تقييد السُّعرات (الكالوريات) وعلاقته بالشيخوخة
تقييد السُّعرات (الكالوريات) وعلاقته بالشيخوخة
قلل مما تأكله، ولكن تأكد أنك تحصل على كمية كافية من البروتين
والدهن (الدسم) والفيتامينات والمعادن. إن لهذه الوصفة مفعولاً عجيبًا
في صحة القوارض وطول عمرها.
فيا تُرى هل بإمكانها مساعدة البشر أيضا؟
< R .ويندرتش>
قبل ستين عاما توصل العلماء في جامعة كورنيل إلى اكتشاف رائع. فبتقييد الجرذان بنظام غذائي ذي سعرات ضئيلة جدا، تمكن <M .C .ماك كي> وزملاؤه من إطالة المدى الأقصى (الأعظمي) لعمر هذه الحيوانات بنسبة 333%، أي إطالة أعمارها من ثلاث إلى أربع سنوات. ووجدوا فيما بعد أن الجرذان التي أُلزمت نُظُما غذائية قليلة السعرات بقيت فتية مدة أطول، كما عانت في أواخر حياتها أمراضا أقل مما عانته مثيلاتها التي أُعطيت طعاما اعتياديا. ومنذ عقد الثلاثينات كان تقييد السعرات caloric restriction هو المداخلة الوحيدة التي أظهرت، وعلى نحو مقنع، أنها تُبطئ حدوث الهَرم aging لدى القوارض (وهي حيوانات ثديية مثلنا)، وفي المخلوقات التي تمتد من الحيوانات الأَواليّprotozoans وحيدة الخلية حتى الديدان المدورة (حيات البطن) وذباب الفاكهة والأسماك.
ومن الطبيعي أن تثير القوة الهائلة التي تتمتع بها الطريقة المذكورة سؤالا عما إذا كان بوسعها أن تُطيل مدة البقاء على قيد الحياة (البُقْيا) واستمرار الصحة الجيدة لدى البشر. إن هذه المسألة عرضة لنقاش واسع، بيد أن الحقيقة المتمثلة في نجاح هذه المقارنة لدى عدد كبير من الكائنات الحية لأمر يوحي بأن الإجابة قد تكون بتفاؤل كبير «نعم». وهناك بعض المعلومات الموثوقة المثيرة للاهتمام، المستمدة من دراسات أُجريت على القرود والبشر، تدعم هذه الفكرة أيضا.
وبالطبع، وحتى إذا ما ثبت في النهاية أن التشدد الصارم في تحديد السعرات هو ينبوع الشباب للبشر، فقد لا يصبح مطلبا شعبيا مطلقا؛ إذ مازال سجلنا التتبّعي عن التزام الحمية الغذائية الشديدة ضعيفًا. ولكن ربما تمكن العلماء يوما ما من كشف وتطوير عقاقير تضبط شهيتنا على المدى الطويل وبشكل آمن، أو تحاكي (تقلد) التأثيرات النافعة لضبط السعرات في نُسُج (أنسجة) الجسم. وقد تسمح هذه المقاربة الأخيرة للناس بالاستمتاع بالأغذية العادية إلى حد ما، وفي الوقت نفسه الاستمرار في جني ثمار التأثيرات الصحية النافعة الناجمة عن تحديد مدخولهم الغذائي. ويقوم العديد من المختبرات الآن، بما فيها مختبرنا في جامعة وسكنسن-ماديسون، بالعمل ابتغاء التوصل إلى فهم الأساس الخلوي والجُزَيْئي للطريقة التي يؤخر بها تقييد السعرات عمليات التشيّخ (التهرم) لدى الحيوانات. وقد تؤدي جهودنا إلى إيجاد بدائل مفيدة تقوم مقام التزام النظام الغذائي الصارم، مع أن أغلبيتنا تركز جهودها الأساسية في الوقت الحالي على فهم سيرورة (أو سيرورات) الهرم ذاتها.
لقد أمكن ـ إلى حد كبير في معظم الأحيان ـ إطالة أعمار بعض الحيوانات (كتلك التي تظهر في الصورة) بإنقاص شديد لمدخولاتها من السعرات. ولكن انطباق ذلك على البشر مازال قيد البحث. وهذا التقييد في المدخول من السعرات لا ينجح إلا عندما تحصل الحيوانات على تغذية ملائمة. |
في القوارض، السعرات الأقل هي الأكثر نفعا
لقد أظهرت البحوث، التي أُجريت في مجال تحديد السعرات، عددا هائلا من الفوائد لدى الحيوانات ـ بشرط ضمان مراقبة الحاجات الغذائية للحيوانات التي تتبع الحمية الغذائية مراقبةً محكمة دقيقة. وفي معظم الدراسات تستهلك حيوانات الاختبار، وهي عادة الفئران أو الجرذان، قدرا من السعرات يقل عما تستهلكه الحيوانات الضابطة (الشاهدة) بنسبة 30 إلى 50 في المئة، كما أن وزنها أقل بنسبة 30 إلى 50 في المئة أيضا. ولكنها تحصل في الوقت ذاته على ما يكفي من البروتين والدهن (الدسم) والفيتامينات والمعادن اللازمة كلها للحفاظ على عمل نُسُجها الفعال. وبعبارة أخرى: تُلْزَم هذه الحيوانات اتّباع شكل صارم من الحمية الغذائية الحكيمة الذي تستهلك فيه الحد الأدنى من السعرات من غير أن تصاب بسوء التغذية.
فأران لهما العمر نفسه وهو 40 شهرا؛ ومع ذلك فإن المقارنة بين الفأر الذي تناول طعاما عاديا ـ ويظهر في يمين الصورة ـ والفأر الذي تغذى بقوت قليل السعرات منذ أن بلغ 12 شهرا من العمر (أوائل أواسط العمر) ـ وهو في يسار الصورة ـ تبين أن الثاني يبدو أصغر سنا وأكثر صحة. |
فإذا ما تمت تلبية الحاجات الغذائية للحيوانات، فلن يقتصر عمل تقييد السعرات على الزيادة الثابتة في متوسط مدى عمر الأفراد ولكن سيرفع أيضا المدى الأقصى للأعمار ـ أي عمر أطول أعضاء الزمرة بقاء على قيد الحياة. وتعني هذه النتيجة الأخيرة أن تحديد السعرات يتدخل ويعبث ببعض جوانب سيرورة الهرم الأساسية. إن كل ما من شأنه أن يمنع الموت المبكر، كذاك الذي يسببه مرض يمكن توقّيه أو معالجته أو ذاك الناجم عن حادث طارئ، سيرفع متوسط مدى حياة مجموعة ما. ولكن من الواجب حقا إبطاء سرعة حدوث الشيخوخة حتى يتمكن الأفراد الأشد قدرة على التحمل من تجاوز الحد الأقصى المعروف الآن.
وفضلا عن تغيير مدة البقاء على قيد الحياة (البُقْيا)، فقد استطاعت الحمية الغذائية المنخفضة السعرات أن تؤجل عند القوارض حدوث معظم الأمراض الخطرة الشائعة في أواخر الحياة [انظر ما هو مؤطر في الصفحة المقابلة]، بما فيها سرطانات الثدي والموثة (البُرُسْتاة) والجهاز المناعي والسبيل المعِدي المعوي. وعلاوة على ذلك، فمن بين نحو 300 مقياس للشيخوخة تمت دراستها، وجد أن نحو 90% من القوارض التي حصلت على غذاء مقيد السعرات تبقى «محافظة على شبابها» مدة أطول مما في القوارض التي تم إطعامها جيدا. وعلى سبيل المثال، تتناقص بعض الاستجابات المناعية في الفئران السوية حينما تبلغ سنة واحدة من العمر (أوائل أواسط عمرها)؛ إلا أن هذه الاستجابات لا تضعف في الفئران الأشد نحافة والمماثلة للمجموعة السوية وراثيا، إلا عند بلوغها سنتين من العمر. وشبيه بذلك ما يحدث حينما تتقدم القوارض في السن فتقوم عموما بتصفية الگلوكوز ـ وهو سكر بسيط ـ من دمها على نحو أقل فعالية مما كانت تفعله وهي فتيّة (وهو تغير قد يتعاظم ويصبح داء سكريا)، كما أنها تصطنع وتركب البروتينات اللازمة ببطء أشد، وتقع تحت وطأة الارتباط التصالبي cross-linking (وهو الذي يؤدي إلى التصلب) في البروتينات ذات الحياة المديدة في النسج، وتفقد من كتلتها العضلية، ويغدو تعلمها أبطأ. أما في الحيوانات التي تحصل على سعرات محددة، فإن هذه التغيرات كلها يتأخر حدوثها.
وليس من المستغرب أن يتساءل القائمون بالاستقصاءات عما إذا كان تقييد السعرات (الطاقة) في حد ذاته هو المسؤول عن المزايا التي تُجنى من اتباع النظم الغذائية ذات السعرات القليلة، أم أن الحد من الدهن (الدسم) أو من مكون آخر في النظام الغذائي هو الذي يعلل هذا النجاح ويفسره. ويبدو أن الإمكانية الأولى هي الصحيحة. إن تقييد كمية الدهن (الدسم) والبروتين والكربوهِدْرات (السكريات) من غير إقلال السعرات لا يرفع مدى العمر الأقصى لدى القوارض. إن الاقتصار على إضافة الفيتامينات المتعددة ـ أو الجرع العالية من مضادات التأكسد (المؤكسدات) ـ ليس بالأمر الناجع، كما لا يجدي تغيير نمط الدهن أو الكربوهدرات أو البروتين في الغذاء.
ومن الأمور المشجعة ما توحي به الدراسات أيضا من أن تقييد السعرات قد يكون ذا نفع حتى وإن لم يتم البدء به إلا في أواسط العمر. وفي الواقع، إن أشد ما اكتشفْتُه إثارة في عملي هو أن تقييد السعرات الذي ابتُدِئ في اتباعه لدى الفئران في أوائل أواسط عمرها أمكنه أن يطيل مدى عمرها الأقصى بنسبة 10 إلى 20 في المئة، كما أمكنه أن يقاوم نشوء أو نمو السرطان. إضافة إلى ذلك، فمع أن إنقاص المدخول من السعرات إلى قدر يعادل تقريبا نصف ما تستهلكه الحيوانات التي تأكل على شكل غير مقيد هو الأكثر زيادة لمدى الحياة الأقصى، فإن تقييد السعرات الأقل صرامة له بعض الفوائد أيضا، سواء ابتدئ به في مقتبل الحياة أو في أواخرها.
ومن الطبيعي أن يغدو العلماء أكثر ثقة في أن تقييد النظام الغذائي يمكنه أن يؤجل روتينيا حدوث الهرم عند الرجال والنساء إذا أمكن تأكيد النتائج التي تم الحصول عليها بالنسبة للقوارض في دراسات على القرود (وهي الأشد شبها بالبشر)، أو على البشر بالذات. ولكي تكون مثل هذه الاستقصاءات أغنى بالمعلومات، يجب تتبع الأفراد الخاضعين للدراسة سنوات عديدة ـ وهي مهمة مكلفة وشاقة من الوجهة المنطقية (اللوجستية). ومع ذلك، هناك تجربتان مهمتان واسعتان تُجريان حاليا على القرود.
فوائد تقييد السعرات
أدى التقدم في الممارسات الصحية بدءا من عام 1900 إلى زيادات كبيرة في مدى العمر المتوسط بين الأمريكيين (وهو ما يظهر في المخطط البياني a)، وقد تم ذلك بصفة أساسية عن طريق تحسين الوقاية من الأمراض التي تسبب موت الإنسان المبكر ومعالجتها. ولكن تلك المداخلات لم تؤثر على نحو جوهري في مدى العمر الأقصى (أقصى اليمين في المخطط البياني a)؛ الأمر الذي يُعتقد أن تحديده مرتبط بعمليات هرم (شيخوخة) تحدث داخل الجسم. (تُظهر منحنيات المخطط وبياناته بروزات تعبّر عن الأشخاص المولودين في السنوات المشار إليها وتفترض أن الشروط التي تؤثر في البقاء على قيد الحياة لا تتغير). وبالمقابل، أدى تقييد السعرات إلى زيادة واضحة في مدى العمر الأقصى إضافة إلى زيادته متوسط مدى العمر في القوارض (b) وهو، في الواقع، المداخلة الوحيدة التي يبدو حتى الآن أنها تبطئ حدوث الشيخوخة في الثدييات ـ وهي إشارة تدل على إمكان تأخير الهرم في البشر أيضا.
وعلى الرغم من أن اتباع نظم غذائية صارمة يطيل مدة البقاء إلى درجة تفوق ما يفعله اتباع نظم معتدلة، فإن دراسة الفئران التي أعطيت غذاء قلت فيه السعرات ابتداء من مقتبل الحياة (في عمر ثلاثة أسابيع) توضح أن تقييد السعرات ـ ولو كان بسيطا ـ يقدم بعض الفوائد (c). وهذه النتيجة هي خبر يكمن فيه الخير للناس. كما أن من الأمور المشجعة اكتشاف أن تحديد السعرات لدى القوارض يفضي إلى أكثر من إطالة العمر؛ فهو يسمح للحيوانات بالبقاء شابة مدة أطول (الجدول). إن الفأرة التي تبدو في الزاوية تناولت غذاء محدد السعرات وعاشت فترة طويلة بشكل غير مألوف. إن أغلب بنات نوعها التي تتناول الطعام الاعتيادي تعيش 40 شهرا. وقد كان عمر تلك الفأرة 53 شهرا حينما أُخذت الصورة لها، ونفقت لأسباب مجهولة بعد نحو شهر واحد. تقييد السعرات لدى القوارض: تأثيرات منتقاة يؤجل النقصان المرتبط بتقدم العمر من: ضبط گلوكوز الدم؛ قدرة التوالد عند الإناث؛ إصلاح الدنا؛ المناعة؛ القدرة على التعلم؛ الكتلة العضلية؛ تركيب البروتينات تبطئ الزيادات المرتبطة بتقدم العمر من: الارتباط المتصالب في البروتينات المعمّرة؛ إنتاج المتقدرات للجذور الحرة، الضرر التأكسدي الذي يصيب النسج ولا يمكن إصلاحه يؤخر ظهور أمراض أواخر العمر، بما فيها: اضطرابات المناعة الذاتية(1)؛ السرطانات؛ أشكال السادcataract؛ الداء السكري؛ فرط ضغط الدم؛ الفشل الكلوي |
بيانات ضئيلة عن الرئيسات ولكنها مدهشة
مازال الوقت مبكرا جدا للحكم على قدرة الحميات الغذائية ذات السعرات المنخفضة على إطالة الحياة أو فترة الشباب عند القرود مع مرور الزمن. غير أن الدراسات تمكنت من قياس تأثيرات تحديد السعرات فيما يسمى بالواسمات (العلامات) الحيوية biomarkers للشيخوخة: وهي خاصيات تتغير بصفة عامة مع تقدم السن، وقد تساعد على التنبؤ بمدى الصحة أو العمر في المستقبل. وكمثال على ذلك، إن ضغط الدم يرتفع عند الرئيسات primates مع تقدمها في العمر، كما ترتفع مستويات الأنسولين والگلوكوز في دمها، وتتناقص في الوقت نفسه الحساسية للأنسولين (وهي قدرة الخلايا على التعامل مع الگلوكوز ومعالجته استجابة لإشارات من الأنسولين). وينطوي تأجيل حدوث هذه التغيرات على دلالة ضمنية تشير إلى احتمال قدرة النظام الغذائي التجريبي على إبطاء حدوث بعض مظاهر الشيخوخة على أقل تقدير.
وفي عام 1987 ابتدأت إحدى الدراسات على القرود بإشراف <S.G. روث> من المعهد الوطني للشيخوخة. ويتم في هذه الدراسة تفحُّص قرود الرَّيْص rhesusالتي تعيش نمطيا نحو 30 سنة وتصل أحيانا إلى 400 سنة، والقرود السنجابية التي يندر أن تبقى حية مدة تزيد على 20 سنة. وقد بوشر بتحديد النظام الغذائي لبعض هذه الحيوانات وهي لمّا تزل فتية (في عمر سنة أو سنتين)، كما بُدئ لدى بعضها الآخر بعد مرحلة البلوغ . أما المشروع الثاني الذي يشمل دراسة قرود الرَّيْص فحسب، فقد استهله <B .W. إرشلر> و <W .J. كمنتز> و<B .E. رويكر> من جامعة وسكنسن-ماديسون عام 1989، وقمتُ بالانضمام إلى هذا الفريق بعد سنة. لقد ابتدأ تقييد السعرات في غذاء قرود دراستنا وهي في بداية سن البلوغ، أي في عمر 8 إلى 14 سنة. وتفرض كل من الدراستين مستوى من تقييد السعرات يقل بنسبة 30% تقريبا عن مدخول الحيوانات الضابطة التي تتغذى بشكل اعتيادي.
نظرية في الشيخوخة (الهرم)
إن التفسير الأول لسبب شيخوختنا يضع الكثير من اللوم على الجذور الحرة المخرِّبة (الأحمر) المتولدة في المتقدرات وهي مصانع لتزويد الخلية بالطاقة. وتتشكل الجذور (في اليسار) حينما تستخدم آلة إنتاج الطاقة في المتقدرات (ضمن إطار أسود) الأكسجين والغُذَيّات لتركب ATP (ثالث فسفات الأدينوزين) ـ وهو الجزيء (الأخضر) الذي يزود معظم النشاطات الأخرى للخلية بالطاقة. وتهاجم تلك الجذور الآلة ذاتها ودنا DNAالمتقدرات اللازمة لإنشاء أجزاء منها، وقد تلحق بها أذى مستديما. وبوسعها أيضا أن تُلحِق ضررا بمكونات أخرى في المتقدرات وفي الخلايا.
وترى هذه النظرية أن الضرر المتراكم الذي يصيب المتقدرات يُحدث مع مرور الزمن (في اليمين) هبوطا في إنتاج ATP، كما يولّد أيضا إنتاجا متزايدا في الجذور الحرة؛ الأمر الذي يفضي إلى تسارع تخرب مكونات الخلية. وحينما تغدو الخلايا بحاجة ماسة إلى الطاقة ويعتريها الضرر، فإنها تقوم بوظيفتها على نحو أقل كفاءة. وحينئذ تبدأ النُّسُج التي تشكلها هذه الخلايا بالضعف، كما يصاب الجسم بأكمله بالوهن. ويرتاب العديد من الباحثين في أن السبب الرئيسي لإبطاء الشيخوخة عن طريق تقييد السعرات هو تقليل إنتاج الجذور الحرة في المتقدرات. تتألف آلة إنتاج الطاقة في المتقدرات بشكل أساسي من سلسلة نقل الإلكترونات: وهي سلسلة من أربعة معقّدات جزيئية كبيرة (الرمادي) ومن معقديْن جزيئيين صغيرين (الأخضر الفاتح). إن المعقدين I و II (أقصى اليسار) يلتقطان الإلكترونات (الأسهم الذهبية) من الطعام ويوصلانها إلى اليوبيكوينون ubiquinone، وهو الموضع الذي يتم فيه توليد معظم الجذور الحرة (الأحمر). ويرسل اليوبيكوينون هذه الإلكترونات عبر بقية أقسام السلسلة إلى المعقد IV، حيث تتفاعل مع الأكسجين والهِدْروجين لتشكل الماء. إن تدفق الإلكترونات يحرض البروتونات (H+) على الجريان (الأسهم الزرقاء) إلى معقد آخر أيضا ـ سنتاز ATP (الأرجواني) ـ يجتذب الطاقة التي تولدها البروتونات لتصنيع ATP (الأخضر الغامق). وتتشكل الجذور الحرة حينما تهرب الإلكترونات من سلسلة النقل وترتبط بالأكسجين الواقع إلى جوارها. |
إن النتائج الأولية التي تم التوصل إليها حتى الآن مشجعة. فالحيوانات التي تتبع النظام الغذائي في كل من الدراستين تبدو في صحة جيدة وسعيدة، ولو أنها تواقة إلى وجباتها؛ كما يبدو أن أجسامها تستجيب لهذا النظام تماما كما تستجيب القوارض. إن ضغط دمها ومستويات الگلوكوز فيه أقل مما هي في الحيوانات الضابطة، وحساسيتها للأنسولين أعظم، كما أن مستويات الأنسولين في دمها أقل أيضا.
ولم يقم أحد حتى الآن بدراسات دقيقة الضبط حول أثر تحديد السعرات الطويل الأمد عند الناس ذوي الوزن المتوسط وعلى امتداد الزمن. إن البيانات المستمدة من مجموعات سكانية أجبرها الفقر على العيش على سعرات قليلة نسبيا لا تقدم معلومات موثوقة يُعتمد عليها؛ لأن مثل هذه الزمر عاجزة بصفة عامة عن أن تتوصل إلى الحصول على المقادير الكافية من الغُذَيّات (المواد الغذائية) nutrients الأساسية. ومع ذلك، فبعض الدراسات على البشر تزود بأدلة غير مباشرة على أن تقييد السعرات قد يكون ذا فائدة. ولنتأمل شعب أوكيناوا الذي يستهلك الكثير من أفراده غذاء قليل السعرات، إلا أنه يمده بالغُذَيّات اللازمة. إن نسبة المعمّرين المئويين (أي الذين بلغت أعمارهم 100 عام أو أكثر) فيه مرتفعة؛ إذ تصل إلى 40 ضعف النسبة الموجودة في أي من الجزر اليابانية الأخرى. إضافة إلى ذلك، تشير المسوح الوبائية التي أُجريت في الولايات المتحدة وفي مناطق أخرى إلى أن سرطانات معينة، ونخص منها بالذكر سرطانات الثدي والقولون والمعدة، تحدث بتواتر ومعدلات أقل بين الناس المعروف عنهم قلة مدخولهم من السعرات.
وقد تم الحصول أيضا على نتائج مثيرة للاهتمام حينما أُجبر ثمانية أشخاص يعيشون في بيئة منغلقة مكتفية ذاتيا ـ هي المحيط الحيوي 2، في أريزونا ـ على تقليص مدخولهم الغذائي بشكل حاد وعلى امتداد سنتين بسبب محاصيلهم التي جاءت أفقر وأقل مما توقعوه من ثمار جهودهم في إنتاج الغذاء. وقد كانت الجدارة والمزايا العلمية للمشروع ككل موضع تساؤل، ولكننا نحن المهتمين بتأثيرات النظم الغذائية ذات السعرات المنخفضة كنا سعداء لأن <L .R .والفورد >من جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس ـ وهو خبير في موضوع تحديد السعرات وعلاقته بالشيخوخة ـ (والموجه العلمي لي)، كان طبيب الفريق. وقد ساعد والفورد زملاءه على تحاشي حدوث سوء التغذية، وراقب العديد من المظاهر الفسيولوجية في تلك الزمرة. وتُظهر تحليلاته أن تقييد السعرات أدى إلى انخفاض في ضغط الدم وفي مستويات الگلوكوز ـ تماما كما يحدث عند القوارض والقرود. كذلك انخفض كوليسترول المصل الإجمالي.
إن النتائج المستمدة من التجارب الجارية في مجال تقييد السعرات لدى قرود الرَّيْص rehuses عاجزة حتى الآن عن إظهار ما إذا كان هذا التقييد سيطيل مدة البقاء. بيد أن مقارنة مجموعة ضابطة (في اليسار) بحيوانات أُلزمت نظاما غذائيا صارما (في اليمين) مدة خمس سنوات تشير إلى أن بعض المقاييس البيولوجية التي ترتفع نمطيا مع تقدم العمر تتغير على نحو أشد بطئا في حيوانات التجربة. إن ضغط الدم الآن أقل بشكل طفيف فقط في المجموعة التي جرى تحديد السعرات لديها، ولكنه كان أقل بصورة واضحة في معظم فترات الدراسة. |
وربما كانت النتائج التي أظهرتها الدراسات عند القرود والبشر أولية، غير أن البيانات المستمدة من دراسة القوارض تبين بشكل قاطع أن تحديد السعرات قادر على أن يؤدي إلى ظهور العديد من التأثيرات النافعة. ويطرح التنوع في هذه التأثيرات بعض المشكلات أمام الباحثين: تُرى أي من التغيرات العديدة الموثقة (إن وجدت) يسهم على نحو أكبر في زيادة طول العمر وفي الإبقاء على الشباب؟ إن العلماء لم يتوصلوا بعد إلى إجماع في الرأي، غير أنهم استبعدوا بعض الأفكار والفروض التي كانت تُعَدّ مقبولة في وقت ما. فمثلا، من المعروف أن مدخول الطاقة الضئيل يعوق النمو، وكذلك يقلص كمية الدهن (الدسم) في الجسم؛ وكان كلا هذين التأثيرين موضع جدل رئيسي سابقا باعتبارهما التغيرات الأساسية التي تؤدي إلى ازدياد طول العمر، إلا أن قيمتهما قد تضاءلت الآن وأُسقطا من الحساب.
ومع ذلك، يبقى العديد من الفرضيات الأخرى قيد الدراسة، وتحظى كلها ببعض الدعم التجريبي على أقل تقدير. وتجد إحدى هذه الفرضيات أن تحديد السعرات يُبْطِئ معدل الانقسام الخلوي في نسج عديدة. وبما أن تكاثر الخلايا غير المنضبط هو سمةٌ مميزة للسرطان، فإن ذاك التغير قادر على إمكانية توضيح السبب الذي يقلل من حالات وقوع العديد من سرطانات أواخر العمر في الحيوانات التي أُطعمت أغذية قليلة السعرات. وهناك افتراض آخر يقوم على النتيجة القائلة إن تحديد السعرات يميل إلى خفض مستويات الگلوكوز، وإن انخفاض نسبة الگلوكوز في الدوران (الدورة الدموية) يبطئ من تراكم السكر على البروتينات ذات الحياة المديدة، وبذا يعدّل التأثيرات الضارة الناجمة عن استفحال التراكم.
وجبة طعام رئيسة لشخص واحد تعطي نحو 2000 سعرة (في الأعلى) ويمكن تخفيضها بشكل واضح ـ بنحو ثلث السعرات (في الأسفل) ـ لشخص يتبع نظاما غذائيا مقيد السعرات. وبغية اجتناب سوء التغذية ينبغي على الناس الذين يتبعون برامج كهذه أن يختاروا أطعمة غنية بالغُذَيّات (المواد الغذائية) كالأطعمة المبينة أعلاه. |
تفسير جذري
مع ذلك، فإن وجهة النظر التي لقيت أكبر قدر من الدعم المُقْنع هي التي ترى أن تقييد السعرات يطيل أمد البقاء والحيوية، وأن ذلك يتم بصفة أساسية عن طريق الحد من إصابة وتأذي المتقدرات mitochondria بالجذور الحرة (3)freeradicals . والمتقدرات هي بنى صغيرة جدا تقع داخل الخلايا وتعمل كمصانع تنتج الطاقة للخلايا. أما الجذور الحرة فهي جُزَيْئات شديدة التفاعل (مشتقة عادة من الأكسجين) تحمل على سطحها إلكترونا غير مزدوج (مشفوع) unpaired. والجزيئات في هذه الحالة ميالة إلى أكسدة الإلكترونات على نحو مدمر لها أو إلى انتزاعها من أي مركب تواجهه هذه الجزيئات. وقد اتُّهمت الجذور الحرة بالإسهام في حدوث الشيخوخة وذلك منذ عقد الخمسينات حينما قال <D. هارمان> (من كلية الطب في جامعة نبراسكا) بأن تشكُّل هذه الجذور الحرة في أثناء الأيض (الاستقلاب) الطبيعي يمزق الخلايا تدريجيا ويوقع الفوضى فيها. ولكن في عقد الثمانينات بدأ العلماء يدركون أن المتقدرات ربما كانت هي الأهداف التي تتلقى أكبر الضربات.
إن فرضية الجذور الحرة للمتقدرات في مسألة الشيخوخة مستمدة جزئيا من فهم كيفية إنتاج المتقدرات لـ ATP (الأتب، أو ثالث فسفات الأدينوزين) ـ وهو الجزيء الذي يزود معظم العمليات الخلوية بالطاقة، ومثال ذلك ضخ الأيونات عبر أغشية الخلايا، وتقليص ألياف العضلات، وإنشاء البروتينات. ويتم اصطناع ATP عبر متوالية معقدة جدا من التفاعلات، ولكنها تقتضي بالضرورة نشاطا تقوم به سلسلة من المعقدات الجزيئية molecular complexes منطمرة في غشاء المتقدرات الداخلي. وبمساعدة الأكسجين، تستخلص هذه المعقدات الطاقة من الغُذَيّات وتستخدمها في تصنيع ATP.
ولسوء الحظ، إن آلية المتقدرات في سحب الطاقة من الغذيات تؤدي أيضا إلى إنتاج جذور حرة كمُنْتَج ثانوي by-product. وفي الحقيقة، يُعْتقد أن المتقدرات هي المسؤولة عن تكوين أكثر الجذور الحرة في الخلايا. وأحد هذه المنتجات الثانوية هو جذر أكسيد فائق (superoxide radical (O2–. (وتمثل النقطة الموجودة في الصيغة الإلكترونَ غير المزدوج). وهذا الجذر المنحرف عن جماعته مدمِّر بحكم صفاته الخاصة، ولكن بوسعه أن ينقلب إلى بيروكسيد الهدروجين (H2O2)، الذي لا يُعدّ جذرا حرا من الوجهة التقنية، غير أنه يستطيع أن يشكل بسهولة وبسرعة جذر الهِدْروكسيل الحر ) ( –.OH )الشديد العدوانية.
وما إن تتشكل الجذور الحرة حتى تصبح قادرة على إلحاق الأذى بالبروتينات والليپيدات (الشحوم) والدنا DNA في أي موضع في الخلية. بيد أنه من المعتقد أن مكونات المتقدرات ـ بما فيها آلية تركيب ATP ودنا المتقدرات الذي يسهم في بعض تلك الآلية ـ هي الأسرع تأثرا بالضرر. ومن المفترض أن تعرَّضها للخطر يعود جزئيا إلى سكناها في ـ أو قرب ـ موقع «المركز التحتاني»(4) لتولد الجذور الحرة. لهذا فهي تبقى على الدوام عرضة لقذائف العوامل agents المؤكسدة. وفضلا عن ذلك، إن دنا المتقدرات يفتقر إلى التِّرْس البروتيني الذي يساعد على حماية دنا النواة من أذى العوامل المخربة. ومما يتوافق مع وجهة النظر هذه هو أن دنا المتقدرات يعاني الضرر المؤكسد على نحو يفوق كثيرا ما يعانيه الدنا النووي المستمد من النسيج ذاته.
ويرى أنصار فرضية الجذور الحرة للمتقدرات في إحداث الشيخوخة، أن الضرر الذي يصيب المتقدرات عن طريق الجذور الحرة يتدخل في نهاية المطاف في فعالية إنتاج ATP ويزيد من إنتاج الجذور الحرة. وهذه الزيادة في الجذور الحرة تقوم بدورها بتسريع الإصابة المؤكسِدة لمكونات المتقدرات، والتي تثبط إنتاج ATP إلى درجة أكبر. وفي الوقت نفسه، تهاجم الجذور الحرة المكونات الخلوية خارج المتقدرات مؤدية بذلك إلى إضعاف أداء الخلية لوظيفتها. وما إن تصبح الخلايا أقل كفاءة حتى تتبعها في ذلك النُّسُج والأعضاء المؤلفة منها، ويغدو الجسم ذاته أقل قدرة على دحر التحديات التي تواجهه للحفاظ على استقراره. ويحاول البدن جاهدا إبطال التأثيرات المؤذية للعوامل المؤكسدة. وتملك الخلايا إنزيمات مضادة للمؤكسدات تزيل سمية الجذور الحرة، كما أنها تصنع إنزيمات أخرى تُصلح ما يفسده الضرر التأكسدي. ولكن ليس أي من هذه النُّظُم فعالا 100%، لذا يحتمل أن تتراكم إصابة كهذه مع مرور الزمن.
الدعم التجريبي
إن الاقتراح القائل بأن الشيخوخة تنشأ إلى حد بعيد عن الضرر الذي تحدثه الجذور الحرة وتلحقه بالمتقدرات وبالمكونات الخلوية الأخرى لقي في الآونة الأخيرة دعما مستمدا من نتائج عديدة. ففي أحد الأمثلة اللافتة للنظر قام <S .R. سوهال> و <C .W.أور>وزملاؤهما بجامعة Southern Methodist في دالاس باستقصاء قوارض وكائنات حية أخرى، بما فيها ذباب الفاكهة وذباب المنازل والخنازير والأبقار. وقد لاحظوا لديها مع التقدم في العمر زيادات في توليد المتقدرات للجذور الحرة، وفي التغيرات المؤكسدة لغشاء المتقدرات الداخلي (حيث يتم اصطناع ATP) ولبروتينات المتقدرات ودناها DNA. كما لاحظوا أيضا أن ارتفاع معدلات إنتاج الجذور الحرة مترابط بقصر مدى العمر المتوسط وبقصر المدى الأقصى له في أنواع عديدة.
وينتج من ذلك أيضا أن صنع ATP يتناقص مع التقدم في العمر في الدماغ والقلب والعضلات الهيكلية؛ وهو الأمر الذي يمكن توقع حدوثه إن كانت بروتينات المتقدرات ودناها في تلك النُّسُج قد بلغ التلف منها بسبب الجذور الحرة حدًّا لا يمكن إصلاحه. وتقع أيضا تناقصات مشابهة في النسج البشرية ربما ساعدت على معرفة سبب شيوع الأمراض التنكسية degenerative diseases في الجهاز العصبي وفي القلب في أواخر الحياة والسبب الذي يجعل العضلات تفقد بعضا من كتلتها وتضعف.
ومن فريق سوهال يأتي أقوى الدعم المؤيد للفرضية القائلة إن تقييد السعرات الحرارية يؤخر الشيخوخة عن طريق إبطاء ضرر المتقدرات التأكسدي. وحينما نظر الباحثون إلى المتقدرات التي جُمعت من دماغ الفئران ومن قلبها وكليتيها، اكتشفوا أن مستويات جذر الأكسيد الفائق وبيروكسيد الهدروجين كانت أقل بشكل ملحوظ عند الحيوانات التي خضعت لتقييد طويل الأمد في السعرات، مما هي في الحيوانات الضابطة التي تم إطعامها على نحو اعتيادي. إضافة إلى ذلك، لوحظ أن الزيادة الواضحة في إنتاج الجذور الحرة مع تقدم العمر، وهي التي ظهرت في المجموعات الضابطة، قد ضعفت في مجموعة التجربة بسبب تقييد السعرات المقدَّمة لها. وهذه الزيادة التي ضعفت كانت، فضلا عن ذلك، مترافقة بنقصان في مقدار الأذى التأكسدي الذي أصاب بروتينات المتقدرات ودناها. وتشير دراسة أخرى إلى أن تقييد السعرات يساعد على منع حدوث التغيرات المرتبطة مع تقدم العمر بنشاطات بعض الإنزيمات المضادة للتأكسد (المؤكسدات) ـ مع أن العديد من الباحثين، وأنا منهم، يرتابون في قدرة الالتزام بنظام غذائي صارم على تخفيف الضرر المؤكسِد عن طريق إبطاء إنتاج الجذور الحرة كعامل أساسي.
تُرى ما الآلية التي قد يفلح تقييد السعرات من خلالها في الإقلال من توليد الجذور الحرة؟ لا أحد يعرف حتى الآن. وتدّعي إحدى الفرضيات أن بوسع نقصان المدخول من السعرات أن يُنقص إلى حد ما من استهلاك الأكسجين من جانب المتقدرات ـ وذلك إما في أنماط الخلايا كلها أو في أنماط منتقاة منها. وبدلا من ذلك، يمكن القول إن النُّظُم الغذائية ذات السعرات المنخفضة يمكنها أن تزيد من فاعلية المتقدرات في استخدام الأكسجين، وبذا يقل عدد الجذور الحرة التي يتم صنعها لكل وحدة من الأكسجين المستهلَك. ومن المفترض أن الاستهلاك الأقل من الأكسجين أو استهلاكه بشكل أكثر كفاءة سيؤدي إلى تشكل جذورٍ حرة أقل. كما تشير النتائج الحديثة إلى أن تحديد السعرات يستطيع أن يقلل إلى الحد الأدنى من توليد الجذور الحرة في المتقدرات عن طريق إقلال مستويات هرمون الدرقية الجائل والمعروف باسم ثالث يود التيرونين triidothyronine أو ما يرمز له اختصارا T3، بوساطة آليات مجهولة.
ما تطبيقات ذلك على الإنسان؟
وبانتظار الوقت الذي تحقق فيه البحوث في مجال الرئيسات خطوات تقدم أكثر، فإن قلة من العلماء سيكونون على استعداد للنصح بأن تباشر أعداد ضخمة من الناس اتّباع نظام غذائي صارم تُقَيَّد فيه السعرات. ولكن هذا لا يمنع من القول إن النتائج المتراكمة تقدم حقا بعض الدروس الواقعية لأولئك الذين يعجبون ويتساءلون عن طريقة تنفيذ مثل هذه البرامج في البشر.
إن أحد المعاني الضمنية هو أن التقليص الشديد للمدخول الغذائي قد يكون ضارا بالأطفال، ذلك إذا أُخذت بالحسبان إعاقته لنمو القوارض الصغيرة. ومادام الأطفال أيضا لا يستطيعون تحمل الجوع الشديد كما يتحمله الكبار، فمن المفترض إذًا أنهم أكثر قابلية للإصابة بأي من التأثيرات السلبية التي لم يُدرَك كنهها بعد والتي قد تحدث نتيجة لتناول غذاء قليل السعرات (ولو أن تقييد السعرات ليس مكافئا للمجاعة). إن البدء بتقييد السعرات حول سن العشرين كفيل بأن يبعد مثل هذه العوائق وربما تمكن من تحقيق أعظم إطالة للحياة.
ومن الواجب أيضا دراسة السرعة التي يتم تقليل السعرات بحسبها. لقد كان الباحثون الأوائل عاجزين عن إطالة مدة بقاء الجرذان حية عندما باشروا ضبط قوتها وهي في سن البلوغ. ويتراءى لي أن سبب الإخفاق كان في إخضاع الحيوانات للنظام الغذائي على نحو فجائي جدا، أو في إعطائها سعرات قليلة جدا، أو في الأمرين معا. وحينما أجريت مع زملائي دراسة على فئران تبلغ سنة واحدة من العمر وجدنا أن إنقاص السعرات بشكل تدريجي وحتى نحو 65% من المقدار الاعتيادي أدى في الحقيقة إلى إطالة مدة البقاء حية (البُقْيا).
كيف يمكن تحديد مدخول السعرات الملائم للإنسان؟ إن من الصعوبة بمكان الاعتماد على الاستنباط من القوارض، إلا أن بعض النتائج تتضمن أن العديد من الناس يمكنهم تحقيق أفضل النتائج عن طريق استهلاكهم كمية تجعل أوزانهم أقل بنسبة 10-%20 من نقطة استقرار set point وزنهم الشخصية. إن نقطة استقرار الوزن هي أساسا الوزن الذي جرت «برمجة» الجسم على الحفاظ عليه، إن لم يأكل الفرد تجاوبا مع ما تريده تلميحات خارجية، كالإعلانات التلفزيونية مثلا. والمشكلة في هذا النهج هي أن تقرير نقطة الاستقرار الخاصة بفرد ما أمر مخادع. فعوضا عن السعي إلى تعرّف نقطة الاستقرار الخاصة يستطيع الملتزمون بالقوت المحدد (بمساعدة من مستشاريهم الصحيين) الاشتغال بنوع من التجربة والخطأ كي يتوصلوا إلى مستوى السعرات الذي ينقص گلوكوز الدم أو مستوى الكوليسترول أو بعض القيم الصحية الأخرى تبعا لمقادير مسبقة التحديد.
وتدل الأبحاث التي أجريت على الحيوانات أيضا على أن النظام المعقول ذا السعرات المقيدة والملائم للإنسان قد يقتضي مدخولا يوميا يعادل نحو غرام واحد (0.04 أونس) من البروتين وما لا يزيد على نصف غرام من الدهن (الدسم) لكل كيلوغرام (2.2 پاوند) من وزن الجسم الحالي. ويشمل النظام الغذائي أيضا تناول ما يكفي من الكربوهدرات المعقدة (السلاسل الطويلة من السكاكر الموجودة بغزارة في الفواكه والخضر) من أجل الوصول إلى المستوى المرغوب في السعرات. ولكي يحصل الإنسان على الحصص اليومية الموصى بها من الغُذَيّات الضرورية كلها، عليه أن يختار أطعمته بعناية فائقة وربما كان عليه أن يتناول فيتامينات ومكملات أخرى.
إن من واجب كل من اعتزم اتباع نظام غذائي مقيد السعرات أن يفكر أيضا في المساوئ الكامنة وراء معاناة ألم وغصة الجوع، وأن عليه بكل تأكيد اتباع البرنامج تحت إشراف الطبيب. إن هبوط الوزن الذي لا مناص من حدوثه على نحوٍ يعتمد على شدة تحديد الغذاء قد يعوق الخصوبة في الإناث. وكذلك، إذا ترافقت الحالة المديدة من اللاإباضة بنقصان في إنتاج الإستروجين فقد تزيد من خطورة حدوث تخلخل العظام osteoporosis ونقصان الكتلة العضلية مع التقدم في العمر. ويمكن القول أيضا إن تقييد السعرات قد يعرض للخطر قدرة الإنسان على مقاومة الكرب (الضائقة الصحية) stress كالإصابة أو الخمج أو التعرض لدرجات الحرارة الشديدة. ومن الغريب حقا أن مقاومة الكرب لم تُدرس إلا قليلا في القوارض التي أُلزمت نظاما غذائيا ذا سعرات قليلة، ولهذا لم تقدم دراسة القوارض إلا معلومات ضئيلة حول هذه المسألة.
وقد يستغرق الأمر مرور 10 أو 20 سنة أخرى قبل أن يكوّن العلماء فكرة ثابتة عما إذا كان بوسع تقييد السعرات أن يعود بالنفع على البشر، كما هو واضح في الجرذان والفئران والعديد من المخلوقات الأخرى. وفي غضون ذلك، على الباحثين الذين يقومون بدراسة هذه المداخلة التأكد من أنه لا بد لهم أن يتعلموا الكثير عن طبيعة الشيخوخة وأن يكوّنوا ويكتسبوا أفكارًا ومعلومات حول كيفية إبطائها ـ سواء أكان ذلك عن طريق تحديد السعرات الحرارية، أم بوساطة العقاقير التي تنتج تأثيراتِ اتباع نظامٍ غذائي أم من خلال سبلٍ تنتظر الاكتشاف.
المؤلف
Richard Weindruch
حصل على الدكتوراه في المَرَضيات التجريبية من جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس. وهو أستاذ مشارك في الطب بجامعة وسكنسن-ماديسون، ومدير مشارك في معهد الشيخوخة التابع للجامعة؛ كما أنه باحث في إدارة المتمرسين في بحوث الشيخوخة بالمركز التربوي والسريري في ماديسون. ولقد كرس جهوده لدراسة موضوع تقييد السعرات (الكالوريات) وتأثيراته في الجسم. وهو يمارس في حياته الشخصية تقييدا معتدلا في السعرات، ولكنه لم يحاول إلزام أسرته أو قِطّتيْه اتباع هذا النظام الغذائي.
مراجع للاستزادة
THE RETARDATION OF AGING AND DISEASE BY DIETARY RESTRICTION. Richard Weindruch and Roy L. Walford. Charles C. Thomas, 1988.
FREE RADICALS IN AGING. Edited by Byung P. Yu. CRC Press, 1993.
MODULATION OF AGING PROCESSES BY DIETARY RESTRICTION. Edited by Byung P. Yu. CRC Press, 1994.
Scientific American, January 1996
(1) سميت باسم أول من قدمها إلى المتحف البريطاني، طول الأنثى نحو 5 سم والذكر أقصر كثيرا. (التحرير)
(2) autoimmune ويقال أيضا «اضطرابات ذاتية المناعة». (التحرير)
(3) [انظر: “لماذا نشيخ”، (مجلة العلوم)، العدد 8/9(1995) صفحة 50]. (التحرير)
(4) ground zero: هو تلك النقطة من سطح الأرض الواقعة مباشرة تحت مركز انفجار قنبلة نووية (hypocenter). (التحرير)