية بفيزياء الغلاف الجوي من مؤسسة المسح البريطاني للقارة القطبية الجنوبية British Antarctic Survey: “إنه أمر مثير للاهتمام حقاً. … إذا تمكنا من تمثيل الانكسارفي النمذجات سيمكننا ذلك من أن نقطع شوطاً بعيداً نحو تصحيح مشكلة برودة القطب”. وهذا بدوره قد يحسِّن توقعات الطقس الموسمي وثقب الأوزون الذي يتشكل فوق القارة القطبية الجنوبية في الربيع الجنوبي.
في عام 2019 جمع الباحثون خلال ست رحلات جوية أدلة على أن الموجات الناشئة من الجبال تنجذب إلى الدوامة القطبية القوية في القطب الجنوبي عند خط العرض 60° جنوباً. وهذا الطوق من الرياح عالية الارتفاع يدور حول قاع العالم، محتجزًا الهواء البارد. وقد ألمحت قياسات أخرى بالفعل إلى عملية الانكسار التي تُضعف الدوامة وتسخِّن القطب الجنوبي. ولكن، ماركوس راب Markus Rapp، مدير المعهد الألماني لفيزياء الغلاف الجوي Institute for Atmospheric Physics، يشير إلى إنه “من الإنصاف القول إن هذا هو أول دليل تجريبي” على حدوث ذلك. و يقود راب حملة ساوثتراك SouthTRAC التي تبلغ ميزانيتها خمسة ملايين يورو، والتي عُرضت نتائجها في الأسبوع الثاني من مايو خلال الاجتماع في الواقع الافتراضي Virtual meeting للاتحاد الأوروبي لعلوم الأرض European Geosciences Union.
وفي جميع أنحاء العالم تنشأ موجات الجاذبية في كثير من الأحيان عندما تدفع الرياح الهواء فوق سلسلة جبلية، على الرغم من أن العواصف وتيارات الهواء النفاثة Jet streams يمكن أن تُحدثها أيضاً. وفي كل حالة يُدفع جزء من الهواء إلى الأعلى فيما تسحبه الجاذبية إلى الأسفل؛ فينقذف بعيداً ثم يعود من جديد. وعندما تحاصره الرياح من الأعلى تتحرك الكتل الهوائية المتموجة إلى الأمام على خط أفقي، الأمر الذي يؤدي إلى تشكل ما يسمى موجات لي Lee waves التي قد تهز الطائرات التجارية.
وموجات الجاذبية تصل أيضاً إلى الأعلى: هنا يمكن لكتل الهواء المهتز دفع الكتلة التي تعلوها، وهكذا دواليك. وتتنامى الموجات مع ارتفاعها في الهواء الأقل كثافة؛ وفي نهاية المطاف، كما يقول رونالد سميث Ronald Smith الاختصاصي بعلم الغلاف الجوي من جامعة ييلYale University :” إنها تنمو كثيراً لدرجة أنها تتلاشى وتتحطم”. وقد يكون الاضطراب المنفلت لدى انكسارها قوياً جداً لدرجة إنه يعكس مؤقتاً اتجاه الرياح السائدة.
وبعض موجات الجاذبية تتحطم في الجزء العلوي من الستراتوسفير على ارتفاع نحو 50 كيلومتراً، ولكن معظمها يستمر بالارتفاع إلى طبقة الميزوسفير Mesosphere، حيث تحدث تموجات Ripples في التوهج الفلوري Fluorescent glow لجزيئات الهواء على ارتفاع 90 كيلومتراً. حتى أنه يُعتقد أنها تُحدث فقاعات ضخمة من البلازما في طبقة الأيونوسفير Ionosphere على ارتفاع أكثر من 200 كيلومتر، في منتصف الطريق إلى محطة الفضاء الدولية International Space Station، متسببة بمشكلات في الاتصالات اللاسلكية. ويقول ديف فريتس Dave Fritts، وهو اختصاصي بفيزياء الغلاف الجوي من شركة غاتس GATS المصنِّعة لأجهزة الأقمار الاصطناعية، إنها وبصفتها أحد الأساليب الرأسية القليلة الناقلة للطاقة، تُعد بمثابة “الصمغ الذي يحافظ على تماسك الغلاف الجوي. … إنها تضطلع بأدوار حاسمة في تشكيل طقسنا ومناخنا”.
ومع ذلك، يواجه مطورا نمذجات المناخ صعوبة عند محاولة أخذ الموجات بعين الاعتبار. ليس فقط لأن مصادرها متغيرة جداً، ولكن أيضاً لأن أطوالها الموجية Wavelengths الممتدة لعشرات الكيلومترات قد تكون أصغر من حجم الشبكات التي يقسم مطورو النماذج الغلاف الجوي للأرض إليها. وبدلاً من ذلك، يعتمد المصممون على “المعايرات البارامترية” Parameterizations، وهي صيغ تقارب سلوك موجات الجاذبية. وتقول أناليز فان نيكرك Annelize van Niekerk، مطورة نمذجة الغلاف الجوي من مكتب الأرصاد الجوية في المملكة المتحدة U.K. Met Office، إن مطوري نمذجات الطقس يعرفون أن التقريبات تعمل بشكل جيد، لأنهم عندما لا يستخدمونها تخرج التنبؤات الجوية عن السيطرة. فمن دونها، لن يتمكن مكتب الأرصاد الجوية من تقديم تنبؤات سليمة للخمسة أيام القادمة، كما تقول، وستصير التوقعات الموسمية “سيئة جداً، جداً”.
ولكن المعايرة البارامترية ليست جيدة بما يكفي لحل مشكلة برودة القطب في القطب الجنوبي. إذ تولِّد النمذجات المناخية الكثير من موجات الجاذبية مباشرة فوق جبال الأنديز وشبه الجزيرة القطبية الجنوبية، ولكن ليس في البؤرة الساخنة المرصودة عند خط العرض 60° جنوباً، حيث يهاجم وابل من الموجات الدوامة القطبية خلال شتاء القطب الجنوبي. وبحلول فصل الصيف تنهار الدوامة ويمتزج بها الهواء الأكثر دفئاً من خطوط العرض الأعلى. (وهذا يضع أيضاً حداً لثقب الأوزون الموسمي الذي يتطلب درجات حرارة باردة لإحداث التفاعلات المدمرة للأوزون).
وقد أظهرت رحلات ساوثتراك الكيفية التي تصل بها موجات الجاذبية إلى البؤرة الساخنة. إذ أقلعت طائرة غَلف ستريم نفاثة معدلة Gulf stream jet من ريو غراندي في الأرجنتين، وحلقت على ارتفاع 15 كيلومتراً، مع أداة تعمل بالأشعة تحت الحمراء ثُبتت على بطنها لرؤية موجات الجاذبية وهي ترتفع من الأسفل، وبأشعة ليزر لتتعقبها، وهي تصعد إلى الأعلى. وقد رصدت الأجهزة الموجات من خلال تقلبات درجات الحرارة التي تسببها، ورسمت خريطة ثلاثية الأبعاد توضح الكيفية التي تندفع بها الموجات عبر الستراتوسفير باتجاه الدوامة.
لقد رصدت بعثات سابقة إشارات عن تأثير الانكسار، ولكنها لم تكن بمثل هذا الوضوح. وفي ديسمبر 2019 أفاد نيك ميتشل Nick Mitchell، الاختصاصي بفيزياء الغلاف الجوي من جامعة باث University of Bath، وزملاؤه عن استخدام أداة بالأشعة تحت الحمراء على القمر الاصطناعي أكوا Aqua التابع لوكالة ناسا NASA لاقتفاء الموجات الصاعـدة من الأعلـى. و موفات-غريفِن تقود بحثاً على صلة بذلك لدراستها من الأسفل باستخدام الرادارات وبالونات الطقس. ولكن هذه الملاحظات لا تظهر الكيفية التي يتطور بها الانكسار بمرور الوقت، ويقول ميتشل: ” إن ميزة الطائرة، بالطبع، هي أنه يمكنها أن تحوم فوق الجبال”.
وتقول موفات-غريفِن إن صور الموجات تظهر أن الدوامة القطبية “تشبه تقريبًا قناة تجرها جميعها إليها”. لكن، لن يكون من السهل الاستفادة من هذه الصورة لتحسين النمذجات المناخية. وتقول فان نيكرك إن أخذ الانكسار بالاعتبار سيبطئ النمذجات الحالية. وتضيف قائلة: “لن نتمكن من تشغيل النمذجات المناخية كل هذا الوقت”. وإلى حين وصول الحواسيب الفائقة التي يمكنها محاكاة موجات الجاذبية دون الحاجة إلى تقريب الأرقام، قد يتعين ترك مشكلة برودة القطب حيث هي.
© 2020, American Association for the Advancement of Science. All rights reserved