حواجز تحول دون دخول
الأدوية في الأورام الصلبة
يقاوم العديدُ من الأورام السرطانية نفاذ العوامل المضادة لها، مما يفسر إخفاق الأدوية، التي تقضي
على الخلايا الورمية في أطباق المخابر، في اجتثاث الأورام الخبيثة في الجسم.
K .R. جين
ينبغي للعامل الذي يُبيد الخلايا السرطانية في طبق الاستنبات، أن يكون ـ من الناحية النظرية ـ قادرا على قتل مثل هذه الخلايا في الجسم. وقد استطاعت بعض الأدوية التي تبدي فعالية قوية مضادة للسرطان في المخبر (المختبر) أن تنقذ حياة العديد من المرضى، لا سيما أولئك الذين يعانون خباثات malignanciesالدم أو سرطانات مختلفة تصيب الأطفال. ولكن من المحزن أن دستور الأدوية (الأقرباذين) pharmacopoeia الراهن لم يقلل بشكل ملموس عدد الوفيات الناجمة عن أكثر الأورام الصلبة solid tumors شيوعا لدى البالغين، ومن بينها سرطانات الرئة والثدي والقولون والمستقيم والموثة (البروستات) والدماغ.
ليس هناك من عملية وحيدة تستطيع تفسير هذه النتائج المخيبة، على الرغم من أن البحوث الحالية تشير إلى أن خاصية للأورام جرى إغفالها إلى حد كبير ـ تسمى هذه الخاصية بمقاومة نفاذ الأدوية ـ يمكن أن تلعب دورا بالغ الأهمية في تقويض المعالجة. فبعد تناول الأدوية المكافحة للسرطان عن طريق الفم أو بوساطة الحقن (الزَّرْق) injection، فإنها تسري مع مجرى الدم وصولا إلى أهدافها. وكيما تقضي هذه العوامل على الأورام، فإن عليها بعدئذ أن تتغلغل خلال الامتدادات والنماءات الورمية بتراكيز عالية تكفي لاجتثاث كل خلية مميتة، إلاّ أن الدراسات التي أجريتُها مع زملائي في السنوات العشرين الفائتة أظهرت أن السرطانات الصلبة غالبا ما تضع حواجز هائلة أمام هذا التغلغل والانتشار. وتتمخض الاستقصاءات عن تلك الحواجز اليوم عن أفكار مثيرة تستهدف التغلبَ عليها.
لا بد أن يعزِّز النجاح في مكافحة هذه الحواجز أساليبَ مختلفة للمعالجة، يتمثل قاسمها المشترك جميعا في كون نجاعتها تعتمد على التراكم الأمثل للمواد (العوامل) العلاجية في الأورام. وحيثما يكون ممكنا، يلجأ الأطباء إلى معالجة السرطانات الصلبة بالاستئصال الجراحي أو بالتشعيع irradiation. أما إذا استعصت أجزاء من الكتلة الأصلية (الأولية) على الاستئصال أو إذا تبادر للذهن أن ذلك الورم دخل مرحلة النقائل (الانتقالات) metastases، فقد يعوِّل الأطباء على المعالجة الدوائية الجهازية systemic لاجتثاث أي أنسجة سرطانية متبقية.
تتألف المعالجة الجهازية، نمطيا، من أدوية العلاج الكيميائي التي تكون سامة للخلايا الخاضعة للانقسام (ومن بينها الخلايا السليمة لسوء الحظ). وقد قدمتْ مؤخرا الهندسةُ الوراثية وتقانات أخرى غيرها صِنْفا (جيلا) ثانيا من الأدوية يتألف من بروتينات ومنتجات بيولوجية أخرى. ويشمل هذا الصنف من الأدوية بضعة جزيئات من الجهاز المناعي مثل عامل النخر الورمي tumor necrosis factor والإنترليوكينات interleukins والإنترفيرونات interferons والأضداد الأحادية (الوحيدة) النسيلة monoclonal antibodies. كما أنه يضم خلايا دموية بيضاء تدعى الخلايا القاتلة المنشَّطة بالليمفوكين lymphokine-activated killer(LAK) cells وخلايا لمفية متسلِّلة للورم tumor-infiltrating lymphocytes إلى جانب عوامل متنوعة صممت لأداء المعالجة الجينية gene therapy.
وعلى نحو مماثل، فقد تسهم المعالجة الشعاعية (الإشعاعية) في إيصال الأدوية التي يحملها الدم، إذ يعمل الإشعاع جزيئيًّا عن طريق تحويل جزيئات الأكسجين إلى أشكال بالغة التدمير تدعى الجذور الحرة free radicals، ولكن الأورام كثيرا ما تفتقر للأكسجين. وفي محاولة لزيادة تأثر الخباثات بهذه المعالجة ، يقوم الباحثون الآن باختبار الفائدة من إعطاء عوامل محسِّسةsensitizing agents تقلِّدُ الأكسجين أو ترفع بطريقة ما مستوياته في الورم. كما يمكن قتل الخباثات بالتسخين؛ لذا تتضمن المعالجات بفرط الحرارة أحيانا عقاقير تزيد من استجابة الورم للحرارة. وفي المعالجة الدينامية الضوئيةphotodynamic therapy يُجرى حقن مركب غير مؤذ نسبيا ما لم يتعرض لأشعة ليزر، ويعطى هذا المركب بعض الوقت ليتجمع في الورم، ومن ثم يتم توجيه أشعة الليزر إلى تلك الكتلة(1).
لقد كنت طالب دراسات عليا في الهندسة الكيميائية بجامعة ديلاوير، يومَ اهتممتُ أول مرة بإمكانية أن تقاوم الأورام اجتياح الأدوية لها. وفي عام 1974 هيأ لي <J. واي> (المشرف على بحثي لدرجة دكتوراه الفلسفة) أن أساعد <M .P.كولينو> (من المعهد الوطني للسرطان) في قياس قبط (امتصاص) uptakeالخباثات malignancies للأدوية لدى الحيوانات. وكلما كانت معرفتي بالسرطان تزداد، كنت أدرك أن إخفاق العوامل المحمولة بالدم في توزعها (انتشارها) داخل الأورام قد يقوِّض المعالجة الدوائية بسهولة. وهنا بدأت أتساءل عما إذا كانت الأورام الصلبة تمتلك خواص تحول دون مثل هذا التوزع. وبدأت أعتقد كذلك أن ما أمتلكه من خلفية في الهندسة (بما في ذلك فهمي لنقل السوائل والجزيئات) قد يعينني على استكشاف تلك الإمكانية.
لقد تم استئصال ورم صلب نموذجيّ من أجل إظهار بعض أوعيته الدموية. فقبل أن يبدأ أحد الأدوية المحمولة بالدم انقضاضه على الخلايا الخبيثة في ورم ما، فإنه لا بد أن ينجز ثلاث مهام حرجة (الجزء التفصيلي من الشكل). إذ يجب عليه أن يشق طريقه إلى داخل وعاء دموي مجهري يقع بالقرب من الخلايا الخبيثة في الورم (1)، وأن يخرج من هذا الوعاء نافذا إلى داخل المطرق matrix المحيط بالوعاء (ويعرف بالنسيج الخلالي) (2)، وأن يسري أخيرا خلال ذلك المطرق باتجاه الخلايا (3). ولسوء الحظ، فإن الأورام غالبا ما تطوِّر أساليب تعوق كلا من هذه الخطوات. |
ويعود احتمال إعاقة الأورام لنفاذ الأدوية إلى طبيعة البنية الورمية إلى حد ما. فخلافا للتصور المألوف، لا تُعتبر النماءات الخبيثة malignant growths مجرد تعنقدات clusters من الخلايا المتكاثرة؛ إذ غالبا ما تحتل الخلايا السرطانية حجما يقل عن نصف حجم الورم، كما أن ما مقداره 1% -10من الورم يُشْغَل بأوعية دموية تجوب كتلة ذلك الورم، في حين يُشغل الحيز المتبقي بمَطْرِقmatrix غني بالكُلاّجين ـ يدعى النسيج الخلالي interstitium ـ يحيط بالخلايا السرطانية لفصلها عن الجهاز الوعائي. (إن الأنسجة السليمة تحتوي على مطرق خارج الخلايا أيضا، لكنه عادة في الأورام أكثر اتساعا.)
ولكي يصل العامل الدوائي إلى الخلايا السرطانية في الورم لا بد له أن يشق طريقه إلى الأوعية الدموية للورم، ومن ثم أن يَعْبُر الجدران الوعائية وصولا إلى النسيج الخلالي. وأخيرا، يجب عليه أن يقطع مسافات كبيرة خلال المَطْرِق حتى يبلغ الخلايا. وفي قناعتي، إن إنجاز كل واحدة من هذه الخطوات يمكن أن يكون مشكلة بحد ذاته.
كيفية دراسة إيصال الدواء تجريبيا experimentally
تطبق مجموعة المؤلِّف استراتيجيتين تجربيتين رئيستين من أجل تحديد مصير الأدوية في الأورام. ففي تقنيات «الورم المعزول» يغرس الباحثون في داخل أحد القواضم ورما يغذيه شريان وحيد ويُنزح drained عبر وريد وحيد (a)، أو يحصلون أحيانا على مثل هذا الورم من إنسان مريض ويحافظون على جريان الدم فيه بشكل صنعي (b). ومن ثم يقيسون كمية الدواء التي تدخل إلى الورم وكمية الدواء التي تخرج منه، ويحسبون الكمية التي يتم امتصاصها.
ويعمد الباحثون في تقنيات «النافذة» window techniques إلى إنماء ورم ما في أذن أرنب (c) أو في دماغ أحد القواضم (d) أو في جلد ظهره (e)، ثم يغطونه بساتر زجاجي. ويستطيعون من خلال إحكام عدسة المجهر على النسيج المرئي أن يشاهدوا بشكل مباشر بعض الظواهر، مثل تشكل أوعية دموية جديدة وانتشار الدواء في أرجاء الورم. أما الصور الواردة في هذا الشكل، فهي تتقصى التبدلات التي حدثت بين اليوم الخامس واليوم العشرين (من اليسار إلى اليمين) بعد أن تم غرس خلايا سرطانية في جلد الظهر لأحد القواضم. ففي نحو اليوم العشرين اكتسبت الناحية المحيطية للورم الحاصل كتلة متشابكة من الأوعية الدموية، ولكن مركزه فقد الكثير من مورده الدموي (المنطقة البيضاء). وهكذا فَقَد الورم الأوعية اللازمة لجلب الدواء المحمول بالدم إلى منطقته المركزية بشكل مباشر.
|
لم يكن بمقدوري متابعة هذه الفكرة حينما حصلتُ على أول منصب لي بالكلية. ولكن فرصتي سنحت عام 1978 حينما انتقلت إلى جامعة كارنيگي ميلّون. وبالتعاون مع زملائي ـ كفريق متعدد التخصصات ـ بدأنا ندرس الحواجز التي تحول دون نفاذ الأدوية، وقد تم ذلك في جامعة هارڤارد وفي المشفى (المستشفى) العام في ماسّّاتشوستس الذي التحقت به عام 1991.
لقد طبَّقنا العديد من الطرق في أبحاثنا. فعلى سبيل المثال، تبنينا مباشرة في كارنيگي ميلون طريقة <غلّينو> التي تقدم بها عام 1961. وفي هذه الطريقة نقوم بإنماء الأورام في القواضم، بحيث تبقى كل كتلة ورمية متصلة مع الجهاز الدوراني بشريان ووريد وحيدين، وبتلك الطريقة نتمكن من قياس كمية الدواء الداخلة والخارجة من الورم، وعلى أساس هذا القياس نتمكن من حساب كمية الدواء الذي استقاه الورم. كما طورنا طريقة مُقارِبة تسمح بدراسة أورام القولون التي تظهر عفويا لدى البشر. فحينما يستأصل الجراحون الأورام من المرضى، فإنهم يزودوننا أحيانا بعُقَيْدات فرادى يُغذّى كل منها بشريان واحد ويُنْزَح بوريد واحد. وبعدئذ تتم المحافظة على الدورة الدموية في الورم بشكل صنعي.
ومع أن هذه الطرق تعطي معلومات قيمة، فإن ما يجري داخل الأورام يبقى مجهولا. وللحصول على صورة مفصلة عن الجريان الدموي وتوزع الدواء والمواد الأخرى داخل الورم، نلجأ إلى تطبيق شكل معدل من تقنيات «النافذة»window techniques، التي استخدمت من قِبَل <C .J. سانديون> (من جامعة پنسلفانيا) على الأرانب في العشرينات من هذا القرن، ومن قِبَل <H .G. ألْجير> (من المعهد الوطني للسرطان) على الفئران في الأربعينات.
وهكذا، نقوم بغرس الخلايا الورمية في أذن أرنب، أو في دماغ أحد القواضم أو في جلد ظهره؛ ثم نغطيها بساترة زجاجية شفافة أو نضعها بين ساترتين اثنتين كالشطيرة. وفي حين يكبر الورم الناجم على الصفيحة الزجاجية، نستطيع ملاحظته تحت عدسة المجهر. وبوَضْعِنا واسمات متألقة fluorescent labels للمواد المحقونة، فإننا نستطيع اقتفاء السبيل الذي تسلكه مختلف المواد ضمن الورم. ومنذ عام 1991، مكنتنا حيازتنا لفئران (عديمة المناعة) من مشاهدة الأورام البشرية، فضلا عن الأورام ذات المنشأ الحيواني. (ونذكر هنا أن فقدان الجهاز المناعي لدى الفئران يمنعها من رفض الطعوم البشرية.) يضاف إلى ذلك أن النَّمْذَجَة modeling الرياضياتية، التي تعتبر استراتيجية هندسية مدرسية (كلاسيكية)، تُقدِّم بعض العون لدراستنا، إذ تسمح لنا بالربط بين النظرية والتجربة واستنباط النتائج، كما تقلل عدد الحيوانات في تجاربنا إلى أدنى حد.
لقد كشفتْ أعمالنا وأعمال الآخرين المبكرة أن الجملة (الجهاز) الوعائية للأورام قد تكون في غاية الفوضى، سواء في بنيتها أو في وظيفتها. ويمكن لهذه الفوضى بدورها أن تشكل حاجزا مهمًّا يحول دون إيصال الدواء. إن الأعضاء السليمة تتواصل فيها الأوعية الدموية (كما هو متوقع) فتزود بالدم جميع المناطق النسيجية المكونة للعضو، فالشرايين التي تتلقى الدم المؤكسج الوارد من القلب تنقسم إلى شُرَيْنات arterioles أصغر قطرا، ومن ثم إلى شَعْرِيّات مجهرية microscopic capillaries. ومن هذه الشعريات يمر الأكسجين والغذاء إلى المَطْرِق والخلايا المحيطة، ومن ثم تصب الشعريات في وُرَيْدات venules تتلقى الفضلات والسوائل الفائضة من الأنسجة لتلقيها في أوردة تعمل على طرحها.
ومع أن الأورام تحصل، مبدئيا، على الدم من الجملة الوعائية الموجودة في تلك المنطقة، فإنها تبني في نهاية المطاف أوعية دموية صغيرة جديدة تتفرع بغزارة وتتلوى وتتنامى في اتجاهات غير متوقعة، يمكنها أن تتغير من يوم إلى آخر. ونتيجة لذلك يمكن لبعض مناطق الورم أن تتزود بشبكة وعائية جيدة، في حين تفتقر المناطق الأخرى للتروية الدموية، وقد تنعدم كليا.
وهكذا، تدل هذه النتائج على أن أولى المشكلات التي تعترض وصول الأدوية المنقولة بالدم إلى الخلايا الورمية تتمثل في التوزع المتفاوت للأوعية الدموية. إننا في الواقع نشاهد عبر نوافذنا الشفافة أن المناطق التي تفتقر للأوعية الدموية لا تتلقى الدواء بشكل مباشر من الدورة الدموية (الدوران) circulation. (إن الخلايا الورمية في تلك المناطق المحرومة من الدم قد تبدو ميتة بالفحص السطحي ولكنها غالبا ما تنشط من جديد بعودة التغذية إليها.)
وماذا بعدُ؟ إن التفرع والالتواء الشاذيْن للجملة الوعائية غالبا ما يؤديان إلى إبطاء ملحوظ في جريان (تدفق) الدم، وهذه ظاهرة تتفاقم في الأورام بسبب اللزوجة غير العادية للدم فيها. ويعوق هذا الجريان البطيء للدم إيصالَ الدواء إلى مناطق الورم الفقيرة التروية؛ كما يسهم في إثارة مشكلات أخرى في إيصال الدواء، وهذا ما سيتبين لنا فيما بعد.
إن التروية الدموية المتفاوتة (غير المتجانسة) لا تُعَدّ العقبة الوحيدة أمام انتشار الدواء داخل الورم. فهناك عائق ثان يأخذ شكل ضغط عال شاذ في المطرق الخلالي (مقاسا بمقاومة المطرق لمسبار يُغرَز فيه). فهذا الضغط يمكن أن يعوق مرور الجزيئات الكبيرة من جدران الأوعية إلى داخل المطرق الخلالي؛ وهكذا يمكنه أن يسهم في نقصان تركيز الجزيئات الدوائية التي تشاهد في كثير من الأحيان (من خلال عدسة مجهر التألق، أو أي تقنية تصوير أخرى) داخل المطرق الخلالي للأورام البشرية والحيوانية النامية على الفئران.
منظران لكتلة من الأوعية الدموية في ورم بشري يزن نصف رطل إنكليزي. تمت تهيئة المنظريْن بحقن أحد الپوليمرات الزرقاء في داخل سرطان قولوني مستأصل جراحيا، ومن ثم بإزالة جميع نسجه، أما المنطقة التي تشبه البلورة (الكريستال) داخل الكتلة الكاملة (الجزء الأيسر من الصورة العليا) فإنها تتألف من كداسة مشوشة من الأوعية الدموية المجهرية، في حين نشأت الثقبة الظاهرة في مركز المنطقة من افتقار الباحة area للمورد الدموي. أما المنظر المكبر عن قرب (في الأسفل)، فإنه يُبرز واحدا من الشذوذات البنيوية العديدة للأورام: يتمثل هنا بعدد من الأوعية تلتف وتتلوى متخذة شكل وشائع (ملفات) شبيهة بمفتاح سدادة الفلين، وتستطيع أن تسهم في إبطاء واضح للجريان الدموي. |
لقد بدأنا نشتبه في أن الضغط الخلالي يمكن أن يثير مشكلات في وجه إيصال الدواء، وذلك حينما تفحصنا ـ عن قُرْب ـ القوى التي تتحكم في حركة الجزيئات وهي تَعبُر من الدم إلى المطرق عبر الخلايا البطانية أو فيما بينها، مع العلم أن هذه الخلايا تبطن جدران الأوعية في طبقة وحيدة. ونحن نعرف أن الجزيئات، من ناحية مبدئية، (تتسرب) عبر الأوعية الدموية بآليتين هما الانتشار diffusion والحَمَلان (الحمل) convection. (أما الخلايا التي سأناقش أمرها بشكل منفصل فإنها تستخدم خيارا ثالثا كذلك.) والانتشار هو انتقال الجزيئات من منطقة التركيز العالي إلى المنطقة الأقل تركيزا؛ في حين أن الحملان هو نقل الجزيئات عبر تيار سائل. وخلافا لما هي عليه حال الانتشار الذي لا يتأثر بمدروج gradient الضغط، فإن الحملان يحكمه هذا المدروج: يجري السائل من مناطق الضغط العالي إلى مناطق الضغط المنخفض حاملا معه الجزيئات.
جزيئات موسومة تألقيا (تفلوريا) fluorescently (اللون الأبيض) تم تصويرها حال دخولها الأوعية الدموية الصغيرة في الحافة الخارجية لأحد الأورام (في اليسار)، ولاحقا بعد أن بدأت تنز في المطرق الخلالي المحيط بتلك الأوعية (في اليمين). وقد استطاعت الجزيئات أن تعبر بعض الجدر الوعائية باتجاه المطرق من دون الجدر الأخرى، مثل الجدار الأيمن في الوعاء الواقع في أقصى اليمين. كما استطاعت هذه الجزيئات شق طريقها داخل أجزاء من المطرق من دون الأجزاء الأخرى، مثل المنطقة السوداء في الأعلى. وتنجم هذه الفروق إلى حد كبير عن التفاوت في نفوذية الأوعية والمطرق كليهما في الجزء المحيطي. |
يمكن توضيح الفرق بين العمليتين في مثال بسيط. فحينما يُلقى بقطرة من الحبر في كأس من الماء الساكن، تنتقل جزيئات الحبر إلى الجوار تدريجيا (بالانتشار) إلى أن يتحقق تركيز متجانس للحبر في الماء. ولكن إذا جرى تحريك الماء في الكأس بعد إضافة قطرة الحبر، فإن الماء المتموِّر سرعان ما يوزع الحبر حيثما يتجه السائل (بفعل الحملان).
إننا نعرف أن الجزيئات الصغيرة ـ مثل الأكسجين وبعض الأدوية التقليدية للعلاج الكيميائي (التي يقل وزنها الجزيئي عن 2000 دالتون) ـ تغادر الأوعية الدموية مهاجرة إلى أرجاء النسج السليمة بفعل الانتشار في المقام الرئيس؛ أما الجزيئات الكبيرة ـ وبضمنها الأدوية المُهَنْدَسة جينيا (التي تتصف بوزن جزيئي يفوق 5000 دالتون) ـ فإنها تتحرك بفعل الحملان بشكل رئيس.
يحدث في النسج السليمة حَمَلان للجزيئات الكبيرة من الدم إلى النسيج الخلالي، لأن الضغط في الشبكة الشعرية أعلى منه في النسيج الخلالي (الذي يساوي الصفر تقريبا). ولكن ما الذي يحدث في الأورام؟ لقد اقترحتُ عام 1987 أنه إذا كان الضغط الخلالي في الأورام الصلبة كبيرا بشكل شاذ، فسيعوق حملان جزيئات الدواء الكبيرة إلى داخل النسيج الخلالي؛ إلا أن بعض الجزيئات الكبيرة تبقى قادرة على دخول المطرق بفعل الانتشار ولكن ليس سريعا، لأن معدل المرور بفعل الانتشار يبطؤ بازدياد الحجم.
وللشروع في اختبار هذه الفرضية، انطلقت مع زملائي لتقرير ما إذا كان الضغط الخلالي مرتفعا فعلا في الأورام البشرية. وقد قدم اكتشافان مبكران الدعم لهذه الإمكانية. فأولا، كشفتْ مراجعةٌ للأدبيات العلمية أن< S .G. يونگ> ومعاونيه (في جامعة أبردين) قاموا عام 1950 بقياس الضغط الخلالي في مركز الأورام الأرنبية التي كانت قد اغتُرست في أرانب أخرى. فكان الضغط في الأورام أعلى منه في النسج العادية. وفيما بعد نشرتْ مجموعات أخرى نتائج مشابهة، إلا أن صلة ذلك بالأورام البشرية العفوية لم تكن واضحة وبذلك تم تجاهل هذه النتائج إلى حد كبير.
أما الاكتشاف الثاني فكان عندما طورت مع أحد طلابي المتخرجين، نموذجا رياضياتيا لتوزع الضغط في الأورام الصلبة وذلك عام 1988. إذ افترض هذا النموذج أن الضغط الخلالي سيكون عاليا. لكن في الحقيقة كان الضغط عاليا بشكل متساو في جميع أرجاء الكتلة الورمية، ومن ثم هبط بحدة إلى ما يقارب الصفر في الناحية المحيطية periphery، حيث اقترب من الضغط المنخفض في النسج العادية المحيطة.
لقد أذهلنا ما توصلنا إليه من صورة متجانسة للضغط المرتفع في الورم. لأن كل المعالم الأخرى التي كانت قد قيست في الأورام (أو التي قيست فيما بعد)، لم تكن متجانسة. فليس توزع الأوعية الدموية وحده كان متفاوتا ومتغيرا فحسب، بل إن معدل تدفق الدم يمكن أيضا أن يتبدل مع مرور الوقت، حتى في الوعاء الواحد. وعلاوة على ذلك، ففي حين تكون بعض الأوعية نفوذة porous، أو سَرِبةleaky، يكون بعضها الآخر بخلاف ذلك. ويمكن لوعاء واحد أن يكون سَرِبا بشكل شاذ في موضع ما وغير نفوذ نسبيا في موضع آخر.
لم تستطع أي معطيات تجربية experimental في الأدبيات (المنشورات) العلمية أن تؤكد أو تدحض تكهنات النموذج الذي ابتكرناه. لذا تولى أحد أفراد مجموعتنا ـ وهو يتمتع بمنحة زمالة لما بعد الدكتوراه ـ قياس الضغوط الخلالية في داخل الأورام الحيوانية. وكما كان متوقعا، فقد وجد الضغط في الأورام الصلبة الكبيرة (التي تجاوز قطرها نحو نصف السنتيمتر) عاليا بشكل متجانس في كل مكان، باستثناء الحافة الخارجية. واليوم أكدت مخابر (مختبرات) أخرى هذه النتائج لدى الحيوانات. ولقد تعاونا منذ عام 1990 مع أطباء ـ في كل من جامعة پيتسبرگ وجامعة ميونيخ والمشفى (المستشفى) العام في ماساتشوستس ـ في قياس الضغوط داخل الأورام الصلبة لمرضى يخضعون للعلاج. وتبيَّن لنا أن الضغط في أورامهم يعادل في ارتفاعه الضغط في أورام الحيوانات أو يفوقه أحيانا.
وهكذا أُثبتت صحة جزء من فرضية عام 1987: إن الضغط الخلالي في الأورام الكبيرة يكون مرتفعا بشكل شاذ. ولكن هل يكفي هذا الارتفاع للتسبب بإحداث خلل كبير للتدفق (الجريان) الحملاني لجزيئات الدواء الكبيرة؟ وبمعنى آخر، هل يساوي الضغط في النسيج الخلالي نظيره في الشبكة الوعائية المجهرية أم يفوقه؟ لقد افترض نموذجنا الرياضياتي بأن الضغطين قد يكونان متساويين تقريبا، وهذا ما أثبتته قياسات متواقتة للضغوط الوعائية المجهرية والخلالية في الأورام الحيوانية. كما تشير هذه القياسات إلى أن الضغط في الأوعية الدموية للأورام أعلى من الضغط في الشعريات الدموية العادية. ونعتقد بأن هذا الارتفاع ناجم بشكل رئيس عن انضغاط الأوعية المباشر أو غير المباشر بسبب الخلايا المتكاثرة. ومن الظاهر أيضا، أن الهندسة البنيوية الغريبة للجملة الوعائية وكذلك لزوجة الدم العالية في الأورام تسهمان في هذا الارتفاع.
وبشكل جيد تنتظم النتائج التجربية والنظرية معا في السيناريو التالي لنشوء عوائق (مرتبطة بالضغط) أمام تراكم الدواء في النسيج الخلالي. ففي البداية ينمو ورم في وسط (مركز) نسيج عادي ويستفيد من الجملة الوعائية الموجودة. وفي هذه المرحلة يبدي الورم ضغطا خلاليا ووعائيا منخفضا. ويعتمد على الجملة اللمفية الموجودة في نزح (تصريف) السوائل الفائضة من المطرق الخلالي. ويكوّن الورم ـ أثناء نموه ـ أوعية دموية جديدة كثيرا ما تكون سَرِبة، ولكنه لا يقوى على تشكيل جملته اللمفية الخاصة. وفي هذه الأثناء تبطئ الهندسة الشاذة للأوعية الدموية سرعة جريان الدم. ويسبب هذا التباطؤ، بالاشتراك مع الانضغاط الذي تحدثه خلايا الورم إلى جانب عوامل أخرى، ارتفاعَ الضغط في الأوعية. وتَنُزّ السوائل بغزارة من هذه الأوعية إلى داخل المطرق من دون أن يتم التخلص منها بشكل كاف وذلك بسبب عدم وجود جملة لمفية وظيفية.
ومع تجمع السوائل في النسيج الخلالي يزداد الضغط، إلى أن يساوي الضغط في الأوعية الدموية. وحينئذ، تتابع بعض الجزيئات الصغيرة التي يحملها الدم، الفرار بسهولة بفعل الانتشار (على الرغم من أن ذلك يقتصر على المواضع التي مازالت تحظى بالتغذية الدموية). أما الجزيئات الأكبر فغالبا ما تبقى حبيسة الأوعية الدمويةـ باستثناء الناحية المحيطية، حيث يكون الضغط الخلالي قريبا من الحدود الطبيعية. ولئن كان بعض الجزيئات الكبيرة يعبر حقا إلى النسيج الخلالي بفعل الانتشار فإن ذلك يجري ببطء شديد. لذا يستطيع الجسم أن يطرح معظمها من الدورة الدموية قبل أن يصل تراكمها في الأورام تركيزه الأمثل.
أنماط الضغط في الأورام البشرية
يرتفع الضغط في الأنسجة الخلالية للأورام الصلبة بشكل متجانس (في أعلى اليسار)، ما عدا الحافة الخارجية القصوى التي ينخفض الضغط فيها بشكل شديد. ويمكن للضغط المرتفع في المنطقة الداخلية أن يعوق انتقال جزيئات الدواء الضخمة من مجرى الدم إلى المطرق ـ لسبب بسيط. فالجزيئات الضخمة تنتقل بوساطة الحَمَلان convection بشكل رئيس، منساقة مع السائل الآتي من منطقة الضغط العالي إلى منطقة الضغط المنخفض. وفي المنطقة الخارجية من الورم (الشكل التفصيلي العلوي) يكون الضغط في الأوعية أعلى منه في النسيج الخلالي، لذا يتسرب السائل الدموي (اللون الرمادي) المحمل بجزيئات الدواء (اللون الأزرق) إلى داخل النسيج الخلالي (حسب الأسهم). أما في المنطقة الداخلية (الشكل التفصيلي السفلي)، فإن الضغط الخلالي يعادل تقريبا الضغط في الأوعية الدموية، وبذلك يتوقف الحَمَلان فعليا. وقد وُجد الضغط الداخلي العالي، الذي تنبأ به النموذج الرياضياتي، لدى البشر (الجدول) مثلما وجد في الحيوانات. ونشير إلى أن قراءات الضغط المتدرجة في هذا الجدول مقاسة بملّيمترات الزئبق.
|
تستمر التحديات التي تواجهها المواد العلاجية (الدوائية)، حتى بعد أن تجد طريقها إلى داخل النسيج الخلالي. فلكي تكون هذه المواد ناجعة تماما، لا بد لها أن تنتشر في أرجاء المطرق وصولا إلى الخلايا التي لا تعتمد في تغذيتها على الأوعية الدموية بشكل مباشر. وتشق الجزيئات الصغيرة طريقها بسهولة نسبية (بفعل الانتشار) ما لم تكن قد تدرّكت (تفككت) degraded أو أعيد امتصاصها إلى الأوعية الشعرية أو أُوقفت بسبب عوامل أخرى. أما الجزيئات المعتمدة على الحملان فالأمر بالنسبة لها أصعب، إذ إن الضغط المتجانس داخل معظم الورم يحول دون قيام الحملان بوظيفته.
ولعله من المفارقات أن الحملان يقوم بوظيفته في محيط الورم، أي في الاتجاه الخطأ. فإذا كان الضغط يتهاوى في حواشي الورم، حيث يقترب من قيمته في النسج الطبيعية المحيطة به، فإن السوائل بناء على ذلك تتدفق من الحدود الخارجية القصوى للمنطقة ذات الضغط العالي متجهة إلى الناحية المحيطية بعيدا عن السرطانة. وقد قام گالينو بقياس مقدار هذه الحركة في عام 1974، فوجد أن ما يقرب من 10% من السائل الدموي الذي يغادر الورم الصلب يَنِزّ ooze من الناحية المحيطية للورم بدلا من أن ينزح عبر الأوردة. وبعدئذ أكدت تجاربنا وتجارب الآخرين هذه النتيجة. ويحمل السائل المنفلت من سطح الورم جزيئات الأدوية بعيدا عن الورم خلال هذه السَّيْرورة process.
أما بالنسبة للجزيئات التي تبقى في النسيج الخلالي interstitium، فإن عملية الانتشار البطيئة على الأغلب هي وسيلة التغلغل الوحيدة المتاحة في المناطق الفقيرة التروية. وفي لغة الرياضيات فإن الزمن اللازم للانتقال مسافة ما بالانتشار يتناسب مع مربع تلك المسافة، أي أنه إذا كان انتقال أحد الجزيئات مسافة مِكْرون واحد يستغرق دقيقة واحدة، فإن هذا الجزيء سيحتاج إلى أربع دقائق (22) لينتقل مسافة 2 مكرون، وإلى 16 دقيقة (42) لينتقل مسافة أربعة مكرونات. وعلى النقيض من ذلك، فإن الزمن اللازم للانتقال بالحملان يتناسب طردا مع طول المسافة وحده. وبكلمات أخرى، فإن الجزيء، الذي قضى دقيقة واحدة في انتقاله بالحملان مسافة مكرون واحد من النسيج، سيحتاج إلى دقيقتين للانتقال مسافة مكرونين وإلى أربع دقائق للانتقال مسافة أربعة مكرونات.
إن مثل هذا الانتشار البطيء قد يعوق بسهولة مقدرة الجزيئات الضخمة [بما في ذلك الجيل الجديد من الأدوية المهندسة جينيا (وراثيا)] على اجتثاث الأورام. كما أن المواد الفعالة التي تُحقن في الدم لا تبقى فيه إلى ما لانهاية. لذا، يجب علينا تكرار إعطاء الجرعات الدوائية لإبقاء تركيز المادة عاليا في الدم طالما احتجنا إلى ذلك من أجل إنجاز النفاذ الكامل إلى الورم. وهذا الإعطاء المستمر للدواء لن يكون مكلفا فحسب، بل قد يكون ضارا لبعض النسج التي تتلقى الدواء (مع العلم بأن كل دواء حتى يكون مقبولا كعلاج، عليه أن يعمل من دون أن يسبب تلفا خطيرا غير عكوس للأنسجة السليمة.) كما أن الجرعات المتكررة قد تؤدي بالجهاز المناعي لأن يصنع أضدادا وعوامل أخرى يمكنها أن تدرّك الدواء قبل أن يحقق أقصى تأثير له.
قطعة من ورم تضم منطقة جيدة التروية وأخرى متوسطة التروية وثالثة عديمة التروية (في اليسار). ويمكن للورم المكتمل أن يحوي عدة مناطق متغايرة مشابهة لهذه. فالجزيئات الدوائية (اللون الأزرق) التي تصل إلى النسيج الخلالي قادمة من الأوعية الدموية (اللون الأحمر) تحاول على الفور أن تنتشر من مناطق التروية الجيدة (حيث يكون تركيز الدواء في أعلى قيمه) إلى المناطق الفقيرة التروية ذات التركيز الدوائي المنخفض (الأسهم السوداء في الصورة اليمنى). ولكن العديد من الجزيئات لا يُكمل هذه الرحلة بتاتا، ويجرف بعضها خارجا مع السائل الناز oozing من الناحية المحيطية (الأسهم الرمادية)، في حين يمكن للبعض الآخر أن تطرأ عليه عمليات ـ مثل الارتباط بالمطرق الخلالي أو التدرّك ـ تؤخر إلى حد كبير تقدم تلك الجزيئات أو توقفه. |
كذلك فإننا مع آخرين غيرنا نجري بحوثا حول عوائق أخرى أمام المرور إلى النسيج الخلالي. وتشير هذه الدراسات إلى أن العديد من الأدوية المهندسة جينيا تكون دَبِقَة (لزجة)؛ وهذه الصفة تحد من سرعة الانتشار (تماما مثلما يعوق الحذاء الدبق من يعدو في سباق). أضف إلى ذلك أن الإنزيمات (الإنظيمات) في الحيز الخلالي يمكنها أن تدرّك بعض الأدوية قبل أن تتاح له فرصة التأثير في الخلايا المستهدفة. كما تُبدي الأورام بعض الاضطرابات الاستقلابية التي يمكن أن تقلل من فعالية التشعيع وبعض الأدوية. فعلى سبيل المثال، قد يؤدي افتقار الأكسجين النسبي في الأورام إلى إفراز الخلايا السرطانية لمستويات عالية من حمض اللبن. وفي هذه البيئة الحمضية (الحامضية) يتحلل عدد من الأدوية أو يُخفق في عمله.
ومن الغرابة بمكان أن العوامل التي تعمل عوائق ضد نفوذية الدواء قد تكون أحيانا مفيدة. فالتدبق stickiness، على سبيل المثال، يمكن أن يسهم في استبقاء الدواء في الورم. كما أن بعض الأدوية تعمل بشكل أفضل في بيئة حمضية أو ناقصة الأكسجين. وعلاوة على ذلك، فإنه إذا ما استطاع أحد المركبات أن يتغلب على عوائق الطريق المتعددة الأشكال، وأن يتراكم أخيرا في منطقة فقيرة التوعية، يصبح نقص المورد الدموي هبة لها فائدتها. ففيما ندعوه بظاهرة المستودع (المُدَّخَر) reservoir يمكن للدواء المتراكم الذي لا يملك إلا مسالك قليلة لتصريفه أن يفيد كمستودع يطلق الدواء تدريجيا إلى داخل مناطق الورم المجاورة.
إن بعض الحواجز، التي تواجه جزيئات الأدوية، تعوق أيضا إيصال كريات الدم البيضاء التي تعمل كسلاح مضاد للسرطان. إن المورد الدموي المتغايرheterogenous الذي يغذي الأورام، يشكل حاجزا رئيسا مثلما هو الأمر بالنسبة لجزيئات الدواء. ومازلنا نحاول تحديد مدى مقاومة السرطانات لتسرب الكريات البيضاء وارتحالها (هجرتها) الخلالي. إن مقدرة الكريات البيضاء على مغادرة الأوعية الدموية قد لا تعتمد على مداريج الضغط pressure gradients بقدر اعتمادها على قدرتها في الارتباط بالخلايا المبطنة لجدران الأوعية وفي تغيير شكلها بأساليب تزيد من اتصالها بالجدار. وهذه الأساليب تساعد الخلايا لتنعصر بين الخلايا البطانية دافعة بنفسها خارج الجملة الوعائية.
وما إن توجد الكريات البيضاء في المطرق الخلالي حتى ترتحل منه بوساطة ارتباطها بذلك المطرق والزحف خلاله. وهنا أيضا، تتأثر نجاعة هذا الارتحال بالخواص الدبقية لتلك الخلايا وبقابلية تغير شكلها وكذلك بالخصائص المختلفة للنسيج الورمي. فعلى سبيل المثال، تستطيع جزيئات معينة في الوسط الورمي أن تسهل أو تعوق تحرُّك الخلية. كما تتحكم جزيئات أخرى في اتجاه ارتحال الخلايا. وإننا بحاجة إلى المزيد من الدراسات بشأن هذه العمليات.
البقع اللامعة المتجمعة حول الأوعية الدموية (الأنابيب القاتمة اللون) هي جسيمات شحمية (ليبوزومات) موسومة بمادة متألقة. وقد تسربت هذه الجسيمات من المناطق السَّرِبة في الأوعية إلى المطرق الخلالي في محيط الورم. وقد تخدم هذه الجسيمات، مدة يوم واحد، وسائط نقل لحمل الدواء إلى النسيج الخلالي، حيث يُفترض أن تحرر الدواء طوال الفترة اللازمة لتعزيز الاختراق الدوائي إلى داخل المطرق. ولكن يمكن تحسين مدى انتقال الجسيم الشحمي داخل النسيج الخلالي لو أمكن زيادة نفوذية أوعية الورم غير السَّرِبة. |
وهنا ينبغي لي أن أذكر أن وصول الخلايا والجزيئات العلاجية، في نهاية المطاف، إلى الخلايا السرطانية لا ينهي مشكلاتها، فقد تواجه مقاومة إضافية من الخلايا السرطانية نفسها. وهناك مخابر أخرى تدرس اليوم تلك الظاهرة. [انظر:
«Multidrug Resistance in Cancer,»
by Norbert Kartner and Victor Ling;
Scientific American, March 1989].
فإذا كانت العقبات التي تقف في وجه تغلغل الدواء في الأورام هائلة، حسبما تشير معطياتنا، فما الذي يمكن فعله للتملص (الروغان) من تلك الحواجز أو إزالتها؟ لم تظهر أي حلول كاملة بهذا الصدد، ولكن تم اقتراح أساليب (طرائق) مثيرة للاهتمام. وبشكل عام، فإن الكشف والمعالجة المبكرين يمكن أن يكونا مفيدين. ومقارنة بالأورام الراسخة، فإن الأورام الصغيرة تميل لأن تمتلك جملة دورانية أكثر تجانسا وأقل ضغطا خلاليا. لذا، لا بد أن تكون أسهل اجتياحا من قبل الأدوية التقليدية والحديثة على السواء.
وبالنسبة للأورام الكبيرة، تُجرى دراسة أساليب مختلفة للمعالجة ذات خطوتين أو ثلاث خطوات. وفي أحد هذه الأساليب يتم وَصْل أحد الأضداد، التي ترتبط اصطفائيا بأحد المكونات الجزيئية للورم، بإنزيم من الإنزيمات يشكل معه ما يسمى أبزيما abzyme. والإنزيم المختار إنزيم ليس له تأثير ظاهر في الجسم، ولكنه قادر على تحويل الشكل غير الفعال للجزيء الدوائي الصغير المختار (أو ما يعرف بطليعة الدواء) إلى عامل قاتل للورم. ويجري حقن جرعة كبيرة جدا من الأبزيم في مجرى الدم (الدورة الدموية) بحيث يستطيع التراكم في الورم بالرغم من بطء التسرب وبطء الانتشار الخلالي. ويمكن استعمال هذه الجرعات العالية لأن كلا من الضد antibody والإنزيم لا يؤذيان النسج العادية بشكل لافت للنظر. ويتم حقن طليعة الدواء هذه حالما يتراكم الأبزيم في الورم وينطرح من النسج السليمة والدورة الدموية الجهازية. ولكون طليعة الدواء صغيرة، فإنه يمكنها الانتشار بسهولة خارج الدوران الدموي للورم فتُصادف الأبزيم في المطرق الخلالي وتتفعل به وتجول داخل الورم مجتثة في طريقها الخلايا الخبيثة.
ولاجتياح الحواجز التي تعوق تغلغل الدواء هناك طريقة أخرى تتمثل في حقن المريض بجسيمات شحمية liposomes (حويصلات دَسِمَة fatty vesicles) مُلئت بدواء ذي وزن جزيئي منخفض. ويدوم بقاء الجيل الأحدث من هذه الجسيمات فترة طويلة بالدم، ومن ثم ستحتاج هذه الجسيماتُ إلى بعض الوقت لتخرج من المناطق السَّرِبة في الأوعية ولتبلغ تركيزًا معقولا في النسيج الخلالي المحيط. وهناك ستطلق الجسيماتُ الشحمية بشكل تدريجي، الدواءَ الذي سيتقدم متغلغًلا في أرجاء الورم.
ولكن استراتيجيات الأبزيم والجسيم الشحمي، شأنها شأن الاستراتيجيات الأخرى التي تستغل الجزيئات الصغيرة، لها نقطة ضعف؛ فالجزيئات الصغيرة، كما أشرنا سابقا، يمكن أن تتدرّك degrade بسرعة؛ كما يمكنها أن تتسلل عائدة إلى الأوعية الدموية في الورم لتُطرح خارجه بنفس السهولة التي نفذت بها من الأوعية الدموية. لذا، فقد تختفي هذه الجسيمات قبل أن تفي بمسؤولياتها في قتل الخلايا. كما أن المعدلات العالية للتسرب لا تحدث إلا في المواضع التي تكون فيها جدران الأوعية سربة.
وفيما تعزز البحوثُ فهم َالعوامل التي تحكم جريان الدم وحركة الجزيئات ضمن الأورام، فإن على الباحثين أن يتمكنوا من ابتكار وسائل لا تكتفي بمجرد التملص (الروغان) من الحواجز التي تعرقل إيصال الدواء، بل وتقوى على إزالتها فعلا. وبكلمات أدق، لا بد أن يكون الباحثون قادرين على زيادة الترويةperfusion في المناطق الفقيرة بالأوعية الدموية، وعلى زيادة نفوذية أوعية الورم، وتخفيض الضغط الخلالي، وزيادة معدل النقل الخلالي. ولسوء الحظ، فإن القليل جدا من المخابر (المختبرات) يبحث الآن في أسباب عدم تجانس الجريان الدموي وزيادة الضغط داخل الأورام. وسيتقدم البحث بسرعة إذا انخرط المزيد من الباحثين في هذا المجال.
ومهما يكن، لقد حصل بعض التقدم لا سيما في مجال تخفيض الضغط. وعلى سبيل المثال، فقد وجدنا مؤخرا أن الدواءين: بنتوكسفيلين pentoxifyllineونيكوتيناميد nicotinamide يمكنهما تخفيض ضغط النسيج الخلالي في الأورام البشرية التي جرى إنماؤها في الحيوان. ويعرف عن هذين العاملين أيضا أنهما يزيدان المورد الأكسجيني في مختلف الأورام، الأمر الذي يعتبر مفيدا للمعالجة الشعاعية. وكذلك نجد أن تشعيع irradiation أورام عنق الرحم عند النساء يخفض الضغط الخلالي أحيانا. وتحسين هذه المعالجة لقَبْط uptake الأدوية لدى المرضى أمر يجب إثباته. ومع ذلك هناك بضع دراسات في الأدبيات العلمية تبين أنه بعد تشعيع الأورام البشرية التي تم إنماؤها في الحيوانات، تتراكم كميات زائدة من الأضداد المحقونة في تلك الأورام.
وهناك استراتيجية أخرى تتعلق بالضغط يمكنها مكافحة الأورام المقتصرة على منطقة واحدة. وتنادي هذه الطريقة بمَزْج الدواء بكمية كبيرة من السوائل وحقن المزيج مباشرة في مركز الورم. فهذا العمل سيزيد الضغط في لب الورم مقارنة بالأنسجة في محيط الورم. ونتيجة لذلك، سينتشر الدواء على امتداد مدروج الضغط الذي يسببه الحملان انطلاقا من لب الورم ومرورا بالمنطقة المجاورة له وانتهاء بالناحية المحيطية. وتستخدم هذه الطريقة في أورام الدماغ وأورام أخرى.
وكبديل لذلك، إذا ما تم تخريب الجملة الوعائية للورم بشكل كامل فلن نحتاج إلى أن يتسرب الدواء لمقاومة النسيج الخلالي؛ إذ إن الفقدان الكلي والدائم للتغذية سيؤدي بخلايا الورم إلى المَخْمَصَة (المجاعة) والقضاء عليها في نهاية المطاف. وهناك تشكيلة من الأدوية (نذكر منها عامل النخر الورمي والأضداد الأحادية النسيلة التي تتعرف الخلايا البطانية أو المطرق تحت البطاني) يمكنها قطع المورد الدموي بشكل تام. وفي ظل بعض الشروط، تستطيع الحرارة والمعالجات الدينامية الضوئية أن تعطل الجملة (الشبكة) الوعائية. ويخضع عدد من الأساليب (الطرائق) المضادة للتكوّن (التشكّل) الوعائي antiangiogenesis(التي أوجدها< J. فولكمان >من هارڤارد) لدراسةٍ جديةٍ مكثفةٍ في عدة مخابر وعيادات طبية.
كما تم مؤخرا اختبار كريات الدم البيضاء ضد سرطانات مختلفة في مرضى من البشر، ربما تَثبت فائدتها كمعالجات ضد وعائية. فقد وجدنا مؤخرا أن الخلايا البيضاء القاتلة المنشَّطة بالليمفوكين (LAK) تلتصق بالجملة الوعائية للورم وتعطل جريان الدم في الأوعية. وهذا الاكتشاف يتماشى مع الاقتراح القائل بأنه في الحالات التي تثبت فيها فائدة تلك الخلايا للمرضى، فإنما يعود ذلك جزيئِيًّا إلى قطعها المورد الدموي عن الورم. وعلى ذلك فإن سميتها للخلايا الورمية قد لا تكون التأثير الوحيد للخلايا LAK في الجسم. وتشير هذه النتيجة، علاوة على ذلك، إلى أن ضم المعالجات الوعائية إلى المعالجات التي تُصمَّم لمهاجمة الخلايا السرطانية يمكنه بالفعل أن يعزز جدوى كلا النمطين في المعالجة.
مع بزوغ فجر عصر الطب الجزيئي molecular medicine و«المعالجة الجينية»gene therapy، فإن على العلماء بذل جهد مكثف لكشف أسباب كون الوسائط الدوائية التي تبدي بشائر مشجعة في المخبر، غير مجدية كثيرا في معالجة الأورام الصلبة الشائعة. وإني لآمل في أن الأبحاث المقبلة بشأن الحواجز التي تعترض إيصال الدواء ستَضْمَن أخيرا رفع جاهزية الأدوية الحالية والمستقبلية المضادة للسرطان إلى قوتها المنشودة.
المؤلف
Rakish K. Jain
وُلد في الهند ويشغل وظيفة أستاذ <أندرو ويرك كوك> لبيولوجيا الأورام في قسم علم الأورام الشعاعي بكلية طب هارڤارد. وهو كذلك أستاذ في معهد جامعة هارڤارد ـ ماساتشوستس لقسم تقانة العلوم الصحية والتقانة، ومدير مخبر (مختبر) <L .E. ستيل> في مشفى ماساتشوستس العام. وقبل انتقاله إلى بوسطن، كان أستاذ الهندسة الكيماوية في جامعة كارنيگي ميلّون لما يزيد على عشر سنوات. وتَجمع بحوث جين بشكل متميز بين العلوم الهندسية وبيولوجيا الأورام. وقد تلقى عدة مكافآت لإسهاماته في فهم الفيزيولوجيا المرضية للأورام، بما في ذلك ما يحظى به حاليا من منحة الباحث المتميز للمعهد الوطني للسرطان.
مراجع للاستزادة
TRANSPORT OF MOLECULES ACROSS TUMOR VASCULATURE. R. K. Jaln in Cancer and Metastasis Reviews, Vol. 6, No. 4, pages 559-593; 1987.
TRANSPORT OF MOLECULES IN THE TUMOR INTERSTITIUM: A REVIEW. R. K. Jain in Cancer Research, Vol. 47, No. 12, pages 3039-3051; June 15, 1987.
DETERMINANTS OF TUMOR BLOOD FLOW: A REVIEW. R. K. Jain in Cancer Research, Vol. 48, No. 10, pages 2641-2658; May 15, 1988.
PHYSIOLOGICAL RESISTANCE TO THE TREATMENT OF SOLID TUMORS. R. K. Jain in Drug Resistance in Oncology. Edited by Beverly A. Teicher. Marcel Dekker, 1993.
TUMOR ANGIOGENESIS. Judah Folkman in Cancer Medicine. Edited by James F. Holland et al. Lea and Febiger, 1993.
TRENDS IN CANCER EPIDEMIOLOGY: A WAR NOT WON. Tim Beardsley in Scientiflc American, Vol. 270, No. 1, pages 118-126; January 1994.
Scientific American, July 1994
(1) [ انظر: «جراحة الليزر» مجلة العلوم ، العدد 1/2 (1994) ، صفحة 37]. (التحرير)