أين تعيش كائنات أعماق البحار؟ حيث لا تتحلل؟
الباحثون يرسمون خرائط المناطق التي تعيش فيها مجتمعات قاع البحار، مما قد يعقد التنقيب في أعماق البحار
بقلم إيريك ستوكستاد
تغطي قاع البحر الموحلة الشاسعة أكثر من 60% من الكوكب، مما يجعلها مجتمعة أكبر موئل Habitat على الأرض. للوهلة الأولى، تبدو هذه الأعماق الباردة التي لا تصلها أشعة الشمس متشابهة إلى حد ما. ومع ذلك، فإن الحيوانات التي تعيش هناك، على بعد كيلومترات تحت السطح، تفضل بعض المناطق على غيرها، وذلك وفقاً لدراسة جديدة. ما الذي يفسر تفضيلاتها؟ يقول المؤلفون إن شيء لا يمكنهم رؤيته أو الإحساس به، ولكنه حد غير مرئي ومهدد للحياة تفرضه كيمياء مياه البحر.
يحدد هذا الحد المكان الذي يذوب عنده عنصر مهم للعديد من أنواع الحياة البحرية – ألا هو كربونات الكالسيوم – بشكل طبيعي. فقد عرف الباحثون، منذ فترة طويلة، أن كائنات مجهرية ذات أصداف تسمى الفورامنيفرا (المُثقَّبات/ المُنْخَرِبات) Forams ستختفي في ظل هذه الظروف القصوى. ويشير العمل الجديد إلى أن هذا التقييد على الكربونات يمكن أن يؤثر أيضاً في المكان الذي تعيش فيه الحيوانات الكبيرة. «إنه أمر رائع»، كما يقول مارك كوستيلو Mark Costello، عالم الإيكولوجيا البحرية في جامعة نورد Nord University، والذي لم يشارك في هذا العمل المنشور في 24 يوليو 2023 في مجلة نيتشر إيكولوجي آند إيفولوشن Nature Ecology & Evolution. وتابع قائلا: «هذا الحد سيكون محركاً رئيسياً للتنوع البيولوجي في أعماق البحار في كل مكان». وأشار المؤلفون إلى أن هذه النتيجة قد تؤدي أيضاً إلى مناقشات جديدة حول تنظيم التنقيب في أعماق البحار، وهو ما يمثل تهديداً مثيراً للجدل وشيكاً على الحياة في السهول السحيقة.
منذ ما يقرب من عقد من الزمن، بدأ إريك سيمون لليدو Erik Simon-Lledó، عالم الإيكولوجيا البحرية في المركز الوطني لعلوم المحيطات U.K. National Oceanography Centre في المملكة المتحدة، بدراسة تنوع الحياة في منطقة كلاريون كليبرتون Clarion-Clipperton Zone. هذا هو الجزء من السهل السحيق في شمال شرق المحيط الهادي الذي يمتد إلى نحو ستة ملايين كيلومتر مربع من المكسيك إلى جنوب هاواي. استكشفت شركات التنقيب قاع المنطقة لأنها تحتوي على مخازن ضخمة من العقيدات المتعددة المعادن Polymetallic nodules، وصخور بحجم البطاطس غنية بالمنغنيز ومعادن أخرى ذات قيمة. والعلماء مهتمون بهذا الأمر، على أمل بأن يساعد هذا الاكتشاف على توجيه اللوائح البيئية وإرشادها حول كيفية التعامل مع عمليات التنقيب المستقبلية – إضافة إلى التعرف إلى هذه النظم الإيكولوجية الغامضة. فأحد الأسئلة الأساسية هو كيف، أو ما إذا، توجد الحيوانات في مجتمعات محدَّدة، كما هي الحال على الأرض. لذلك، فحص سيمون لليدو وزملاؤه الصور التي التقطتها روبوتات أعماق البحار تتجول في المنطقة.
غالباً ما يتعذر على الباحثين تحديد الأنواع من الصور الفوتوغرافية وحدها، وأحياناً تكون الأجزاء المميزة من التشريح – مثل تلك الموجودة على الجانب السفلي، غير مرئية من الأعلى – لذلك وصفوا الأشكال العامة للكائنات التي تم تصويرها في 411 نمطا. شقائق نعمان Anemones عملاقة لها مجسات ناعمة طويلة، في حين تنتصب مراوج الشعاب المرجانية Fan corals طويلة وصلبة. مخلوق مميز آخر هو القريدس ذو الذراع الطويلة Long-armed shrimp الذي يدافع بقوة عن تلال الرواسب التي يبنيها لأسباب غير معروفة. وبعدما جمع العلومات بياناتهم معا، توصل الباحثون إلى أكثر من 50 ألف مخلوق من الأعماق في مجموعة بياناتهم.
وبينما كان سيمون لليدو يرسم خريطة مواقع هذه الحيوانات، وجد خطا فاصلا واضحا بين المكان الذي تفضل الوجود فيه وبقية الأماكن الأخرى. يقول سيمون لليدو: «لقد كانت لحظة اكتشاف مدهش».
وجد الفريق أن المستويات الأعلى من المنطقة السحيقة، التي تتراوح بين 3,800 و4,300 متر، مليئة بالحيوانات التي تتطلب كربونات الكالسيوم لأصدافها وهياكلها العظمية، مثل الرخويات الصدفية Shelled mollusks والشعاب المرجانية اللينة. في المياه العميقة، بين 4,800 5,300 متر، كانت الحيوانات رخوة الجسم مثل خيار البحر Sea cucumbers أكثر وفرة.
احتوت المنطقة الواقعة بينهما على مزيج من كلا المجتمعين. حدث هذا التقاطع فيما يسمى بعمق تعويض الكربون Carbonate compensation depth (اختصاراً: العمق CCD)، حيث يتسبب ضغط المحيط ودرجة الحرارة والحمضية وعوامل أخرى في إذابة كربونات الكالسيوم (يختلف العمق الدقيق عبر مناطق المحيط). يجب على الكائنات الحية التي تعيش تحت العمق CCD إعادة بناء أصدافها أو الهياكل العظمية الكربونية باستمرار، وإلا فإنها ستذوب. وبالنسبة إلى بعض المجموعات، قد يكون هذا أكثر مما تتمكن من تحمله.
يقول سيمون لليدو إن تحديد ما يعيش في السهول السحيقة أمر مهم لتنظيم التنقيب في أعماق البحار. إذ يقلق الباحثون من التأثير المباشر لإزالة العقيدات، التي تعد موطناً أساسياً للشعاب المرجانية والحيوانات الأخرى التي تحتاج إلى السطح الصلب كمكان للارتباط والنمو. ومما يثير القلق أيضاً إثارة التنقيب للرواسب في المياه وتعكيرها. قد تعيق هذه الرواسب الحيوانات تغذي الحيوانات التي تتغذي بالترشيح Filter-feeding animals، على سبيل المثال. يمكن أن تكون تأثيرات عمليات التنقيب أكثر أو أقل حدة بالنسبة إلى مجموعات مختلفة حسب المكان. إذ يقول لليدو: «من المرجح أن يحتاج بروتوكول تقييم الأثر إلى المراجعة، وأن يكون مختلفاً في المنطقة الضحلة وفي العمق». توافق عالمة الإيكولوجيا البحرية أنجيليكا براندت Angelika Brandt من معهد سينكينبيرغ للأبحاث Senckenberg Research Institute على أنه: «من الضروري معرفة التفاصيل من أجل الحفاظ على البيئة».
توضح الدراسة بلا شك أن أنواعاً مختلفة من الحيوانات تعيش في أعماق مختلفة في السهول السحيقة، كما يقول ليس واتلينغ Les Watling، عالم المحيطات البيولوجي بجامعة هاواي University of Hawaii في مانوا، والذي لم يشارك في هذا العمل. ويتابع قائلا: «من الواضح أن شيئاً ما يحدد حدود العمق لكل نوع من الأنواع».
لكنه غير مقتنع بأن العمق CCD هو المسؤول. ويشير واتلينغ إلى أن بعض المجموعات التي لها أجسام تحتوي على كربونات الكالسيوم، مثل أقلام البحر Sea pens – حيوانات لاسعة من أقرباء الشعاب المرجانية والقناديل – كانت في الواقع أكثر وفرة أسفل العمق CCD مما فوقها، على عكس ما توقعه الباحثون. هناك احتمال آخر، كما يقول، وهو أن الضغط الشديد لمستويات أعمق يمكن أن يتسبب في تشوه البروتينات إذا لم يكن لدى الحيوانات ما يكفي من جزيئات واقية معينة تسمى الأوزمولايت Osmolytes.
تقول براندت إن تحديد دور العمق CCD في تشعب المجتمعات التي تعتبر السهول السحيقة موئلاً لها سيتطلب دراسة أكثر تفصيلاً وشمولا للأنواع هناك.
للأسف، يمكن أن يوفر ارتفاع مستويات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي تجربة طبيعية قاتمة. مع زيادة ثاني أكسيد الكربون في المحيط من الغلاف الجوي، يتوقع بعض العلماء أن العمق CCD سيرتفع. إذا ارتفع بضع عشرات من الأمتار داخل السهل السحيق، فإن المنطقة الصالحة لسكن للأنواع الأكثر حساسية يمكن أن يتقلص بآلاف الكيلومترات المربعة. ويقول كوستيلو: «سيكون تحولاً كبيراً في الموائل، وربما يعادل التوسع المفاجئ لصحراء».
© 2023, American Association for the Advancement of Science. All rights reserved