أشعة الشمس وسرطان الجلد
أشعة الشمس وسرطان الجلد
على الرغم من أن معظم سرطانات الجلد تظهر عند كبار السن،
فإن العطب يبدأ غالبا قبل ذلك بعقود، عندما تُحدِث أشعةُ
الشمس طفرة في جين رئيسي key gene في خلية واحدة.
<J .D. لفل> ـ <E .D. براش>
في عام 1775 أبلغ الطبيب البريطاني <P. پوت> عن انتشار غريب لقرحات مهترئة في أصفان scrotums العديد من منظفي المداخن في لندن. وقد ارتأى أطباء آخرون أن هؤلاء الرجال ربما كانوا مصابين بأحد الأمراض الزهرية veneraldiseases الذي كان متفشيا في المدينة في ذلك الحين. لكن پوت كان أكثر فطنة، إذ أدرك أنهم كانوا في الحقيقة يعانون أحد أنواع سرطان الجلد. وكان اكتشاف پوت حدثا طبيا ذا شأن. فبملاحظته أن الرجال الذين يتعرضون لقطران الفحمcoal tar باستمرار هم بصفة خاصة أكثر قابلية للإصابة بهذا الشكل من السرطان، استطاع أن يثبت للمرة الأولى أن سبب السرطان يمكن أن يكون عاملا خارجيا أكثر منه داخليا.
وقد تحقق الباحثون حديثا من وجود صلة أخرى بين البيئة وسرطان الجلد؛ ولكن العامل في هذه الحالة أكثر انتشارا، وهو موجود في كل مكان: إنه ضوء الشمس. وقد أظهرت الجهود المضنية لعشرات الباحثين قدرا كبيرا من المعلومات عن الطريقة التي تسهم بها أشعة الشمس في نشوء عدد كبير ومذهل من حالات سرطان الجلد كل عام.
ففي الولايات المتحدة وحدها يحدث نحو مليون حالة جديدة من سرطان الجلد سنويا، منافسا في ذلك عدد حالات أنواع السرطان الأخرى كلّها. ويأخذ سرطان الجلد في صورته النموذجية واحدا من أشكال ثلاثة تتوافق والأنماط الرئيسية الثلاثة لخلايا الجلد وهي: الخلايا القاعدية basal cells والخلايا الحرشفية squamous cells والخلايا الميلانية (القتامينية) melanocytes. وسرطان الخلايا الميلانية الذي يسمى أيضا الميلانوم (الورم الميلاني) الخبيث malignantmelanoma هو أشد الأنواع إماتة، وربما كان أكثرها غموضا على الباحثين في محاولاتهم فَهْم الطريقة التي تحدث بها هذه الأورام. ولحسن الحظ، فهذا النوع أيضا أقلها شيوعا. ففي الولايات المتحدة من المتوقع أن يحدث هذا العام نحو 38000 حالة جديدة من الميلانوم وما يقرب من 7000 حالة وفاة بسبب هذا المرض. أما الشكلان الآخران اللذان يسميان معا سرطان الجلد غير الميلاني nonmelanomaskin cancer فيمثلان سائر الحالات ولكنهما يؤديان إلى وفاة نسبة أقل كثيرا من بين المصابين. ولهذا يُتَوقَّع وفاة آلاف قليلة في الولايات المتحدة في أثناء عام 1996 بسبب سرطان الجلد غير الميلاني (الذي يكاد يكون على وجه الحصر سرطان الخلايا الحرشفية).
إن المستحمين الصغار، أمثال هذين الطفلين الأستراليين، يعرّضون أنفسهم لمخاطر سرطان الجلد عندما يلعبون. ومع ذلك فإن أحد الصغيرين هنا محتاط للأمر. |
وإذا اكتُشفت حالات سرطان الجلد غير الميلاني مبكرا أمكن معالجة معظمها بسهولة في عيادة الطبيب وبتخدير موضعي. وتُعالَجُ مثل هذه السرطانات بأنواع مختلفة من التقنيات البسيطة التي تشمل الكشط scraping والحرق والتجميد والاستئصال الجراحي للنسيج الخبيث. وحتى الميلانوم، إذا تم تشخيصه في الوقت الذي لاتزال سماكة الورم فيه أقل من مليمتر واحد أمكن معالجته عادة بالاستئصال البسيط. ولكن بما أن سرطان الجلد يصيب أشخاصا من فئات العمر كلها، وبما أنه قد يسبب التشويه والوفاة إذا تُرِك من غير معالجة، فإن الباحثين الطبيين بذلوا جهودًا علمية هائلة على مدى سنوات ليتوصلوا إلى الآليات التي تُحْدِث هذا المرض. ومما يلفت النظر أن حادثا تاريخيا أسهم في تحقيق هذا الهدف المنشود.
يشمل جلد الإنسان ثلاثة أنماط رئيسية من الخلايا، كلها عرضة للطفرات الجينية المحدثة بأشعة الشمس. فبالقرب من قاعدة البشرة epidermis توجد الخلايا القاعدية المستديرة round basal cells. كما توجد الخلايا الحرشفية المسطحة flattened squamous cells أكثر قربا من السطح. أما الخلايا الميلانية melanocytes (الخلايا التي تنتج صباغ الميلانين الواقي) فتوجد منثورة في الطبقة القاعدية ولها امتدادات عديدة تصل خارجها. وتستطيع الأشعة الشمسية أن تنفذ بوفرة تحت سطح الجلد وتعطب قطعا من دنا الخلية الحساس بصفة خاصة للأشعة فوق البنفسجية. ويبدو أن عطب الجين المسمى p53 أساسي وحاسم لحدوث سرطان الخلايا القاعدية والخلايا الحرشفية في الجلد. |
تجربة عرضية
في الوقت الذي قام فيه پوت بدراسة السرطان الصَّفَني، كان هناك في إنكلترا الجورجية نظام قضائي يُنزِل عقوباتٍ شديدةَ القسوة على جرائم صغيرة مثل الحكم بالموت على جرائم التزوير والسرقة. فقامت حركة مضادة لمواجهة قسوة الحكم بالإعدام في مثل هذه الجُنَح، سرعان ما أدت إلى إصدار أحكام أكثر اعتدالا وبالتالي إلى اكتظاظ السجون بالمجرمين. ومن أجل تخفيف الأعباء عن سجون الدولة أقر مجلس العموم نفي المجرمين إلى أماكن نائية بدءا من عام 1780. وقد وقع الاختيار على شاطئ منعزل غير مشهور يحاذي جنوب المحيط الهادي ليكون المنفى المقصود. وفي خلال عدة عقود صار الساحل الشرقي لأستراليا مأهولا بالرجال والنساء الإنكليز والإيرلنديين. وكان أولئك المستعمرون الأوائل يشتركون غالبا في الملامح السلتية(1) Celtic features وهي بشرة الجلد البيضاء والشعر الأشقر، وتهيمن سلالاتهم اليوم على تلك القارة الجنوبية.
إن ما بدأ في القرن الثامن عشر كمحاولة لإصلاح العقوبة بلغ في النهاية أوج البحث العلمي كتجربة واقعية على نطاق واسع لإيجاد الصلات بين لون البشرة والإشعاع الشمسي وسرطان الجلد. فالبيض في أستراليا ببشرة جلدهم الفاتحة اللون وتعرُّضهم المستمر لأشعة الشمس الشديدة يعانون الإصابة بسرطان الجلد بجميع أنواعه بمعدلات هي الأعلى بين أي من الشعوب الأخرى في العالم. في حين أننا نرى أقرباءهم البريطانيين الذين يعيشون في الشمال تحت سماء ملبدة بالغيوم أسعد حظا؛ إذ إنهم نسبيا أقل تَعرُّضا لخطر الإصابة بهذه الأورام الخبيثة، شأنهم في ذلك شأن سكان أستراليا الأصليين ذوي البشرة الداكنة اللون والذين يندر أن يصابوا بهذه السرطانات الجلدية التي تحرِّضها الشمس.
لقد عرف الباحثون منذ 50 عاما أن التجربة الأسترالية دلت على أن أشعة الشمس القوية والبشرة الفاتحة اللون هما عاملا الخطورة المهمان في الإصابة بسرطان الجلد. لكن العلماء ظلوا عشرات السنين عاجزين عن تفسير ما تفعله الشمس حقا في خلايا الجلد حتى تصبح خلايا سرطانية. وقد تطلّب إيضاح هذا السر الغامض أكثر من تجربة عَرَضية على قارة مغمورة بأشعة الشمس، كما استغرق سنوات من الدراسة في مختبرات أبحاث علماء البيولوجيا الجزيئية في العالم قبل البدء في كشف النقاب عن تفاصيل تلك العملية.
وعندما شرعنا معًا في دراسة هذه المشكلة في أواخر الثمانينات بدا لنا وجود نمطين من الأذى تسببهما الشمس يتساويان من حيث كونهما موضع الاتهام. ففي النمط الأول هناك الطفرات التي تحدث في جينات معينة داخل خلايا الجلد. فقد تتكاثر الخلية بشكل مفرط إما لأن الطفرة تجعل الجين العادي شديد النشاط والتحفيز على زيادة النمو (جين مكون للورم oncogene)، وإما لأن الطفرة تُبطل عمل الجين الذي يحدّ طبيعيا من نمو الخلية وانقسامها (جين كابت للورمtumor suppressor gene). أما النمط الآخر من الأسباب التي أخذناها بالحسبان منذ البداية فكان يشمل أحداثا أوسع انتشارا ـ أي تلك التي تؤثر في كل خلية معرَّضة لضوء الشمس. فعلى سبيل المثال، قد يكبت إشعاع الشمس الاستجابة المناعية للجلد (مخفضا قدرته الطبيعية على إزالة الخلايا السرطانية والتخلص منها) وينبه انقسام الخلية مباشرة. ومع إمكان طرح مثل هذه التفسيرات المتعددة توصلنا إلى أن عزل (استفراد) أسباب سرطان الجلد لن يكون أمرا سهلا.
كيف تسبب أشعة الشمس طفرة دائمة
تستطيع الأشعة فوق البنفسجية أن تكسر الروابط الكيميائية في القواعد الپيريميدينية المتجاورة، وغالبا ما يحدث ذلك عند نقطة على شريط الدنا حيث توجد قاعدتا سيتوزين (c). عندئذ تتكون روابط جديدة (الأحمر) تربط القواعد التي دبت فيها الفوضى وذلك على هيئة ما يسمى المثنوي الپيريميديني pyrimidine dimer.
يقتضي التنسخ (التكرر) أن تفصل الخلية شرائط (خيوط) الدنا المزدوجة paired DNAstrands (الأخضر والأزرق)، ويُستعمَل كل منهما كنموذج وطبعة لبناء شريط جديد (الأرجواني) بقرن الگوانين (G) بالسيتوزين (C) والأدنين (A) بالثيمين (T). ويُنتِج الشريط الذي لم يتأثر بضوء الشمس دنا سويا (في اليسار)، ولكن الشريط الذي يحوي مثنوي الپيريميدين يقرن السيتوزينات المبعثرة بالأدينينات بدلا من قرنها على الوجه الصحيح بالگوانينات. وباستمرار التنسخ يتكرر الخطأ؛ الأمر الذي يجعل المثنوي يقترن مرة أخرى بزوج من الأدينينات (في اليمين). وعلى الشريط المقابل (في اليسار)، تقترن هذه الأدينينات بالثيمينات محدثة طفرة جينية. وقد يتم التخلص من المثنوي في آخر الأمر بوساطة “الإصلاح بالقطع”؛ في حين تكون الطفرة من السيتوزين إلى الثيمين دائمة. وعندما توجد مثل هذه الطفرة ضمن جين ذي صلة بالسرطان فإن الخلية تصبح عرضة للخباثة (أي لأن تكون سرطانية). |
لكننا كنا نسترشد بما نعرفه من أن التأثيرات الضارة لأشعة الشمس يمكن أن تَحدث قبل ظهور الأورام بسنوات عديدة. وقد ظهرت مثل هذه التأثيرات المتأخرة واضحة جدا في الدراسات التي قام بها <A. كريكر> من جامعة غرب أستراليا حينذاك، و<R. ماركس> من مجلس فكتوريا لمكافحة السرطان. فقد لاحظا مع زملائهما أن الناس الذين هاجروا من إنكلترا الغائمة إلى أستراليا المشمسة قبل بلوغهم سن الثامنة عشرة اكتسبوا معدل الحدوث الأسترالي الأعلى لسرطان الجلد. أما الذين هاجروا وهم في سن أكبر، فقد تساووا مع السكان الأصليين من حيث احتفاظهم بمعدلات خطورة منخفضة.
وقد دلت هذه النتائج على أن مرضى سرطان الجلد الأستراليين لا بد من أن يكونوا قد تعرضوا لمقادير عالية خطرة من أشعة الشمس قبل سنوات من ظهور الأورام (التي نادرا ما تحدث قبل أواسط العمر). إن الأحداث الواسعة الانتشار، مثل الكبت المناعي، لا تدوم إلا أياما قليلة فقط بعد توقف الإشعاع المؤذي؛ في حين تبقى التغيرات الجينية (التي تنتقل من أحد أجيال الخلايا إلى جيل آخر). لذا فالبحث عن التغيرات الجينية بدا بسبب ذلك طريقا واعدا لبحثنا أكثر من غيره. وعلى هذا الأساس بدأنا التفتيش الدقيق عن الطفرات التي يحدثها ضوء الشمس والتي ربما تكون قد حدثت في مرحلة مبكرة من العمر وقامت بإعداد الظروف الملائمة لتطورها إلى سرطان جلدي في وقت لاحق بعيد.
طفرة مرشدة
كان ذلك البحث مثبطا للهمة؛ إذ إن الدنا DNA في الخلية البشرية يحوي 100000 جين (مورثة)، وكل جين يشمل، طبيعيا، آلاف النكليوتيدات (النوويدات)nucleotides (الكتل البنائية للدنا)، وبعضها فقط هو الذي يُرجَّح حملُه آثارا من الضرر الذي تُحْدِثه الشمس. وحتى لو نجحنا في تعيين الطفرات في عينات من سرطان الجلد، فكيف يمكننا التأكد من أن أشعة الشمس هي التي سببتها؟ لحسن الحظ، زَوَّدَنا باحثون آخرون بمفتاح مفيد لحل هذا اللغز وذلك باكتشافهم أن الإشعاعات البائية فوق البنفسجية ultraviolet B radiations ـ المتهمة منذ زمن طويل بأنها العامل المسرطن في أشعة الشمس ـ لها بصمة (شارة) متميزة.
وقد أثبتت مجموعات من الباحثين في كل من سويسرا وفرنسا وكندا والولايات المتحدة بعد دراستهم كل شيء، بدءا من الڤيروسات وحتى الخلايا البشرية، أن الأشعة فوق البنفسجية تسبب طفرات عند نقاط على شريط الدنا المحتوي على قواعد (أسس) نكليوتيدية معينة. وتُعْرَف القواعد التي هي الأجزاء المتغيرة من النكليوتيدات بالأسماء أدنين adenine A، وگوانين G guanine وسيتوزين C cytosine وثيمين thymine T . وتُحدث الأشعة فوق البنفسجيةُ الطفرات عندما تتاخم ما تسمى قاعدة پيريميدين pyrimidine base ـ سيتوزين وثيمين ـ قاعدةَ پيريميدين أخرى. إن ما يقرب من ثلثي الطفرات هو استبدالات للقواعد وتحويلها من قواعد سيتوزين إلى قواعد ثيمين. كما أن 10 في المئة من هذه التغييرات تحدث عند مجموعتي سيتوزين متجاورتين مع تغيرهما إلى قاعدتي ثيمين. وتُكوِّن ملامح هذه الطفرات التي تحدث بفعل الأشعة فوق البنفسجية، بصمة نوعية متميزة لأنها لا تحدث بفعل أي عوامل أخرى.
يُعتقد أن نمو ورم الجلد غير الميلاني يستلزم أن يقوم ضوء الشمس بتغيير الجين p53 في الخلية الجلدية القاعدية والحرشفية (a). إن الطفرة الناتجة (b) تقضي على قدرة الخلايا المصابة جينيا على تأخير التنسخ حتى يتم إصلاح دناها DNA. كما تمنع طفرة الجين p53 أيضا مثل هذه الخلايا من قتل نفسها عندما تُعطَب عطبا لا يمكن إصلاحه. فإذا حرق ضوء الشمس في وقت لاحق خلايا غير متغيرة (c)، فإن الخلايا الشديدة العطب سوف تقوم “بالانتحار الخلوي” وتحل محلها خلايا مستمدة من الجلد السليم المجاور (d). ولكن إذا حرق ضوء الشمس نسيجا قريبا من خلية طافرة الجين p53 وعاجزة عن قتل نفسها (e)، فإن نسل الخلية الطافرة قد يحل محل الخلايا المحتضرة المحترقة بفعل الشمس (f) وحينئذ يتعزز نمو الورم. |
وهكذا تبلورت لدينا فكرة جيدة عن كل الطفرات المميزة التي يمكن أن تحدث بسبب التعرض لأشعة الشمس. ولكننا كنا نحتاج إلى أن نحدد بدقةٍ أيَّ جين من هذا العدد الهائل من الجينات الإنسانية هو الذي تغير وطفر لكي يحدث التأثير المسرطن. وكان أفضل ظننا أن الحل يتوقف على عدد من الجينات البشرية المعروف من قَبْل أنها مرتبطة بالسرطان.
تتوقف خطورة سرطان الجلد إلى حد بعيد على التعرض للإشعاع فوق البنفسجي الشمسي. وقد أتاحت قياسات طبقة الأوزون والغلاف السحابي بالسواتل (الأقمار الصنعية) لعلماء الظواهر الجوية أن يقدروا كمية الأشعة فوق البنفسجية الضارة بالدنا التي تصل إلى سطح الكرة الأرضية (المبينة هنا كمتوسط للشهر 7/1992). ويتضح من الشكل أن أكثر الناس عرضة لسرطان الجلد في الولايات المتحدة هم ذوو بشرة الجلد البيضاء الذين يعيشون في مناطق تتعرض للأشعة فوق البنفسجية الشديدة خلال شهور الصيف لأنهم ينتجون كميات أقل من صباغ الميلانين melanin pigment الذي يحمي الجلد الداكن اللون من أذى الأشعة فوق البنفسجية.. وتمثل الأعمدة البيانية معدلات حدوث سرطان الجلد غير الميلاني لدى البيض. |
ومن بين الجينات المكوّنة للسرطان والجينات الكابتة للورم المعروفة وقع اختيارنا على جين كابت للورم يدعى p53 صار معروفا الآن أنه قد طفر في أكثر من نصف حالات السرطان البشرية. ولكن الشعور الذي كان يخامرنا في ذاك الوقت هو أن الجين p53 يحتمل أن يكون متورطا في كثير من حالات سرطان الجلد بسبب الصلة المثيرة للاهتمام بين سرطان الجلد غير الميلاني ومرض نادر (يسمى خلل التنسج البشروي الثؤلولي الشكل epidermodysplasia verruciformis) يسبب ظهور ما يشبه الثآليل على الجلد.
وقد كشف البحث السابق عن أن أمثال هذه النماءات تحوي دنا من الڤيروسات الحليمومية البشرية human papillomavirus، وأنه إذا وُجدت هذه النماءات على الجلد المعرض للشمس فإنها قد تتطور إلى سرطان الخلايا القاعدية والسرطان الحرشفي. وفيما بعد أثبت <M .P. هولي> وزملاؤه من المعهد الوطني للسرطان، أن أحد البروتينات التي يصنعها الڤيروس الحليمومي تعطل البروتين p53 (فالجينات تؤدي إلى تكوين البروتينات، وكما هو متوقع فإن البروتين p53 ناتج من الجين p53). وهكذا فإن جميع الدلالات كانت تشير إلى احتمال قيام الجين p53 بدور خاص في سرطان الجلد غير الميلاني، ولكننا كنا في حاجة إلى برهان قوي وأكيد.
ولكي نصل إلى هذا البرهان، درسنا السرطانات الحرشفية وهي الأورام التي لا شك في صلتها بأشعة الشمس (فهي تحدث على الوجه واليدين، وعلى نحو خاص بين البيض الذين يعيشون في المناطق الاستوائية). وبالتعاون مع <J. بونتن> (في مستشفى جامعة أبسالا في السويد) اكتشفنا أن أكثر من 90 في المئة من السرطانات الحرشفية في مجموعة عينات تم جمعها في الولايات المتحدة فيها طفرة في مكان ما في الجين p53 الكابت للورم. وقد حدثت هذه الطفرات في مواقع تتجاور فيها القواعد الپيريميدينية. كما وجد فيها التغير النمطي المميز من سيتوزين إلى ثيمين، وهو المرتبط بالتعرض للأشعة فوق البنفسجية. وفي وقت لاحق استطاعت مجموعتنا البحثية مع مجموعات أخرى عديدة أن تعين بدقة الطفرات p53 المتصلة بأشعة الشمس في سرطانات الخلايا القاعدية كذلك. (يبدو أن الميلانوم لا يكون مصحوبا بتغيرات في الجين p53. ومازال العلماء يبحثون عن الجينات التي تتأثر بأشعة الشمس في الخلايا الميلانية). وقد وجدت <A. زيگلر> بعد فحصها عينات في مختبرنا أن الجلد في مرحلة ما قبل التسرطن precancerous يحتوي أيضا على الطفرات p53؛ مما يدل على أن التغيرات الجينية تحدث قبل ظهور الأورام بوقت طويل. ولكن هل كانت هذه الطفرات حقا هي سبب سرطان الجلد غير الميلاني، وكانت مجرد دليل على التعرض لأشعة الشمس في حياة المرء ولا علاقة لها بالسرطان؟
لقد أمكننا استبعاد هذا الاحتمال الأخير بوساطة الطريقة الخاصة التي تم بها تغيير الكود الجيني genetic code. فالنكليوتيدات تنتظم في الجينات على هيئة تجمعات واضحة التحديد، وهي مجموعات من ثلاث قواعد تعيِّن الأحماضَ الأمينية المختلفة. ويحدد نمطُ التجمع في الجين تسلسلَ الأحماض الأمينية التي يرتبط بعضها ببعض لإنشاء البروتين. ولكن تجمعات مختلفة قد تُعيِّن أحيانا الحامض الأميني نفسه، كما لو أن اسم الحامض الأميني قابل للرسم بواحدة من عدة طرق. وعلى نحو نموذجي فإن الحامض الأميني لا يتغير عندما تكون القاعدتان الأوليان في المجموعة ثابتتين مع اختلاف القاعدة الثالثة فقط. وعلى ذلك، إذا كانت الطفرات p53 الموجودة في سرطان الجلد مجرد أثر عشوائي للتعرض للشمس فإن المرء ينبغي أن يتوقع وجود هذه التغيرات في الموضع الثالث بالمعدل ذاته الذي يحدث في الأول والثاني. وهذا يعني وجود أمثلة كثيرة من طفرات المجموعات (حدوث إبدال في القاعدة النكليوتيدية) من غير تغير الحامض الأميني المقابل. ومع ذلك فالدراسات على هذا الجين في سرطانات الجلد من جميع أنحاء العالم كشفت بشكل ثابت ودائم عن وجود طفرات عدلت حامضا أمينيا واحدا وأكثر في البروتين p53. وعلى هذا فالتغيرات الجينية التي تُفْضي إلى الجينات p53، ليست مجرد أثر جانبي للتعرض للأشعة فوق البنفسجية ولكنها في الحقيقة سبب في هذه السرطانات الجلدية.
ولكي ندرك بشكل أفضل كيف تَأَثَّر الجين p53 في سرطان الجلد غير الميلاني فإننا بحثنا فيما إذا كانت أجزاء معينة من هذا الجين عرضة بصفة خاصة لطفرة القواعد الپيريميدينية المتجاورة بوساطة ضوء الشمس (أي من سيتوزين إلى ثيمين). وقد اكتشف علماء البيولوجيا ما يسمى النقط الساخنة للطفرة (وهي أماكن على شريط الدنا تميل الطفرات إلى أن تَحدث فيها غالبا) عندما يعرضون الخلايا الحية للمسرطنات. وقد حددنا بعد تحليل أورام كثيرة أن الجين p53 في سرطان الجلد غير الميلاني يحوي تسع نقاط ساخنة. أما في السرطانات التي لا صلة لها بضوء الشمس (مثل سرطان القولون والمثانة) فإن خمس مجموعات من الجين p53 تتعرض في الغالب للطفرة؛ ثلاث منها هي من النقط الساخنة في سرطانات الجلد. وعند النقطتين الساخنتين الموجودتين فقط في السرطانات الأخرى فإن السيتوزين الطافر يحاط من أحد جانبيه بقاعدة گوانين وأدنين ولا يحاط أبدا بقاعدة ثيمين وقاعدة سيتوزين أخرى. وبسبب الافتقار إلى وجود زوج من قواعد الپيريميدين، فإن المواقع المقابلة على دنا الخلايا الجلدية تكون محمية من الطفرة التي تسببها الأشعة فوق البنفسجية.
ولكن لماذا تعمل مواقع قليلة فقط من بين مئات الأماكن على الجين p53 التي تتجاور فيها الپيريميدينات كنقاط ساخنة عندما تتعرض الخلايا لضوء الشمس؟ إن عددا من الباحثين ساعد مؤخرا في الإجابة عن هذا السؤال بالاستناد إلى ما اكتشفه <B .R. ستلو> و<L .W. كارير> (في مختبر أوك ردج القومي) منذ أكثر من ثلاثة عقود. فقد قرر ستلو وكارير أن الخلايا يمكنها إبطال الضرر الحادث لدناها من الأشعة فوق البنفسجية بعملية إنزيمية تسمى الإصلاح بالقطع excision repair؛ وفيها تقوم الخلايا أساسا بقص القواعد الممزقة وإحلال أخرى سليمة محلها. وقد أثبت
<S. كونالا> في أثناء عمله في مختبرنا عام 1992 أن الخلايا تُصلِحُ الضرر ببطء شديد في بعض الأزواج (الأشفاع) الپيريميدينية. كما اكتشف فيما بعد <P .G. فيفر> وزملاؤه (في معهد بكمان للأبحاث في كاليفورنيا)، أن الخلايا تُصلح المواقع p53 الطافرة في سرطان الجلد غير الميلاني ببطء أشد مما تفعله في مواقع أخرى كثيرة في الجين. إذًا، يبدو أنه من المحتمل جدا أن النقط الساخنة التي وجدناها فيما يتعلق بسرطان الجلد تدين بوجودها لعجز خلايا الجلد عن إصلاح هذه المواقع بكفاءة.
تصحيح الأعطاب الخلوية
وحتى بعد أن قمنا بتعيين الطفرات p53 وثيقة الصلة بالموضوع بقيت قصة تكوّن السرطان ـ وبكل أسى ـ غير كاملة. ومع ذلك فإن الخلايا ـ وليست الجينات ـ هي التي تصاب بالسرطان. وقد كان واضحا بالقدر الكافي أن البروتين p53 يجب أن يقوم بدور في خلايا الجلد السوية ليمنع السرطان، ولكن كيف؟ لم يُتَح لهذا السؤال إلا قدر ضئيل من الإجابة عنه قدمه <B .M. كاستان> من مستشفى جونز هوبكنز. فقد وجد أن الخلايا التي تتعرض للأشعة السينية يزداد إنتاجها من البروتين p53 الذي يمنع، بدوره، الخلايا من الانقسام. كما أثبت <A .P. هول> و<P .D. لين> (من جامعة دندي) و<L .J. ريز> (من جامعة نيوكاسل) وجود تأثير مماثل في البروتين p53 في خلايا الجلد التي تعرضت للأشعة فوق البنفسجية. ويفكر باحثو السرطان في أن البروتين p53 يمنع طبيعيا الخلية المعطوبة الدنا من التكاثر حتى يتاح لها الوقت الذي تتم فيه الإصلاحات.
وقد اقترح <M. أورن> وزملاؤه (في معهد فايتزمان للعلوم) إضافةَ وظيفة أخرى إلى البروتين p53 وهي قدرته على منع السرطان في المواقع التي يكون فيها عطب الدنا شاملا لدرجة يستحيل معها إصلاحه. وهم يرون أن ارتفاع مستويات البروتين p53 في خلية ما يؤدي إلى ما يسمى الموت المبرمج للخليةapoptosis (ومثل هذا الموت للخلية هو جزء طبيعي من العمليات الحيوية الكثيرة التي تشمل التطور الجنيني). وفي هذه الحالة فإن “انتحار” الخلية المعطوبة بفعل الشمس سيمنعها من أن تصبح سرطانية عن طريق محوها الدائم لأخطائها الجينية. ويمكن تسمية مثل هذا الموت المبرمج للخلايا تصحيح الأغلاط الخلوية. ولأن الجلد يطرح shed الخلايا على نحو روتيني (منوالي) فإننا نظن أن خلايا الجلد كثيرا ما تتعامل مع الطفرة p53 بالطريقة نفسها. لقد توافرت لدينا بعض الأدلة التي تدعم فكرتنا حتى قبل بدء التجارب لاختبارها.
وقد عرف أطباء الجلد منذ زمن طويل أن الجلد عندما يحترق بفعل الشمس فإن الخلايا القريبة من السطح تصبح شبيهة بالخلايا الخاضعة لموت مبرمج. ومع حلول عام 1994 كان باستطاعتنا أن نثبت أن الخلايا المحترقة بفعل الشمس تحوي في دناها شقوقا breaks تشبه تلك الموجودة في الخلايا المبرمجة لتموت. وعلى هذا تبدو الخلايا المحترقة بفعل الشمس كما لو كانت تقوم بعملية انتحار خلوي. وقد بدأنا في الحال نتساءل عما إذا كانت الخلايا التي فقدت الجين p53تستطيع أن تقوم بمثل هذا القتل الذاتي للنفس.
وحينما كنا على وشك الوصول إلى هذه المرحلة البحثية الحاسمة كان <T. جاكز> وزملاؤه (في معهد ماساتشوستس للتقانة) قد طوروا فئرانا ينقصها الجين p53. وعندما قام <S .A. جوناسن> و<A .J. سيمون> بتشعيع جلد هذه الفئران معطلة الجين p53 في مختبرنا، وجدا خلايا محترقة بفعل الشمس مبرمجة لتموت أقل كثيرا مما وجدا في الفئران السوية التي تعرضت للإشعاع فوق البنفسجي ذاته. كما أن الفئران التي عُطِّل فيها الجين p53 جزئيا فقط كانت ذات ميل معتدل فحسب لأن تقوم خلاياها بالانتحار المستحَث بالضوء. وقد أوحت هذه النتائج بأن موت الخلايا المبرمج مهم لمنع حدوث سرطان الجلد غير الميلاني وأن فقدان الجين p53 يمكن أن يعوق هذه العملية.
تأثير شديد ومضاعف لضوء الشمس
من الممكن الآن تصور كيف أن الإخفاق في تصحيح الأغلاط الخلوية يؤدي إلى سرطان الجلد. فالجلد السوي المعرَّض لضوء الشمس يكدس (يُراكم) عطب الدنا الذي يسببه الجزء البائي فوق البنفسجي ultraviolet B part من الطيف الشمسي. فإذا عجزت الخلايا عن إصلاح دناها في الوقت المناسب هلكت عن طريق الموت المبرمج لها. أما إذا كان الجين p53 في خلية ما قد طفر في أثناء حادثة سابقة من التعرض لضوء الشمس، فإن هذه الخلية ستقاوم مثل هذا التدمير الذاتي حتى ولو كانت إصابتها بالغة الشدة.
وعلى هذا النحو يكون الوضع في الواقع سيئا للغاية؛ فالخلية التي هي على وشك أن تصبح خلية سرطانية تكون محاطة بخلايا سوية تتعرض للموت المبرمج حينما تصاب بالعطب. وبالتالي لا بد من أن تترك الخلايا الميتة بعض الفراغ الذي يتيح للخلايا ذات الجين p53 الطافر النموَّ فيه. وعن طريق حثّ الخلايا السوية على قتل نفسها فإن ضوء الشمس يساند تكاثر خلايا الجين p53الطافر. فضوء الشمس في الواقع يقوم بدورين لإحداث السرطان: الأول هو تطفير الجين p53، ومن ثم إعداد الشروط المناسبة لنمو السلالة الخلوية المتغيرة (الجديدة) نموا غير مقيد. وهذان العملان: الطفرة وتعزيز الورم، هما ضربة مضاعفة في عملية التسرطن. ومع أن الطفرة والتعزيز يتمان بعوامل منفصلة في الأورام الأخرى فإن الإشعاع فوق البنفسجي ـ على ما يبدو ـ يسدد كلتا الضربتين في سرطان الجلد.
ولا ريب في أن هناك جينات أخرى ترتبط بحدوث سرطان الجلد وتطوره. كما توجد تأثيرات أخرى لضوء الشمس لم يتسنَّ للباحثين فهمها تماما بعد. فعلى سبيل المثال، إن الباحثين الطبيين على دراية بأن متلازمة گورلين Gorlin syndrome (وهي حالة يصاب فيها المرضى بسرطانات الخلايا القاعدية المتعددة) تحدث بسبب وجود طفرة موروثة في جين آخر كابت للورم. ومع زيادة البحث سوف تصير الآليات المختلفة للتسرطن أكثر وضوحا. وقد يتوصل العلماء إلى طرق مناسبة تعوق اطراد تطور خلايا الجلد السوية إلى خلايا سرطانية.
إننا لا نتجاوز حد المعقول إذا أملنا أن يتمخض فهم الباحثين المفصل لسرطان الجلد غير الميلاني عن أنواع جديدة من المعالجات. ولعل العقاقير التي تعيد الوظيفة السوية للبروتين p53 الطافر، تسمح للأطباء بأن يقدموا لمرضاهم معالجة فعالة بعيدة عن الجراحة. كما يمكن لمثل هذا العلاج ـ الذي يحتمل أن يُعطى على هيئة كريم (دهون) جلدي بسيط تمتصه الخلايا المصابة ـ أن يصير متاحا خلال العقد والعقدين القادمين. وإذا حدث ذلك فسوف يكون ذا فائدة عظيمة لعدد لا يحصى من السائرين على درب الشيخوخة والذين كانوا في طفولتهم من المندفعين وراء حب الشمس ـ وقد كنا (المؤلفان) من بين هؤلاء.
المؤلفان
David J. Leffell – Douglas E. Brash
عمل المؤلفان معا قرابة عشر سنوات كي يفهما دور الشمس في إحداث سرطان الجلد. وقد قدم لفل ـ وهو أستاذ طب الجلد والجراحة في مدرسة طب ييل ـ للبحث المشترك الخبرة والقدرة على الرؤية الصحيحة اللتين اكتسبهما من الممارسة السريرية clinical practice. حصل على الدكتوراه في الطب من جامعة ماك جيل في عام 1981، وتدرب في مدرسة كورنل الطبية وفي مركز سلون كترنگ التذكاري للسرطان وفي جامعة ميشيغان قبل أن يصير أحد أعضاء هيئة التدريس في مدرسة طب ييل في سنة 1988. أما براش فهو أيضا من أعضاء هيئة التدريس في المدرسة الطبية في ييل، وهو حائز على البكالوريوس في الفيزياء الهندسية من جامعة إلينوي. وقد تحول من الهندسة إلى دراسة الفيزياء الحيوية في جامعة أوهايو، حيث حصل على الدكتوراه في سنة 1979. وتابع بعد ذلك التدريب في علم الأحياء المكروية (المجهرية) في مدرسة هارفارد للصحة العامة، وفي علم الأمراض pathology في المدرسة الطبية بهارفارد حتى سنة 1984. وقد أمضى السنوات الخمس التالية في المعهد القومي للسرطان قبل أن ينتقل إلى ييل.
مراجع للاستزادة
A ROLE FOR SUNLIGHT IN SKIN CANCER: UV-INDUCED P53 MUTATIONS IN SQUAMOUS CELL CARCINOMA. D. E. Brash, J. A. Rudolph, J. A. Simon, A. Lin, G. J. McKenna, H. P. Baden, A. J. Halper and J. Pontèn in Proceedings of the National Academy of Sciences U.S.A., Vol. 88, No. 22, pages 10124-10128; November 1S, 1991.
SUNBURN AND P53 IN THE ONSET OF SKIN CANCER. A. Z1egler, A. S. Jonason, D. J. Leffell, J. A. Simon, H. W Sharma, J. Kimmelman, L. Remington, T Jacks and D. E. Brash in Nature, Vol. 372, pages. 773-776; December 22-29, 1994.
CANCER FREE: THE COMPREHENSIVE CANCER PREVENTION PROGRAM. Sidney J. Winawer and Moshe Shike. Simon & Schuster, 1996.
SUNLIGHT, ULTRAVIOLET RADIATION AND THE SKIN. NIH Consensus Statement. Vol. 7, No. 8, pages 1-29; May 8-10, 1989.
Available at http://text.nlm.nih.gov/nih/cdc/www/74txt.html
Scientific American, July 1996
(1) سلتيّ: منسوب إلى السلتيين وهم أفراد عرق هندي أوروبي، استوطن فيما مضى أجزاء من أوروبا الغربية. (التحرير)