أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
مواضيع غلاف العدد

الوَحدات

في الجزء الأول من سلسلتنا الجديدة، يشرح غوفرت شيلينغ طبيعة فيزياء الجسيمات

علم الفلك Astronomy هو علم دراسة الأجرام الكبيرة جداً: الكواكب، والنجوم، والمجرّات، والكون Universe ككل. وعلى النقيض من ذلك، تتعامل فيزياء الجسيمات Particle physics مع أصغر الأشياء التي نعرفها: وحدات البناء الأولية للمادة، الجسيمات الأصغر من الذرَّة. ومع هذا الاختلاف في المقياس، ربما تبدو القواسم المشتركة بين المجالين ضئيلة. ومع ذلك ما يتضح هو أنهما يرتبطان كلٌّ منهما بالآخر ارتباطاً وثيقاً. في هذه الدورة التدريبية الجديدة للمبتدئين، المكونة من ستة أجزاء، سنستكشف أساسيات ما صار يُعرَف بـ”فيزياء الجسيمات الفلكية“ Astroparticle physics.

طبيعة فيزياء الجسيمات
تتكون البروتونات من كواركَين علويين وكواركَين سفليين

لدراسة جيولوجيا القمر لن تحتاج إلى معرفة سلوك الجسيمات الأولية المفردة. غير أن علماء الفلك لن يدركوا آليّات تطور النجوم من دون معرفة العمليات الذرية Atomic processe، مثل الاندماج النووي Nuclear fusion. ولم تكن انفجارات السوبرنوفا (المستعر الأعظم) Supernova لتحدث لولا الخصائص الغريبة لجسيمات النيوترينو Neutrinos. أما النوى المجرية النشطة Active galactic nuclei، التي تنشط بتأثير ثقوب سوداء فائقة الكتلة Supermassive black hole، فهي تقذف أقوى البروتونات والإلكترونات التي رصدناها على الإطلاق. كما أن كوننا بعد الانفجار الكبير Big Bang مباشرة كان تجربة كبيرة من الجسيمات المتفاعلة فيما بينها. 

افترض فلاسفة اليونان القدماء أن كل شيء في الطبيعة يتألف من أربعة عناصر أساسية فقط: التراب والماء والهواء والنار. ومنذ فترة طويلة تعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد، اقترح ديموقريطس من أبديرا Democritus of Abdera أيضاً أن المادة كلها تتكون من وحدات بنيوية أساسية، أطلق عليها اسم الذرَّات Atoms، من الكلمة اليونانية التي تعني ”غير قابل للتجزئة“ Indivisible. غير أننا لم نصل إلى النظرة الحديثة للذرات على أنها أصغر ممثل لعشرات العناصر الكيميائية في الجدول الدوري Periodic table إلا في القرن التاسع عشر.

طبيعة فيزياء الجسيمات
تسمح البيئات الفضائية المتطرفة، مثل الثقوب السوداء، للفيزيائيين برصد تفاعلات الجسيمات ”على طبيعتها“

فضلاً عن ذلك اكتشف علماء الفيزياء أن الذرَّات على الرغم من اسمها ليست بغير قابلة للتجزئة في واقع الأمر. وبدلاً من ذلك هي تتكون من جسيمات أصغر حجماً.

نحن نعلم حالياً أن العالم المادي يشبه صرحاً ضخماً من مكعبات الليغو، مبني من ثلاثة جسيمات أولية مختلفة فقط: الكواركات العلوية Up quarks، والكواركات السفلية Down quarks، والإلكترونات Electrons. وبما أن الكواركات عادةً ما ترتبط ضمن جسيمات نووية تُعرف بـ”البروتونات“ Protons (كواركان علويان وكوارك سفلي واحد)، والنيوترونات (كواركان سفليان وكوارك علوي واحد)، فمن المنصف القول أيضاً إن كل شيء في الكون يتكون من بروتونات ونيوترونات وإلكترونات. تحتوي النوى الذرية على أعداد مختلفة من البروتونات والنيوترونات؛ ويحدد عدد البروتونات العنصرَ الكيميائي الذي نتعامل معه. وتحيط بالنواة سحابة من الإلكترونات.

اكتُشِفت الإلكترونات والبروتونات والنيوترونات في الأعوام 1897، و1917، و1932، على التوالي. ولم يكتشف الجسيم الأولي الرابع، وهو النيوترينو Neutrino عديم الكتلة تقريباً (ليس جزءاً من العالم المادي ولكنّ له وجوداً مستقلاً) قبلَ العام 1956. وعلى مدار العقود التالية، طوّر علماء فيزياء الجسيمات نموذجهم القياسي Standard Model الناجح، الذي لا يصف فقط الوحدات البنائية الأساسية للمادة، بل يصف أيضاً تفاعلاتها المتبادلة من خلال أربع قوى أساسية: القوة النووية القوية، والقوة النووية الضعيفة Strong and weak nuclear forces، والقوة الكهرومغناطيسية Electromagnetic force، والجاذبية Gravity.

ومما يثير الدهشة أنه قد اتضح أن الجسيمات الأولية الأربعة المذكورة من قبل ليست هي الكلمة الأخيرة. فالطبيعة تعرف ثمانية جسيمات إضافية تشبه إلى حد كبير الكوارك العلوي والكوارك السفلي والإلكترون والنيوترينو، إلا أنها أكبر كتلة. وهناك اختلاف مهم آخر: الجسيمات التي تحتوي على أحد هذه الكواركات الأربعة ثقيلة الوزن (تحمل الأسماء التالية: الغريب Strange، والفاتن Charm، والقاعي Bottom، والقمي Top) هي ليست مستقرة. فبمجرد أن يجري إنتاجُها في عملية حيوية ما (انظر أعلى لتعرف العلاقة بين الكتلة والطاقة)، فإنها تتفكك على الفور إلى جسيمات أقل كتلة وهي عملية تُعرف بـ”الاضمحلال“ Decay. وينطبق الأمر نفسه على ابنَي عمومة الإلكترون الضخمين: الميون Muon والتاو Tau.

لهذا السبب يحتاج علماء فيزياء الجسيمات إلى الكون. ففي حين أن علماء الفلك لا يستطيعون الاستغناء عن معرفة العالم تحت الذري لفهم النجوم وانفجارات السوبرنوفا والمجرّات النشطة والانفجار الكبير فهماً حقيقياً، يستخدم علماء فيزياء الجسيمات الكون كمختبر طبيعي تُجرَى فيه ”تجارب“ على نطاق أكثر طاقة وقوة بكثير مما يمكن لأي مسرّع جسيمات أرضي استنساخه.

غوفرت شيلينغ Govert Schilling:
صدر أحدث كتبه ”الفيل في الكون
The Elephant in the Universe“
عن مطابع جامعة هارفارد
وكما كتب عالم الفلك الملكي مارتن ريس Martin Rees ذات مرة: ”يوفر لنا الكون المختبر الوحيد الذي تتحقق فيه الظروف القاسية بما يكفي لاختبار الأفكار الجديدة في فيزياء الجسيمات“. وبالمثل، تسلط تجارب فيزياء الجسيمات هنا على الأرض الضوء على أكبر ألغاز الكون كما سنرى في أجزاء لاحقة من هذه السلسلة. 

– الشهر المقبل، الأشعة الكونية.


مشهد من داخل مصادم الهادرونات الكبير في مختبر سيرن CERN، في جنيف

الكتلة والطاقة

تُظهر معادلات آينشتاين أنه يمكن استخدام الطاقة لقياس الكتلة

الجسيمات تحت الذرية Subatomic particles لا تزن الكثير. فكتلة البروتون (وهو في الأساس نواة ذرة الهيدروجين) تساوي 1.672 x -24 10 غ فقط أي جزء من بليون جزء من بليون من الغرام (1.672 يوكتوغرام). والإلكترون أقل منه كتلة بـ 1,836 مرة أخرى. وبدلاً من استخدام اليوكتوغرام، تستخدم فيزياء الجسيمات وحدات الطاقة للدلالة على كتل الجسيمات. فوفقاً لمعادلة آينشتاين E = mc2، نجد أن الكتلة والطاقة متبادلتان. لذا يستخدم علماء فيزياء الجسيمات وحدة الإلكترون فولت Electron volts، وهي الطاقة التي يكتسبها إلكترون واحد في أثناء تسارعه عبر فولت واحد. وبهذه الوحدات تبلغ كتلة البروتون 938,272,081 إلكترون فولت، أو 938 ميغا إلكترون فولت (MeV). ويزن الإلكترون 511 كيلو إلكترون فولت (keV).

إن التعبير عن الكتلة بوحدات الطاقة له ميزة كبيرة. من خلال المعادلة E = mc2 (أو m = E/c2)، يمكن توليد جسيمات جديدة قصيرة العمر من طاقة تصادم الجسيمات في مسرِّع مثل مصادم الهادرونات الكبير Large Hadron Collider (اختصاراً: المصادم LHC) في مختبر المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية CERN، في جنيف، سويسرا؛ ومن ثم فإن الطاقة المتاحة تخبرك بالكتلة القصوى للجسيمات التي يمكن إنتاجها. على سبيل المثال، كان مصادم الهادرونات الكبير هو أولَ آلة قوية بما يكفي لإنتاج جسيم هيغز Higgs particle الذي طال انتظاره (في العام 2012)، والذي تبلغ كتلته ما يزيد قليلاً على 125 غيغا إلكترون فولت (GeV).

 

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

Back to top button