الأصول المبكرة للذاتوية
الأصول المبكرة للذاتوية(*)
إن البحوث الجديدة الهادفة إلى كشف مسببات هذا الخلل
المحير تركز على الجينات التي تتحكم في تنامي الدماغ.
<M .P. رودير>
طفل ذاتوي في السابعة من عمره يحاول الإمساك بفقاعة صابون في مدرسة خاصة بالأطفال المصابين بالذاتوية (التوحّد) في ولاية نيوجيرسي. |
ظلت الذاتوية(1) (التوحد) تحير العلماء منذ ما يزيد على نصف قرن. فهذا الخلل السلوكي المركب ينطوي على تنوع كبير في الأعراض، التي يظهر معظمها عادة قبل أن يبلغ الطفل سن الثالثة. إن الأطفال الذاتويين (المصابين بالذاتوية) يعجزون عن تفهم أحاسيس الآخرين، فيفشلون في تعرف الغضب أو الحزن أو النية في المنابلة manipulation. وتكون المهارات اللغوية لهؤلاء محدودة في الغالب، ويجدون صعوبة في المبادرة إلى الحديث مع الآخرين أو مواصلته، إضافة إلى أنهم كثيرا ما يبدون انشغالا مبالغا فيه بشخص أو فعل بعينه أو إيماءة معينة.
وهذه السلوكيات قد تكون مرهقة للغاية، إذ كيف يمكن وضع طفل ما في صف مدرسي نمطي إذا كان لا يمكن ثنيه عن ضرب رأسه بطاولته؟ أو كيف يمكن لطفل ما أن يكوّن صداقات إذا كان اهتمامه الأساسي في المفكرات (الروزنامات)؟ وعندما يعاني الأطفال الذاتويون تخلفا عقليا أيضا ـ كما هي حال معظمهم ـ فإن التكهن بمآل (إنذار) المرض prognosis يصبح أمرا أكثر سوءا. ويمكن للمعالجة السلوكية المكثفة أن تحسن من وضع العديد من المصابين، إلا أن أعراضهم قد تجعل من المستحيل عليهم الاعتماد على أنفسهم، حتى لو كانوا يتمتعون بمعدلات ذكاء IQ طبيعية.
لقد بدأت بالاهتمام في البحث عن أسباب الذاتوية منذ وقت قريب ـ وبالمصادفة تقريبا. فقد ركزت في السابق، باعتباري متخصصة في علم الجنينembryologist، على العيوب (التشوهات) الولادية المختلفة التي تصيب الدماغ. وفي مؤتمر علمي عقد في العام 1994، استمعت إلى بحث متميز بحق في هذا الموضوع. فقد وصفت متخصصتان في طب العيون عند الأطفال، وهما <T .M.ميلّر> [من جامعة إيلينوي في شيكاگو] و<K. ستروملاند> [من جامعة گوتبورگ في السويد]، نتيجة مدهشة ظهرت في أثناء دراستهما لمشكلات حركية العين عند ضحايا عقار الثاليدومايد thalidomide، وهو دواء لعلاج الغثيان الصباحي morning-sickness عند الحوامل أدى إلى حدوث جائحة من العيوب الولادية في الستينات من القرن العشرين. وكان الخاضعون للدراسة من البالغين الذين سبق أن تعرضوا لهذا العقار وهم في أرحام أمهاتهم. وبعد فحص هؤلاء الأشخاص، لاحظت ميلر وستروملاند أمرا غاب عن الباحثين السابقين: فقد كان 5% من هؤلاء المفحوصين يعانون الذاتوية، وهي نسبة أعلى بنحو ثلاثين ضعفا من معدل حدوثها بين عامة الناس.
لقد أصبت لدى سماعي هذه النتائج بصدمة تَعرُّف (إدراك) shock of recognition مفاجئة؛ إذ كان الإحساس قويا، بحيث أصبت بالدوار وبدأ معدل تنفسي بالتسارع. ففي محاولاتهم لتحديد مسببات الذاتوية ظل الباحثون فترة طويلة يركزون على تحديد توقيت بداية حدوثه بدقة. وركزت التكهنات السابقة على الفترة الأخيرة من الحمل أو الفترة التالية للولادة لتحديد زمن حدوث هذا الخلل، إلا أنه لم تتوافر الأدلة لدعم أي من هاتين الفرضيتين. وفجأة جاءت البيانات (المعطيات) حول الثاليدومايد لتلقي ضوءا جديدا ساطعا على هذا الموضوع، فقد أشارت هذه البيانات إلى أن منشأ الذاتوية يكون في الأسابيع المبكرة من الحمل، عند بداية تنامي دماغ الجنين وجهازه العصبي. وجاءت دراسة ميلر وستروملاند لتقنعني بأن لغز الذاتوية قد يكون في طريقه إلى الحل قريبا.
العوامل الوراثية
من بين كل 000 10 طفل يولد 16 على الأقل وهم مصابون بالذاتوية أو بأحد الاضطرابات المتعلقة بها [انظر ما هو مؤطر في الصفحة 16]. ومنذ تَعرُّف العلماء الذاتوية أول مرة في العام 1943 قاموا بجهود كبيرة في سبيل وصف أعراضها، إلا أن الأساس البيولوجي للذاتوية بقي خافيا عليهم ـ وهو أمر مؤسف، لأن فهم منشأ هذه الحالة يمكن أن يساعد الباحثين على تعرف عوامل الخطر الأساسية المتصلة بها، وبالتالي إمكانية تصميم معالجات جديدة لمواجهتها.
وعبر تفحصهم لأنماط وراثة هذا الخلل، بيَّن الباحثون بأنه ينتشر في العائلات ولكن ليس وفق أسلوب معين. وإن احتمال تشخيص هذا الخلل لدى إخوة المصابين بالذاتوية يتراوح بين3- 8%، أي بمعدل يفوق كثيرا احتمال حدوثه بين الناس العاديين البالغ 0.16%، إلا أنه يبقى أقل من احتمال 50% الذي يميز الأمراض الوراثية الناجمة عن طفرة سائدة (غالبة) وحيدة singledominant mutation؛ إذ تكفي فيها وراثة فردة(2) واحدة من الجينة المعيبة من أحد الأبوين لإحداث الخلل، أو احتمال 255% الذي يميز طفرة متنحية (مغلوبة) وحيدة single recessive mutation، وهذا يتطلب حدوث المرض بوراثة فردة من الجينة المعيبة من كلا الأبوين. وتلائم هذه النتائج النماذج التي تسهم في حدوثها متغايرات variants تنتمي إلى جينات متعددة. ومما يُعقِّد الأمور أكثر، أن أقرباء المصابين بالذاتوية يظهرون بعضا من أعراض الحالة مع أنهم لا يحققون جميع المعايير اللازمة لتشخيص الذاتوية لديهم. وقد يمتلك هؤلاء الأقارب بعضا من المتغايرات الجينية المتعلقة بالذاتوية ـ كائنا ما كانت، إلا أنه لسبب ما لا يتم لديهم التعبير عن هذه العوامل الوراثية تعبيرا كاملا.
إن دراسات التوائم في المملكة المتحدة تؤكد أن للذاتوية أسسا وراثية، إلا أنها تشير إلى أن للعوامل البيئية دورا أيضا. فمثلا، إذا كانت الذاتوية ناجمة عن الجينات فقط، فإن التوائم الأحادية الزيجوت (المثيلة) monozygotic twins التي تتشارك في الجينات نفسها (لأنها من بويضة واحدة) ينبغي أن يكون احتمال تشاركها في التشخيص نفسه (الإصابة بالذاتوية) قدره 100%. ولكن احتمال إصابة الشقيق التوأم لأحد المصابين بالذاتوية هو 60% فقط. كما أن احتمال وجود بعض أعراض الذاتوية عند هذا التوأم هو 86%. وترينا هذه الأرقام أن ثمة عوامل أخرى تؤثر في التأهب الوراثي لهذا الخلل.
الذاتوية وعلم الجنين
إن العديد من عوامل المخاطر البيئية معروف لنا، فالتعرض لڤيروس الحصبة الألمانية rubella أو للمواد المسببة لتشوهات الولادة كالإثانول ethanol أو حمض الڤالپرويك valproic acid بينما الجنين في الرحم، يزيد من احتمال حدوث الذاتوية. ويتزايد معدل حدوثها عند المصابين ببعض الأمراض الوراثية، مثل بيلة الفينيل كيتون(3) phenylketonuria والتصلب الحدبي(4) tuberous sclerosis. غير أن أيا من هذه العوامل قد لا يكون شائعا بحيث يتسبب في حدوث العديد من الحالات. إن أكثر حالات التعرض للأمراض أو المواد الخطرة غالبا ما يؤثر في التوأمين كليهما وليس في أحدهما فقط. ويتوقع أن يكون تأثير بعض العوامل البيئية أصعب تقصيا من تلك التي تم تعرفها إلى الآن. ولا يعلم الباحثون كيف يجتمع عدد من العوامل للتسبب في حدوث الأعراض عند بعض الناس، في حين ينجو بعضهم الآخر. إن هذا التفاوت هو ما يجعل البحث عن مسببات الذاتوية صعبا على وجه الخصوص.
تشتمل تأثيرات الذاتوية على تغيرات في جذع الدماغ، وهي المنطقة التي تعلو مباشرة النخاع (الحبل) الشوكي (في اليسار). يكون جذع الدماغ لدى المصابين بالذاتوية أقصر من جذع الدماغ الطبيعي (في الأسفل): تكون البنى الواقعة في الوصل ما بين الجسر pons والنخاع medulla (كالنواة الوجهية والجسم المنحرف trapezoid body) أقرب إلى بنى النخاع السفلي lower medulla (النواة تحت اللسانية hypoglossal nucleus والزيتونة السفلية posterior olive)، كما لو أن حزمة من النسيج قد فُقِدت. ويفتقر جذع الدماغ لدى الذاتوي أيضا إلى الزيتونة العلوية ويحتوي على نواة وجهية أصغر من المعتاد. وتغيرات كهذه يمكن أن تحدث فقط في المرحلة المبكرة من الحمل. |
وأضافت ميلر وستروملاند في بحثهما للعام 1994 التعرض لعقار الثاليدومايد داخل الرحم إلى طائفة العوامل البيئية المسهمة في حدوث الذاتوية. فقد أظهر كافة مرضى ميلر وستروملاند ـ وهم أفراد سويديون بالغون مولودون في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات من القرن العشرين ـ بعضا من التشوهات المميزة لتأثير الثاليدومايد، كالأذرع والأرجل القصيرة، وتشوه أو غياب الأذنين والإبهامين، وخلل عصبي وظيفي في العين وعضلات الوجه. وبما أن العلماء يعرفون توقيت تنامي أعضاء الجنين خلال كل مرحلة من مراحل الحمل، فإنهم يستطيعون بدقة تحديد الأيام التي يمكن فيها لتشوه معين أن ينشأ؛ فالإبهام يتأثر مبكرا في اليوم 22 من الحمل، والأذنان ما بين اليومين 20 و33، والذراعان والرِّجْلان ما بين اليومين 25 و35. أما ما جعل دراسة ميلر وستروملاند الجديدة بالغة الإثارة فاكتشافهما أن معظم ضحايا الثاليدومايد المصابين بالذاتوية عانوا تشوهات في الأجزاء الخارجية من الأذنين، في حين خلت أذرعهم وأرجلهم من أية تشوهات، مما يدل على أن هؤلاء الأشخاص تعرضوا للأذية في مرحلة مبكرة جدا من الحمل ـ بين اليومين 20 و 24، أي قبل أن يعرف الكثير من النساء بحملهن.
من بين كل 10 آلاف طفل يولد 16
على الأقل وهم مصابون بالذاتوية
أو بأحد الاضطرابات المتعلقة بها.
بالنسبة إلى علماء الجنين فإن معرفة توقيت الحدوث لها دلالة كبيرة في فهم ماذا حدث للجنين. وفي حالة الذاتوية الناجمة عن الثاليدومايد فإن الفترة الحرجة تكون أبكر بكثير مما قد خمنه العديد من الباحثين؛ إذ تتكون قلة من العصبونات في الأسبوع الرابع من الحمل، ويكون معظمها عصبونات محركة تابعة للأعصاب القحفية cranial nerves، أي الأعصاب التي تتحكم في عضلات العينين والأذنين والوجه والفك والحلق واللسان. إن الأجسام الخلوية لهذه العصبونات تقع في جذع الدماغ، أي المنطقة ما بين النخاع (الحبل) الشوكي وسائر الدماغ. وبما أن هذه العصبونات تتنامى في الوقت نفسه الذي تتطور فيه الأذن الخارجية، فإن بوسع المرء أن يتنبأ بأن ضحايا الثاليدومايد الذاتويين سيعانون مشكلات في وظائف الأعصاب القحفية أيضا. وقد أكدت ميلر وستروملاند هذه النبوءة، إذ بيَّنتا أن جميع الأشخاص المصابين بالذاتوية عانوا خللا في حركة العين أو في تعبيرات الوجه أو فيهما كليهما.
تختلف العيوب الولادية الناجمة عن الثاليدومايد بحسب وقت تناول الأم للدواء (في الأعلى). وقد دلت دراسة في العام 1994 أن ضحايا الثاليدومايد المصابين بالذاتوية كانت لديهم تشوهات في الأذنين، في حين بقيت أطرافهم طبيعية، مما يشير إلى أن العقار تسبب في الأذية بين اليومين20-24 من بدء الحمل، عندما يبدأ الجهاز العصبي للجنين بالتشكل (في اليمين). |
لقد كان السؤال المنطقي التالي هو: «هل تُماثل حالات الذاتوية الناجمة عن الثاليدومايد سائر الحالات المجهولة السبب، أم أن هناك اختلافا بينهما؟» إذا تركنا الأعراض السلوكية جانبا فإن المصابين بالذاتوية كثيرا ما يكونون طبيعيين ظاهريا بل ويوصفون بالجاذبية غير العادية. ولا يعاني هؤلاء بالتأكيد أي خلل في القامة، وتكون رؤوسهم طبيعية أو مائلة للكبر، بيد أن الدراسات القليلة التي اهتمت بالمظاهر اللاسلوكية (البنيوية) لمرضى الذاتوية توصلت للاستنتاج بأن الكثير من هؤلاء المرضى يعاني تغيرات بدنية أو عصبية بسيطة كتلك المشاهدة في الذاتوية الناجمة عن الثاليدومايد. فمثلا التشوهات الطفيفة في الأذن الخارجية ـ وبخاصة دورانها للخلف، حيث تميل قمة الأذن إلى الخلف أكثر من 15 درجة ـ تكون أكثر شيوعا عند الأطفال المصابين بالذاتوية منها عند الأطفال الطبيعيين أو المتخلفين عقليا أو إخوة الذاتويين. أما الخلل الوظيفي في حركة العين فقد كان ارتباطه بالذاتوية معروفا قبل دراسة الثاليدومايد، كما يعد غياب تعبيرات الوجه أحد المعايير السلوكية المعتمدة لتشخيص الذاتوية.
البيولوجيا العصبية للذاتوية
ولكن هل من الممكن أن تنجم جميع أعراض الذاتوية عن تغيرات في وظيفة الأعصاب القحفية؟ يبدو أن الجواب هو لا، وعلى الأرجح فإن الخلل الوظيفي العصبي عند الذاتويين يعكس أذية دماغية مبكرة، لا تقتصر على الأعصاب القحفية فحسب، بل تؤثر تأثيرا ثانويا في التنامي اللاحق للدماغ؛ أي إن إصابة جذع الدماغ يمكن أن تعيق التنامي الطبيعي أو التشبيك (التوصيل)wiring الخاص بأجزاء الدماغ الأخرى، بما فيها تلك التي تشارك في بعض الوظائف الدماغية العليا كالكلام، مسببة الأعراض السلوكية للذاتوية. أو قد تكون تشوهات الأذنين والخلل الوظيفي للأعصاب القحفية عبارة عن تأثيرات جانبية لأذية لم ندركها بعد. ومهما تكن حقيقة الأمر، فإن الشذوذات المجهولة السبب الموجودة عند المصابين بالذاتوية تشابه إلى حد كبير تلك الموجودة عند ضحايا الثاليدومايد. لقد كان الاستنتاج جليا بأن الكثير من حالات الذاتوية، إن لم يكن كلها، يبدأ في مرحلة مبكرة جدا من الحمل.
ولم يسبق ـ إلا في النادر ـ أن كانت منطقة الدماغ التي أشارت إليها دراسة الثاليدومايد ـ أي جذع الدماغ ـ محل اعتبار من الباحثين في الدراسات حول الذاتوية أو الأنواع الأخرى من أذيات الدماغ الولادية. وبشكل مبسط، يقرن علماء البيولوجيا العصبية جذع الدماغ بأكثر الوظائف الحيوية الأساسية أهمية: مثل التنفس والأكل والتوازن والتنسيق الحركي، في حين يسود الاعتقاد بأن السلوكيات المتأثرة في الذاتوية ـ كاللغة والتخطيط واستقراء الدلالات الاجتماعية ـ تخضع كلها لتحكم مناطق أعلى في الدماغ، كقشرة الدماغ والحُصَيْن في الدماغ الأمامي.
يبدو الطفل الذاتوي طبيعي الهيئة، على الأقل للعين غير الخبيرة. غير أنه يُظهر بعض التغيرات الشكلية التي تميز هذا المرض؛ إذ تكون زاويتا الفم لديه منخفضتين بالنسبة إلى منتصف شفته العليا، وتكون قمتا أذنيه منثنيتين للخارج (في اليسار). كما تكون أذناه أخفض بقليل من الطبيعي ومربعتي الشكل تقريبا (في اليمين). |
طيف حالات خلل الذاتوية
يعتمد تشخيص الذاتوية على وجود سلوكيات غير طبيعية لدى المريض تتمثل في ثلاث مجموعات أساسية [انظر القائمة في اليسار] مع وجود نقص ملحوظ في مجموعة التآثر الاجتماعي. كما تمكن الأطباء السريريون من تعرف عدة حالات تتعلق بالذاتوية وتشترك معها في بعض المظاهر السلوكية ولكنها تبدي أعراضا إضافية أو تركيزا مختلفا للأعراض. فمثلا يطلق خلل التنامي المتفشي-غير المحدد PervasiveDevelopment Disorder, Not Otherwise Specified PDD-NOS على حالة المرضى الذين لا يحققون معايير الذاتوية في إحدى المجموعات الثلاث. وكما هي الحال في الذاتوية، فإن مرضى PDD-NOS يكون معدل (حاصل) ذكائهم IQ متباينا. وتصف متلازمة آسپرگر Asperger syndrome أولئك المرضى ذوي الذكاء الطبيعي والذين لا يعانون تأخرا لغويا. أما خلل الطفولة التفتتيChildhood Disintegrative Disorder (وفيه يعقب التنامي المبكر الطبيعي تراجعا ينتهي بإعاقة شديدة) ومتلازمة ريت Rett syndrome (وهو خلل متفاقم في الجهاز العصبي يصيب الإناث فقط)، فهما من الحالات الشديدة الندرة.
ومع إدراك العديد من الباحثين منذ زمن بأن الذاتوية مرض وراثي، فإن الدراسات الحديثة على العائلات التي قامت بها مجموعة <P. زاتماري> [في جامعة ماكماستر بأونتاريو] تشير إلى أن مجموعة الأعراض هي التي تسري (تتواصل) في العائلة وليس مرضا بعينه. فمثلا قد يكون لدى الطفل الذاتوي أخ مصاب بمتلازمة آسپرگر، أو يكون لدى امرأة مصابة بالذاتوية ابن أخ (أو أخت) مصاب بالخلل PDD-NOS. إن هذه الدراسات العائلية تشير بقوة إلى أن ثلاثا من هذه الحالات على الأقل (وهي الذاتوية والخلل PDD-NOS ومتلازمة آسپرگر) تنشأ عن بعض العناصر الموروثة نفسها.
تصنيف الفئات التشخيصية: ضعف التآثر الاجتماعي: الفشل في استخدام الاتصال الإبصاري وتعبيرات الوجه والإيماءات لتنظيم التآثر الاجتماعي؛ العزوف عن طلب العون؛ الفشل في إقامة علاقات مع الأقران. ضعف التواصل: الفشل في استعمال اللغة المحكية من دون تعويض إيمائي؛ ضعف القدرة على استهلال ومتابعة حوار ما على الرغم من الكفاية الكلامية؛ استعمال لغة زائغة (مثلا إعادة السؤال بدلا من الإجابة عنه). اهتمامات وسلوكيات محدودة ومتكررة: الاهتمام غير العادي بشخص أو فعل واحد؛ الانزعاج من التغيير؛ الإصرار على أنماط أو طقوس سلوكية لا هدف منها؛ الإتيان بحركات تكرارية كخفق اليدين. يمكن أن يساعد العلاج السلوكي الأطفال المصابين بالذاتوية على تحقيق حياة أسعد لهم عندما يكبرون. ويقوم الموجهون في مدرسة معهد إيدن بتقييم دقيق لأعراض كل طفل على حدة من أجل تصميم خطة علاجية مناسبة. وكثيرا ما يشركون الأطفال في أنشطة ألعاب محفزة (أقصى اليمين). ويؤمن المعهد أيضا للذاتويين البالغين سكنا تحت الإشراف (في اليمين). استعمل الرجل الذي يبلغ 37 عاما ويبدو في هذه الصورة بكرات أشرطة الڤيديو لصنع ستارة خلف سريره؛ إن اهتمامه المفرط بهذه الأشياء هو من السلوكيات المميزة للذاتوية. |
غير أن بعض الأعراض الشائعة للذاتوية ـ مثل فقدان تعبيرات الوجه. وفرط الحساسية للّمس والصوت واضطرابات النوم ـ تبدو وكأنها تنشأ عن مناطق الدماغ المرتبطة بالوظائف الحيوية الأساسية. إضافة إلى ذلك، فإن أغلب الشذوذات الثابتة التي تصيب أدمغة الذاتويين لا تتمثل في تغير في الدماغ الأمامي، بل في نقص عدد العصبونات في المخيخ، وهو مركز معالجة ضخم في الدماغ الخلفي عرف دوره الحيوي بالتحكم في حركة العضلات.
وأحد أسباب ارتباك العلماء بشأن المناطق الدماغية المتعلقة بالذاتوية قد يكمن في ضعف معلوماتنا عن أماكن التحكم في الوظائف المختلفة بالدماغ. فمثلا بيّن الفريق المختبري الذي يرأسه <E. كورشسن> [من جامعة كاليفورنيا في سان دييگو] أن أجزاء من المخيخ تنشط خلال أداء مهمات معينة تتطلب مستوى رفيعا من المعالجة الاستعرافية cognitive processing. أما الصعوبة الأخرى فتتلخص في التعقيد الفائق لأعراض الذاتوية. فلو كان تشخيص الحالة يعتمد على انحرافات سلوكية أبسط، لربما حظي الباحثون بفرصة أكبر لتحديد منشئها في الجهاز العصبي [انظر ما هو مؤطر في الصفحة 18].
وفي عام 1995 تمكن فريقنا البحثي من متابعة دراسة الثاليدومايد بتفحص جذع الدماغ لدى مريضة بالذاتوية؛ إذ تم الحصول على العينات النسيجية من خلال تشريح جثتها، وهي امرأة شابة أصيبت بالذاتوية المجهولة السبب، وقد توفيت في السبعينات من القرن العشرين، ولحسن الحظ بقيت عينات من أنسجة دماغها محفوظة. وعندما تفحصنا جذع دماغ المرأة، فوجئنا بغيابٍ شبه كامل لنوعين من البنى: النواة الوجهية facial nucleus التي تتحكم في عضلات تعبيرات الوجه، والزيتونة العلوية superior olive وهي عبارة عن محطة مُرَحِّلة (مُنَاقِلة) relay station للمعلومات السمعية. وتنشأ كلتا البنيتين من القطعة نفسها من الأنبوب العصبي للجنين، الذي يتنامى ليعطي في النهاية الجهاز العصبي المركزي. لقد كان تعداد العصبونات الوجهية لدى هذه المرأة 400 فقط، في حين يبلغ عددها في دماغ الإنسان العادي 9000 عصبون.
كان دماغ المرأة عموما طبيعي الحجم؛ بل كان أثقل قليلا من الدماغ العادي. وقد افترضتُ أن جذع الدماغ كان ينقصه فقط العصبونات المحددة التي سبق تعرفها ـ أي تلك التي في النواة الوجهية والزيتونة العلوية. ولاختبار هذه الفرضية قررتُ القيام بقياسات لبعض السمات التشريحية المعروفة للجهاز العصبي. ولدهشتي فقد كنتُ مخطئة تماما؛ فمع أن القياسات بين الجانبين كانت طبيعية فعلا، فإن القياسات الأمامية-الخلفية كانت قصيرة إلى حد كبير في جذع دماغ المرأة المصابة بالذاتوية. وبدا الأمر كما لو أن حزمة من النسيج قد استؤصلت من جذع الدماغ، ثم تمت خياطة الجزءين المتبقيين من دون ترك أثر يدل على النسيج الناقص.
وللمرة الثانية في حياتي أصبت بصدمة تعرُّف (إدراك) عنيفة، فحدث هدير في أذنيّ وغامت عيناي وشعرت برأسي وكأنه يوشك على الانفجار. ولم تنشأ الصدمة عن هذه النتيجة غير المتوقعة، بل من تحققي أنني قد رأيت هذا النمط من القصر من قبل، في مقالة عرضت صورًا لأدمغة فئران غير طبيعية. وعندما استعدت المقالة من بين أكوام الأوراق التي غطت أرضية مكتبي، وجدت فيها أن التوافق بين الدماغ الذي درسته عند المرأة وأدمغة الفئران الموصوفة في المقالة كان أقوى حتى مما ظننت للوهلة الأولى. ففي كلتا الحالتين كان هناك قصر في جذع الدماغ ونواة وجهية أصغر من المعتاد وغياب للزيتونة العلوية. أما المظاهر الأخرى عند تلك الفئران فكانت متعلقة بوضوح بالشذوذات الملاحَظة عند مرضى الذاتوية: كتشوه الأذنين وغياب إحدى البنى الدماغية المتحكمة في حركة العينين.
لكن ما الذي أدى إلى هذه التغيرات في أدمغة الفئران؟ لم يكن التعرض للثاليدومايد أو أي من العوامل البيئية الأخرى المتعلقة بالذاتوية وإنما حذف لوظيفة إحدى الجينات. لقد كانت هذه الفئران معطلة بهندسة وراثية (جينية)transgenic knockout mice، بحيث لا يعبر فيها عن الجينة المدعوة هوكسا Hoxa 1، وذلك كي يتمكن العلماء من دراسة دور تلك الجينة في مراحل التنامي المبكرة. وكان السؤال الواضح هنا هو «هل يمكن أن تكون الجينة هوكسا 1 إحدى الجينات المتعلقة بالذاتوية؟»
وتَبيّن من الدراسات السابقة أن الجينة هوكسا 1 مرشح ممتاز لإجراء الأبحاث حول الذاتوية. فقد أظهرت الدراسات على الفئران المعطلة وراثيا أن الجينة هوكسا 1 تقوم بدور مركزي في تنامي جذع الدماغ. وفي سولت ليك سيتي ولندن قامت مجموعات بحثية بدراسة سلالات مختلفة من الفئران المعطلة وراثيا وتوصلت إلى نتائج مشابهة. فقد وجد أن هذه الجينة تكون فعالة في جذع الدماغ وقت تشكل أول العصبونات ـ أي الفترة نفسها التي يسبب فيها عقار الثاليدومايد الذاتوية، كما حددتها ميلر وستروملاند. فالجينة هوكسا 1 تُنتج نوعا من البروتين يدعى عامل انتساخ (نسخ) transcription factor، وهو الذي يؤثر في فعالية (نشاط) جينات أخرى. والأكثر من هذا، إن تلك الجينة لا تكون فعالة في أي نسيج بعد المرحلة المبكرة من التكون (التشكل) الجنينيembryogenesis. فإذا كانت جينة ما فعالة على امتداد مراحل الحياة، مثلما هي الحال في كثير من الجينات، فإن أي خلل فيها يتوقع أن يؤدي إلى مشكلات تتفاقم مع تقدم العمر. أما الجينة التي تكون فعالة فقط في فترة التنامي فتكون مرشحة فضلى لتفسير إعاقة خَلْقية كالذاتوية التي تبدو ثابتة بعد مرحلة الطفولة.
إن الكثير من حالات الذاتوية، إن لم يكن
جميعها، يبدأ في مرحلة مبكرة من الحمل.
إن الجينة هوكسا 1 هي ما يدعوها علماء الوراثة جينة عالية الثبات (المحافظة) highly conserved gene، بمعنى أنه لم يطرأ على التتالي النكليوتيدي لدناها DNA إلا تغير طفيف أثناء التطور evolution. ونفترض نحن بأن هذه الخاصية تميز تلك الجينات الفائقة الأهمية من أجل البقيا: إذ تعاني هذه الجينات طفرات كغيرها، إلا أن معظم هذه التغيرات غالبا ما تكون مميتة، بحيث يندر أن تنتقل إلى الأجيال اللاحقة. ومع أن الكثير من الجينات الأخرى تظهر بأشكال متعددة ـ كتلك التي تكوِّد لون العيون أو زمرة الدم ـ فإن الجينات العالية الثبات نادرا ما تصادف بأشكال متعددة (أو ما يعرف أيضا بالألائل (بالفردات) المتعددة الأشكال polymorphic alleles أو المتغايرات الأليلية allelic variants). ولم يسبق لأحد ما أن اكتشف متغايرا من الجينة هوكسا 1 في أي نوع من الثدييات، مما عنى لي ولزملائي أننا قد نواجه صعوبة في العثور على واحد منها عند مرضى الذاتوية. ومن جهة أخرى، فقد بدا أن إيجاد متغاير أليلي عند مرضى الذاتوية يعني أنه أحد المحرضات المرجحة لحصول الحالة.
عَرَض أبسط للذاتوية
تمكن العلماء في جامعة يورك ومستشفى (مشفى) الأطفال المرضى في تورنتو مؤخرا من تحديد سلوك مرتبط بالذاتوية أبسط بكثير من مجموعة السلوكيات المستخدمة عادة لتشخيص هذه الحالة. فقد وجدت <S.برايسون> وطالب الدكتوراه لديها <R. لاندري> أن الأطفال المصابين بالذاتوية يستجيبون بصورة غير اعتيادية لمهمة تتطلب رد الفعل عن تنبيهات إبصارية. ولأن هذه الفعالية العقلية تتم على الأغلب بوساطة جزء بدائي من الدماغ هو غالبا جذع الدماغ أو المخيخ أو كليهما فسيكون لهذا الاكتشاف انعكاسات مهمة على البيولوجيا العصبية للذاتوية. كما قد يمكّن اختبار برايسون ولاندري الأطباء من استحداث طريقة أبسط لتقصي الإصابة بالذاتوية عند الأطفال.
قامت برايسون ولاندري في هذه الدراسة بملاحظة استجابات مجموعتين من الأطفال: ذاتويين وطبيعيين، وهم يشاهدون أضواء تومض على شاشات ڤيديو [انظر الشكل في الأسفل]. وتراوحت أعمار الأطفال بين الرابعة والسابعة. في الاختبار الأول وضع كل طفل أمام لوحة مؤلفة من ثلاث شاشات، في حين أخذ ضوء لامع يومض على الشاشة الوسطى. وتسبب هذا التنبيه في تركيز اهتمام الأطفال كافة على الوميض (a). ثم أعتمت الشاشة الوسطى وظهر وميض الضوء على الشاشة الواقعة على الطرف الأيسر أو الأيمن من اللوحة، فكان أن وجه الأطفال، في كلتا المجموعتين، أنظارهم إلى الشاشة الوميضة(b). أما في الاختبار الثاني فبقي الضوء الأول يومض على الشاشة الوسطى في حين ظهرت الأضواء على الشاشة الأخرى. هنا حوَّل الأطفال الطبيعيون نظرهم ليتركز على التنبيه الجديد (c)، في حين بقي الأطفال الذاتويون «عالقين» عند التنبيه الأول وفشلوا في تحويل أنظارهم إلى التنبيه الجديد (d). أعيد الاختباران مرات عديدة لكل طفل. ووجدت برايسون ولانْدري أن الأطفال المصابين بأنواع أخرى من تلف الدماغ كانوا طبيعيين تماما من حيث قدرتهم على التخلص من المنبه الأول والتركيز على المنبه الآخر. ولكن الذاتويين فشلوا بصورة متكررة في التخلص من المنبه الأول، حتى ولو كان ذكاؤهم عالي المستوى. ويظن الباحثون أن هذه من وظائف الدماغ المنخفضة المستوى؛ لأنها تظهر لدى الرضع (بعمر3-4 أشهر) ولدى أطفال حاصل ذكائهم منخفض. إن الحيوانات أيضا توجه نفسها تجاه المنبهات الجديدة، ولذلك فمن المتصور أن يستعمل العلماء اختبارا مماثلا في دراستهم على الحيوانات للتحقق مما إذا كانت المنابلات الجينية أو التعرّض لمواد سامة قد أنتجت هذا النوع من الذاتوية. |
وقفة عند الجينة هوكسا 1
تتوضع النسخة البشرية من الجينة التي تسمى هوكسا 1 على الصبغي السابع chromosome 77 وتكون صغيرة نسبيا. وتحتوي هذه الجينة على منطقتي تكويد بروتين protein-coding regions (إكسونيْن exons) فحسب، إضافة إلى مناطق تنظم كمية البروتين المنتج وأخرى لا تعمل شيئا. إن أي انحراف عن التتالي الطبيعي لأي منطقة من الجينة يمكن أن يؤثر في أدائها، غير أن الغالبية العظمى من التغيرات المسببة للمرض تكون في المنطقتين المكودتين للبروتين. وهكذا بدأنا بالبحث عن متغايرات أليلية من الجينة هوكسا 1 مع التركيز على الإكسونين. ولهذا الغرض أخذنا عينات دم من مصابين بالذاتوية ومن أشخاص طبيعيين للمقارنة، ثم استخلصنا الدنا وبحثنا عن أي انحراف عن التتالي الطبيعي للنكليوتيدات.
وخلاصة الأخبار الجيدة أننا استطعنا تحديد متغايرين أليليين من الجينة هوكسا 1، أحدهما يحتوي على انحراف طفيف في تتالي أحد إكسوني الجينة، مما يعني أن البروتين الذي تكوده هذه الجينة يختلف اختلافا طفيفا عن ذلك الذي تكوده الجينة الطبيعية. وقمنا بعدها بدراسة هذا الأليل الجديد دراسة مفصلة، بوساطة قياس انتشاره بين مجموعات مختلفة من الناس لتحديد ما إذا كان يسهم في إحداث الذاتوية. (أما المتغاير الآخر فكان أصعب دراسة لأنه يشتمل على تغير في البنية المادية للدنا الجيني). لقد وجدنا أن معدل انتشار هذا الأليل بين المصابين بالذاتوية يفوق بوضوح انتشاره بين أفراد عائلة المريض غير المصابين أو بين غير الأقارب من الأسوياء. وكان الفرق أكبر من أن ينجم عن المصادفة (أي إن له دلالة إحصائية).
أما الأخبار السيئة، كما تنبأت الدراسات التي أجريت على العائلات، فهي أن الجينة هوكسا 1 ليست إلا واحدة من الجينات العديدة المتعلقة بطيف الحالات المرتبطة بالذاتوية. إضافة إلى ذلك، كان هذا الأليل الذي درسناه بالتفصيل متفاوت التعبير variably expressed، بمعنى أن وجوده لا يضمن حدوث الذاتوية. وتدل البيانات الأولية على أن هذا الأليل يصادَف بمعدل 20% عند الأسوياء وبمعدل 40% عند الذاتويين، أي إن وجود هذا الأليل يضاعف تقريبا احتمال الإصابة بالذاتوية. غير أن نحو 60% من المصابين بالذاتوية يفتقرون إلى هذا الأليل، مما يعني أن عوامل جينية أخرى تسهم في حدوث المرض.
ولكي نحدد هذه العوامل، علينا متابعة البحث عن متغايرات أخرى من الجينة هوكسا 1، ذلك أن معظم الأمراض الوراثية تنجم عن العديد من الألائل الشاذة لنفس الجينة. كما يمكن لتغيرات في جينات أخرى تتعلق بالمراحل التطورية المبكرة أن تؤهب لحدوث الذاتوية عند حامليها. لقد اكتشفنا متغايرا أليليا من الجينة هوكس B1، وهي جينة تقع على الصبغي 17 وتنحدر من السلف نفسه للجينة هوكسا 1، وتسهم أيضا في تنامي جذع الدماغ، إلا أن تأثيرها في الذاتوية يبدو طفيفا. ويقوم باحثون آخرون بتفحص مناطق مرشحة على الصبغي 15 وعلى قسم آخر من الصبغي 7. وبينما يركز الباحثون جهودهم لتعرف الألائل التي تزيد من خطر الإصابة بالذاتوية، فإن ألائل أخرى قد تُنقص من هذا الخطر. ويمكن أن تساعد هذه الألائل على تفسير التعبير المتفاوت لطيف الحالات المرتبطة بالذاتوية.
إن فهما ولو محدودا للأساس الجيني للذاتوية يمكن أن يعود بفائدة كبيرة؛ إذ يستطيع الباحثون، على سبيل المثال، نقل الألائل المتعلقة بالذاتوية من البشر إلى الفئران، أي تحوير هذه الفئران بحيث تصبح مؤهبة وراثيا للإصابة بالمرض. وبتعريض هذه الفئران إلى المواد المشتبه في أنها تزيد من خطر حدوث الذاتوية سيمكننا أن ندرس تآثر العوامل البيئية مع الخلفية الوراثية، وقد نستطيع وضع قائمة موسعة للمواد التي يتوجب على المرأة الحامل تجنبها في المراحل المبكرة من الحمل. إضافة إلى هذا، فإن دراسة تنامي هذه الفئران المحورة (المعدلة) بالهندسة الجينية genetically engineered ستتيح لنا معرفة المزيد عن الأذية الدماغية المسببة للذاتوية. فإذا تمكن الباحثون من معرفة مكمن العلة في أدمغة المصابين بالذاتوية بصورة محددة، فإنهم قد يتمكنون من استنباط معالجات دوائية أو علاجات أخرى يمكن أن تصحح آثار التخرب الحاصل.
غير أن التوصل إلى اختبار جيني لتشخيص الذاتوية على غرار الاختبارات المتوافرة حاليا لتشخيص التليف الكيسي cystic fibrosis أو فقر الدم المنجليsickle cell anemia وغيرهما من الأمراض ـ سيكون مهمة أكثر صعوبة بكثير. فالظاهر أن هناك العديد من الجينات التي تشترك في هذا المرض، مما يحد من إمكانية التنبؤ الصحيح باحتمال إصابة طفل بالذاتوية عن طريق تقصي وجود متغاير أليلي واحد أو اثنين لدى الوالدين. ولكن يمكن تطوير اختبارات جينية لتقصي إخوة المصابين بالذاتوية الذين كثيرا ما يبدون خشيتهم من إمكانية أن يرث أطفالهم هذا المرض؛ إذ يستطيع الأطباء تفحص مجموعة من عوامل الخطر الجينية المحددة لدى الفرد الذاتوي وقريبه السوي. فإذا حوى المصاب العديد من الجينات الألائل (المفردة) العالية الخطورة، في حين خلا منها القريب (أخ/أخت)، فإننا نستطيع على الأقل طمأنة هذا القريب بأن نسله لن يكون عرضة لعوامل الخطر المعروفة الموجودة في العائلة.
لن تكون عملية البحث عن أسباب الذاتوية سهلة بأي حال. لكن كل عامل خطر نكتشفه يسهم في حل قسم من الأحجية. والأهم من هذا أن البيانات الجديدة تولد فرضيات جديدة. فكما وجهت نتائج دراسة الثاليدومايد الاهتمام نحو جذع الدماغ والجينة هوكسا 1، فإن بيانات جديدة من علم الوراثة التطورية developmental genetics والدراسات السلوكية behavioral studiesوالتصوير الدماغي وغيرها من الفروع يمكن أن تحدث صدمات معرفية (إدراكية) لدى الباحثين في الذاتوية. وبمرور الوقت فإن جهودهم يمكن أن تساعد على رفع المعاناة الهائلة الناجمة عن هذا المرض.
المؤلفة
Patricia M. Rodier
هي أستاذة في أمراض النساء والتوليد في جامعة روشستر. قامت بدراسة أذيات الجهاز العصبي المتنامي عندما صارت زميلة لما بعد الدكتوراه في مجال علم الجنين في جامعة ڤ.يرجينيا، إلا أنها بدأت بدراسة الذاتوية فقط بعد أن سمعت بنتائج دراسة الثاليدومايد. وتمكنت رودير من تجميع فريق من العلماء المنتمين إلى فروع علمية متعددة في ست مؤسسات علمية، وذلك لدراسة الأسباب الوراثية والبيئية للذاتوية. وتصف عملها هذا، المشترك مع خبراء من فروع أخرى، بأنه يجدد حيوية البحث العلمي.
مراجع للاستزادة
AUTISM IN THALIDOMIDE EMBRYOPATHY: A POPULATION STUDY. K. Stromland, V. Nordin, M. Miller, B. Akerstrom and C. Gillberg in Developmental Medicine and Child Neurology, Vol. 36, No. 4, pages 351-356; April 1994.
EMBRYOLOGICAL ORIGIN FOR AUTISM: DEVELOPMENTAL ANOMALIES OF THE CRANIAL NERVE MOTOR NUCLEI. P. M. Rodier, J. L. Ingram, B. Tisdale, S. Nelson and J. Romano in Journal of Comparative Neurology, Vol. 370, No. 2, pages 247-261; June 24, 1996.
THINKING IN PICTURES: AND OTHER REPORTS FROM MY LIFE WITH AUTISM. Temple Grandin. Vintage Books, 1996.
More information on autism is available at the Web page of the National Alliance for Autism Research at www naar.org
Scientific American, February 2000
(*) The Early Origins of Austism
(1) [ انظر: «الذاتوية»، مجلة العلوم، العددان2/3(1999)، صفحة 70]. (التحرير)
(2) تتألف الجينة من فردتين: فردة سائدة (غالبة) وأخرى متنحية (مغلوبة).
(3) مرض وراثي يؤدي إلى خلل في استقلاب (أيض) البروتين ينجم عنه تلف الجهاز العصبي ومن ثم التخلف العقلي الشديد.
(4) خلل وراثي يؤدي إلى ترصُّع الدماغ والجلد وبعض الأعضاء الأخرى بلويحات أو أورام، وتشمل الأعراض الصرع والتخلف العقلي والخلل السلوكي. (التحرير)