لماذا الكون الذي اخترعته صحيحا، لكنّه ليس الإجابة النهائية
جيم بيبلز، الحائز على جائزة نوبل، أدخل كلا من المادة المعتمة والطاقة المعتمة إلى النموذج القياسي للكوزمولوجيا كما نعرفها الآن، لكن هذا ليس سوى تقريب لحقيقة أعمق، على حد قوله.
بقلم: جيم بيبلز
ترجمة : همام بيطار
إذا كانت جوائز نوبل مقياسًا للنجاح، فنحن إذا على الطريق الصحيح في النموذج القياسي للكوزمولوجيا Standard Model of Cosmology. ففي العقدين الماضيين مُنحت جائزة نوبل ثلاث مرات إلى إنجازات متقدمة أُحرزت في دراسة طبيعة الكون الواسعة النطاق Large-scale nature of the universe. فتصورنا عن الكوزموس Cosmos الذي قبل 13.8 بليون سنة كان في حالة شديدة الحرارة والكثافة، ولا يزال يتوسع Expanding ويبرد باستمرار، يتفق مع تشكيلة واسعة من المشاهدات الرصدية.
ويمكنك الاعتراض على ذلك أيضًا، إذ تفترض الكوزمولوجيا حاليا أن معظم المادة الموجودة في الكون هي على هيئة مادة “معتمة”matter Dark لم نتمكن من رصدها بعد. ويعتمد ذلك على ثابت ألبرت آينشتاين الكوني Albert Einstein’s Cosmological Constant، والذي يبدو مجرد إضافة عشوائية لتفسير سبب التسارع الظاهري للتوسع الكوني. وحتى إذا كنت مستعدا للتغاضي عن هذه الصعوبات، يبقى السؤال عن حالة الكون قبل بدئه بالتوسع دون إجابة.
قد ينظر باحث مشكك إلى تعقيدات المادة المعتمة Dark matter والطاقة المعتمةDark Energy، والتمثيل الحالي للثابت الكوني، على أنها المكافئ لأفلاك التدوير البطليمية Ptolemaic Epicycles، وهي المسارات الملتفة التي أُضيفت إلى نموذج حركة الكواكب للحفاظ على التصور الخرافي أنّ جميعها تدور حول الأرض. ولي دور كبير في هذه اللعبة، فقد أدخلت عناصر الإثارة المتمثلة بالمادة المعتمة والطاقة المعتمة إلى الكوزمولوجيا القياسية Standard Cosmology الحالية، وأتساءل الآن عما إذا كان النموذج الذي ساعدت على بنائه صحيحًا، وهل كوننا هو انعكاس حقيقي للواقع؟
في السطور التالية سأناقش صحة ذلك، بقدر ما يمكن.
آثار أقدام أحفورية Fossil Footprints
الدليل على أن الكون بدأ بالانفجار الكبير Big Bang هو دليل مهم جدًا. والشاهد الرئيسي على ذلك هو بحر متجانس تقريبًا من إشعاعات ميكروية Microwave radiation بأطوال موجية Wavelengths يتراوح طولها من ميلليمترات إلى بضعة سنتيمترات تملأ الفضاء بأسره.
أثناء مرحلة ما بعد الدكتوراه على يد معلمي ومرشدي بوب ديك Bob Dicke قبل أكثر من نصف قرن، درست فكرة أن الكون المبكر Early universe ربما كان حارًّا وترك وراءه خلفيةً من إشعاعات ميكروية بأطوال موجية طويلة حين بدأ يتوسع ويبرد. وبعد ذلك بفترة وجيزة، وتحديدًا في عام 1964، اكتُشِف إشعاع الخلفية الكونية الميكروي Cosmic microwave background عرضيا من قبل كل من آرنو بينزياس Arno Penzias وروبرت ويلسون Robert Wilson، وكان الاكتشاف في حينه مجرد نتيجة ثانوية لتجارب تختبر معدات اتصالات لاسلكية.
وفي عام 2006 مُنح جون ماثر John Mather حصة من جائزة نوبل في الفيزياء لقيادته العمل الذي أثبت، بالاستعانة بقياسات من القمر الاصطناعي ‘مستكشف الخلفية الكونية’ Cosmic Background Explorer (اختصارا: القمر الاصطناعي COBE)، أن طيف Spectrum إشعاع الخلفية الكونية الميكروي، أي كثافة طاقة الإشعاع عند أطوال موجية مختلفة، يعود إلى أشعة دخلت مرحلة التوازن الحراري Thermal equilibrium. ولن تحدث هذه العملية إلا إذا كانت كثافة المادة المحيطة به كبيرة بما يكفي لاحتجاز الإشعاع، مجبرة إياه على التراخي وصولًا إلى مرحلة التوازن. وهذا ليس حال كوننا الحالي، إذ ينتقل الإشعاع الميكروي داخله بحرية. وأنا أعتبر أن طيف إشعاع الخلفية الكونية الميكروية الذي حُفِظ أثناء توسع الكون وتبريده دليلًا ملموسًا على تطور كوننا ونشوئه من حالةٍ مختلفة، تمامًا كما تخبرنا آثار أقدام الديناصورات عن وجود كائنات عملاقة جابت الأرض يومًا ما.
ذهب النصف الآخر من جائزة نوبل في الفيزياء عام 2006 إلى جورج سمووتGeorge Smoot الذي قاد أبحاثا أثبتت عدم انتظام إشعاع الخلفية الكونية الميكروي. وكانت الاختلافات الطفيفة في كثافتها عبر السماء، والتي رُسمت خرائط مفصلة لها في عمليات القياس الأخيرة، متسقة مع ما هو متوقع من كون متوسع ونتج من حدث انفجار كبير بوجود هذين المكونين الإضافيين والافتراضيين: المادة المعتمة، والطاقة المعتمة.
وعند إضافتي لأول هذين المكونين إلى الخليط في أوائل ثمانينات القرن العشرين، كان دافعي في ذلك -جزئيًّا- هو القياسات المبكرة لإشعاع الخلفية الكونية الميكروي، والتي كانت جيدة بما يكفي لتظهر لنا أن الإشعاع كان منتظما Smooth تمامًا. ومع ذلك، أمكننا أن نرى أن المادة تأتي على شكل كتل كبيرة؛ كالمجرات والمجموعات والعناقيد المجرية Clusters of Galaxies. وقد أدى ذلك إلى الحديث عن أزمة في الكوزمولوجيا. كيف يمكن لجزيئات المادة أن تتجمع مع بعضها البعض بتراكيز مرتفعة دون أن تسحب الإشعاع معها؟
كان اقتراحي هو أن المادة ليست بالمادة “الباريونية”، Baryonic Matter ، النوع الذي يشكلنا أنا وأنت والنجوم والكواكب. فالمادة غير الباريونية التي كانت في ذهني لا تتفاعل مع المادة الباريونية العادية إلا من خلال الجاذبية Gravity، أو مع الإشعاع. ومع تتجمعها تحت تأثير الجاذبية، ستنساب عبر إشعاع الخلفية الكونية الميكروي، مخلفةً إياه دون أن تُؤثِّر في غالبيته.
وحتى لا تصير كمن يؤلف قصةً من قبيل ‘كيف حصل الفهد على النقط التي تغطيه’، عليك أن تكون حذرا من تعدل الفرضيات لتطابق ما تريده أنت. وهنا كان لدي دليلان لأكمل طريقي هذا؛ الأول هو وجود دليل فلكي على أن معظم الكتلة التي تقع على الحدود الخارجية للمجرات لم تكن شديدة التوهج. ولو كانت المادة المرئية فقط هي كل ما هو موجود؛ لتمزقت المجرات إلى شظايا متباعدة عن بعضها البعض، نتيجة السرعة التي تدور بها.
أما الدليل الثاني؛ فمصدره فيزياء الجسيمات Particle Physics. وفي ذلك الوقت كانت هناك عائلتان مؤكدتان للجسيمات الأساسية المعروفة بالليبتونات Leptons: الإلكترون Electron والنيوترينو Neutrino المرافق له، و الميونMuon والنيوترينو المرافق له، ودليل متعاظم على عائلة ثالثة، مؤلفة مما عُرف لاحقًا بالتاو Tau والنيوترينو المرافق له، فلِمَ لا تُوجد عائلة رابعة؟
“احذر من بناء سياق كوزمولوجي قصصي فقط”
تنبع جاذبية هذه الفكرة من أنه لو كانت النيوترينوات الرابعة ثقيلة، وبكتلة Mass تبلغ ثلاثة أضعاف كتلة البروتون Proton، فإن بحرًا متبقيًّا من هذه النيوترينوات، من أيام الكون الحار المبكر، ستنتج منه كثافة المادة المطلوبة للكون ليتوسع بسرعة الإفلات Escape Speed، وهو الاسم الذي أُطلق على معدل التوسع Rate of expansion الذي تعمل الجاذبية عنده على جذب مواد الكون إلى بعضها البعض بما يكفي لإبطائه، ولكن ليس لدرجة إيقافه أو عكسه إلى حالة “الانسحاق الكبير” Big Crunch، وعلى سبيل المقارنة هي سرعة تشبه الصاروخ التي يجب أن يصل إليها ليفلت من جاذبية الأرض، وكي لا يعاود أدراجه ويسقط على الأرض.
آنذاك، بدا أن متوسط كثافة المادة في الكون أصغر من هذا العدد الحرج، بما يكفي لتكون سرعة التوسع ضعفي سرعة الإفلات. وسيقودنا ذلك إلى مصادفةٍ غريبة، وهي أننا حاليا نرصد الكون في الوقت الذي تغلب فيه معدل التوسع على الجاذبية، ليبدأ الكون بالتوسع بحرية. وستُحل هذه المشكلة إذا احتوى الكون على الكثافة الصحيحة للمادة. وفي هذه الحالة، لو قُدر لنا الازدهار والوجود في أي نقطة من تاريخ الكون وكنا مهتمين بتوسعه؛ لكان دومًا يتمدد ويكبر بسرعة مساوية لسرعة الإفلات. وهذه الفكرة مريحة نوعًا ما، وجادل الكثير بصحتها بمن فيهم أنا، لكنها خاطئة.
أعتقد أنه بالنسبة إلى علماء فيزياء الجسيمات الذين كانوا يضعون أسسًا نظرية لنوع من نيوترينو رابع ذي كتلة ضخمة، لم يكن ذلك إلا فكرة مثيرةً للاهتمام. ولربما كانوا مدركين على نحو مبهم الجدل الدائر حول سرعة الإفلات، لكن لم تكن لديهم أدلة كافية على وجود مادة إضافية غير مرئية حول المجرات. ونتج من جمع هذين الدليلين، إلى جانب الحاجة إلى احتساب بحر الإشعاع الحراري المنتظم، نموذج المادة المعتمة الباردة Cold Dark Matter Model. وكلمة “الباردة” تشير إلى أن الجسيمات التي تؤلف المادة المعتمة ستتحرك ببطءٍ بالنسبة إلى توسع الكون العام، وهي خاصية مهمة في هذا النموذج للتأكيد على تشكل المجرات والعناقيد المجرية من النوع الذي رصدناه.
مع طرحي لهذا الاقتراح عام 1982، قدمت تنبؤًا Prediction وحيدًا: درجة حرارة إشعاع الخلفية الكونية الميكروي ستختلف عند أجزاء مختلفة من السماء بمقدار أربعة أجزاء من مليون جزء. وتوافق ذلك مع قياسات القمر الاصطناعي COBE التي أجراها بعد عقدين من الزمن. وتوصلت إلى هذا التنبؤ جزئيًا من خلال عملية تخمين بارعة، والجزء الآخر لأنني قضيت الكثير من الوقت في قياس توزيع المادة على نطاق واسع في الكون، لذا كان لدي ما يرشدني إلى تأثير الجاذبية المتوقعة على الإشعاع.
وفي هذه الأثناء كنت أعمل على قياسات متوسط كثافة المادة في الكون. وهذه الجهود التي بذلتها جعلتني متأكدًا إلى حد ما أن هذه الكثافة صغيرة إلى درجة أن توسع الكون أسرع فعليًّا من سرعة الإفلات، سواء بوجود نيوترينو رابع أم عدم وجوده. ولم يكن هذا الاستنتاج موضع ترحيب، فالتوسع عند سرعة الإفلات يبدو مقنعا جدًا. لكنه بدا بالنسبة إليّ نداءً لإعادة إدخال ثابت كوني ما إلى النموذج.
وفي عام 1917 قدم آينشتاين Einstein هذا الثابت بهدف الحفاظ على كون ساكن Static universe لا يتوسع ولا يتقلص، وهو وضع يبدو أن آينشتاين اعتبره من المسلمات، وأبدى امتعاضه منه حين أثبت الرصد في العقد التالي أن النموذج الساكن غير صحيح. وحتى في يومنا هذا، لا يحبذ علماء فيزياء الجسيمات ذلك، لأن قيمته الطبيعية – كثافة طاقة الفراغ الكمية Quantum vacuum energy density- كبيرة جدا مقارنة بالقيمة المطلوبة والملائمة لتتناسب مع الدليل.
“إن القيمة الصغيرة لثابت آينشتاين منافية للمنطق، لكنها تعمل!”
في عام 1984 طرحت للمرة الأولى إعادة تقديم ثابت كوني بقيمة صغيرة منافية للمنطق لكنها تعمل، تذكرت قول اثنين من الفيزيائيين الشباب القديرين، والذي يشبه تقريبًا اقتباسا من “أليس في بلاد العجائب“: “إنه يفعل ذلك ليزعج الآخرين، لأنه يعلم كم هذا مستفز”. فقد كنت أعلم أن هذا الطرح مزعج، لكنني كنت جادًا، وجاء التبرير لذلك بعد عقدين من الزمن مع ظهور نتائج ثلاثة برامج تجريبية في الكوزمولوجيا جرت على مدى نصف عقد من الزمن امتد نحو عام 2000 تقريبًا.
جاءت المجموعة الأولى من النتائج من طرق صعبة، لكنها عملية ومتقاربة المنهج، لقياس متوسط Average كثافة المادة الكونية، والتي نتج منها عام 2000 دليل جيد يشير إلى أن الكون يتوسع فعليًا وبسرعة أكبر من سرعة الإفلات. وبذلك عنى الطرح العرضي الذي أشرت إليه مسبقاً أن الكثيرين ما زالوا يعتقدون أنه لا بد أن يكون خطأ، لكن القياسات أثرت فيّ بالتأكيد، وفي آخرين فيما أعتقد.
جاء الإثبات الثاني من قياسات معدل تغير التوسع الكوني أثناء دراسة ضوء السوبرنوفا (المستعرات العظمى) Supernovae في مجرات بعيدة.
نحن نرى المجرات البعيدة كما كانت عليه في الماضي بسبب الزمن الذي يستغرقه الضوء ليصل إلينا، كما يعمل انزياح دوبلر Doppler shift على تغيير الأطوال الموجية لهذا الضوء وفقًا للحركة النسبية بين هذه المجرات وبيننا. وبحلول عام 2000 أظهرت البيانات القادمة من السوبرنوفا في مجرات على مسافات مختلفة عنا، وبشكل مقنع نوعا ما، أن معدل التوسع لم يكن أكبر من سرعة الإفلات فحسب، لكنه كان يتزايد بمرور الزمن. وأدت هذه القياسات إلى إعادة تسمية الثابت الكوني إلى الطاقة المعتمة، ولاحقًا في عام 2011، مُنح ثلاثة أعضاء من فريقين متنافسين، شاول بيرلماتر Saul Perlmutter وآدام ريس Adam Ries وبراين شميدت Brian Schmidt ، جائزة نوبل.
أما البرهان الثالث لفرضية الثابت الكوني؛ فكان نتيجة القياسات الدقيقة للاختلافات الحاصلة في درجة حرارة إشعاع الخلفية الكونية الميكروي واستقطابه عبر السماء، والتي فرضت قيدًا محكمًا على تأثيرات كل من الطاقة المعتمة والمادة المعتمة.
ما الذي جعل من الجهود الثلاثة المبذولة تصل إلى الدقة المطلوبة لإجراء عمليات القياس المتقاربة هذه وفي الوقت نفسه؟ أعزو ذلك جزئيًا إلى المصادفة. غير أن ثلاثتهم اعتمدوا على التقدم التكنولوجي الحاصل في الكشف عن الأشعة، ابتداءً من الأشعة السينية وحتى الضوء المرئي وصولًا إلى الموجات الراديوية، وكذلك على التطورات الحاصلة في قدرات الحوسبة والتخزين، للتعامل مع كميات البيانات الهائلة التي نتجت عن عملهم. وطُوِّرت هذه التكنولوجيا بشكلٍ كبير وجانبي لأغراض أخرى، هذه التكنولوجيا هي التي نتج منها أُناس يتجولون ناظرين إلى هواتفهم الذكية بدلا من أن ينظروا إلى الجهة التي يمضون إليها، واعتمدها فلكيون مبتكرون لإجراء الاختبارات الكوزمولوجية.
أقنعت هذه الحالة المتناسقة الناتجة من هذه الطرق الثلاث المختلفة في سبر أغوار الكون معظمَ الكوزمولوجيين بأن النموذج المصحوب بالمادة المعتمة والطاقة المعتمة هو على المسار الصحيح بكل تأكيد. ومنذ ذلك الحين، فقد عززت القياساتُ الأدلة. وكنت قد طوّرت هذه الكوزمولوجيا من أبسط الافتراضات التي اعتقدت أنه بمقدوري المضي قدما بها. غير أنه لم يكن بالإمكان أن تكون جميع تخميناتي صحيحة دومًا. فقد أظهرت القياسات الدقيقة على أرض الواقع أن الشروط الابتدائية التي افترضتها- على سبيل المثال، أحد التفاصيل المتعلقة بالكيفية التي تمزقت بها المادة المعتمة للزمكان Spacetime- كانت خاطئة قليلًا.
بالطبع، كان هناك الكثير من التعديلات التالية، قد يكون أولها فرق 10%في معدل توسع الكون المُشتق بطريقتين مختلفتين. وتستخدم إحداها، وهي قياسات السوبرنوفا التي قدرتها لجنة نوبل لعام 2011، قياسات المسافات التي تفصلنا عن مجرات ومعدلات ابتعادها بالاعتماد على انزياح دوبلر. أما الثانية؛ فقد نتجت من تعديل عوامل نموذج الكوزمولوجيا لتلائم القياسات الدقيقة للكيفية التي تختلف بها إشعاع الخلفية الكونية الميكروي عبر السماء. وإذا كان النموذج صحيحًا، فينبغي على عمليتي القياس أن تُعطيا الإجابة نفسها. وقد يُعزى الاختلاف إلى خطأٍ منهجي طفيف، ولن يكون ذلك مفاجئًا في مثل حالة القياسات الصعبة هذه. بل ربما كان دليلًا على شيء جديد. وعلى الرغم من أنني لم أنضم إلى البحث المتعلق بالكشف عن ماهية الشيء الجديد هذا، لكنني سأكون مسرورًا بالنتائج التي يتوصل إليها الآخرون.
هناك بدائل يمكن استخدامها لاختبار النموذج القياسي للكوزمولوجيا، كتلك المرتكزة على وفرة الهيليوم مثلا. ولدينا ثلاث طرق لتقدير ذلك. الأولى، إن قياس الوفرة النسبية لكل من الهيدروجين ونظيره الديوتيريوم Deuterium يتيح لنا التكهن بكميات الهيليوم المتشكلة في تفاعلات نووية حرارية خلال المراحل المبكرة والحارة من توسع الكون، أي عندما كانت درجة حرارة إشعاع الخلفية الكونية الميكروي بلايين ضعف قيمته الحالية؛ والتي تبلغ 3 درجات كلفن فوق الصفر المطلق. ويفترض هذا التنبؤ أن نموذجنا الكوزمولوجي كان نموذجا تقريبيا جيدا.
“على الرغم من كل أبحاثنا، لا تزال المادة المعتمة مادة افتراضية”
تعتمد الطريقة الثانية لتقدير وفرة الهيليوم على توزيع المادة والإشعاع حين كانت درجة حرارة إشعاع الخلفية الكونية الميكروي تبلغ آلاف أضعاف قيمته الحالية، أي أنه حار بما يكفي ليأين المادة الباريونية ومن ثم لترتبط البلازما الناتجة بقوة مع الإشعاع. والهيليوم أثقل من الهيدروجين، ولذا يؤثر وجوده في حركة البلازما التي تستجيب لضغط الإشعاع المحيط.
أما الطريقة الثالثة، فيمكن لعلماء الفلك قياس كمية الهيليوم الموجودة في النجوم والبلازما المجاورة. وتقدم الطرق الثلاث نتائج متناسقة حتى الآن. وهذا الأمر مثير للإعجاب حقًّا. وبالطبع سيستمرون بذلك مع تطور دقة القياسات. ربما، لكن ألن يكون الأمر مثيرًا إن لم يفعلوا ذلك؟
وحتى لو عززت عمليات التوافق المستمرة ثقتنا بدقة النموذج، يبقى الغموض المركزي المحيط بكل من المادة المعتمة والطاقة المعتمة قائمًا. وتظل المادة المعتمة الباردة مادة افتراضية على الرغم من جميع التجارب المختبرية ذات الحساسية المتزايدة التي أُجريت منذ ثمانينات القرن العشرين، والتي تبحث عن تفاعلاتها العرضية المتوقعة مع المادة الاعتيادية. وسيكون الاكتشاف مثير جدا، لكن ربما لا يتسنى لنا الكشف عن المادة المعتمة التي نعرفها والمنفصلة تماما عن المادة الباريونية والإشعاع، بمعزل عن تأثير الجاذبية الذي يحافظ على تماسك المجرات ببعضها والمألوف لنا.
ما الذي سنفعله بالنسبة إلى الطاقة المعتمة؟ تتركز الآن الكثير من الأعمال على اكتشاف ما إذا كانت قيمتها تتغير مع توسع الكون. وهذا سيعني أنها ليست بالثابت الكوزمولوجي ذي القيمة المختلفة حقًّا، وإنما تؤدي دورًا في ديناميكية الكون، لنستنتج أن هذا الدور سيكون تحديًّا كبيرًا وفرصة عظيمة على حد سواء.
إذن، تبقى هناك تلك التحديات الكبيرة المتعلقة بالكوزمولوجيا الحديثة، كإيجاد شرح دقيق لما حصل في الانفجار الكبير، ففكرة التضخم الكوني Cosmic inflation الأنيقة تمهد الطريق للكثير من المنغصات التي لا تصدق في هذه القصة، وتقترح أن الانفجار الكبير ربما قاد إلى تشكل أكوان متعددة Multiverse خارج كوننا. ولكن مجدداً، تفتقر هذه الفكرة إلى الدليل.
فوضوي وغير مكتمل Messy and incomplete
لم تُقدم لنا أي ضمانة بأننا سنفهم العالم المادي المحيط بنا، أو سنستطيع رصد أشياء كالمادة المعتمة. لكن، وخشية أن تنتابنا شكوك حول حسن سير الفيزياء حتى الآن، علينا أن نضع في اعتبارنا الكيفية التي استطاع بها العلماء والمهندسون التحكم في سلوك الإلكترونات والذرات والجزيئات إضافة إلى المجالات الكهربائية والمغناطيسية، في الهواتف النقالة. فكل هذا قائم على أساس تقريبي غير مكتمل.
لا تزال نظرية المجالات الكهربائية والمغناطيسية التي صاغها جيمس كليرك ماكسويل James Clerk Maxwell في القرن التاسع عشر مستخدمة في تصميم الهواتف النقالة وشبكات الطاقة الكهربائية وغيرها الكثير. ولكن نظرية ماكسويل ليست سوى حالة محدودة من الإلكتروديناميكا الكمية Electrodynamics Quantum. وجاءت هذه النظرية الأكبر بدورها كنتيجة لكسر التناظر Symmetry في النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات، والتي هي أيضًا فوضى عارمة مؤلفة من عوامل تبدو عشوائية. طبعًا، هناك ما هو أفضل، فقد يكون أحد أشكال نظرية الأوتار الفائقة Superstring Theory بانتظار الاكتشاف؟ وماذا بعد ذلك؟
ما أريد قوله هو أن الفيزياء كلها غير مكتملة. وبالتأكيد لا أعني أنها خاطئة، ما أعنيه أن تطويرها ممكن عموماَ. ربما توجد نظرية نهائية في الفيزياء، أو قد تكون تقريبية دومًا. وكذلك في الكوزمولوجيا.
عندما بدأت أبحاثي في الكوزمولوجيا، والتي دامت طيلة العقود الماضية، لم أكن مرتاحا في البداية لأن الموضوع حينها كان مجموعةً من الأفكار التي تفتقر إلى الأدلة، لكن الأدلة متوفرة الآن بكثرة وهي واعدة، على الرغم من أن المكونات الافتراضية لا تزال موجودة. ولا أتوقع إثبات أن نموذجنا الحالي غير صحيح، لكنني أعتقد أنه بوسعنا فعل الأفضل، لنتيح المجال للكوزمولوجيين في المستقبل حصد نصيبهم المستَحق من جوائز نوبل.
نبذة عن الكاتب:
جيم بيبلز Jim Peebles يشغل كرسي ألبرت آينشتاين الفخري في جامعة برينستون Princeton University، وقد مُنح جائزة نوبل للفيزياء عام 2019 مناصفة عن إسهاماته في فهمنا لتطور الكون ونشوئه وموقع الأرض في الكوزموس وصدر له كتاب قرن الكوزموس Cosmology’s Century في يونيو 2020.
© 2020, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC