ڤيروسات جديدة
إن ڤيروسات الحمّيات النزفية هي من أشدّ العوامل البيولوجية
المعروفة خَطَرًا. وفي كل عام تُكتشف ڤيروسات جديدة تساعد
على انتشارها التغيراتُ البيئية الطبيعية منها وغير الطبيعية.
<B.لجينو>
في الشهر 5/1993توفي زوجان شابان في نيومكسيكو بفاصل بضعة أيام فقط بسبب ضائقة distress تنفسية حادة. وقد عانى كل منهما ارتفاعا شديدا مفاجئا في درجة الحرارة مع مَعَص cramp عضلي وصداع وسُعال عنيف. وبادر الباحثون إلى محاولة معرفة ما إذا كانت هناك حالات مشابهة سُجلت في أماكن أخرى. وسرعان ما تعرّفوا أربعا وعشرين حالة حدثت بين 1/12/1992 و7/6/1993 في نيومكسيكو وكولورادو ونيڤادا، وتوفي من بين هؤلاء أحد عشر مريضا.
جاءت نتائج الاختبارات البكتيرية (الجرثومية) والطفيلية والڤيروسية التي تمت في الولايات المصابة سلبيةً كلها. ثم أُرسلت عينات إلى مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها (CDC) في أطلنطا حيث أُجريت اختبارات على سائر الڤيروسات المعروفة. وفي نهاية الأمر كشف الباحثون في مصل serum بضعة مرضى أضدادا مضادة لصنف class يعرف باسم ڤيروسات هانتا hantaviruses. ودلت الدراسات التي استَخْدمت البيولوجيا الجزيئية أن المرضى كانوا قد أصيبوا بعدوى (خَمَجِ) infection نمطٍ غير معروف من ڤيروسات هانتا، يطلق عليه الآن اسم الڤيروس سِنْ نومبر Sin Nombre (وهي كلمة اسبانية تعني «اللااسم له»).
تُظهر الصورة أعضاء الصليب الأحمر الزائيري وهم يدفنون ضحايا داء الڤيروس إيبولا في كيكويت في بداية عام 1995. لقد سبب الوباء موت 190 شخصا على أقل تقدير. كما أن ضَعْف الإجراءات الصحية في المستشفيات والخطر الناجم عن ممارسات جنائزية متبعة وغير سليمة، ساعدا على استفحال العدوى (الخمج). |
وباستخدام تقنيات تحليلية حديثة أكثر كفاءة، يتم الآن تعرُّف عدد متزايد من العوامل المُعْدية (الخامجة). ومعظم تلك العوامل ڤيروسات كان من الممكن أن تمر قبل عشر سنوات من غير أن تُلاحَظ، أو أن تؤخذ خطأ على أنها أنماط معروفة. ولم تكن العدوى التي سبّبها الڤيروس سِنْ نومبر فريدة الحدوث. ففي العام 1994 أصيب بالمصادفة باحث من كلية طب جامعة ييل بعدوى الڤيروس سابياSabia الذي عُزل (استُفْرد) أول مرة عام 19900 من مهندس زراعي توفي بسبب مرض مفاجئ بولاية ساو باولو في البرازيل.
ويسبب كل من الڤيروس سابيا والڤيروس سِنْ نومبر أمراضا تصنف على أنها حميات نزفية hemorrhagic fevers. ففي بدء حدوثها يشكو المرضى حمى يعقبها تدهور عام في الصحة يغلب في أثنائه ظهور نزف. ويتضح النزف السطحي من خلال علامات جلدية كالحَبَر petechiae (وهو تسرب كميات ضئيلة من الدم من الأوعية الدموية تحت سطح الجلد) أو الكدمات bruises أو الفرفريةpurpura (بلونها الأرجواني المميز). وقد أعقب ذلك مضاعفات قلبية وعائية وهضمية وكلوية وعصبية. وفي أشد الحالات خطورة يموت المريض بسبب النزف الشديد، وأحيانا بسبب الفشل في وظائف أعضاء متعددة.
تنقسم ڤيروسات الحميات النزفية إلى عدة عائلات (فصائل). وأول ما عُرِف منها عائلة الڤيروسات المُصفِّرة flaviviruses، وهي تشمل الڤيروس أماريل Amaril الذي يسبب الحمى الصفراء وينتقل بوساطة البعوض؛ و ڤيروسات أخرى تسبب أمراضا منقولة بوساطة البعوض والقُرّاد، كحمى الضَّنك dengue. أما الڤيروسات التي سُلط عليها الضوء مؤخرا فتنتمي إلى ثلاث عائلات أخرى هي: الڤيروسات الرملية arenaviruses والڤيروسات البُنْياوية bunyaviruses (وهي زمرة تضم ڤيروسات هانتا) والڤيروسات الخيطية filoviruses. وتحمل هذه أسماء مثل: پومالا Puumala وجواناريتو Guanarito وإيبولا Ebola، مستعارة من الأماكن التي شهدت جائحات (فاشيات) outbreaks تلك الأمراض أول مرة.
إن الڤيروسات الرملية والبُنْياوية كلَّها المسؤولةَ عن الحميات النزفية منتشرةٌ على نحو طبيعي في مجموعات مختلفة من الحيوانات. وفي الواقع، من غير المألوف أن تنتقل هذه مباشرة من شخص إلى آخر، وإنما ترتبط الأوبئة بوجود حيوانات تعمل كمستودعات للڤيروس وأحيانا كنواقل تساعد على إيصاله إلى البشر. وهناك أنواع عديدة من القوارض تشكل مواطن ممتازة لهذه الڤيروسات؛ إذ إن القوارض لا تُبْدي أية علائم عندما تصاب بالعدوى. وبالرغم من ذلك، فهي تطرح جسيمات ڤيروسية طوال حياتها في برازها، وفي بولها بصفة خاصة. أما فيما يتعلق بالڤيروسات الخيطية، فمازالت هذه سرا غامضا لأننا لا ندري كيف يتم انتقالها.
لعل ڤيروسات الحميات النزفية هي من بين أكبر الأمثلة خطرا عما يعرف بشكل شائع بأنه المُمْرِضات المنبثقة (الجديدة) emerging pathogens. وليست هذه جديدة في حقيقتها، بيد أن الطفرات mutations أو التأشُّبات الجينية geneticrecombinations بين الڤيروسات الموجودة يمكنها أن تزيد من فَوْعتها (شدة إمراضها) virulence. وما يبدو أنه ڤيروسات جديدة ما هو إلا ڤيروسات كانت موجودة على العموم منذ ملايين السنين وظهرت إلى السطح فقط حينما تغيرت الشروط البيئية. وتتيح هذه التغيرات للڤيروس فرص التضاعف والانتشار في الكائنات الحية العائلة (الثويَّة)، مما يؤدي إلى ظهور أمراض جديدة في بعض الأحيان.
تختلف ڤيروسات الحميات النزفية اختلافا كبيرا في شكلها تحت المجهر الإلكتروني. الڤيروس لاسا Lassa ((a الموجود في أفريقيا هو ڤيروس رملي ذو شكل كروي نموذجي. تسبب ڤيروسات هانتا ((b أمراضا مختلفة في مناطق كثيرة من العالم. ڤيروس التهاب الدماغ (c) المنقول بالقُراد هو مثال على ڤيروس مُصَفِّر، وتضم الڤيروسات المصفِّرة ڤيروس الحمى الصفراء و ڤيروس حمى الضنك. الڤيروس إيبولا (d) هو أحد الڤيروسات الخيطية التي دعيت بهذا الاسم بسبب شكلها الشُّعَيْري. لقد تمت إضافة الألوان إلى الصور ابتغاء لمزيد من الإيضاح. |
تحسّن طرق التشخيص
إن البزوغ الظاهر لڤيروسات جديدة يُردُّ أيضا إلى التقدم السريع في تقنيات تشخيص الڤيروسات. فالشخص الأول الذي تم تشخيص إصابته بالڤيروس سابيا في ساوباولو (أو ما يعرف بالحالة الدالة index case) كان يُظن في بادئ الأمر أنه يعاني الحمى الصفراء. ولكن العامل المسؤول حقا جرى تعرّفه فقط لأن العينة أُرْسِلت إلى مختبر مزود بالمعدات اللازمة لعزل الڤيروسات. ومثل هذا الأمر نادر الحدوث لأن أغلب ڤيروسات الحميات النزفية تنتشر في بلدان المناطق الحارة التي لا تملك مستشفياتها (مشافيها) وسائل التشخيص الدقيق وحيث الكثير من المرضى لا يدخلون المستشفيات. ومع ذلك، فإن تعرف الڤيروس سِنْ نومبر تعرّفًا سريعا لم يكن ممكنا إلا بفضل حصيلة سنوات عديدة من العمل المتراكم في دراسة ڤيروسات هانتا.
تسبب ڤيروسات هانتا بصفة نمطية (نموذجية) مرضا يعرف بالحمى النزفية المصحوبة بمتلازمة كُلْوِيّة renal syndrome. وقد ورد وصفها في نص طبي صيني يرجع تاريخ كتابته إلى ألف عام. واهتم الغرب بهذا المرض للمرة الأولى إبان الحرب الكورية حينما عاناه ما يزيد على 2000 من جنود الأمم المتحدة بين عامي 1951 و 1953. وعلى الرغم من الجهود التي بذلها العاملون في مجال الڤيروسات، فإنهم لم يتمكنوا من تعرف العامل المسبب حتى عام 1976، حينما استطاعوا إيجاده في رئتي أحد فئران الحقول (المستودع الرئيسي لهذا الڤيروس) في كوريا. ومرت أكثر من أربع سنوات قبل أن يتم عزل الڤيروس وتآلفه مع مزارع خلوية وتحضير كاشف reagent يسمح بإجراء اختبار مصلي تشخيصي، وهي كلها خطوات أساسية في دراسة أي ڤيروس. وقد أعطي الڤيروس اسم هانتان Hantaan، وهو اسم نهر في كوريا. وتبين فيما بعد أن هذا الڤيروس يسري (ينتشر) أيضا في اليابان وفي روسيا، وأن هناك ڤيروسا مشابها يسبب مرضا بالخطورة ذاتها ينتشر في بلاد البلقان.
الانتشار العالمي لڤيروسات الحميات النزفية
وهناك في أوروبا شكل من المرض مشابه وغير مميت. وقد وصف في السويد عام 1934 ودعي «وباء التهاب الكلى» nephritic epidemic؛ ولكن لم تُحدَّد هوية العامل المسبب له إلا عام 1980 حينما كُشف في رئات فأر (ڤول) الشواطئ bankvole. وقد عُزل هذا الڤيروس في فنلندا سنة 1983 وسمي پومالا، وهو اسم بحيرة في تلك البلاد. ويتفشى هذا المرض بانتظام في شمال غرب أوروبا؛ إذ سُجلت 505 حالات في شمال شرق فرنسا وحده منذ عام 1977. ويبدو أن عدد الحالات في تزايد، ولكن ربما يرجع ذلك إلى أن الأطباء يستخدمون الآن اختبارات حيوية أكثر مما كانوا يفعلون في الماضي، ولأن الاختبارات الحديثة غدت في السنوات الأخيرة أكثر حساسية ممّا كانت في السابق.
وهكذا لم يتم التوصل إلى الكواشف الضرورية لتعرّف ڤيروسات هانتا إلا في السنوات العشر الأخيرة فحسب. وبفضل هذه الكواشف والتقنية البحثية التي يمكنها استكشاف الأضداد التي تميز الأمراض المعدية (الأخماج) الحديثة، تمكن العلماء في مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها (CDC) في عام 1993 من تتبع المرض سريعا. ولكن وجود أضداد نوعية لا يشكل دوما دليلا أكيدا على عدوى بالعامل الممرض الموافق لذلك؛ إذ يمكن للتفاعل أن يكون إيجابيا كاذبا أو تفاعلا متصالبا cross reaction ناجما عن وجود أضداد مشتركة بين ڤيروسات مختلفة. إن استخدام تقانة أكثر حداثة تعتمد على التفاعل السلسلي للپوليمراز(1)polymerase chain reaction، أمر يسمح بتضخيم شدف fragments الجينات (أو مضاعفتها) وتسلسلها. وتقدم هذه الطريقة دليلا أكيدا على أن المرضى قد أصيبوا حقا بالڤيروسات هانتا. ولم يتطلب تعرف الڤيروس سِنْ نومبر أكثر من ثمانية أيام فقط.
العوامل المعدية
إن السبب الأوّلي لمعظم جائحات ڤيروسات الحميات النزفية هو الاختلال البيئي الناجم عن النشاطات البشرية. فالزيادة الكبيرة في عدد سكان العالم تُدخِل الاضطراب إلى النظم البيئية التي كانت مستقرة قبل عقود قليلة، كما تسهّل الاحتكاك بين الإنسان والحيوانات الحاملة للڤيروسات المُمْرضة للبشر. وقد كان هذا صحيحا بالنسبة إلى الڤيروس الرملي جواناريتو الذي اكتُشف عام 1989 في وباء حدث في فنزويلا. وهناك وجدت الحالات الخمس عشرة الأولى في مجتمع ريفي كان قد بدأ بإزالة منطقة الغابات الواقعة في أواسط البلاد. إن المستودع الحيواني لهذا الڤيروس هو نوع من فأر القطن. وقد انتقل العامل المعدي حينما أثار العمال التراب الذي كان ملوثا بالمخلّفات الجافة للفئران من بول وبراز، وهذه هي إحدى الطرق الأكثر تواترا في نقل العدوى. وتبع هذا ظهور ما يزيد على 100 حالة إضافية تم تشخيصها في المنطقة ذاتها.
ومنذ وقت بعيد عُرفت ڤيروسات رملية أخرى كمسببات مسؤولة عن الحميات النزفية. ومثال ذلك ڤيروس ماتشوپو Machupo الذي ظهر في بوليڤيا عام 19522، و ڤيروس جونين Junin الذي تم تعرفه في الأرجنتين عام 1958. ويمكن لهذين الڤيروسين كليهما أن يعيشا في نوع من القوارض يعرف باسم فئران المساءvesper mice ويتسلل النوع البوليڤي منها إلى مساكن الناس. وقد نجحت حملة مكافحة هذه الفئران في وقاية الإنسان من الإصابات بعدوى ماتشوپو منذ عام 1974 وحتى عهد قريب. ولكن وبعد ركود مؤقت دام 20 سنة عاد هذا الڤيروس وظهر في المكان ذاته وأصيب بالعدوى سبعة أشخاص من أسرة واحدة في صيف عام 1994.
ويسبب الڤيروس جونين ما يُسمى الحمى النزفية الأرجنتينية التي ظهرت أواخر الأربعينات في السهول المعشوشبة ذات الأطراف المترامية الواقعة غربي بوينس أيرس. وقد ساعدت زراعة مساحات شاسعة بالذرة على انتشار أعداد هائلة من ذلك النوع من فئران المساء التي تحمل الڤيروس، كما ساعدت على اشتداد المخالطة بين هذه القوارض والعمال الزراعيين. واليوم، تضع المكننة مشغلي الآلات الزراعية في مقدمة المعرَّضين للإصابة: فالآلات التي تَحْصُد وتَدْرُس في آن واحد لا تكتفي بإثارة سحب من التراب المعدي، بل تكوّن في الوقت ذاته ضَبوبا (رذاذا) aerosol من الدم المعدي حينما يسحق المزارعون، عَرَضًا، تلك الحيوانات.
ڤيروس حمى الصادع (الوادي المشقوق) هو ڤيروس بُنْياوي ينتقل بوساطة البعوض من الأبقار والأغنام إلى الإنسان. وتسمح إقامة السدود بتكاثر الحشرات بسبب ارتفاع المستوى الذي تكون الأرض تحته مشبعة بالماء، كما أنها توافر أماكن جديدة لاجتماع البشر والحيوانات معا؛ مما يؤدي إلى حدوث الأوبئة. يزداد تعرض العمال الزراعيين لخطر عدوى الڤيروسات الرملية في بعض المناطق في العالم. ويغلب أن تنتقل هذه الڤيروسات بوساطة القوارض. فالآلات الزراعية تثير بول القوارض الجاف الذي يحتوي على الڤيروسات، كما قد تسبب هذه الآلات تشكل ضَبوب (رذاذ) aerosol من دم مُعْدٍ لدى سحقها مصادفةً الحيوانات المصابة بالعدوى (المخموجة). |
وفي حدود ما نعلم لم يسبب الڤيروس الرملي سابيا Sabia حتى الآن إلا حالة وفاة واحدة فقط، ولكن يرجح أنه كان السبب في حالات وفيات أخرى في البرازيل لم يتم تشخيصها. وهناك خطر حقيقي من حدوث وباء إن لم تتغير الممارسات الزراعية التي تجعل سكان ساو باولو على اتصال بالقوارض الناقلة. أما في أوروبا فإن فأر (ڤول) الشواطئ وفأر الحقل ذا الرقبة الصفراء ـ وهما من حيوانات الغابات ـ يشكلان المستودعين الأساسيين للڤيروس پومالا الذي هو أحد ڤيروسات هانتا. وأكثر طرق التلوث contamination شيوعا هي استنشاق التراب الملوث حين التعامل مع الأخشاب المجموعة من الغابات أو خلال العمل في حظائر الحيوانات ومخازن الحبوب.
وليس البشر هم السبب دوما في التغيرات البيئية الخطيرة، فقد انبثق الڤيروس سِنْ نومبر في الولايات المتحدة من هطول أمطار وتساقط ثلوج على نحو أشد غزارة من المعتاد، في جبال وصحارى نيومكسيكو ونيڤادا وكولورادو. إن العائل (الثوي) الحيواني للڤيروس سِنْ نومبر هو فأر الأيل deer mice الذي يعتمد في غذائه على لب الأناناس: لقد ساعدت الرطوبة غير المألوفة على إنتاج محصول شديد الوفرة، وبذا تكاثرت الفئران وازدادت عشرةَ أمثالٍ ما بين عامي 1992 و 1993.
الانتقال بوساطة البعوض
تنتقل بعض الڤيروسات البُنْياوية bunyaviruses بوساطة البعوض بدلا من انتقالها عن طريق القوارض. لذا فإن الاضطرابات البيئية الناشئة عن بناء السدود والتوسع في مشاريع الري مثلا مشجعة لهذه العوامل. فالسدود ترفع المستوى الذي تكون الأرض تحته مشبعة بالماء؛ الأمر الذي يساعد على تكاثر الحشرات، كما يجمع البشر والحيوانات معا في مراكز سكانية جديدة. ولعل في هذين العاملين ما يفسر وقوع وباءَيْ حمى الصادع (الوادي المشقوق) Rift Valleyفي أفريقيا اللذين حدث أولهما في مصر عام 19777، والآخر في موريتانيا عام 1987.
لقد تمت معرفة الڤيروس المسؤول عن هذا المرض سنة 1931 وتبين أنه السبب في عدة أوبئة تنتشر بين الحيوانات، وبخاصة بين الأغنام، غربي أفريقيا وجنوبيها. وقد أصيب بالعدوى بعض مربي الأغنام الذين كانوا على اتصال بالحيوانات المريضة أو النافقة، من غير أن تتخذ العدوى في ذلك الوقت شكلا خطيرا لدى البشر. بيد أن الوضع غدا أشد ضراوة عام 1970. فبعد الانتهاء من إنشاء السد العالي في أسوان حدثت خسائر كبيرة بين المواشي، وأصيب بالعدوى 000 200إنسان مات من بينهم 600. وفي عام 1987 حدث وباء صغير في موريتانيا بعد إقامة سد على نهر السنغال.
يوجد ڤيروس حمى الصادع (الوادي المشقوق) في أنواع عديدة من البعوض، ولا سيما البعوض من جنس الزاعجة Aedes. هنا تقوم إناث البعوض بنقل الڤيروس إلى بويضاتها. وفي حالات الجفاف تقل أعداد البعوض، أما غزارة المطر أو شدة الري فتسمح لها بالتضاعف سريعا. وتتولى هذه نقل الڤيروس إلى البشر في أثناء تغذّيها بالدم، وتكون المواشي هي الحيوانات الحاضنة.
التلوث مصادفة
على الرغم من أهمية الاضطرابات البيئية، فهي ليست الأسباب الوحيدة لانبثاق ڤيروسات جديدة. إن الضعف في ممارسة مبادئ الحفاظ على الصحة في بيئة المستشفيات يمكنه أن يعزز ظهور الأوبئة ويشجع عليها. ففي الشهر 1/1969وقعت راهبة تعمل ممرّضة في لاسا بنيجيريا فريسة المرض في أثناء عملها. وقبيل وفاتها نقلت العدوى إلى راهبتين أخريين توفيت إحداهما. وبعد مضي عام تفشى وباء في المستشفى نفسه، وأظهر الاستقصاء أن 17 مصابا من بين 25 ربما حلوا في الغرفة ذاتها التي استشفت فيها الضحية الأولى. وقد صُنّف الڤيروس لاسا Lassa على أنه من الڤيروسات الرملية.
وتشكل الصناعات البيولوجية مصادر خطورة أيضا؛ إذ إن لقاحات عديدة تُحضَّر من خلايا حيوانية. فإذا كانت هذه الخلايا ملوثة، فهناك خطر من إمكان انتقال ڤيروس مجهول الكنه إلى من يتم إعطاؤهم اللقاحات. وهذه هي الوسيلة التي سمحت عام 1967 باكتشاف حمى نزفية جديدة، وعائلة جديدة من الڤيروسات هي الڤيروسات الخيطية filoviruses، وذلك في مزرعة (مُسْتَنْبَت)culture خلايا دم ملوث.
وفي ماربورگ بألمانيا سقط 25 فردا مرضى بعد تهيئة مزارع خلوية من دماء النسانيس الأفريقية الخضراء (نسانيس الڤرڤت vervet) ومات سبعة منهم. كما جرى الإبلاغ عن حالات أخرى في الوقت نفسه في فرانكفورت وفي يوغسلافيا، وقد حدثت جميعها في مختبرات تسلمت نسانيس من أوغندا. ونفقت النسانيس كلها أيضا؛ الأمر الذي يوحي بأنها ليست المستودع الطبيعي للڤيروس ماربورگMarburg. وتم التبليغ عن أربع حالات عدوى طبيعية بالڤيروس ماربورگ وقعت في أفريقيا، ولكن لم يُكتشف حتى الآن المستودع الطبيعي للڤيروس ولا الطرق الطبيعية لانتقاله. أما الأمر الواضح فهو أن ڤيروس داء ماربورگ يمكنه أن يتضاعف في المستشفيات: لقد ظهرت حالات ثانوية بين العاملين في الحقل الطبي هناك.
وفي عام 1976 ظهر وباءان حمويّان بفاصل شهرين، سببهما ڤيروس مختلف، في جنوب السودان وفي شمال زائير. ففي زائير وقرب مستشفى يامبوكو على ضفاف نهر إيبولا تم إحصاء 318 إصابة وموت 280 شخصا. وكان قد سبق لـ 85 منهم أن تناولوا حُقَنًا (زرقات) في المستشفى المذكور. وأسفر هذا الوباء عن تعرف ڤيروس جديد هو الڤيروس إيبولا Ebola.
لقد صُنِّف كل من الڤيروس ماربورگ والڤيروس إيبولا ضمن الڤيروسات الخيطية التي سُميت هكذا لأنها تظهر تحت المجهر الإلكتروني كجسيمات خيطية يبلغ طول الواحد منها نحو 1500 نانومتر (وللمقارنة نقول إن قطر الجسيم الكروي في الڤيروسات الرملية يبلغ نحو 300 نانومتر). وهذان الممثلان للعائلة الخيطية هما على درجة عالية من الخطورة. وقد أصيب الاختصاصيون في مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها (CDC) بالذعر عندما علموا أن قرود المكاك macaques آكلة السرطان crab، المستقدمة من الفليبّين والتي وُضِعت في محجر صحي للحيوانات في ڤرجينيا، كانت تموت تباعا لإصابتها بعدوى سببها ڤيروس خيطي من نمط إيبولا. كما تم عزل هذا الڤيروس من أماكن أخرى للحيوانات استُقدِمت فيها النسانيس من الفليبّين أيضا. ولكن لم تُسجَّل أية إصابات بشرية إبان يقظة هذا السُّواف(2) epizootic؛ الأمر الذي يوضح أن الڤيروسات القريبة جدا بعضها من بعض قد تختلف اختلافا واسعا في تأثيراتها.
جرى تزويد الجيش الأمريكي، منذ عام 1980، بوحدات عزل محمولة مجهزة بمراشح للهواء كي تُستخدم في إجلاء الأشخاص الذين يحملون مُمْرِضات يُشك في خطورتها. وتستعمل هذه الوحدات لإحضار المرضى الذين يحتاجون إلى عناية متخصصة إلى مرفق العزل في فورت ديتريك في ميريلاند، غير أنه لم يتم استدعاؤها قط لأداء هذه المهمة. |
أسئلة حول الڤيروس إيبولا لم تلق إجابات عنها بعد
في ربيع عام 1995، أثبت الڤيروس إيبولا في كيكويت بزائير وللمرة الثانية أن هذا الميكروب (الجسيم الحي) ـ على الرغم من التعذيب الذي يسببه للمصابين به والذي ينتهي بهم عادة إلى الوفاة ـ لا يستطيع بصورته الحالية أن ينتشر بعيدا ما لم يساعده البشر على ذلك. فالڤيروس يُهلك مرضاه بسرعة بالغة مما لا يسمح له بالتكاثر والانتشار بالاعتماد على ذاته. وفي الموجات الأولى لحدوث الوباء من المألوف أن يقتل الڤيروس أكثر من 92% من أولئك الذين يصيبهم بالعدوى خلال أسبوعين. وهذه السرعة الفائقة لا تمنحه فرصة كبيرة للانتشار من غير مساعدة، مع الأخذ بالحسبان وخامة (خطورة) المرض الذي يسببه.
وفي كل من الأوبئة الأربعة المعروفة لداء الڤيروس إيبولا، وهي التي حدثت في التسعة عشر عاما الماضية، كان الناس هم العنصر الذي ساعد على إطلاق الوباء من عائله (ثويّه) الذي يقطن في مكمنه في الغابات الاستوائية المطيرة المنعزلة أو في البطاح المعشوشبة وإيصاله إلى البشر. ففي عام 1976 وفي يامبوكو، وهي منطقة تضم قرى عديدة في الغابات الاستوائية المطيرة شمالي زائير، تضاعفت أعداد الڤيروس إيبولا عشرات المرات بوساطة راهبات يعملن في عيادة طبية تابعة لبعثة تبشيرية حيث كن يستخدمن محاقن (زرّاقات) غير معقمة لزَرْق الدواء في نحو 300 مريض يوميا. وفي أحد الأيام قَدِم إلى العيادة مريض يعاني حمى إيبولا التي كانت مجهولة حينذاك، فعولج بحقنِ (زرقات) أدويةٍ مضادٍة للبرداء (الملاريا). وكانت النتيجة هي أن المحاقن ضخمت خطورة انتقال الڤيروس إلى درجة كبيرة. وفي كل من عامي 1976 و 1979 قدم الناس المساعدة للڤيروس كي ينتشر بشدة في نزارا وماريدي بالأراضي المعشوشبة في أقصى جنوب السودان. وأدى البعد عن التزام قواعد حفظ الصحة في المستشفيات دورا حاسما في هذا الانتشار؛ كما أسهمت عادات الدفن المحلية ـ التي تقضي بإزالة الأحشاء من الجثث باليد ـ في مضاعفة الكارثة. كما أدت الأوضاع الطبية والجنائزية دورا حاسما في الوباء الذي انتشر في كيكويت في بداية عام 1995. فلقد انتشرت العدوى عن طريق سوائل الجسم بين أولئك الذين كانوا يقومون على خدمة المرضى في ساعات النزع ومن ثم غسل الموتى وتكفينهم. وربما حصلت الحادثة الأولى التي ساعدت على تضخيم حجم الوباء في بداية العام الجديد في أثناء احتفال جنائزي وضع فيه الميت في تابوت مكشوف. وقد بدا محتملا أن العدوى وصلت إلى المتوفى جاسبارد منجا خلال عمله في جمع الحطب من الغابة المطيرة القريبة: وانتشر الڤيروس سريعا وأصاب ثلاثة عشر عضوا من عائلته ممن كانوا يعتنون به ويلمسون جسده للوداع ـ وهو سلوك مألوف في تلك المنطقة ـ أو ممن تولوا العناية بالمرضى المصابين بالڤيروس إيبولا الذي وصل إليهم من المريض الأول منجا. وفي الشهر 3/1994حدثت واقعة أخرى في المستشفى العام في كيكويت ساعدت على تضخيم الوباء. فقد وفد إلى المستشفى عدد كبير من حالات الإسهال المدمى غير القابلة للشفاء، فظن القائمون على الأمور هناك أنهم يواجهون سلالة (ذرية) جديدة من البكتيريا (الجراثيم). ولهذا طلب الأطباء إلى العاملين التقنييّن(3) في المختبر أخذ عينات من دم هؤلاء المرضى ابتغاء تحليلها واختبار مقاومتها للعقاقير المختلفة. وعندما سقط أحد تقنيي المختبر مريضا، ظن الأطباء في المستشفى أن معدته المتضخمة كثيرا ودرجة حرارته المرتفعة جدا كانتا نتيجة لإصابته بعدوى التيفوس typhus infection، فأجروا له عملية جراحية درءًا للضرر. وقد بدأت الخطوة الأولى في إجراء عملية استئصال الزائدة. أما الخطوة الثانية فقد كانت أمرا مثيرا للرعب. فعندما فتح الأطباء والممرضات بطن التقني مرة ثانية للقيام بعمل توقعوه عملا ترميميا، اندلق الدم الغزير فجأة من البطن وأصاب أولئك الأطباء والممرضات. ومات زميلهم على منضدة العمليات بسبب النزف الذي عجزوا عن السيطرة عليه. وأضحى هذا الفريق الجراحي الذي أصابه التلوث يشكل الموجة الثانية في وباء الڤيروس إيبولا. إن اعتماد الڤيروس إيبولا على المساعدة غير المقصودة من الإنسان يحثنا على الانتباه إلى الخيط المشترك الذي يربط بين أوبئة إيبولا المعروفة، ألا وهو الفقر. لقد كانت جائحات هذا الداء كلها على ارتباط بمرافق طبية شديدة البؤس يُجْبَر العاملون فيها الذين لا يدفع لهم إلا أجر ضئيل (أو لا يتقاضون أي أجر ـ كما في حالة كيكويت) على تسيير الأمور بحفنةٍ من المحاقن، وبأقل القليل من المعدات الجراحية، ومزودة بماء وكهرباء يصيبهما الانقطاع المتكرر أو غير مزودة بهما على الإطلاق.
ويبدو أن من المحتمل تماما أن يستغل الڤيروس إيبولا (وغيره من ڤيروسات الحميات النزفية) استغلالا ناجحا الظروف المشابهة التي تتوافر له في أي مكان آخر في العالم. ومع ازدياد إتاحة وسائل النقل الجوي وسهولة تحمل تكاليفها صار بوسع هذه الڤيروسات أن تنتقل بيسر من مكان إلى آخر في هذا الكوكب. لهذا فالتدهور السريع في الصحة العامة وفي المرافق الطبية في الاتحاد السوڤييتي السابق وفي مناطق أخرى لا بد من أن يكون مصدرا للقلق وإثارة المخاوف. ومما لا ريب فيه أن الطبيعة الدقيقة للخطورة تكمن في بيولوجيا الڤيروس إيبولا التي مازال الكثير منها غامضا. وفي أثناء هذا الصيف قام الباحثون من جامعة كينشاسا، ومن مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها (CDC) في الولايات المتحدة، ومن معهد پاستور في پاريس، ومن المركز القومي لعلم الڤيروسات في جوهانسبرگ، ومن منظمة الصحة العالمية، بتمشيط منطقة كيكويت سعيا وراء إيجاد إجابات عن تساؤلات حيّرت العلماء منذ الوباء الأول في يامبوكو: تُرى ما العوائق الدقيقة التي تكبح سريان (انتشار) إيبولا؟ وأين يختبئ هذا الڤيروس بين وباء وآخر؟ لقد بدأ الوباءان اللذان حدثا في السودان بين عمال مصانع القطن. وفي ذاك الحين، طاف العلماء مسرعين بأبنية مجمع «نزارا» بحثا عن حشرات أو خفافيش مصابة بالعدوى. ولكنهم لم يعثروا على الڤيروس في أي منها على الرغم من وفرة تلك الحيوانات. وفي يامبوكو اتجهت الشكوك نحو عدد من حيوانات الغابات المطيرة، بما فيها النسانيس. ولكن، وللمرة الثانية، لم تأت نتائج الاختبارات إيجابية تثبت وجود العدوى في أي من الحيوانات المحتجزة. وكذلك لم تفلح الاختبارات المسحية التي أجريت في أواخر السبعينات بالتعاون مع جهود منظمة الصحة العالمية لمكافحة جدري النسناس monkeypox في العثور على أي رئيسات primates أو أي حيوانات كبيرة أخرى مصابة في أفريقيا الوسطى. كانت الغابات المطيرة التي يتردد عليها جاسبارد منجا وفيرة الجرذان والخفافيش والفئران والثعابين. وقد تسفر الجهود الرامية إلى إيقاع الحيوانات في تلك المنطقة في الشراك، عن التوصل في نهاية المطاف إلى إيجاد مخبأ الڤيروس إيبولا. أما في الوقت الحالي فمازال مستودع الڤيروس سرا مغلقا. وكذلك لا يعرف ما إذا كان التشارك في مياه الشرب، وتناول الأطعمة ومراق الاغتسال قادرا على نقل العدوى. وبما أن كافة الأوبئة التي حدثت حتى الآن شملت سراية العدوى بوساطة سوائل الجسم، فقد قامت مكافحة المرض على بذل جهود مباشرة ضئيلة التكلفة. ولتحقيق الغاية المرجوة تم عزل المرضى، وطُلِبَ إلى المواطنين قاطبة تسليم السلطات المعنية موتاهم من غير تغسيل. وما إن وعى هؤلاء العلاقة بين خدمة المرضى وتغسيل الجثث وبين الموت بداء الڤيروس إيبولا حتى توقف انتشار الأوبئة سريعا. إن إحدى الطرق التي قد يتمكن بها الڤيروس إيبولا من الإفلات من إسار السيطرة هي حدوث طفرة كبيرة فيه تجعل قابليته للانتقال أكثر سهولة. فإن كان للڤيروس إيبولا، أو أي ڤيروس آخر من ڤيروسات الحميات النزفية، أن يكتسب خصائص جينية تلائم انتقاله عن طريق الهواء، فإن وقوع جائحة (فاشِيَة) لدائه في أي مكان في العالم سيشكل خطرا يهدد البشرية جمعاء. وفي حدود معارفنا، لم يكتسب أي إنسان على الإطلاق هذا الميكروب (الحي المجهري) microbe عن طريق استنشاق القُطَيْرات التي تنطلق إلى الهواء مع السُّعال (مع أن من المؤكد انتقاله باللعاب في أثناء التقبيل). ومن المعروف وجود اختلافات جينية كثيرة بين الميكروبات المنقولة بالسوائل والمنقولة بالهواء؛ لذا يبدو من غير المحتمل أن تتحقق تلك القفزة بسهولة. ولكن مسألة الڤيروس إيبولا بالذات لم تُدرس أبدا على نحو محدد ودقيق، لأن الأبحاث التي تُجْرى لدراسة الميكروبات الموجودة في الأقطار النامية بصفة أساسية لم تلق الدعم المادي اللازم لها منذ سنوات عديدة. <لوري گاريت>مراسلة صحفية لجريدة Newsday ومؤلفة كتاب «الطاعون القادم: أمراض تنبثق حديثا في عالم اختل توازنه» (دار بنگوين للنشر ، الولايات المتحدة الأمريكية، 19955). |
وفي الشهر 1/1995عزلنا (استفردنا) نمطا من ڤيروس إيبولا كان مجهولا في السابق، وذلك من مريضة سبَّبت وصول العدوى إلى جسمها نتيجة تعاملها مع عينات دم من قرود الشمبانزي البرية التي كانت قد نفقت في وباء غريب الشكل. ومادامت قرود الشمبانزي الآتية من ساحل العاج قد نفقت، فهذا دليل آخر على أن الرئيسات primates ليست المستودع الطبيعي للڤيروسات الخيطية، وهو ما لم يكن قد تم تعرّفه بعد. ومع أن الڤيروس ماربورگ لم يُعْدِ إلا أفرادا قلائل فحسب، فإن الڤيروس إيبولا ظهر على السطح مرة ثانية ليسبب وباء بين الناس في زائير في الشهر 5/1995 [انظر ما هو مؤطر في هاتين الصفحتين].
هدف غامض متبدل
إن التغير الشديد والسرعة البالغة في تطور ڤيروسات الحميات النزفية صفتان راسختان في طبيعة مادتها الجينية (الوراثية). فڤيروسات الحمّيات النزفية، مثل أنماط أخرى عديدة، لها بشكل عام جينات (مورثات) تتكوّن من حمض الرنا RNA لا من حمض الدنا DNA الموجود في معظم الكائنات الحية. ويكون رنا هذه الڤيروسات سلبي الطاق (الشريط) negative stranded قبل إمكان استخدامه في عمل بروتينات ڤيروسية في خلية مصابة بالعدوى، وينبغي أن يتحول إلى رنا إيجابي الطاق بوساطة إنزيم يدعى پوليمراز الرنا. وتسبب پوليمرازات (إنزيمات بلمرة) الرنا أخطاء يتكرر وقوعها إلى حد ما خلال هذه العملية. وبما أن هذه الأخطاء لا تُصحَّح، فإن الخلية المصابة بالعدوى تُفْضي إلى إيجاد مجموعة من الڤيروسات المتغايرة الناتجة من الطفرات المتراكمة. إن وجود شبه النوع(4) quasispecies هذا يفسر سرعة تكيف هذه الڤيروسات مع التغيرات البيئية. فبعضها يتكيف مع اللافقاريات، في حين يتكيف بعضها الآخر مع الفقاريات، كما أنها تُرْبِك الأجهزة المناعية لعوائلها (أثويائها)، ومن السهل ظهور أنواع منها مختلفة وممرِضة.
وهناك مصدر آخر للتغاير heterogeneity أيضا. فمن الخصائص المشتركة بين الڤيروسات الرملية والڤيروسات البنياوية هي أن فيها جينومات (مجينات) ذات شدف segmented genomes. (للڤيروسات البُنْياوية ثلاث شدف رنا وللڤيروسات الرملية شدفتان.) وحينما تصاب خلية بڤيروس من الصنف العام نفسه، بوسعهما حينئذ أن يتحدا على نحو ترتبط فيه شدف من أحدهما بشدف من الآخر، مما يؤدي إلى تكوّن أنماط ڤيروسية جديدة تسمى مُعيدات التفارزreassortants.
ومع أننا ندرك تركيب هذه الكينونات entities إدراكا أساسيا، فإننا لا نفهم إلا النزر اليسير عن كيفية إحداثها المرض. وبصرف النظر عن الوسائل المحدودة المتاحة لإجراء الاستقصاءات بالمستشفيات المحلية في المناطق الاستوائية، فإن كثيرا من تلك الڤيروسات هي على درجة كبيرة من الخطورة تجعل من المتعذر التعامل معها إلا في مختبرات ملتزمة التزاما دقيقا بكافة متطلبات السلامة. وليس في العالم إلا عدد ضئيل من المرافق التي تتوافر فيها تلك الشروط، وهي غير مزودة كلها بالمعدات اللازمة. ومع أنه من الواضح نسبيا ضرورة التعامل مع العمائل(5) الموجودة في حواجل المزارع culture flasks بشكل يتم فيه التقيد بموضوع الحرص على السلامة، فإن الأشد من ذلك خطورةً هو التعامل مع النسانيس المصابة بالعدوى؛ فالباحثون معرضون للعدوى بسبب خدشة أو عضة من حيوانات مريضة. وفضلا عن ذلك، لا يمكن دراسة الڤيروسات بالاعتماد على استخدام الحيوانات المألوفة في المختبرات كالجرذان، لأن هذه المخلوقات لا تمرض حينما تصاب بهذه الڤيروسات.
إننا على يقين من أن ڤيروسات الحميات النزفية لها تأثيرات مميزة في الجسم؛ فهي تسبب نقصا في عدد الصفيحات الدموية التي هي الخلايا الرئيسية في جهاز تجلّط (تخثر) الدم. ولكن هذا النقص الذي يدعى قلة الصفيحات thrombocytopenia غير كاف لتفسير الأعراض النزفية. إن بعض ڤيروسات الحميات النزفية يقوم بتدمير الخلايا المصابة بالعدوى مباشرة، وبعضها يُحدث خللا في الجهاز المناعي ويؤثر في أداء الخلايا ووظائفها.
ومن بين ڤيروسات المجموعة الأولى الحالّة للخلايا، نجد الڤيروسات البُنْياوية التي تسبب مرضا يدعى حمى القرم والكونگو النزفية Crimean-Congo fever، وحمى الصادع (الوادي المشقوق)؛ كما نجد الڤيروسيْن الخيطيين ماربورگ وإيبولا؛ وكذلك النمط البدئي لڤيروسات الحمى النزفية ونعني الڤيروس المُصَفِّر أماريل Amaril. إن دور حضانة هذه الحمّيات قصير عموما، وهو في الغالب أقل من أسبوع. وتنشأ الحالات الخطيرة عن هجوم الڤيروسات على عدة أعضاء، ولا سيما الكبد. وهكذا فحينما يتم تدمير نسبة كبيرة من خلايا الكبد يعجز الجسم عن إنتاج كمية كافية من عوامل التخثر؛ وهو ما يفسر جزئيا الأعراض النزفية. كما تغير الڤيروسات السطوح الداخلية للأوعية الدموية بطريقة تجعل الصفيحات الدموية تلتصق بها. وبذا يستهلك هذا التجلط داخل الأوعية المزيد من عوامل التخثر. وعلاوة على ذلك، تُجْبَر الخلايا المبطنة للأوعية الدموية على التباعد بعضها عن بعض مما قد يؤدي إلى تسرب المصورة (الپلازما) إلى النسج أو حدوث نزف لا يمكن السيطرة عليه وهو ما يسبب وذمة edma ـ أي تراكمًا للسائل في النسج ـ أو يؤدي إلى انخفاض شديد في ضغط الدم.
وتقع الڤيروسات الرملية في زمرة الڤيروسات غير الحالّة للخلايا، ولها دور حضانة أطول. ومع أن هذه الڤيروسات تغزو معظم نسج الجسم، فمن المألوف ألاّ تسبب آفات جسيمة. وتنزع هذه الڤيروسات إلى تثبيط الجهاز المناعي؛ مما يؤخر تكوّن الأضداد مدة قد تصل إلى شهر بعد ظهور العلامات السريرية الأولى للعدوى. وتكبت الڤيروسات الرملية عدد الصفيحات إلى درجة ضئيلة فحسب، إلا أنها تعطلها حقا. ويشيع حدوث المضاعفات العصبية في هذه الحالات.
إن ڤيروسات هانتا شبيهة بالڤيروسات الرملية من حيث إنها لا تدمر الخلايا مباشرة، ولها أيضا دور حضانة طويل يمتد من 12 إلى 21 يوما. وهي تستهدف الخلايا المبطِّنة لجدران الشُّعَيْرات؛ فتغزو ڤيروسات هانتا وپومالا خلايا الجدران الشعرية في الكلى مما يؤدي إلى وذمة وتفاعل التهابي نتيجة لفشل العضو في أداء وظيفته. وفي المقابل، يغزو الڤيروس سِنْ نومبر الشعيرات الرئوية ويسبب الموت بطريقة مغايرة؛ إذ إنه يفضي إلى الإصابة بوذمة رئوية حادة.
إمكانات المكافحة
تحاول عدة فرق بحث إقامة شبكات ترصُّد surveillance دولية غايتها تتبع كافة العوامل المعدية التي تنبثق الآن. وقد شكلت منظمة الصحة العالمية شبكة مهمتها تعقب ڤيروسات الحميات النزفية والڤيروسات الأخرى المنقولة بالحشرات ويتصف أفرادها بالتيقظ والحذر البالغين.
وما إن يتم الكشف عن ڤيروس ما حتى تتصدى له التقانة حاملة معها بشائر مقاومته. فقد أثبت عقار مضاد للڤيروسات، هو ريباڤيرين ribavirin، فعاليته في وباء أطلقته ڤيروسات هانتا في الصين. وتُبْذَل حاليا في الأرجنتين جهود جبارة لاستنباط لقاح يعمل على حماية الناس من الڤيروس جونين. وفي الواقع، تَمَّتْ تهيئة لقاحات ضد حمى الصادع (الوادي المشقوق) عند الحيوانات، وضد الحمى الصفراء عند البشر، وحظيت بالموافقة على استعمالها. ومع ذلك، وعلى الرغم من وجود لقاح مضاد للحمى الصفراء، فإن هذا المرض يستشري الآن في أفريقيا حيث يقل عدد الملقَّحين ضده.
وتواجه الطرق الأخرى صعوبات تعيق نجاحها؛ إذ إن من الصعب ـ لا بل من المستحيل ـ مكافحة الحيوانات التي تشكل مستودعات طبيعية وناقلة لتلك الڤيروسات أو التنبؤ بالتغيرات البيئية التي تساعد على حدوث جائحات الأمراض. وقد كانت هناك حملة ناجحة لمكافحة القوارض الناقلة إبان جائحات حمى لاسا وماتشوپو التي نجمت عن الڤيروسات الرملية، ولكن من المتعذر عادة دعم مثل هذه البرامج واستمرارها في المناطق الريفية مددا طويلة.
ومن الواجب اتخاذ الاحتياطات الواقية في المختبرات وفي المستشفيات، ولكنها ـ ويا للسخرية ـ أماكن عملت على تضخيم أوبئة عديدة. ففي المختبرات يجب التعامل مع الڤيروسات المسؤولة عن الحميات النزفية ضمن شروط تؤمن الحد الأقصى من انحباسها (أو ما يعرف باللغة السائدة بالمستوى الرابع من الأمان الحيوي). ومن الضروري الحفاظ على بقاء الضغط في المختبر منخفضا حتى لا تتسرب أي من الجسيمات الدقيقة التي قد تنقل العدوى. ومن الواجب حصر الڤيروسات نفسها ضمن أجهزة مُحكمة الإغلاق وفي ضغط أقل من الضغط الخارجي. أما في المستشفيات فإن خطورة انتقال العدوى من أحد المرضى تبلغ درجة هائلة في بعض الڤيروسات؛ لهذا يجب اتباع أشد إجراءات الأمان صرامة. وينبغي على العاملين في المستشفيات أن يضعوا الأقنعة وأن يلبسوا القفازات والملابس الواقية؛ ومن الضروري معالجة الفضلات لإزالة تلوثها، ويستحسن أن تتوافر هناك حجرة ذات ضغط منخفض بغية تأمين المزيد من الاحتياطات.
ومنذ أن صار الپنسلين واسع الانتشار، ابتدأ الكثيرون يعتقدون أن الأوبئة لن تشكل تهديدا بعد ذاك الحين. ولكن الجائحة العالمية للڤيروس HIV، وهو الڤيروس المسبب لمرض الإيدز، أثبتت أن هذه النظرة غير صحيحة. إن ڤيروسات الحميات النزفية هي في الواقع مصدر للقلق، كما أن السبل التي تحد من خطورتها مازالت محدودة.
المؤلف
Bernard Le Guenno
يترأس المركز القومي المَرْجِع لڤيروسات الحميات النزفية في معهد باستور بباريس. تخرَّج وحصل على شهادة في علم الأدوية من جامعة بوردو عام 1972، ويعمل اختصاصيا في علم الڤيروسات في معهد باستور منذ عام 1983. وقد أُخذت هذه المقالة من مقالة للمؤلف نشرت في عدد الشهر 6/1995من مجلة پور لاسيانس Pour la Science، وهي الطبعة الفرنسية لمجلة ساينتفيك أمريكان.
مراجع للاستزادة
GENETIC IDENTIFICATION OF A HANTAVIRUS ASSOCIATED WITH AN OUTBREAK OF ACUTE RESPIRATORY ILLNESS. Stuart T. Nichol et al. in Science, Vol. 262, pages 914-917; November 5, 1993. HANTAVIRUS EPIDEMIC IN EUROPE, 1993. B. Le Guenno, M. A. Camprasse, J. C. Guilbaut, Pascale Lanoux and Bruno Hoen in Lancet, Vol. 343, No. 8889, pages 114-115; January 8, 1994.
NEW ARENAVIRUS ISOLATED IN BRAZIL. Terezinha Lisieux M. Coimbra et al. in Lancet, Vol. 343, No. 8894, pages 391-392; February 12, 1994.
FILOVIRUSES As EMERGING PATHOGENS. C. J. Peters et al. in Seminars in Virology, Vol. 5, No. 2, pages 147-154; April 1994.
ISOLATION AND PARTIAL CHARACTERISATION OF A NEW STRAIN OF EBOLA VIRUS. Bernard Le Guenno, Pierre Formentry, Monique Wyers, Pierre Gounon, Francine Walker and Christophe Boesch in Lancet, Vol. 345, No. 8960, pages 1271-1274; May 20, 1995.
Scientific American, October 1995
(1) [انظر: «النشوء الاستثنائي للتفاعل السلسلي للپوليمراز»، مجلة العلوم، العدد 4 (1992) ، ص 44]. (التحرير)
(2) ج: تقني technician.
(3) أي الوباء بين الحيوانات. (التحرير)
(4) [انظر: «شبه النوع الڤيروسي»،مجلة العلوم، العدد 1 (1995) ، ص 68].
(5) ج: عميل agent. (التحرير)