يتكلم الفيزيائيون عن العالم بصفته مكوّنا من جسيمات(1) وحقول قوى(2)، لكن من غير
الواضح إطلاقا ماهية الجسيمات وحقول القوى الموجودة فعلا في العالَم الكمومي(3).
فبدلا عن ذلك، يكون العالم مؤلفا من حزم من خاصيات(4)، مثل اللون والشكل.
<M. كُولمان>
باختصار
من المنطقي القول إن موضوع فيزياء الجسيمات هو الجسيمات، ويمتلك أغلب الناس صورة ذهنية لكرات بلياردو صغيرة يُصادم بعضها بعضا في الفضاء. ومع ذلك، يتصدع مفهوم «الجسيم» هذا عند تفحص الموضوع بدقة أعلى.
يفكر العديد من الفيزيائيين أن الجسيمات ليست أشياء على الإطلاق بل اهتزازات في حقل كمومي يمثل الخلف الحديث للحقول كالحقل المغنطيسي. ولكن الحقول أيضا تثير مفارقات.
وإذا لم تكن الجسيمات ولا الحقول أساسية، إذن فما هو الأساسي؟ يظن بعض الباحثين أن العالَم، أساسا، غير مكون من أشياء مادية، بل من علاقات أو من خاصيات، مثل الكتلة والشحنة والسبين (التدويم) spin.
يعكف الفيزيائيون على وصف الكون بأنه مكون من جسيمات دون ذرية غاية في الصغر يدفع ويسحب بعضها بعضا بواسطة حقول قوى. ويدعو الفيزيائيون موضوع دراستهم هذا «فيزياء الجسيمات الأولية»(5) حيث تشكل «مسرعات الجسيمات»(6) الأدوات التي يستخدمونها في بحوثهم التي يقدمون فيها نظريا بنية العالم وفق نموذج شبيه بلعبة الليگو Lego-like model. لكن وجهة النظر هذه تخفي في طياتها حقيقة لايعرفها إلا قليلون من الناس، مفادها أن التفسير الجسيمي لفيزياء الكم – إضافة إلى التفسير الحقلي – يوسع مفاهيمنا التقليدية عن «الجسيم» و «الحقل» إلى مدى يجعل فئة متزايدة من الناس تعتقد أن العالم قد يكون مكونا من شيء آخر مختلف تماما.
ولا تكمن المشكلة في افتقار الفيزيائيين إلى نظرية صالحة للعالم دون الذري، فمثل هذه النظرية موجود وتُدعى نظرية الحقل الكمومي(7). وقد طورها المنظرون بين أواخر عشرينات القرن المنصرم وأوائل خمسيناته, وذلك بدمج النظرية المبكرة للميكانيك الكمومي في نظرية <أينشتاين> في النسبية الخاصة. وتزودنا نظرية الحقل الكمومي بالدعائم المفاهيمية للنموذج المعياري(8) لفيزياء الجسيمات، الذي يصف لبنات البناء الأساسية للمادة وتآثراتها ضمن إطار واحد عام، يعتبر – من ناحية الدقة التجريبية – أكثر النظريات نجاحا في تاريخ العلم. ويستخدم الفيزيائيون نظرية النموذج المعياري كل يوم لحساب عقابيل aftermaths تصادم الجسيمات وتحديد تركيب المادة عند الانفجار الأعظم the big bang والشروط المتطرفة داخل النوى الذرية، وأمور أخرى كثيرة.
لذا، قد يبدو الأمر مفاجئا إذا علمت أن الفيزيائيين ليسوا متوثقين حتى مما تقوله النظرية، أي من “أنطولوجيتها”(9) its ontology أو صورتها الفيزيائية الأساسية. وهذا اللبس منفصل عن الأسرار التي كثيرا ما نوقشت في الميكانيك الكمومي، من مثل إمكانية كون قطة موضوعة في صندوق محكم الإغلاق حية وميتة في الوقت نفسه. والتفسير الذي لم يتّفق عليه بعد لنظرية الحقل الكمومي يحرز تقدما نحو سبر أي فيزياء يعقدها النموذج المعياري مثل نظرية الأوتار(10) string theory. فمن الخطورة بمكان صياغة نظرية جديدة في وقت لا نزال فيه لا نفهم جيدا النظرية التي بين أيدينا الآن.
وللوهلة الأولى، يبدو محتوى النموذج المعياري واضحا، فهو يحتوي، أولا، على زُمر لجسيمات أولية مثل الكواركات والإلكترونات، وثانيا، يضم، أربعة أنواع من حقول قوى تمثل التآثرات بين الجسيمات. وتبرز هذه الصورة على جدران صفوف الدراسة وفي مقالات مجلة ساينتفيك أمريكان، لكنها حتى ولو بدت مقنعة، فهي ليست مرضية على الإطلاق.
وبالنسبة إلى المبتدئين، تمتزج الفئتان معا. فنظرية الحقل الكمومي تقرن حقلا بكل نوع من الجسيمات الأولية، لذا فمن المؤكد وجود حقل إلكترونيِّ عندما يتأكد وجود إلكترون. وفي الوقت نفسه، إن حقول القوى مكممةquantized ليست مستمرة، وهذا يقتضي وجود جسيمات مثل الفوتون. ومن ثمّ يبدو الفرق بين الجسيمات والحقول مصطنعا، وما يحدث هو أن الفيزيائيين يتحدثون غالبا كما لو كان أحد المظهرين أساسيا أكثر من الآخر. وكانت تدور المناقشة حول هذه النقطة – أي حول ما إذا كانت نظرية الحقل الكمومي في نهاية الأمر تعنى بالجسيمات أو بالحقول. فقد بدأت المناقشة كما لو كانت صراعا بين الجبابرة، حيث كنت تجد فيزيائيين وفلاسفة مرموقين في كلا الجانبين. ولا يزال كلا المفهومين مستعملا حتى الآن لأغراض توضيحية، مع أن غالبية الفيزيائيين يقبلون بأن المفاهيم الكلاسيكية لا تتلاءم مع ما تقوله هذه النظرية. وإذا لم تتوافق الصور الذهنية التي يتم استحضارها عبر الكلمتين «جسيم» و «حقل» مع ما تقوله النظرية، فإنه ينبغي على الفيزيائيين والفلاسفة فهم وتحديد ما يحل محلّهما.
ومع وجود الخيارين التقليديين المعياريين في حالة استعصاء لا مخرج منها، فقد تمكن بعض فلاسفة الفيزياء من صياغة بدائل جذرية أكثر، فاقترحوا أن أهم المكونات الأساسية للعالم المادي كينونات entities غير محسوسة، كأن تكون علاقات أو خاصيات. وتذهب إحدى الأفكار التقدمية المتميزة إلى أن كل شيء يمكن اختزاله إلى كيانات وحيدة غير محسوسة، من دون أي إشارة إلى أشياء منفردة. إنها فكرة ثورية مضادة للحدس، ولكن البعض يقدم الحجة على أن الفيزياء تفرضها علينا.
المشكلة مع الجسيمات(**)
عندما يقوم أغلب الناس، بمن فيهم الخبراء، بالتفكير في الحقيقة دون الذرية، فإنهم يتخيلون جسيمات تتصرف ككرات بلياردو صغيرة تتصادم ويرتد بعضها عن بعض. ولكن هذا المفهوم عن الجسيمات هو الذي كان سائدا لدى فلاسفة الذرة في اليونان القديمة، علما بأنه وصل ذروته في نظريات <إسحاق نيوتن>، بيد أن ثمة مسارات فكرية عديدة ومتراكبة توضح أن الوحدات الجوهرية لنظرية الحقل الكمومي لا تسلك مسلك كرات البلياردو على الإطلاق، وذلك للأسباب الآتية:
أولا، إن المفهوم التقليدي لجسيم يقتضي أن هذا الجسيم شيء موجود في موضع معين. ولكن جسيمات نظرية الحقل الكمومي ليست لها مواضع محددة بشكل جيد: فجسيم داخل جسمك لا يكون تماما داخله. إن احتمال نجاح محاولة راصدٍ قياس موضع هذا الجسيم في أكثر الأماكن بعدا في الكون ضئيل، لكنه غير صفري nonzero. وكان هذا التناقض واضحا عند تقديم الصياغات الأولى للميكانيك الكمومي، لكنه غدا أسوأ عندما وحّد المنظرون هذا الميكانيك مع النظرية النسبية. فالجسيمات الكمومية النسبوية(11) مُراوغة جدا؛ إذ إنها لا تقع أبدا في أي منطقة محددة من الكون.
ثانيا، لنفترض أن لديك جسيما متموضعا داخل مطبخك. فصديقك، الذي ينظر إلى منزلك من سيارة عابرة، يرى الجسيم منتشرا في أرجاء الكون. وما هو متموضع بالنسبة إليك لا يكون كذلك بالنسبة إلى صديقك. ولا يعتمد موضع الجسيم على نقطة رصدك له فحسب، إذ إن وجود موقع له يعتمد كذلك على نقطة المراقبة، ومن ثمّ فلا معنى لافتراض أن الجسيمات المتموضعة هي الكينونات الأساسية.
ثالثا، حتى ولو تخليت عن محاولتك تعيين مواقع الجسيمات واستعضت عن ذلك بإحصائها فقط، فستواجه بعض المشكلات أيضا. لنفترض أنك تريد معرفة عدد الجسيمات في منزلك. عنذئذ تتجول فيه لتجد ثلاثة جسيمات في غرفة الطعام، وخمسة تحت السرير، وثمانية في خزانة المطبخ، وهكذا. فإذا جمعت هذه الأعداد، فإنك ستصاب بحالة من الذهول حين تجد أن المجموع لا يمثل العدد الكلي للجسيمات. فهذا العدد في نظرية الحقل الكمومي خاصية للمنزل ككل متكامل، ولتحديده فلا بد من القيام بأمر محال: ألا وهو قياس عدد الجسيمات في المنزل كله دفعة واحدة، بدلا من تعيين هذا العدد في كل غرفة على حدة.
يمثل الخلاء حالة متطرفة لعدم إمكان تحديد مواقع الجسيمات، إذ تكون له خاصيات متناقضة ظاهريا في نظرية الحقل الكمومي. ويمكنك ملاحظة خلاء إجمالي – يتمثل تعريفا بحالة عددها صفريٌّ من الجسيمات – في حين ترصد في الوقت نفسه شيئا مختلفا البتة عن الخلاء ضمن أي منطقة غير معدومة الحجم. وبكلمة أخرى، يمكن لمنزلك أن يكون خاليا تماما مع أنك تجد جسيمات في جميع أرجائه. تخيل أنك أجبت بالنفي عن سؤال لرجال الإطفاء عن وجود أناس ضمن منزل تشب فيه النيران. وسيساور هؤلاء الرجال الشك في سلامة عقلك عندما يكتشفون وجود أناس محتجزين في كل غرفة من المنزل.
تتمثل سمة أخرى للخلاء تلفت النظر في نظرية الحقل الكمومي بمفعول أنرو Unruh effect. إذ يمكن لرائد فضاء ساكن أن يظن أنه ضمن خلاء، في حين يمكن لرائد فضاء آخر في مركبة فضاء متسارعة أن يشعر بأنه مغمور في مغطس حراري مليء بجسيمات لامتناهية العدد. ويحدث هذا الاختلاف بين وجهتي النظر هذه أيضا عند محيط الثقوب السوداء(12)، ويقود إلى نتائج متناقضة ظاهريا عن مصير المادة الساقطة في داخل الثقب [انظر: «الثقوب السوداء ومفارقة المعلومات»،العلوم، العددان 8/9(1998)، ص 44]. وإذا أحسست بأن فكرة الخلاء المملوء بالجسيمات منافية للعقل، فهذا يعود إلى أن المفهوم التقليدي للجسيم يضللنا، وما تصفه النظرية يجب أن يكون شيئا آخر. وإذا كان عدد الجسيمات معتمدا على الراصد، فإن افتراض الجسيمات كينونات أساسية يبدو غير ملائم، إذ إننا نستطيع أن نقبل أن تكون سماتٌ عديدة معتمدةً على الراصد، ولكننا لا نستطيع قبول ذلك عندما يكون المطلوب تحديد مقدار لبنات البناء الأساسية الموجودة.
وأخيرا، يترتب على النظرية أن يكون بإمكان الجسيمات أن تفقد شخصيتها، ففي ظاهرة التشابك الكمومي quantumentanglement المحيرة، يمكن للجسيمات الاندماج في منظومة أكبر، وتتخلى عن الخاصيات التي تميز إحداها عن الأخرى، فالجسيمات المفترضة لا تشترك في سمات جوهرية كالكتلة والشحنة فحسب، بل إنها تشترك في خاصيات مكانية وزمانية مثل مدى المواضع التي يمكن العثور عليها فيها. وعندما تتشابك الجسيمات، يفقد الراصد أي وسيلة تسمح له بتمييز جسيم من آخر. فهل يكون عندك في هذه المرحلة كائنان اثنان فعلا؟
ويمكن لمُنظِّرٍ الحكمَ ببساطة بأن ما كان سيؤلف جسيمين اثنين هو في الحقيقة كائنان منفردان منفصلان، ويدعو الفلاسفة هذا الإملاء «الحالة البدائية لاسم الإشارة هذا» primitive thisness. بالتعريف، فإن حالة هذا البدائية غير قابلة للرصد، وأغلب الفيزيائيين والفلاسفة تراودهم شكوك كثيرة في مثل هذه الحركات الظرفية (الموجودة وفقا لما تمليه الظروف). ويبدو أن البديل هو عدم وجود جسيمين اثنين، فالمنظومة المتشابكة تسلك مسلك كائن واحد متكامل غير قابل للانقسام، ويفقد مفهوم جزء معناه هنا، فما بالك بمفهوم جسيم.
إن هذه المشكلات النظرية المتعلقة بالجسيمات تواجه التجربة. تُرى، ما الذي تكتشفه كواشف الجسيمات particle detectors إذا لم تكن جسيمات؟ وتكمن الإجابة عن هذا السؤال في أن الجسيمات هي دوما استدلال(13)inference وجُل ما يسجله الكاشف هو عدد كبير من استثارات منفصلة لمادة المحس sensor. وثمة مشكلات تواجهنا عندما نصل النقاط بعضها ببعض لنستنتج وجود جسيمات لها مسارات يمكن تحديدها في وقتها. (تنبيه: ثمة قلة من تفسيرات الفيزياء الكمومية تُقَدَّمُ بدلالة مسارات معرفة جيدا، لكنها تعاني صعوبات خاصة بها، وسأتقيد في هذه المقالة بوجهة النظر القياسية [انظر: «بديل نظرية بوم حول تفسير الميكانيك الكمومي»،العلوم، العددان 6/7(1995)، ص 54].)
إذن، دعنا نجرد ما توصلنا إليه. إننا نتخيل الجسيمات كما لو كانت كرات بلياردو صغيرة، لكن ما يدعوه الفيزيائيون المعاصرون «جسيمات» مختلف تماما عن هذه الصورة المتخيلة. فوفقا لنظرية الحقل الكمومي، لايمكن تحديد موقع الأشياء في أي منطقة محدودة من المكان، بصرف النظر عن مدى كبرها أو غموض شكلها. إضافة إلى ذلك، يتوقف عدد الجسيمات المفترضة على حالة المراقب الحركية. ويبدو أن هذه النتائج – عندما تؤخذ بمجملها – تشكل إعلانا لموت الفكرة التي تذهب إلى أن الطبيعة مكوّنة من أشياء تماثل جسيمات شبيهة بالكرات.
[مفارقات الجسيمات]
إنها ليست مجرد كرات بلياردو صغيرة(***)
سوف تُسامَح لاعتقادك أن فيزياء الجسيمات فرع معرفي يُعنى بالجسيمات، إذ تبين في النهاية – على الرغم من التسمية – أن «الجسيمات» التي تدرسها النظرية الكمومية لا تتوافق مع المعنى المألوف للمصطلح الذي يعبر عنها، والذي يشير إلى لبنات بناء للمادة متموضعة ومنفصل بعضها عن بعض، وهي تفتقد على سبيل المثال، إلى السمات التقليدية الأربع الواردة أدناه.
(1) الجسيمات متموضعة
الجسيم، تعريفا، شيء يشغل موقعا محددا يتغير بمرور الزمن مع حركة الجسيم. لكن النظرية الكمومية – وفق فهمنا المألوف لها – لاتسمح لأي شيء بامتلاك مثل هذا المسار. ومع أن وجود أجهزة – مثل حجرات الفقاعات – تظهر آثارا لمسارات، فمن الخطأ الاستنتاج بوجود أشياء تتحرك في الفضاء مثل الكرات. إن هذه الآثار ليست إلا سلسلة من الأحداث.
(2) لا شيء يمكن حدوثه في غياب الجسيمات
إذا كانت الجسيمات تكوِّن المادة، فعندها ينبغي للخلاء – الحالة التي لا تحوي أي جسيمات – ألا يظهر أي نوع من النشاط. لكن النظرية الكمومية تتنبأ بأننا إذا وضعنا عداد گايگر – أو جهازا مماثلا – في مكان ما ضمن الخلاء، فإنه سيستمر بتسجيل وجود مادة. لذلك، لا يمكن للمادة أن تتألف من الأشياء التي تستحضرها نمطيا كلمةُ «الجسيم».
(3) يكون الجسيم إما موجودا أو غائبا
يُجري الفيزيائيون اختبارا بسيطا لتحديد ما إذا كان شيء ما حقيقيا أو لا: ينبغي على جميع الراصدين أم يكونوا قادرين على الاتفاق على وجوده أو غيابه. وتفشل «الجسيمات» التي يكشفها الفيزيائيون في الطبيعة في هذا الاختبار. فإذا رأى راصد ساكن خلاء باردا، فإن راصدا متسارع الحركة يرى غازا دافئا من الجسيمات، وهذا يوحي أن الجسيمات هي نوع ما من السراب.
(4) للجسيمات خاصيات محددة
من المفروض أن يكون للجسيمات طاقة، زخم momentum، اندفاع وهلم جرا. لكن الميكانيك الكمومي يسمح للكائنات بأن تغدو متشابكة، بحيث تعمل كوحدة من دون أي وصلات مادية واضحة بينها. وفي هذه الحالة، تتوقف الجسيمات المفترضة عن امتلاك خاصيات محددة، والمنظومة الإجمالية وحدها هي التي تكون لها خاصيات.
واعتمادا على هذه الأفكار الخلاقة وغيرها، لابد أن يعتقد المرء أن تسمية «فيزياء الجسيمات» مغلوطة: فعلى الرغم من استمرار حديث الفيزيائيين عن جسيمات فلا وجود لمثل هذه الأشياء. ويمكن للمرء أن يعتمد «الجسيم الكمومي،»(14) ولكن ما الذي يسوغ استخدام كلمة «جسيم» إذا لم يبق أي شيء تقريبا من المفهوم التقليدي للجسيم؟ إنه من الأفضل أن نهجر هذا المفهوم برمته حتى وإن كان ذلك مؤلما. ويعتبر البعض هذه الصعوبات دلائل غير مباشرة على تفسير حقلي صرف لنظرية الحقل الكمومي. فالجسيمات وفق حجج التفكير هذه ليست إلا تموجات ripples في حقل يملأ المكان كله كما لو كان مائعا خفيا. ومع ذلك وكما سنرى، لا يمكن لنظرية الحقل الكمومي أن تُفسَّر ببساطة بدلالة حقول.
[فشل الحقول]
لا حقل أحلام(****)
يدعو الفيزيائيون نظريتهم الرئيسية في المادة «نظرية الحقل الكمومي». ويبدو من هذه التسمية أنها نظرية حقول. ومع ذلك, فالحقول التي تفترضها النظرية ليست ما يفهمه الفيزيائيون تقليديا من كلمة «حقل».
حقل تقليدي
تعريفا، الحقل مادة شبيهة بالمائع تقريبا تملأ المكان، وكل نقطة فيه لها حالة قابلة للقياس. إننا نورد الحقل الكهربائي كمثال، حيث يكون مدى amplitude الحقل أكبر حول الأسلاك والأشياء المشحونة كهربائيا، وهكذا. وإذا وضعت جسيما مشحونا في مكان ما من الفضاء، فإن المدى يحدد مقدار القوة التي سوف يشعر بها الجسيم ومعدل تسريع حركته. ويعرِّف الحقل أيضا الاتجاه الذي سوف يتسارع وفقه الجسيم (غير ظاهر في الشكل).
حقل كمومي
لا تلائم الحقول التي تصفها النظرية الكمومية هذا التعريف التقليدي. فالنقطة في الفضاء لا تأخذ كمية فيزيائية محددة، بل طيفا من الكميات الممكنة. وتعتمد القيمة التي اختيرت فعلا على بناء رياضياتي منفصل يعرف باسم متجه الحالة statevector, وهو شيء لا يخصص له أي موضع محدد، بل إنه يشمل الفضاء كله.
المشكلة مع الحقول(*****)
تشير تسمية «نظرية الحقل الكمومي» ضمنا وبطريقة طبيعية إلى نظرية تُعْنى بالنُّسَخِ الكمومية للحقول التقليدية، مثل الحقلين الكهربائي والمغنطيسي. ولكن ماذا نعني بالنسخة الكموميةquantum version ؟ تستحضر كلمة «الحقل» حقولا مغنطيسية تجعل برادة الحديد تتراصف حول قضيب مغنطيس، وحقولا كهربائية تجعل الشعرة تقف على أحد طرفيها، ولكن الحقل الكمومي مختلف جدا عن الحقل التقليدي لدرجة تجعل حتى الفيزيائيين النظريين، يقرون بعجزهم عن رؤيتها إلّا بالكاد.
تقليديا، يرفق كل حقل بكمية فيزيائية – كدرجة الحرارة أو شدة الحقل الكهربائي – بكل نقطة في الزمكان spacetime. أما الحقل الكمومي فهو يقرن، بدلاً من الكمية الفيزيائية، كينونات رياضياتية مجردة تمثل نوع القياسات التي يمكنك القيام بها، وليس النتيجة التي سوف تحصل عليها. وتمثل بعض هذه الإنشاءات الرياضياتية فعلا مقادير فيزيائية، ولكن لا يمكن أن تُقرن هذه القيم بنقاط في الزمكان، بل تعزى فقط إلى مناطق مشذبة مغشاة.
تاريخيا، قام الفيزيائيون بتطوير نظرية الحقل الكمومي عبر «تكميم»quantizing نظرية الحقل التقليدية. وفي هذه الإجرائية يأخذ الفيزيائيون معادلة ويستبدلون فيها بالقيم الفيزيائية مؤثرات operators تمثل العمليات الرياضياتية كالمفاضلة أو استخراج جذر تربيعي، ويمكن لبعض المؤثرات أن توافق إجرائيات فيزيائية محددة، كإصدار الضوء أو امتصاصه. وتضع المؤثرات طبقة من التجريد بين النظرية والواقع الحقيقي. فالحقل التقليدي يشبه خريطة طقس تبين درجة الحرارة في مدن متنوعة، في حين تشبه النسخة الكمومية خريطة طقس لا تريك العبارة «40 درجة». وعليك إذا أردت الحصول على قيمة درجة الحرارة الفعلية أن تقوم بخطوة إضافية عبر تطبيق المؤثر على كائن رياضياتي آخر – يُعرف باسم متجه الحالة statevector، الذي يمثل تشكيل المنظومة قيد الدراسة.
ومن وجهة النظر العامة، لا تبدو هذه الخصوصية للحقول الكمومية مفاجِئة، فالميكانيك الكمومي – النظرية التي بنيت على أساسها نظرية الحقل الكمومي – لا يتعامل بدوره مع قيم محددة بل مع قيم احتمالية فقط. ومع ذلك، فإن الوضع، أنطولوجيّا(15)، يبدو أكثر غرابة في نظرية الحقل الكمومي لأن الكينونات الأساسية المفترضة – الحقول الكمومية – لا تقوم بتحديد أي قيم احتمالية؛ بل ينبغي، بغية الحصول على هذه القيم، دمجها في متجه الحالة.
والحاجة إلى تطبيق الحقل الكمومي على متجه الحالة تجعل النظرية مستعصية على التفسير، وعلى الترجمة إلى شيء فيزيائي يمكنك تخيله والتعامل معه في ذهنك. فمتجه الحالة شمولي، إذ إنه يصف المنظومة كاملة ولا يشير إلى أي موقع خاص. فدور متجه الحالة يقوض السمات المحددة للحقول والمتمثلة في أنها ممتدة ومنتشرة عبر الزمكان. ويسمح لك حقل تقليدي بتصور ظاهرة – كالضوء – بصفتها انتشارا لموجات عبر المكان. وينزع الحقل الكمومي هذه الصورة ويجعلنا ضائعين ومرتبكين في شرح كيف يعمل العالم.
ومن الواضح إذن، أن الصورة المعيارية للجسيمات الأولية ولحقول القوى الوسيطة بينها لا تمثل أنطولوجيا مُرضية للعالم الفيزيائي. ومن غير الواضح على الإطلاق ماهية جسيم أو حقل. وهناك إجابة مألوفة تكمن في القول إنه ينبغي النظر إلى نوعي الجسيمات والحقول كليهما على أنهما مظهران متكاملان للحقيقة، لكن هذا التشخيص لا يساعدنا، لأن كلا المفهومين لايصلح حتى في تلك الحالات التي يفترض أن نشاهد فيها بوضوح تام هذا المظهر أو ذاك. ولحسن الحظ، لا تستنفد صورتا الجسيم والحقل جميع الأنطولوجياتontologies الممكنة لنظرية الحقل الكمومي.
بنى تُنقِذنا؟(******)
يعتقد عدد متزايد من الناس أن ما يهم حقيقةً لا يكمن في الأشياء بل في العلاقات بينها. وتتعارض وجهة النظر هذه مع المفاهيم الذرية أو النقطية التقليدية للعالم المادي بدرجةٍ أعلى مما تستطيع فعله أي تغييرات – مهما بلغت شدتها – في أنطولوجيات الحقول والجسيمات.
في البدء، جاء هذا الوضع – المعروف باسم الواقعية البنيوية structuralrealism – ضمن نسخة معتدلة نسبيا تعرف باسم الواقعية البنيوية المعرفيةepistemic structural realism. وهي تنص على ما يلي: من الممكن ألا نصل أبدا إلى معرفة الطبيعة الحقيقية للأشياء، وجلُّ ما يمكن معرفته هو العلاقات التي تربط هذه الأشياء بعضها ببعض. لنأخذ الكتلة مثلا، فهل سبق لك رؤية الكتلة فعلا؟ لا، إننا لا نرى إلا ما تعنيه الكتلة بالنسبة إلى كينونات أخرى، أو – بشكل محسوس أكثر – إننا نرى كيف يتآثر جسم ثقيل بجسم ثقيل آخر بفعل الحقل التثاقلي الموضعي(16). فبنية العالم، التي تعكس كيفية الارتباط بين الأشياء، هي الجزء الأكثر ثباتا وقوة في النظريات الفيزيائية. ومع أنه يمكن لنظريات جديدة أن تقلب مفاهيمنا عن لبنات بناء العالم الأساسية، لكنها تنحو إلى الإبقاء على البنى. وهكذا يمكن للعلماء تحقيق تقدم في هذا المضمار.
والآن، يبزغ السؤال التالي: ما هو السبب الكامن وراء إمكاننا رؤية العلاقات بين الأشياء من دون رؤية الأشياء نفسها؟ والإجابة المباشرة هي أن العلاقات هي كل ما هو موجود. وهذه القفزةُ تجعل الواقعيةَ البنيوية اقتراحا جذريا أكثر يُسمى الواقعية البنيوية الحقيقية الوجود ontic structural realism.
إن العدد الضخم من التناظرات في الفيزياء المعاصرة يدعم واقعية بنيوية حقيقية الوجود. وهناك في الميكانيك الكمومي – كما في نظرية <أينشتاين> في التثاقل – تغيرات معينة في تشكيل العالم تسمى تحويلات تناظرية(17) – ليست لها نتائج تجريبية. وتتبادل هذه التحويلات مع الأشياء المنفردة التي تشكل العالم، لكنها تُبْقي على العلاقات فيما بينها. وبالمثل، لنأخذ وجها متناظرا مرأويا، حيث تستبدل المرآة العين اليسرى بالعين اليمنى، وثقب الأنف الأيسر بثقب الأنف الأيمن، وهكذا. ومع ذلك تبقى المواضع النسبية لسمات الوجه نفسها من دون تغيير. إن هذه العلاقات هي ما يعرف فعلا الوجه، أما وسمنا لها بأنها «يسرى» أو «يمنى» فيعتمد على موقع نقطة رصدنا لها. وتمتلك الأشياء التي دعوناها «جسيمات» أو «حقولا» تناظرات أكثر تجريدا، لكن الفكرة هي نفسها.
يفضل الفيزيائيون والفلاسفة، وفقا لمبدأ شَفرة أوكامOccam’s razor، الأفكارَ التي تفسر الظواهر نفسها عبر فرضيات أقل. وفي هذه الحالة، يمكنك أن تنشئ نظرية صالحة تماما بافتراضك وجود علاقات محددة من دون افتراض إضافي بوجود أشياء منفردة. وهكذا يقول أنصار الواقعية البنيوية الحقيقية الوجود إنه يمكن التخلي أيضا عن الأشياء وافتراض أن العالم مكون من بنى أو من شبكات من العلاقات فقط.
وفي حياتنا اليومية، نقابل أوضاعا كثيرة حيث العلاقات وحدها هي المهمة، وحيث وصف الأشياء التي توجد بينها علاقات يصرف انتباهنا عن المهم. وعلى سبيل المثال، من المهم جدا في شبكة مترو الأنفاق أن تعرف كيفية ترتبط المحطات المختلفة بعضها ببعض. ففي لندن، ترتبط محطة القديس بولس مباشرة بمحطة Holborn في حين يجب عليك تغيير الخطوط إذا ما انطلقت من محطة Blackfriars مرة على الأقل، مع أن كون محطة Blackfriars أقرب إلى محطةHolborn من محطة القديس بولس. وما يهم في المقام الأول هو بنية الوصلات والروابط، في حين أن تجديد محطة مترو Blackfriars حديثا لتغدو محطة عصرية جميلة لايعني شيئا لمسافر يحاول التنقل بواسطة شبكة المترو.
ثمة أمثلة أخرى عن بنى تعد أكثر أهمية من تحقيقها المادي هي الشبكة العنكبوتية العالمية (الوِب Web)، والشبكة العصبية للدماغ، والجينوم(18)genome. وهذه البنى تستمر بالعمل حتى عندما يموت بشكل منفرد كل من الحواسيب والخلايا والذرات والناس. وتقدم هذه الأمثلة تشابهات جزئية غير قوية مع أنها قريبة جوهريا من الحجج التقنية التي تصلح في نظرية الحقل الكمومي.
وهناك أسلوب تفكير يستخدم التشابك الكمومي ليدعم فكرة كون البنى أساس الواقع الحقيقي. إن تشابك جسيمين كموميين له أثر شمولي. فمعرفة جميع الخاصيات الذاتية الداخلية المنشأ intrinsic، كالشحنة الكهربائية، والخاصيات العرضية الخارجية المنشأ extrinsic، كالموضع لجسمين، مازالت لا تسمح بتحديد حالة منظومتهما؛ لأن الكل أكبر من مجرد مجموع أجزائه. فالصورة الذرية للعالم، التي يتحدد كل شيء فيها من خلال خاصيات لبنات البناء الأكثر أولية وكيفية ترابط بعضها ببعض في الزمكان، تنهار. وبدلا من اعتبار الجسيمات رئيسية والتشابك ثانويا، ينبغي علينا ربما أن نفكر في هذا الأمر بطريقة معاكسة.
وقد يبدو لك الأمر غريبا في أن توجد علاقات من دون وجود أشياء ترتبط بهذه العلاقات، فالأمر يبدو كإجراء زواج من دون زوجين. فلست وحيدا في أن تجد ذلك الأمر غريبا. وكثير من الفيزيائيين والفلاسفة يجدون الأمر غريبا أيضا، ويعتقدون أنه من المحال الحصول على أشياء انطلاقا من علاقات. ويحاول بعض أنصار الواقعية البنيوية الحقيقية الوجود أن يجدوا تسوية تعتبر حلا وسطا، فهم لا ينكرون وجود الأشياء، بل إنهم يدّعون فقط أن العلاقات أو البنى هي بدائية أنطولوجيا ontologically primary. وبعبارة أخرى، لا تمتلك الكائنات والأشياء خاصيات ذاتية، بل مجرد خاصيات تنجم عن علاقاتها بأشياء أخرى. لكن هذه التسوية تبدو ضعيفة، فالجميع سوف يوافق على أن العلاقات أشياء ترتبط بهذه العلاقات، فالوضع الوحيد الجديد واللافت للنظر هو أن كل شيء ينشأ بناء على علاقات حصرا. وعموما، فإن الواقعية البنيوية فكرة مثيرة واستفزازية لكنها تحتاج إلى تطوير أكثر قبل أن نعرف ما إذا كانت قادرة على إنقاذنا من مشكلة التفسير التي نعانيها.
حزم من الخاصيات(*******)
ينطلق بديل ثان لمعنى نظرية الحقل الكمومي من فكرة عميقة بسيطة. فمع أن التفسيرين الجسيمي والحقلي يعتبران تقليديا مختلفين جذريا أحدهما عن الآخر، فإنهما يشتركان في شيء واحد حاسم، وهو أن كليهما يفترض كون اللبنات الأساسية للعالم المادي كينونات منفردة دائمة يمكن عزو الخاصيات إليها. وهذه الكينونات إما جسيمات أو – في حالة نظرية الحقل – نقاط في الزمكان. ويعتقد العديد من الفلاسفة – وأنا من ضمنهم – أن هذا التقسيم إلى أشياء وخاصيات يمكن أن يمثل السبب البعيد وراء تعرض كل من المقاربتين الجسيمية والحقلية لصعوبات. ونعتقد أنه من الأفضل النظر إلى الخاصيات على أنها وحدها تشكل الفئة الأساسية.
وتقليديا، يعتقد الناس أن الخاصيات هي عبارة عن شموليات universals، أو بعبارة أخرى، أنها تنتمي إلى فئة عامة مجردة. وهذه الخاصيات تمتلكها أشياء وكائنات خاصة؛ فهي لا تستطيع الوجود مستقلة عن غيرها. (على نحو لا ريب فيه، كان أفلاطون يعتقد بوجود الخاصيات بمعزل عن غيرها، لكن فقط في عالم أعلى مختلف عن العالم الموجود في المكان والزمان). وعلى سبيل المثال، عندما تفكر في اللون الأحمر، فإنك تفكر عادة في أشياء محددة حمراء اللون، وليس ببند عائم بحرّيّة يسمى «احمرارا» أو «حمرة». لكن من الممكن أن تفكر في الأمر بطريقة معكوسة، وهي اعتبار أن للخاصيات وجودا قائما بذاته بشكل مستقل عن الكائنات التي تتمتع بها. ويمكن للخاصيات أن تكون ما يدعوه الفلاسفة خصوصيات particulars – وهي كينونات منفردة واقعية. وما ندعوه عادة شيئا قد لا يكون إلا حزمة من الخاصيات: اللون والشكل والاتساق، وما إلى ذلك.
ولما كان هذا المفهوم عن الخاصيات – باعتبارها خصوصيات بدلا من أن تكون شموليات – مختلفا عن النظرة التقليدية لها، فقد أدخل الفلاسفة تعبيرا جديدا لوصفها هو: المجازيات tropes. ويبدو الأمر طريفا إلى حد ما، ولسوء الحظ، يستحضر هذا التعبير دلالات غير مناسبة، لكن استخدامه صار الآن راسخا وشائعا.
إن تخيل الأشياء بصفتها حزما من الخاصيات يختلف عن الكيفية التي نتصور بها العالم عادة، ولكنه يغدو أمرا أقل غموضا إذا ما حاولنا هجر ما تعلمناه عن طريقة تفكيرنا عادة في العالم، وعدنا بأنفسنا إلى السنوات الأولى من حياتنا. فحين كنا أطفالا نرى ونتلمس كرة للمرة الأولى، فإننا في الواقع لم نكن ندرك أن ما لدينا كرة – على وجه التدقيق – بل إن ما كنا نعيه هو شكل دائري بظلال حمراء اللون مع ملمس مرن معين. ولا نربط إلا لاحقا بين هذه الحزمة من الملاحظات وكائن متماسك من نوع معين، وأعني بذلك الكرة. فعندما نرى كرة في المرة التالية، فإن جوهر ما نقوله هو: «انظر، كرة»، ساهين عن مدى غنى الأدوات المفهوماتية التي يتضمنها هذا الإدراك المباشر ظاهريا.
وفي أنطولوجيا مجازية، نعود ثانية إلى الإدراكات والمشاعر المباشرة للطفولة، فالأشياء في العالم خارجا ليست إلا حزما من الخاصيات. وليس الموضوع هو وجود كرة أولا ثم قرن خاصيات بها، بل هو وجود خاصيات ندعوها كرة. ولا شيء تمتلكه الكرة سوى خاصياتها.
وبتطبيق هذه الأفكار على نظرية الحقل الكمومي، يمكننا القول إن ما ندعوه إلكترونا هو في الحقيقة حزمة من الخاصيات أو المجازيات المتنوعة: ثلاث خاصيات ثابتة وأساسية وهي الكتلة والشحنة والسبين(19) spin، إضافة إلى خاصيات عديدة متغيرة وغير أساسية الموضع والسرعة. ويساعد هذا المفهوم المجازي على إعطاء معنى معقول للنظرية. وعلى سبيل المثال، تتنبأ النظرية بقدرة الجسيمات الأولية elementary particles على أن تأتي إلى الوجود وتخرج منه بسرعة، ويكون سلوك الخلاء في نظرية الحقل الكمومي مذهلا وعجيبا بوجه خاص: فمع أن القيمة المتوسطة لعدد الجسيمات تساوي الصفر، فإن الخلاء يعج بالنشاط وهناك عمليات (إجرائيات) تحدث في الأزمنة والأوقات جميعها، بما في ذلك عمليات الخلق والإفناء التالي لجميع أنواع الجسيمات.
تنطوي هذه الفعالية في أنطولوجيا جسيمية على مفارقات. فإذا كانت الجسيمات أساسية، فكيف تأتّى لها أن تُخلّق وتغدو مادة؟ فما الذي كوّنها؟ ويكون الوضع طبيعيا في أنطولوجيا مجازية، فالخلاء – ومع أنه خالٍ من الجسيمات – له خاصيات، والجسيم هو الذي تحصل عليه عندما تُجَمِّع هذه الخاصيات نفسها في حزمة بطريقة معينة.
الفيزياء وما وراء الطبيعة(********)
كيف يمكن لمثل هذا القدر الكبير من الجدل والخلاف الأساسيين أن يحتدم حول نظرية ناجحة تجريبيا كنظرية الحقل الكمومي؟ إن الإجابة عن هذا السؤال مباشرة. فمع أن النظرية تعلمنا بما يمكننا قياسه، فهي لا تتكلم إلا بألغاز عندما يتعلق الأمر بطبيعة الكينونات – مهما كانت – التي تؤدي إلى بروز ملاحظاتنا. وتقوم النظرية بتفسير ملاحظاتنا بدلالة كواركات وميونات وفوتونات وحقول كمومية متعددة، لكنها لا تخبرنا شيئا عن حقيقة ماهية الفوتون – أو الحقل الكمومي. إنها لا تحتاج إلى ذلك لأنه يمكن لنظريات الفيزياء أن تكون صالحة تجريبيا إلى حد بعيد من دون حل هذه الأسئلة الواقعة في مجال ما وراء الطبيعة metaphysical.
ويعتبر هذا الأمر كافيا للعديد من الفيزيائيين. فهم يعتمدون ما يسمى موقفا ذرائعيا instrumentalist attitude، وذلك برفضهم أن هدف نظريات العلمية هو، في المقام الأول تمثيل العالم، لأنها – بالنسبه إليهم – مجرد أدوات تقوم بتنبؤات تجريبية. ومع ذلك, فلدى أغلب العلماء حدس قوي بأن نظرياتهم تقوم، على الأقل، بوصف وتصوير بعض مظاهر الطبيعة كما هي فعلا، وذلك قبل القيام بأي قياس. وفي نهاية الأمر، ما الذي يفعله العِلمُ إذا لم يكن فَهْمَ العالَم؟
إن الحصول على صورة شاملة للعالَم الفيزيائي يتطلب توحيد الفيزياء والفلسفة. وهذان الفرعان المعرفيان يكمل أحدهما الآخر. ويزودنا ما وراء الطبيعة بأطر متنوعة متنافسة لأنطولوجيا العالم المادي، مع أنه لا يستطيع – فيما خلا مسائل تتعلق بالاتساق الداخلي – الفصل بينها. هذا وتفتقر الفيزياء، من ناحيتها، إلى وصف متسق لشؤون أساسية، من مثل تعريف الأشياء ودور الفردية وحالة الخاصيات والعلاقة بين الأشياء والخاصيات ومعنى المكان وكذلك الزمان.
والاجتماع بين فرعي المعرفة هذين مهما بوجه خاص عندما يجد الفيزيائيون أنفسهم يراجعون الأسس نفسها لموضوع دراساتهم. لقد وجه تفكير ما وراء الطبيعة(20) <I. نيوتن> و <A. أينشتاين>، وهو يؤثر في الكثير ممن يحاولون توحيد نظرية الحقل الكمومي ونظرية <أينشتاين> في التثاقل. فقد ألّف الفلاسفة كتبا ونشروا بحوثا تملأ مكتبات عن الميكانيك الكمومي ونظرية الثقالة، في حين لا نزال في بداية الطريق نحو استكشاف الحقيقة المتضمنة في نظرية الحقل الكمومي. ويمكن للبدائل عن وجهتي النظر المعتمدتين: الجسيمية والحقلية، اللتين نقوم بتطويرهما، أن تلهم فيزيائيين في سعيهم وكفاحهم نحو تحقيق التوحيد العظيم the grand unification.
المؤلف
Meinard Kuhlmann
<كولمان> أستاذ الفلسفة بجامعة بيليفيلد في ألمانيا، حصل على شهادات في مجالي الفيزياء والفلسفة، وعمل في جامعات أوكسفورد وشيكاگو وبيتسبرگ. وقد اكتسب خلال حياته كطالب، سمعةَ شخص فضولي دائم التساؤل وهو يقول: «كنت أطرح الكثير من الأسئلة لمجرد الدعابة وبسبب الالتباس والإرباك المسليين الناجمين عنها.»
مراجع للاستزادة
An Interpretive Introduction to Quantum Field Theory. Paul Teller. Princeton University Press, 1995.
No Place for Particles in Relativistic Quantum Theories? Hans Halvorson and Rob Clifton in Philosophy of Science, Vol. 69, No. 1, pages 1–28; March 2002.
Available online at http://arxiv.org/abs/quantph/0103041Ontological Aspects of Quantum Field Theory. Edited by Meinard Kuhlmann, Holger Lyre and Andrew Wayne. World Scientific, 2002.
Against Field Interpretations of Quantum Field Theory. David John Baker in British Journal for the Philosophy of Science, Vol. 60, No. 3, pages 585–609; September 2009. http://philsci-archive.pitt.edu/4132/1/AgainstFields.pdf
The Ultimate Constituents of the Material World: In Search of an Ontology for Fundamental Physics. Meinard Kuhlmann. Ontos Verlag, 2010. Quantum Field Theory. Meinard Kuhlmann in Stanford Encyclopedia of Philosophy, Winter 2012. http://plato.stanford.edu/archives/win2012/entries/quantum-field-theory