الكتب
الجزيئات والتفاعلات
مراجعة كتاب:
تاريخ الكيمياء النورتوني
THE NORTON HISTORY OF CHEMISTRY, by William H. Brock. w. w. .Norton & Company, 1993
في عام 1992، نشرت مؤسسة لندنية هذا المجلد الصغير والثخين، الذي لقي ترحيبا عاما. وهو ثاني كتاب من سلسلة كاملة مؤلفة من عشرة كتب تاريخية علمية ستظهر في الولايات المتحدة تحت اسم الناشر <نورتون>. درس الدكتور< بروك> الكيمياء في لندن قبل أن يتجه إلى تأليف الكتب التاريخية العلمية. وهذه المراجعة العميقة والجدّية هي آخر محاولاته ضمن نصف دستة من الدراسات الأكثر اختصاصا. إن معظم موضوعات هذا الكتاب غير تقنية؛ فهو يثير بين دفتيه اهتماما إنسانيا يدفع القارئ غير الكيميائي للوصول إلى الصفحات الأخيرة منه. وإن أي شخص يتذكر ما درسه من الكيمياء في المدرسة الثانوية على نحو كاف يمكّنه من قراءة مجموعة من المعادلات الكيميائية، ومن تذكّر المصطلحات الفنية مثل: الإيونات ions والإيزوميرات isomers والروابط (اللواجن) ligands، ومن فهم الصيغ التركيبية البسيطة، سيتمكن من قراءة هذا الكتاب بسهولة ويسر على الرغم من بعض الصعوبات التي ستواجهه هنا وهناك.
يقول بروك: «إن الكيمياء تتعامل مع خواص وتفاعلات الأنواع المختلفة من المواد.» إن القراءة الحرفية لهذه العبارة ستضع أمامنا مهمة مستحيلة. وفي الواقع فإن هذا الكتاب الجديد والشامل لا يعالج رقعة عريضة من العلم. إن فصوله الستة عشر منظمة على نحو جميل حسب الموضوع، بعضها محدود الزمن، وبعضها الآخر يمتد عبر قرن أو قرنين من الزمان. هذا هو تاريخ الاصطناع synthesis والتحليل المخبريين والبنى وآليات التفاعل والجذور والتكافؤات والمعقدات والجدول الدوري لمنديليف والكواشف النقية والتعليم المباشر ونتائج النشر وحتى تنظيم فرق البحث.
يرى قارئ هذا الكتاب تاريخا تحدده مهنة حية بما تحوي من قضايا وقادة مشهورين. إنه لا يعالج كثيرا الكيمياء الحيوية biochemistry والبيولوجيا (علم الأحياء) الجزيئية molecular biology والتعدين metallurgy أو الفيزياء الذرية، مهما ورد في هذه الفروع من المعرفة عن الخواص والتفاعلات. ولا نجد في هذه الصفحات الصغيرة البالغ عددها 700 صفحة على الأغلب إلا أسطرا قليلة تتحدث عن الإنزيمات والدنا DNA. إن الكيمياء الكمومية quantum chemistry موجودة بالتأكيد، وهي ليست أكثر من غمامات الشحنة الإلكترونية في الذرات العنقودية clustered، التي تحتفظ بأشكالها، والتي جعلت الكيميائيين يتخيلونها ويضعون أسسها مع بداية القرن العشرين. إن الحكاية بكاملها مشربة بالنكهات القوية للتنوع المادي والفكري المتميز جدا عن ضيق أفق كثير من الفيزياء، حيث إن «الكيمياء النظرية مازالت علما تجريبيا empirical له خصوصيته ومبنيا على معادلة <شرودنگر> العسيرة الحل».
والكيمياء التطبيقية موجودة هنا في الكتاب، سواء منها الصناعات الثقيلة للمهندسين الكيميائيين أو التقانات (التجريبية) للمهن القديمة والدقيقة. وكذلك لم يتم نسيان أولئك الرجال والنساء الذين كانوا «خبراء معادن، مخمري جعة، عمال صباغة، عمال تكليس وصيادلة». إن أوعيتهم وأنابيقهم (وحدات تقطير)stills وأفرانهم furnaces جذبت انتباه الفلاسفة في الشرق والغرب. إن التعايش الطويل الأمد جلب لنا الكثير مما يبقى على مرّ الزمن من مصطلحات ورموز كيميائية إلى الفوسفور وبارود المدافع.
إننا نجد المهندس <V.بيرينگوتشيو> ـ في مقالته الصغيرة الرائعة عن المعادن والأسلحة والطاقة المائية التي يعود تاريخها إلى عام 1540 ـ يستمد من خبرته النتيجة التي ستدفن السيمياء alchemy، إذ يقول: «مازلت أستطيع الحديث عن فن تحويل المعادن الخسيسة أو السيمياء،… ولكني منجذب إلى.. اتباع طريق استخراج المعادن على نحو أكثر رغبة… على الرغم من أن هذا العمل مهمة شاقة، جسديا وعقليا، وهو أكثر كلفة ولا يعد إلا بالقليل… أما مجاله فمشاهدة ما يوجد بالفعل وليس ما يعتقد المرء أنه موجود.»
إذا أخذنا في الاعتبار تعقُّد complexity الممارسة وغموض الفلاسفة الطموحين، فإن نشوء الكيمياء الحديثة من القرن السادس عشر كان بطيئا. فالمفكرون الطبيون الملهمون أصحاب النفوذ مثل <B.J. فان هلمونت> هم الذين قادوا المسيرة. إن شجب فان هلمونت واتهامه بالهرطقة بتأييده «تهدئة السلاح»weapon salve ـ أي معالجة السلاح بدلا من الجراح ـ يقدم الدعم لرفض المؤرخ قبول الحكاية الساذجة عن التقدم البسيط الذي يؤدي إلى استنتاج خلونا من العيوب. لقد أظهرت منضدة العمل الخاصة بفان هلمونت له كثيرا من المواد الشبيهة بالهواء التي سماها الغازات، والتي اخترع لها هذه الكلمة العامة من مصطلح يوناني يعني الشواش chaos. لقد رأى أحد أتباعه في العمليات الخفية للهضم ازدواجية الحمض والقلوي (الصفراء) bile، وهو موضوع مازال من المواضيع الرئيسية في الكيمياء. ولكن يظل النقاء مع تضميناته الخاصة هو «المفهوم الأساسي للكيمياء.» وعلى الرغم من أن <L.A. لاڤوازييه> كان أول من عرَّف المادة النقية بدقة، فإن المجربين والصيادلة قد أقروا بهذه الفكرة منذ زمن بعيد. إن اسم وفعل «اختبر» test نفسه يأتي من كلمة لاتينية للكوب الصغير الذي يستخدمه المجرب الخبير، المسمى أيضا البويتقة cuple. إن الحرب ضد الغشاشين والمزيفين قديمة بالفعل.
لقد كتب أحد المؤرخين في عام 1869: «الكيمياء علم فرنسي. أسسها لاڤوازييه ذو الشهرة الخالدة.» إن مثل هذه الوطنية مبالغ فيها بالفعل. ولكنها ليست من دون أساس. إن أدبيات الكيمياء السابقة للاڤوازييه في معظمها مبهمة بالنسبة للكيميائي المعاصر. أما بعد لاڤوازييه، فإن قراء هذه الأيام يجدون صعوبة قليلة فقط. إن هذا النص يظهر لاڤوازييه على حقيقته سواء في الجانب الإنساني منه أو في عمله الكيميائي. ونرى أنه حتى نظرية الفلاجستون phlogiston مع كل ما نُسج حولها لم تكن شاذة في ذلك الوقت. فالاهتمام والمال والجهد المكرّس من لاڤوازييه لجهازه يقدم لنا مفاجأة ثانية. لقد كان مخبره مجهزا بما فيه الكفاية بالأدوات لتحدي الوضع الكيميائي آنذاك بكل وارداته من البصلات الزجاجية (الحوجلات) الخاصة ومقاييس الغاز والموازين ومقاييس الحرارة. لقد تساءل البعض عما إذا كان لاڤوازييه كيميائيا حقا. قد يكون من المفيد رؤيتنا أن الثورة الكيميائية لتسعينات القرن الثامن عشر كانت «نتيجة لغزو وجيز ومفيد للكيمياء من قبل الفيزيائيين الفرنسيين.» ولكن مؤلفنا يوجز على نحو جريء «الشروط الضرورية والكافية» لثورة لاڤوازييه. إن تمييز الطور الغازي كمادة أو كمادة مشاركة، الذي يستوجب أخذه دائما بالحسبان، ربما كان أمرا حاسما. كما أن وجهات نظره حول الحموضة أدت إلى تطوير لغة تعكس مفهوم التركيب.
جاء المفهوم الذري للمادة بشكل قوي مع <J.دالتون>، ولكنه بقي غير واضح حتى آخر سنوات العهد الفيكتوري. لقد عرف الكيميائيون ذراتهم أولا من الأوزان الذرية ومن دورية الخواص بالنسبة لهذه الأوزان ومن كثير من الصيغ الجزيئية الكبيرة، ولكن لم يكن واضحا لديهم حجم هذه الذرات أو تركيبها. لقد أعطت دراسة كَتَبَها< A. ويليامسون> (من جامعة لندن) عام 1850 صورة عن تفاعل وحيد كان يتطلب خطوتين واضحتين من خطوات إعادة الترتيب، واقتضى ذلك حالة ثابتة من الحركة على المستوى الذري. تترتب ذرات الكيميائيين، لحسن الحظ، ضمن أشكال سداسية وشبكات وسلاسل. وتترك هذه الذرات سطح الورق نهائيا حسب المنطق الكيميائي الذي نادى به <J.ڤانت هوف> عام 1874. ولم يكن ممكنا لأي شكل هندسي آخر أن يفسر كل الإيزوميرات المميزة لتجمع ذري معين. ولم تكن الذرات الفيزيائية المتناسقة والمرتبة في الجزيئات المهتزة، التي تقوم بالدوران في الفراغ، معروفة على نحو شائع حتى أوائل هذا القرن.
لقد تم وصف الإلكترون ضمن الذرة النووية والحالات الإيونية والرابطة الكيميائية الكمومية في بداية الكتاب بقليل من الرياضيات وبتقريب ما أو بآخر مثمر ومحدود، ولكن هذه الموضوعات أصبحت فيما بعد هي الموضوعات الأساسية للفصول اللاحقة. إنه لمن الواضح الآن أن فيزياء الهيدروجين وحتى فيزياء <A.M.P.ديراك> لم تعد مجدية، وذلك حينما نأخذ بعين الاعتبار أن الكيميائيين قد ميزوا حتى الآن بضعة ملايين من الأنواع الجزيئية. (ويظل هذا الأمر صحيحا حتى لو وضعنا جانبا ما هو مكتوب في المكتبات عن الحموض النووية للحياة). إننا نجد منذ <N.G. لويس> وإلكتروناته المتزاوجة إلى الكيميائيين الكموميين ذوي النظرة الأعمق والأكثر حيوية، مثل <S.R .ماليكن>، أن الجزيئات والتفاعلات أصبحت تتطلب شيئا أكثر من الجدل المنطقي الهندسي الذي عُرف في الماضي. إن فن استخدام الأوصاف التقريبية لكل تلك الذرات المتفاعلة في الفراغ، حتى في الطاقة وفي الزمن، قد قطع شوطا بعيدا بوساطة حائكين خلاقين لفن التطريز الجزيئي، أمثال< R .وودويرد> و <R.هوفمان> و< K. فوكوي> و <D .كرام>.
تعالج الصفحات الختامية القليلة من الكتاب المشكلة البيئية في الصناعة الكيميائية، والتي تتدخل إلى حد كبير في شؤون ملابسنا ومنازلنا وطعامنا. وتفيد إحدى الحكايات من عام 1899 أن ناقدا وصف بلدة قرب ليفربول تهيمن عليها صناعة القلويات كما يلي: «السماء.. سقف من الدخان اللزج. الجو مزيج من نفق سكة حديدية وجناح مستشفى ومعمل غاز ومجار مفتوحة.. المنتجات هي الأقراص والفحم والزجاج والكيماويات والمعوّقين وأصحاب الملايين والفقراء المعدمين.» ومع حلول عام 1999 فإن بعض الأمور ستكون قد تغيرت هناك ولكن ليس كل شيء.
«هل <L. بولينگ> هو أعظم كيميائي في هذا القرن؟» إن القليل من كل القصص الشخصية المذكورة هنا ستكون أفضل من هذه الحكاية الصغيرة حول عالمنا الرائع هذا في كاليفورنيا. إن زوجة بولينگ ـ التي كانت تقرأ عن جائزة نوبل التي منحت إلى <واتسون> و<كريك> لاكتشافهما الدنا ـ تسأل زوجها بكل موضوعية قائلة: «لينوس، إذا كان تركيب الدنا مهمًّا إلى هذا الحد، فكيف لم تستطع حله؟» لقد ترك بولينگ مجالا صغيرا للآخرين، وعلى أي حال فقد كان عليه أن ينافس أيضا للحصول على جائزة نوبل للسلام أيضا.