أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
Advertisement
فلك وعلم الكونيات

الكون التضخمي المتجدد ذاتيا

الكون التضخمي المتجدد ذاتيا

إن الصيغ الحديثة للسيناريو التضخمي تصف الكون بأنه

فرَكتلي (كسراني) متجدد ذاتيا، ويولِّد أكوانا تضخمية أخرى.

<A.لِند>

 

إذا كنت وزملائي على صواب، فإننا سنودع قريبا الفكرة القائلة بأن الكون الذي نعيش فيه قد بدأ ككرة نارية وحيدة نتجت من الانفجار الأعظم big bang. إننا نقوم بدراسة نظرية جديدة تعتمد على فكرة عمرها 15 عاما تقول بأن الكون قد مر بمرحلة من التضخم. وقد ثبُتت النظرية خلال هذه الفترة، فقد تضخم الكون بدرجة كبيرة خلال جزء صغير جدا من الثانية، وفي نهاية هذه الفترة استمر الكون في تطوره وفق نموذج الانفجار الأعظم. وعندما حاول الباحثون تنقيح هذا السيناريو التضخمي، اكتشفوا بعض النتائج المذهلة. وتمثل إحدى هذه النتائج تغيرا أساسيا في كيفية رؤيتنا للكون. فالصيغ الحديثة للنظرية التضخمية للكون تجزم بأن الكون، بدلا من أن يكون كرة متمددة من اللهب، هو فرَكتل (كسراني) fractal ضخم مكون من عدة كرات تضخمية تُنتج كرات جديدة، وهذه بدورها تنتج كرات أكثر، وهكذا إلى ما لانهاية.

 

ولم يختلق خبراء الكونيات هذه الرؤية الغريبة للكون على نحو اعتباطي. وقد اقترح عدد من الباحثين في روسيا أولا، ثم في الولايات المتحدة الأمريكية بعد ذلك، فرضية عملية التضخم ـ وهي الأساس الذي بنيت عليه هذه الرؤية ـ وذلك للتغلب على بعض التعقيدات التي خلفتها الفكرة القديمة للانفجار الأعظم. وتذهب نظرية الانفجار الأعظم، في صيغتها المبسطة، إلى أن الكون نشأ قبل 15 بليون سنة عن حالة كونية فريدة cosmological singularity ـ وهي حالة تكون فيها درجة الحرارة والكثافة لامتناهيتين في الكبر. ومن المؤكد أن الإنسان لا يمكنه التحدث عن بلوغ هاتين الكميتين لقيم لانهائية في إطار الفيزياء العادية، إذ غالبا ما نفترض أن قوانين الفيزياء السارية لا تنطبق في هذه الحالة، وأنه يمكن تطبيقها فقط عندما تنخفض كثافة الكون حتى تصبح أقل من القيمة المعروفة باسم كثافة پلانك ـ التي تساوي نحو 1094  غرام لكل سنتيمتر مكعب.

 

وفيما كان الكون يتمدد، تناقصت درجة حرارته تدريجيا. إن مخلفات النار الكونية البدائية مازالت تحيط بنا في صورة إشعاعات الخلفية الكونية المكروية الموجة. تدل هذه الإشعاعات على أن درجة حرارة الكون انخفضت إلى 2.7 درجة كلڤن. ويعتبر اكتشاف<A.A.بنزياس> و <.W.Rولسون>(من مختبرات بل) عام1965 لإشعاعات الخلفية الكونية هذه العامل الحيوي في ترسيخ نظرية الانفجار الأعظم كنظرية متميزة في علم الكونيات. وقد أدت نظرية الانفجار الأعظم أيضا إلى إيضاح سبب وفرة الهيدروجين والهليوم وعناصر أخرى في الكون.

 

وقد كشف الباحثون النقاب عن بعض المشكلات المعقدة، وذلك أثناء انكبابهم على تطوير النظرية. فعلى سبيل المثال، تتنبأ النظرية الدارجة للانفجار الأعظم، مقرونة بالنظرية الحديثة للجسيمات الأولية، بوجود العديد من الجسيمات الفائقة الثقل التي تحمل شحنة مغنطيسية ـ أي أجسام ذات قطب مغنطيسي واحد فقط. وهذه المغانط أحادية القطب ولها كتلة نموذجية تبلغ 1016 مرة من كتلة البروتون، أو نحو 0.00001 ملّيغرام. ووفق النظرية الدارجة للانفجار الأعظم  فلا بد من أن تكون أحاديات القطب قد ظهرت في وقت مبكر جدا أثناء نشوء الكون، كما يجب أن تبلغ مقاديرها الآن مقادير البروتونات. وفي تلك الحالة، فإن الكثافة المتوسطة لمادة الكون يجب أن تكون أكبر بنحو 15 مرة من قيمتها الحالية التي تبلغ نحو 29- 10  غرام لكل سنتيمتر مكعب.

 

إن هذه الألغاز وغيرها أجبرت الفيزيائيين على النظر بيقظة أكبر إلى الفرضيات الأساسية التي تعتمد عليها النظرية الكونية الدارجة. وقد وُجد أن عددا كبيرا منها مثير للشك بدرجة كبيرة. وسأقوم باستعراض ست من المشكلات الأكثر صعوبة. والمشكلة الأولى والرئيسية هي حدوث الانفجار الأعظم نفسه. إن المرء ليََحار فيما كان قبل ذلك. فإذا لم يكن الزمكان space-time موجودا عندئذ، فكيف يمكن أن يظهر كل شيء من لا شيء؟ ما الذي ظهر في الوجود أولا: الكون أم القوانين التي تحدد كيفية نشوئه؟ ومازالت المشكلة الأكثر صعوبة في علم الكونيات الحديث هي تفسير هذه البداية الفريدة ـ أين ومتى بدأ كل شيء؟

 

وثمة نقطة ثانية مثيرة للمشكلات تتعلق بانبساط الفضاء. فالنسبية العامة تقترح احتمال أن يكون الفضاء منحنيا بنصف قطر نموذجي من مرتبة طول پلانك، أو 33-10 سنتيمتر، ومع ذلك فإننا نرى أن الكون من حولنا مجرد سطح منبسط على مدى 1028 سنتيمتر، وهذا هو نصف قطر الجزء الذي يمكن رؤيته من الكون. وهذه النتيجة لأرصادنا العملية تختلف عن التوقعات النظرية بما يزيد مقداره على 60 مرة.

 

وهناك تعارض مماثل بين النظرية والأرصاد العملية يتعلق بحجم الكون. فقد كشفت الفحوص الكونية عن أن الجزء الذي نعيش فيه من الكون يحتوي على1088جسيم أولي على الأقل. ولكن لماذا يكون الكون بهذه الضخامة؟ وإذا تصورنا أن الكون قد بدأ بحجم نموذجي يساوي طول پلانك وكثافة ابتدائية تساوي كثافة پلانك، فإنه باستخدام النظرية الدارجة للانفجار الأعظم يمكن حساب عدد الجسيمات الأولية التي يمكن أن يشتمل عليها مثل هذا الكون. وقد جاءت الإجابة غير متوقعة: فالكون بأكمله يجب أن يتسع لإيواء جسيم أولي واحد فقط، أو على الأكثر 10 جسيمات. أي إن الكون لا يمكنه أن يؤوي حتى قارئا واحدا لِمجلة العلوم الذي يتكون من29 10 من الجسيمات الأولية. ومن الواضح أن هناك شيئا من الخطأ في هذه النظرية.

 

وتتعلق المشكلة الرابعة بلحظة حدوث التمدد. فنظرية الانفجار الأعظم، في صيغتها الدارجة، تفترض أن جميع أجزاء الكون بدأت بالتمدد في اللحظة نفسها. ولكن كيف يمكن أن تبدأ جميع أجزاء الكون المختلفة تمددها في لحظة واحدة؟ ومن الذي أعطى الأمر للقيام بذلك؟

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/11/SCI95b11N8-9_H04_005267.jpg
في عملية محاكاة للكون المتجدد ذاتيا باستخدام الحاسوب، نرى أنه يتكون من مناطق كبيرة جدا لكل منها قوانين مختلفة للفيزياء (ممثلة بالألوان). تمثل القمم الحادة «انفجارات عظمى» جديدة، وتقابل ارتفاعاتها كثافة طاقة الكون عند كل منها. وفي أعلى هذه القمم تتقلب الألوان بسرعة دالة على أن قوانين الفيزياء هناك لم تستقر بعد، وأنها تَثبُت فقط في المنخفضات التي يقابل أحدها نوع الكون الذي نعيش فيه الآن.

 

خامسا، توجد مشكلة حول توزيع المادة في الكون. فعلى مقياس واسع جدا نجد أن المادة تنتشر في الكون بانتظام لافت للنظر. وخلال أكثر من 10 بلايين سنة ضوئية يحيد توزع المادة عن التجانس الكامل بأقل من جزء واحد من000 10. ولوقت طويل لم يكن لدى أحد أي فكرة عن سبب هذا التجانس الكبير للكون. ولكن الذين لا يملكون تصورا قد يملكون المبادئ أحيانا. وأحد الأركان الأساسية لعلم الكونيات هو المبدأ الكوني cosmological principle الذي ينص على أن الكون يجب أن يكون متجانسا. ومع ذلك فإن هذه الفرضية لا تساعد كثيرا، إذ إن الكون يتضمن انحرافات كبيرة عن مبدأ التجانس بما يحويه من نجوم ومجرات وغير ذلك من التجمعات المادية. لذا يجب أن نعمل على إيضاح أسباب انتظام الكون على المقياس الواسع، وأن نبحث في الوقت نفسه عن بعض الآليات التي تؤدي إلى تكوين المجرات.

 

وأخيرا، يوجد ما أسميه أنا مشكلة الوحدانية uniqueness problem. وقد أدرك آينشتين جوهر هذه المشكلة عندما قال: «إن الذي أثار فضولي حقا هو ما إذا كان أمام الله مجال للاختيار عندما خلق العالم.» وفي الواقع، إن أي تغيرات طفيفة في الثوابت الفيزيائية للطبيعة يمكن أن تجعل الكون يظهر بصورة مختلفة تماما. وعلى سبيل المثال، فإن كثيرا من النظريات الشائعة للجسيمات الأولية تفترض أنه كان للزمكان في الأصل أكثر بكثير من أربعة أبعاد (ثلاثة مكانية وواحد زمني). ولكي تتفق الحسابات النظرية مع العالم الطبيعي الذي نعيش فيه، فإن هذه النماذج تفيد بأن الأبعاد الإضافية قد اختُزلت أو انكمشت إلى حجم أصغر. وقد يحار المرء في سبب توقف الاختزال عند أربعة أبعاد وليس اثنين أو خمسة.

 

فضلا عن ذلك، إن الأسلوب الذي تُختزل به الأبعاد الأخرى مهم، إذ إنه يساعد على تحديد قيم ثوابت الطبيعة وكتل الجسيمات. وفي بعض النظريات يمكن أن يحدث الاختزال ببلايين الطرق المختلفة. ومنذ بضع سنين كانت تساؤلاتنا التالية تبدو من دون معنى: لماذا يكون للزمكان أربعة أبعاد، ولماذا يكون ثابت التثاقل صغيرا لهذه الدرجة، ولماذا يكون البروتون أثقل 2000 مرة تقريبا من الإلكترون. أما الآن، فإن التطورات الحديثة في فيزياء الجسيمات الأولية جعلت الإجابة عن هذه الأسئلة مسألة حيوية لفهم تركيب العالم الذي نعيش فيه.

 

كل هذه المشكلات (وغيرها التي لم أذكرها) محيرة للغاية. لذا فإنه من المشجع أن كثيرا من هذه الألغاز يمكن حلها في إطار نظرية الكون التضخمي المتجدد ذاتيا.

 

إن السمات الأساسية للسيناريو التضخمي تمتد جذورها إلى فيزياء الجسيمات الأولية، لذا أود أن أصحبكم في رحلة قصيرة إلى هذا العالم ـ وعلى وجه الخصوص إلى النظرية الموحدة للتأثيرات الكهرطيسية والتأثيرات الضعيفة، وهذان النوعان من القوى يحدثان من خلال الجسيمات. فالفوتونات تنقل القوى الكهرطيسية؛ وجسيمات W,Z هي المسؤولة عن القوى الضعيفة. ولكن في حين أن الفوتونات عديمة الوزن، فإن جسيمات W,Z ثقيلة جدا. وللتوحيد بين التأثيرات الضعيفة والتأثيرات الكهرطيسية ـ على الرغم من الفروق الواضحة بين الفوتونات وجسيمات W,Z ـ استخدم الفيزيائيون ما يدعى الحقول القياسية (المجالات السلّمية) scalar fields.

 

وعلى الرغم من أن الحقول القياسية ليست من مواد الحياة اليومية، فإنه يوجد لها نظير مألوف، وهو الكمون الكهرسكوني electrostatic potential ـ وكمثال عليه الڤلطية voltage في دارة. فالحقول الكهربائية تظهر فقط عندما يكون هذا الكمون غير منتظم، كما هي الحال بين قطبي البطارية (المدخرة) الكهربائية، أو عندما يتغير الكمون مع الزمن. فاذا كان للكون بأكمله الكمون الكهرسكوني نفسه، 110 ڤلط مثلا، فلا يلاحظ وجوده أحد. فالكمون هنا سيظهر كما لو كان حالة أخرى من حالات الفراغ (الخلاء). وبصورة مماثلة، إذا كان الحقل القياسي ثابتا فإنه يبدو فراغا.

 

هذه الحقول القياسية تملأ الكون، وتعلن عن وجودها بالتأثير في خواص الجسيمات الأولية. فإذا تفاعل حقل قياسي مع جسيمات Z و W فإن ثقلها يزداد. أما الجسيمات التي لا تتفاعل مع الحقل القياسي، مثل الفوتونات، فإنها تظل خفيفة.

 

ولذلك، فإنه لوصف فيزياء الجسيمات الأولية، يبدأ الفيزيائيون بنظرية تكون فيها جميع الجسيمات خفيفة في البداية، كما أنه لا يوجد فيها فرق أساسي بين التأثيرات الضعيفة والكهرطيسية. وهذا الفرق يظهر في وقت متأخر فقط عندما يتمدد الكون ويصبح مليئا بالحقول القياسية المختلفة. ويطلق على العملية التي تنفصل بها بعض القوى الأساسية عن بعض اسم خرق التناظرsymmetry breaking. والقيمة الخاصة التي يظهر بها الحقل القياسي في الكون تتعين بالموضع الذي تكون فيه لطاقة كمونه نهاية صغرى.

 

وتؤدي الحقول القياسية دورا حيويا في علم الكونيات كما هي الحال في فيزياء الجسيمات، إذ توفر الآلية التي تولد التضخم السريع للكون. وفي الواقع يتمدد الكون، وفق نظرية النسبية العامة، بمعدل يتناسب، تقريبا، مع الجذر التربيعي للكثافة. وإذا كان الكون مملوءا بمادة عادية، فإن الكثافة تتناقص بسرعة عندما يتمدد الكون. لذلك فإن تمدد الكون يتباطأ بسرعة كلما تناقصت كثافته. ولكن نظرا لمبدأ تكافؤ الكتلة والطاقة، الذي وضعه آينشتين، فإن طاقة الكمون للحقل القياسي تسهم أيضا في عملية التمدد. وفي بعض الحالات، تتناقص هذه الطاقة ببطء أكبر جدا من تناقص كثافة المادة العادية.

 

قد يؤدي استمرار هذه الطاقة إلى مرحلة من التمدد السريع جدا، أو التضخم، للكون. وهذا الاحتمال قد يحدث حتى لو أخذنا في الاعتبار أبسط شكل لنظرية الحقل القياسي. وفي هذا الشكل تصل طاقة الكمون إلى

 

قيمتها الصغرى عند النقطة التي ينعدم فيها الحقل القياسي. وفي هذه الحالة، تزداد قيمة طاقة الكمون كلما ازداد الحقل القياسي. ووفق نظرية آينشتين للتثاقل فإن طاقة الحقل القياسي لا بد أن تكون قد أحدثت تمدد الكون بسرعة كبيرة جدا. وقد تباطأ هذا التمدد عندما وصلت طاقة كمون الحقل القياسي إلى قيمتها الصغرى.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/11/SCI95b11N8-9_H04_005268.jpg http://oloommagazine.com/images/Articles/11/SCI95b11N8-9_H04_005269.jpg
توضح هذه السلسلة المتعاقبة من الصور، المرسومة بوساطة الحاسوب، أن تطور الحقل القياسي يؤدي إلى ظهور كثير من المناطق التضخمية. وفي معظم أجزاء الكون تنخفض قيمة الحقل القياسي (ممثلة بالمنخفضات والوديان)، وتزداد في أمكنة أخرى نتيجة للتقلبات الكمومية. وفي تلك الأمكنة، الممثلة بالقمم، يتمدد الكون بسرعة ويؤدي ذلك إلى تكوين المناطق التضخمية. ونحن نعيش في أحد الوديان حيث لم يعد الفضاء يعاني مزيدا من التضخم.

 

وإحدى الطرق لتخيل الموقف هي أن نتصور كرة تتدحرج إلى أسفل على جدار إناء كبير [انظر الشكل العلوي في الصفحة30]. فقاع الإناء يمثل القيمة الصغرى للطاقة، وموضع الكرة يقابل قيمة الحقل القياسي. ولا شك في أن المعادلات التي تصف حركة الحقل القياسي في كون يتمدد أكثر تعقيدا من معادلات حركة الكرة في إناء فارغ، إذ إنها تتضمن حدا إضافيا خاصا بالاحتكاك أو اللزوجة. وهذا الاحتكاك يماثل حالة وضع عسل أسود في الإناء؛ فلزوجة هذا السائل تتوقف على طاقة الحقل: إذ كلما ازداد ارتفاع الكرة في الإناء غلظ قوام السائل. ومن ثم فإنه إذا كان الحقل كبيرا جدا في البداية فإن الطاقة تنخفض ببطء شديد.

 

إن تباطؤ طاقة الحقل القياسي في الانخفاض يخلِّف تأثيرا حيويا في معدل التمدد. وكان الانخفاض يحدث تدريجيا لدرجة تجعل طاقة الكمون للحقل القياسي ثابتة دوما تقريبا أثناء تمدد الكون. وتتعارض هذه الخاصية بشدة مع خواص المادة العادية التي تتناقص كثافتها سريعا عندما يتمدد الكون. ويعود الفضل للطاقة الكبيرة للحقل القياسي في استمرار الكون بالتمدد بسرعة أكبر كثيرا مما تنبأت به النظريات الكونية السابقة لنظرية التضخم التي يزداد فيها حجم الكون بصورة أسية.

 

وهذه المرحلة من التغذية الذاتية للتضخم الأسي السريع لم تستمر طويلا، فمدة بقائها كانت من القصر بحيث إنها لم تتجاوز  35-10 من الثانية. وما إن انخفضت طاقة الحقل حتى تلاشت اللزوجة تقريبا وانتهى التضخم. ومثل الكرة لدى وصولها إلى قعر الإناء، فإن الحقل القياسي بدأ في التذبذب قرب القيمة الصغرى لطاقته الكامنة. وعندما تذبذب الحقل القياسي فإنه فقد طاقة على صورة جسيمات أولية. وهذه الجسيمات تفاعل بعضها مع بعض واستقرت في آخر الأمر عند درجة حرارة توازن، لذا يمكن وصف تطور الكون ـ منذ هذه اللحظة وصاعدا ـ باستخدام النظرية القياسية للانفجار الأعظم.

 

ويتضح الفرق الرئيسي بين النظرية التضخمية وعلم الكونيات القديم عندما نحسب حجم الكون في نهاية التضخم. وعلى الرغم من أن الكون، عند بداية التضخم، كان بصغر33-10سنتيمتر فإنه بعد35-10ثانية من التضخم شغل حجما لا يمكن تصديقه، ووفق بعض النماذج التضخمية يُقدَّر هذا الحجم بمقدار12(1010، أي 1 وعلى يمينه تريليون (أي1012) من الأصفار. وهذه الأرقام تتوقف على النموذج المستخدم، لكن هذا الحجم في معظم الحالات أكبر كثيرا من حجم الجزء الذي يمكن رؤيته من الكون والذي يبلغ28 10سنتيمتر.

 

وهذا النمو المفاجئ الهائل للكون يحل فورا معظم المشكلات الموجودة في النظرية الكونية القديمة. ويبدو الكون الذي نعيش فيه منتظما وممهدا، لأن جميع ما فيه من أنماط لعدم التجانس قد مُطّت12(1010 من المرات. وكثافة أحاديات القطب الأصلية وغيرها من «العيوب» غير المرغوب فيها قد انخفضت بدرجة كبيرة جدا. (وقد وجدنا حديثا أن الأجسام الأحادية القطب قد تُضخِّم نفسها ومن ثم فإنها ـ عمليا ـ تدفع نفسها بقوة إلى خارج الكون المرئي.) ولقد أصبح الكون كبيرا جدا لدرجة لا يمكننا معها أن نرى غير جزء ضئيل منه، ولذلك فإن الجزء الذي نعيش فيه يبدو منبسطا، تماما كما تبدو المساحة الصغيرة على سطح بالون ضخم منتفخ، وهذا هو السبب الذي لا يجعلنا في حاجة إلى أن نتطلب أن تبدأ جميع أجزاء الكون بالتمدد في اللحظة نفسها. فمنطقة واحدة بأصغر حجم ممكن قدره 33- 10  سنتيمتر هي أكثر من كافية كي تُخرج كل ما نراه الآن.

 

إن النظرية التضخمية ليست دائما بهذه البساطة فيما يتعلق بمفهومها، فالمحاولات التي بُذلت للإحاطة بمرحلة التمدد الأسي للكون ذات تاريخ طويل. ومن سوء الحظ، لم يُعرف هذا التاريخ للقارئ الأمريكي إلا جزئيا بسبب الحواجز السياسية.

 

لقد كان <.A A.سستاروبنسكي>(من معهدL.D.لنداو للفيزياء النظرية بموسكو) أول من أورد صورة حقيقية للنظرية التضخمية وذلك عام 1979. وقد أحدث نموذج ستاروبنسكي ضجة قوية بين علماء الفيزياء الفلكية الروس، وبقي طوال عامين الموضوع الرئيسي للمناقشات في جميع المؤتمرات التي عقدت في الاتحاد السوڤييتي عن الكونيات. ومع ذلك فإن نموذجه هذا كان معقدا إلى حد ما (إذ أسسه على نظرية الظواهر الشاذة في التثاقل الكمومي) ولم يشرح كثيرا عن الكيفية التي يمكن أن يبدأ بها التضخم فعلا.

 

وفي عام 1981، ذهب <H.A.گثْ> (من معهد ماساتشوستس للتقانة MIT) إلى أن الكون الساخن يمكن أن يتمدد أسيّا في إحدى المراحل المتوسطة. وقد اشتق گث نموذجه من نظرية تفسر تطور الكون في مراحله الأولى على صورة سلسلة من التحولات (الانتقالات) الطورية. وقد اقترحتُ هذه النظرية مع<A.D.كرزنتش>عام 1972 في معهد<N.P.لبديڤ> للفيزياء بموسكو. ووفق هذه النظرية فإن الكون عندما يتمدد ويبرد يتكثف بأشكال مختلفة. ويخضع بخار الماء لمثل هذه التحولات الطورية، فعندما تزداد برودته يتكثف البخار إلى ماء. وإذا استمرت عملية التبريد يتحول الماء إلى ثلج.

 

وتعتبر نظرية گث أن التضخم قد حدث عندما كان الكون في حالة عدم استقرار فائقة البرودة. والبرودة الفائقة شائعة أثناء التحولات الطورية. فالماء مثلا ـ في الظروف المناسبة ـ يظل سائلا عند درجة حرارة تحت الصفر المئوي. وبالطبع، فإن الماء الفائق البرودة سيتجمد في النهاية. وتقابل هذه الحالةُ نهايةَ فترة التضخم. وفكرة استخدام البرودة الفائقة في حل كثير من مشكلات نظرية الانفجار الأعظم كانت جذابة بدرجة استثنائية. ولكن مع الأسف، فإن الكون ـ كما أشار گث نفسه وفق السيناريو الذي قدمه ـ يصبح في مرحلة ما بعد التضخم غير متجانس بدرجة كبيرة جدا. وفي النهاية، وبعد بحوث استمرت عاما، تخلى گث عن نموذجه في بحث قدمه بالاشتراك مع<J.E.ڤينبرگ>من جامعة كولومبيا.

 

 
http://oloommagazine.com/images/Articles/11/SCI95b11N8-9_H04_005270.jpg

“انفجار” للحقل السياسي

في اليوم الثامن…

إن النظرية الكونية الجديدة غير عادية بدرجة كبيرة، وربما تكون صعبة التصور. ومن أهم الأسباب لشيوع نظرية الانفجار الأعظم القديمة، هي أنه من السهل نسبيا تخيل الكون على شكل كرة تتمدد في جميع الاتجاهات، وإنه لأكثر صعوبة أن ندرك تركيب كون يكرر نفسه ذاتيا إلى الأبد. ومن الممكن هنا أن تساعد، إلى حد ما، عمليات المحاكاة باستخدام الحاسوب. وسأصف هنا بعض عمليات المحاكاة التي أنجزتُها مع ابني دمتري، وهو الآن طالب بمعهد كاليفورنيا للتقانة.
بدأنا عمليات المحاكاة هذه بشريحة من الكون ذات بعدين مملوءة بحقل قياسي متجانس تقريبا، وقمنا بحساب كيفية تغير الحقل القياسي عند كل نقطة من هذه المنطقة بعد بداية التضخم. ثم أضفنا إلى ذلك الموجات الجيبيةsinusoidal waves المقابلة للتقلبات الكمومية التي تتجمد.
وباستمرار تطبيق هذا النهج حصلنا على سلسلة متعاقبة من الأشكال التي توضح توزيع الحقل القياسي في الكون التضخمي. (لإيضاح الرؤية قام الحاسوب بتصغير الصورة الأصلية بدلا من تمديد المناطق المتضخمة.) وقد أوضحت الصور الناتجة أن الحقل القياسي يتناقص في الجزء الرئيسي من المنطقة الأصلية [انظر الأشكال في الصفحتين 26 و 27]. ونحن نعيش في جزء مماثل من الكون. فالموجات الصغيرة المتجمدة عند قمة حقل متجانس تقريبا تؤدي في آخر الأمر إلى نشوء الاضطرابات عند درجة حرارة الإشعاع الخلفية التي اكتشفها الساتل «مستكشف الخلفية الكونية». كما توضح أجزاء أخرى من الصورة الجبال النامية التي تقابل كثافات الطاقة الهائلة المؤدية إلى التضخم السريع جدا. ومن ثم، فإنه يمكن للمرء أن يفسر كل قمة على أنها «انفجار أعظم» جديد يؤدي إلى «كون» تضخمي.
وقد أصبحت الطبيعة الفركتلية للكون أكثر وضوحا بعد أن أضفنا حقلا قياسيا آخر. ولكي تصبح الأمور أكثر تشويقا، أخذنا نظرية يكون فيها لطاقة كمون هذا الحقل ثلاث قيم صغرى مختلفة ـ ممثلة في الشكل بألوان مختلفة [انظر الشكل في الصفحة 25]. وفي الشريحة ذات البعدين من الكون، تتغير الألوان عند قمم الجبال طوال الوقت، مما يدل على أن الحقل القياسي يقفز بسرعة من قيمة صغرى للطاقة إلى قيمة أخرى. وقوانين الفيزياء في هذه المواضع لم تثبت بعد. ولكن في الوديان، حيث يكون معدل التمدد بطيئا، لا تتغير الألوان بعد ذلك. ونحن نعيش في واحدة من هذه المناطق. والمناطق الأخرى بعيدة عنا بعدا شاسعا. وتتغير خواص الجسيمات الأولية والقوانين الخاصة بتفاعلاتها عندما نعبر من منطقة إلى أخرى ـ ويجب أن نفكر مرتين قبل أن نفعل ذلك.
وفي مجموعة أخرى من الأشكال، استكشفنا الطبيعة الفركتلية الشكل للكون التضخمي باتباع نظرية مختلفة لفيزياء الجسيمات، وكان إيضاح المعنى الفيزيائي للصور الناتجة أصعب. يقابل النموذجُ الغريب للألوان (في اليسار) توزيع الطاقة في نظرية الأكسيونات axions (نوع من الحقل القياسي). وقد سمَّينا هذا النموذج «كَوْن كاندنسكي» نسبة إلى الفنان التجريدي الروسي الشهير. وعند رؤيته من منظور مختلف، تظهر أحيانا نتائج عمليات المحاكاة التي حصلنا عليها كنجوم متفجرة (في الصفحة المقابلة).
ولقد أجرينا السلسلة الأولى من عمليات المحاكاة منذ بضع سنين بعد أن أقنعنا <سيليكون گرافيكس> بلوس أنجلوس بأن تعيرنا أحد أقوى حواسيبها لمدة أسبوع. ولقد كان إعداد هذه العمليات عملا شاقا، ولم ننته من عمل السلسلة الأولى من الحسابات إلا في اليوم السابع، ورأينا لأول مرة هذه الجبال النامية التي تمثل المناطق التضخمية. وقد تمكّنا من الانطلاق بينها للاستمتاع بمنظر الكون في اللحظات الأولى لتكوُّنه. وكنا سعداء عندما نظرنا إلى الشاشة المضيئة ـ إذ رأينا أن الكون جميل! بيد أن عملنا لم يستمر طويلا. وفي اليوم الثامن أعدنا الحاسوب ولكن الأسطوانة الرئيسية لتخزين البيانات قد تلفت وأضاعت معها الكون الذي كنا قد قمنا بإنشائه.
ونتابع الآن دراستنا باستخدام طرق مختلفة (وحاسوب سيليكون گرافيكس مختلف). ولكن من الممكن أن يلعب المرء لعبة أكثر تشويقا، إذ يمكن أن يقوم بتوليد الكون في المختبر بدلا من مراقبته على شاشة حاسوب. وأقل ما يقال هو أن مثل هذه الفكرة محفوفة بالمخاطر، بيد أن بعض الناس (بمن فيهم أنا و<H.A.گث>) لا يودون نبذ هذا الاحتمال كليا. ويجب أن نضغط بعض المادة بطريقة ما تسمح للتقلبات الكمومية بأن تفجر التضخم. وتقترح التقديرات البسيطة في مجال سيناريو التضخم الشواشي أن أقل من مليغرام واحد من المادة قد يبدأ كونًا خالدًا متجددًا ذاتيًا.

http://oloommagazine.com/images/Articles/11/SCI95b11N8-9_H04_005271.jpg

ومازلنا نجهل ما إذا كانت هذه العملية محتملة، فنظرية التقلبات الكمومية التي يمكن أن تؤدي إلى كون جديد شديدة التعقيد. وحتى إذا كان من المحتمل أن «نصنع» أكوانا جديدة، فماذا سنفعل بها؟ هل يمكن إرسال رسالة إلى سكانها الذين سيدركون أن كونهم اللامتناهي في الصغر هو ضخم كما نرى نحن الكون الذي نعيش فيه؟ هل من الممكن أن ندرك أن كوننا قد خُلق بوساطة « قسَّام» فيزيائي؟ ربما نجد الإجابة عن هذه الأسئلة في يوم من الأيام.

 

وفي عام 1982، تقدَّمتُ بما سمي «سيناريو الكون التضخمي الجديد» الذي اكتشفه أيضا بعد ذلك <A.ألبريخت>و<J.P.ستينهاردت>من جامعة بنسلڤانيا [انظر: “The Inflationary Universe,”

by Alan H. Guth-Paul J. Steinhardt;

Scientific American, May 1984].

وهذا السيناريو لم يلق بالا للمشكلات الرئيسية لنموذج گث، ولكنه مازال معقدا إلى حد ما وغير واقعي جدا.

 

ولم أدرك إلا بعد ذلك بعام أن التضخم من السمات التي تنبثق بصورة طبيعية في كثير من نظريات الجسيمات الأولية بما فيها أبسط نموذج للحقل القياسي الذي نوقش فيما سبق. وليست هناك أي حاجة إلى تأثيرات التثاقل الكمي أو التحولات الطورية أو التبريد الفائق، أو حتى إلى الافتراض المعروف بأن الكون كان في الأصل ساخنا. ويكفي أن نعتبر فقط جميع الأنواع والقيم المحتملة للحقول القياسية عند بدء الكون، ثم نبحث لنرى أيا منها يؤدي إلى التضخم. وتلك الأمكنة التي لا يحدث فيها تضخم تظل صغيرة، أما المناطق التي يحدث فيها تضخم فإنها تصبح كبيرة جدا بصورة أسيَّة وتطغى على الحجم الكلي للكون. وحيث إن الحقول القياسية يمكن أن تأخذ قيما اعتباطية في بدايات الكون، فقد أطلقت على هذا السيناريو اسم التضخم الشواشيchaotic inflation.

 

والتضخم الشواشي بسيط في كثير من النواحي، حتى إنه من العسير أن ندرك لماذا لم تكتشف الفكرة من قبل. وإني أعتقد بأن السبب نفسي بحت، فالنجاحات الرائعة لنظرية الانفجار الأعظم قد أثرت في علماء الكونيات كما يفعل التنويم المغنطيسي. لقد افترضنا أن الكون بأكمله قد خُلق في اللحظة نفسها، وأنه كان في البداية ساخنا، وأن الحقل القياسي كان منذ البداية قريبا من القيمة الصغرى لطاقة كمونه. وما إن بدأنا في التحرر من هذه الافتراضات حتى وجدنا، مباشرة، أن التضخم ليس بالظاهرة الدخيلة التي استعان بها العلماء النظريون كوسيلة لحل مشكلاتهم، بل هو نظام عام لمجموعة كبيرة من نظريات الجسيمات الأولية.

 

إن كون فكرة التمدد السريع للكون يمكن أن تحل الكثير من المشكلات الكونية الصعبة في آن واحد قد تبدو جيدة بحيث تجعلنا نعتقد بأنها حقيقة واقعة. وفي الواقع، إذا بُسطت كل اللاتجانسات inhomogenties فكيف تتكون المجرات؟ والجواب هو أنه أثناء إزالة اللاتجانسات الموجودة من قبل، ولَّد التضخم لاتجانسات جديدة في الوقت نفسه.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/11/SCI95b11N8-9_H04_005272.jpg
يمكن نمذجة الحقل القياسي في كون تضخمي بكرة تتدحرج إلى أسفل على السطح الداخلي لوعاء (سلطانية). فحافة الوعاء تقابل كثافة پلانك للكون، وتعلوها «رغوة» الزمكان، وهي منطقة تقلبات كمومية قوية. وتكون التقلبات في المنطقة أسفل الحافة (الخضراء) أضعف، ولكن يحتمل أنها مازالت تكفُل التجدد الذاتي للكون. وإذا بقيت الكرة في الوعاء، فإنها تتحرك نحو المنطقة الأقل طاقة (البرتقالية) حيث تنزلق إلى أسفل ببطء شديد. وينتهي التضخم بمجرد أن تقترب الكرة من القيمة الصغرى للطاقة (اللون الأرجواني) حيث تتذبذب حولها وترفع درجة حرارة الكون.
http://oloommagazine.com/images/Articles/11/SCI95b11N8-9_H04_005273.jpg
يختلف نشوء الكون في سيناريو التضخم الشواشي عنه في نظرية «الانفجار الأعظم» الدارجة. إن التضخم يزيد حجم الكون بمقدار

 12(1010، لدرجة أنه حتى الأجزاء الصغيرة التي لا يتجاوز طولها33-10سنتيمتر (طول پلانك) تكبر متجاوزة نصف قطر الكون المرئي، أي

28 10سنتيمتر. ويتنبأ التضخم أيضا بأن الكون يكون في أغلب الأحيان مسطحا وأن الخطوط المتوازية فيه تظل «متوازية» (تتقاطع الخطوط المتوازية في كون مغلق، لكنها تتباعد في كون مفتوح.) وفي مقابل ذلك، نجد أنه في التمدد الناتج من الانفجار الأعظم الساخن الأصلي يزداد حجم الكون الذي له حجم پلانك إلى 0.001 سنتيمتر فقط، كما أنه يؤدي إلى تنبؤات مختلفة بالنسبة إلى هندسة الفضاء.

 

وتنشأ هذه اللاتجانسات عن التأثيرات الكمومية quantum. ووفق الميكانيك الكمومي فإن الفضاء الخالي لا يكون خاليا كليا، فالفراغ يكون مملوءا بتموجات كمومية صغيرة. وهذه التموجات يمكن اعتبارها موجات في الحقول الفيزيائية. ولهذه الموجات كل الأطوال الموجية المحتملة وهي تتحرك في جميع الاتجاهات، ولا يمكننا اكتشاف هذه الموجات لأن حياتها قصيرة الأمد ولأنها مكروسكوبية (صغرية).

 

وفي الكون التضخمي، تصبح بنية الفراغ أكثر تعقيدا، فالتضخم يمط الموجات بسرعة. وما إن تصبح أطوالها الموجية كبيرة بقدر كاف، «تستشعر» انحناء الكون وتكف عن الحركة بسبب لزوجة الحقل القياسي (تذكَّر أن المعادلات التي تصف الحقل تتضمن حدا خاصا بالاحتكاك).

 

وأول التموجات التي تتجمد هي التي لها أطوال موجية كبيرة. وفيما يستمر الكون في التمدد تنبسط تموجات جديدة وتتجمد على قمة الموجات المتجمدة الأخرى. وفي هذه المرحلة لا يمكن أن يسميها المرء تموجات كمومية، إذ إن الأطوال الموجية لمعظمها تكون كبيرة جدا. وبما أن هذه الموجات لا تتحرك ولا تختفي فإنها تزيد قيمة الحقل القياسي في بعض المناطق وتخفضها في مناطق أخرى، وبذلك تسبب حدوث اللاتجانسات. وهذه الاضطرابات في الحقل القياسي تسبب اضطرابات الكثافة في الكون وهي حيوية للتكوين التالي للمجرات.

 

والنظرية التضخمية، إضافة إلى أنها قد فسرت الكثير من السمات في عالمنا، فإنها أنجزت العديد من التنبؤات المهمة الخاضعة للاختبار. أولا، تنبأ التضخم بأن الكون يجب أن يكون مسطحا إلى أقصى حد. ويمكن التحقق من صحة تسطح الكون بالتجربة، إذ إن كثافة كون مسطح ترتبط بسرعة التمدد بعلاقة بسيطة، وحتى الآن فإن البيانات الرصدية تتفق مع هذا التنبؤ.

 

وثمة تنبؤ آخر قابل للاختبار يتعلق باضطرابات الكثافة الناتجة أثناء التضخم. وهذه الاضطرابات في الكثافة تؤثر في توزيع المادة في الكون. فضلا عن ذلك فإنها قد تكون مصحوبة بموجات تثاقلية. إن اضطرابات الكثافة وكذلك الموجات التثاقلية تترك بصماتها على إشعاعات الخلفية الكونية المكروية الموجة، فتجعل درجة حرارة هذه الإشعاعات تختلف قليلا في الأمكنة المختلفة من السماء. وعدم الانتظام هذا هو تماما ما وجده عام 1992 الساتل (القمر الصنعي) مستكشف الخلفية الكونية Cosmic Background Explorer  COBE . وقد عُزِّزت هذه النتيجة بعد ذلك بوساطة عدد آخر من التجارب.

 

وعلى الرغم من أن نتائج الساتل COBE تتفق مع تنبؤات التضخم، فإنه من السابق لأوانه الادعاء بأن الساتل COBE أكد صحة النظرية التضخمية. ولكن مما لا شك فيه أن النتائج التي تم الحصول عليها بوساطة الساتل، على المستوى السائد من الدقة، كان من الممكن أن تُثبت عدم صحة معظم النماذج التضخمية، وهذا أمر لم يحدث. وفي الوقت الحالي، لا توجد نظرية أخرى يمكنها أن تفسر سبب تجانس الكون إلى هذه الدرجة، وفي الوقت نفسه يمكنها التنبؤ «بالمويجات الفضائية» التي اكتشفها الساتل COBE.

 

ومع ذلك يجب أن نحتفظ بعقل متفتح، إذ من المحتمل أن تتعارض بعض نتائج المشاهدات الجديدة مع فكرة الكون التضخمي. وعلى سبيل المثال، إذا اكتشفت الأرصاد أن كثافة الكون تختلف كثيرا عن القيمة الحرجة التي تلائم كونا مسطحا، فإن علم الكونيات التضخمي سيواجه تحديا حقيقيا. (وقد يكون من المحتمل حل هذه المشكلة إذا ظهرت، ولكنها ستكون معقدة تماما).

 

وهناك تعقيد آخر أساسه نظري بحت. فالنماذج التضخمية مبنية على نظرية الجسيمات الأولية، وهذه النظرية وحدها ليست راسخة تماما. وبعض أشكال هذه النظرية (وعلى وجه الخصوص نظرية الأوتار الفائقة superstring theory) لا تؤدي تلقائيا إلى التضخم. واستخلاص التضخم من نموذج «وتر فائق» قد يتطلب أفكارا جوهرية جديدة. ويجب حقا أن نستمر في البحث عن نظريات كونية بديلة. ومع ذلك فإن كثيرا من علماء الكونيات يعتقدون بأن التضخم، أو شيئا مشابها جدا له، أساسي تماما لتأسيس نظرية كونية متماسكة. والنظرية التضخمية نفسها تتغير وفقا للتطورات السريعة لنظرية فيزياء الجسيمات. وتتضمن قائمة النماذج الجديدة التضخم الموسَّع، والتضخم الطبيعي، والتضخم المولَّد، وكثيرا غيرها. ولكلٍّ من هذه النماذج سمات خاصة يمكن اختبارها من خلال المشاهدة أو التجربة، ومع ذلك فمعظمها يعتمد على فكرة التضخم الشواشي.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/11/SCI95b11N8-9_H04_005274.jpg
يبدو الكون المتجدد ذاتيا على شكل تشعب ممتد من الفقاعات التضخمية. وتمثل التغيرات في اللون «تغيرات نوعية» في قوانين الفيزياء عن قوانين الأكوان المولدة. وخواص الفضاء في كل فقاعة لا تعتمد على الزمن الذي تكونت فيه الفقاعة. وفي هذا المعنى، فقد يبدو الكون مستقرا ككل، حتى ولو وصف داخل كل فقاعة بنظرية الانفجار الأعظم.

 

وهنا نصل في موضوعنا إلى الجزء الأكثر إثارة للانتباه، وهو النظرية الخاصة بكون تضخمي أزلي الوجود، متجدد ذاتيا. وهذه النظرية عامة إلى حد ما إلا أنها تبدو واعدة بشكل خاص، وتقود إلى النتائج الأكثر إثارة في صدد سيناريو التضخم الشواشي.

 

وكما ذكرت سابقا، من الممكن أن نتصور التقلبات الكمومية للحقل القياسي في كون تضخمي على صورة موجات. وهذه التقلبات تحركت أولا في جميع الاتجاهات المحتملة، ثم تجمدت بعد ذلك بعضها فوق بعض. وكل موجة متجمدة زادت قليلا الحقل القياسي في بعض أجزاء الكون وإن أنقصته في أجزاء أخرى.

 

والآن لننظر في تلك الأمكنة من الكون حيث كانت هذه الموجات المجمدة حديثا تعمل دوما على زيادة الحقل القياسي. ومثل هذه المناطق نادرة جدا ولكنها موجودة فعلا، ومن الممكن أن تكون مهمة جدا. وتلك المناطق النادرة من الكون، التي يقفز فيها الحقل إلى أعلى بدرجة كافية، تبدأ بالتمدد بصورة أسية وبسرعة متزايدة. وكلما ازدادت قفزة الحقل القياسي علوا تسارع تمدد الكون. وسرعان ما تكتسب تلك المناطق النادرة حجما أكبر بكثير منه في المناطق الأخرى.

 

يترتب على هذه النظرية أنه إذا حوى الكون منطقة تضخمية واحدة على الأقل ذات حجم كبير بدرجة كافية فإنها تبدأ ـ من دون توقف ـ بإنتاج مناطق تضخمية جديدة. والتضخم عند كل نقطة معينة قد ينتهي سريعا، ولكنه يستمر في الاتساع في أمكنة كثيرة أخرى. وعلى ذلك فالحجم الكلي لكل هذه المناطق يزداد بلا حدود. وخلاصة الموضوع، إن كونا تضخميا واحدا يولد فقاعات تضخمية أخرى، وهذه بدورها تنتج فقاعات تضخمية أخرى وهكذا [انظر الشكل العلوي].

 

وتستمر هذه العملية، التي سمَّيتها التضخم الخالد، على صورة تفاعل متسلسل منتجة نموذجا فرَكتليا fractallike للكون. وفي هذا السيناريو فإن الكون ككل يكون خالدا. وكل جزء معين في الكون يمكن أن ينشأ عن نقطة فريدة في مكان ما في الماضي، وينتهي عند نقطة فريدة أخرى في مكان ما في المستقبل. ومع ذلك ليس هناك نهاية لتطور الكون بأكمله.

 

إن الموقف بالنسبة للبداية الأولى للكون غير مؤكد، فهناك فرصة أن تكون جميع أجزاء الكون قد نشأت في اللحظة نفسها بانفجار أعظم ابتدائي. ومع ذلك فضرورة هذه الفرضية لم تعد واضحة. فضلا عن ذلك، فإن العدد الكلي للفقاعات التضخمية على «الشجرة الكونية» يزداد بصورة أسية مع الزمن. ومن ثم فإن معظم الفقاعات (بما في ذلك الجزء الذي ننتمي إليه من الكون) تنمو بغير حدود بعيدا عن جذع هذه الشجرة. وعلى الرغم من أن هذا السيناريو يجعل الانفجار الأعظم الابتدائي من جميع النواحي العملية إلى حد ما عديم الصلة بالموضوع، فإنه يمكننا اعتبار اللحظة التي تتكون عندها كل فقاعة تضخمية وكأنها «انفجار أعظم» جديد. ومن هذا المنظور، فإن التضخم ليس جزءا من نظرية الانفجار الأعظم، كما كنا نعتقد منذ 15 عاما. وعلى العكس، فإن الانفجار الأعظم هو الذي يكون جزءا من النموذج التضخمي.

 

وعندما نفكر في عملية التجدد الذاتي للكون، لا يستطيع المرء أن يتجنب استخلاص التشابهات مهما كانت ظاهرية. وإن الإنسان ليتساءل عما إذا كانت هذه العملية مماثلة لما يحدث لنا جميعا. فقد ولدنا في وقت ما في الماضي، وفي آخر الأمر سوف نموت، ولسوف يختفي بأكمله عالم أفكارنا ومشاعرنا وذكرياتنا. بيد أن هناك من عاشوا قبلنا، وهؤلاء الذين سيعيشون بعدنا، والبشرية ككل، إذا كانت ذكية لدرجة كافية، فإنها قد تعيش لوقت طويل.

 

وتذهب النظرية التضخمية إلى أن عملية مماثلة قد تحدث في الكون. وقد ينتاب المرء شيء من التفاؤل عندما يعلم أنه حتى لو تلاشت حضارتنا، فإنه سوف توجد أمكنة أخرى في الكون حيث تبزغ الحياة بجميع صورها المحتملة مرة بعد أخرى.

 

ُترى، هل يمكن أن تزداد الأمور غرابة؟ والجواب هو نعم. وحتى الآن، فقد تناولنا أبسط نموذج تضخمي بحقل قياسي واحد، ذاك الذي له قيمة صغرى واحدة لطاقة كمونه، وفي غضون ذلك قدمت النماذج الواقعية للجسيمات الأولية أنواعا كثيرة من الحقول القياسية. وعلى سبيل المثال، فإنه يوجد في النظريات الموحدة للتأثيرات القوية والضعيفة والكهرطيسية حقلان قياسيان آخران على الأقل. وقد يكون لطاقة الكمون لهذه الحقول القياسية عدة قيم صغرى مختلفة. وهذا يعني أن النظرية الواحدة قد يكون لها «حالات فراغ»vacuum states مختلفة تقابل الأنواع المختلفة لعمليات خرق التناظر بين التأثيرات الأساسية، ومن ثم، تقابل القوانين المختلفة لفيزياء الطاقة المنخفضةlow-energy. (إن تفاعلات الجسيمات في الطاقات الكبيرة جدا لا تتوقف على خرق التناظر.)

 

ومثل هذه التعقيدات في الحقل القياسي تعني أن الكون بعد التضخم، قد ينقسم إلى عدد هائل من المناطق التي لها قوانين مختلفة لفيزياء الطاقة المنخفضة. ويُلاحظ أن هذا الانقسام يحدث حتى لو كان الكون بأكمله قد بدأ أصلا في الحالة نفسها الموافقة لقيمة صغرى واحدة خاصة لطاقة الكمون. وفي الواقع، قد ينشأ عن التقلبات الكمومية الكبيرة أن تقفز الحقول القياسية خارج قيمها الصغرى، أي إنها «تُهزهز» بعض الكرات خارج أوعيتها لتسقط في أوعية أخرى. وكل وعاء يقابل قوانين بديلة لتفاعلات الجسيمات. وفي بعض النماذج التضخمية تكون التقلبات الكمومية قوية إلى درجة قد يتغير فيها عدد أبعاد المكان والزمان.

 

وإذا كان هذا النموذج صحيحا، فإن الفيزياء وحدها لا يمكنها أن تعطينا التفسير الكامل لكل خواص الجزء الذي يخصنا من الكون. وربما سرت النظرية الفيزيائية نفسها على أجزاء كبيرة من الكون ذات خواص متباينة. ووفقا لهذا السيناريو، فإننا نجد أنفسنا داخل منطقة ذات أربعة أبعاد ومعنا القوانين الفيزيائية الخاصة بنا، ولا يعود ذلك إلى أن المناطق ذات الأبعاد المختلفة، التي لها خواص بديلة، مستحيلة أو غير محتملة الحدوث، ولكن السبب ببساطة هو أن نوع الحياة التي نعيشها لا يمكن أن يوجد في مناطق أخرى.

 

هل يعني ذلك أن فهمنا لكل خواص المنطقة التي نعيش فيها من الكون يقتضي، إلى جانب إلمامنا بالفيزياء، البحث العميق في طبيعتنا، وربما يتضمن ذلك أيضا طبيعة مشاعرنا؟ من المؤكد أن هذا الاستنتاج هو من أبعد الأمور عن التوقع كنتيجة للتطورات الحديثة في علم الكونيات التضخمية.

 

وقد أدى نشوء النظرية التضخمية إلى ظهور نموذج كوني جديد تماما يختلف كثيرا عن نظرية الانفجار الأعظم القديمة، كما أنه يختلف حتى عن الصيغ الأولى للسيناريو التضخمي. وفي هذا النموذج يبدو الكون شواشيا ومتجانسا معا، متمددا ومستقرا في آن واحد. إن مقرَّنا في الكون ينمو ويتقلب، ويجدد نفسه أبدا بكل الأشكال المحتملة، كما لو أنه كان يكيِّفُ نفسه لكل أنماط الحياة المحتملة التي يمكن أن يدعمها.

 

ونأمل أن تصمد معنا بعض أجزاء النظرية الجديدة لسنين قادمة. بيد أن أجزاء كثيرة أخرى يجب أن تُعدَّل لتلائم ما يتجمع من البيانات الرصدية الجديدة، وتلائم أيضا نظرية الجسيمات الأولية المتغيرة على الدوام. ومع ذلك، يبدو أن التطورات التي حدثت في علم الكونيات خلال الأعوام الخمسة عشر الماضية قد أدت إلى تغيرات يتعذر إلغاؤها من فهمنا لتركيب الكون ومصيره وموقعنا فيه.

 

 المؤلف

Andrei Linde

أحد مؤسسي النظرية التضخمية. بعد تخرجه في جامعة موسكو حصل على الدكتوراه من معهد <P.N.لبديڤ> للفيزياء بموسكو، حيث بدأ يستكشف العلاقات بين فيزياء الجسيمات وعلم الكونيات. وعمل أستاذا للفيزياء بجامعة ستانفورد عام 1990، ويقيم حاليا بمدينة ستانفورد مع زوجته<R.كالش>(التي تعمل أستاذة للفيزياء في جامعة ستانفورد) ومع ولديه <دمتري> و <ألكس>. وإضافة إلى بحثه نظريا عن نشأة الكون، فإن لند يهوى الأعمال المسرحية المثيرة مثل الألعاب البهلوانية وخفة اليد والتنويم المغنطيسي.

 

مراجع للاستزادة 

PARTICLE PHYSICS AND INFLATIONARY COSMOLOGY. Andrei Linde in Physics Today, Vol. 40, No. 9, pages 61-68; September 1987.

THE FRACTAL DIMENSION OF THE INFLATIONARY UNIVERSE. M. Aryal and A. Vilenkin in Physics Letters B, Vol. 199, No. 3, pages 351-357; December 24, 1987.

INFLATION AND QUANTUM COSMOLOGY. Andrei Linde. Academic Press, 1990.

PARTICLE PHYSICS AND INFLATIONARY COSMOLOGY. Andrei Linde. Harwood Academic Publishers, 1990.

FROM THE BIG BANG THEORY TO THE THEORY OF A STATIONARY UNIVERSE. A. Linde, D. Linde and A. Mezhlumian in Physical Review D, Vol. 49, No. 4, pages 1783-1826; February 1994.

Scientific American, November 1994

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى