الحيتان وصراعها من أجل البقاء
الحيتان وصراعها من أجل البقاء
<P. بيلاند>
على الرغم من أن القانون يحمي هذه الحيتان من الصيادين،
فإنها يجب أن تكافح للبقاء ضد تهديدات التلوث الصناعي.
إن حيتان البيلوگا التي تموت في سانت لورنس، مثل الحوت الذي ربطه المؤلف بالحبل في هذه الصورة، هي في الأغلب ضحايا للنفايات الكيميائية السامة الناتجة من الصناعات القائمة في المنطقة. إن أربعة عشر حوتا من الحيتان التي قامت مجموعة بيلاند بتشريحها لمعرفة سبب وفاتها كانت تحمل أوراما سرطانية تمثل أكثر من نصف الأورام الخبيثة التي سُجلت في أي وقت مضى بين الحيتان والدلافين وخنازير البحر. |
في عام 1535 أبحر المستكشف الفرنسي <J. كارتييه>، خلال رحلته الثانية إلى أمريكا، صاعدا نهر سانت لورنس، مسترشدا برجلين من الهنود الأمريكيين. وبعد أن عبر مصب نهر ساگناي أوقفت تقدمه رياح وتيارات مدّجزرية مناوئة استمرت يوما كاملا. لذا اضطر كارتييه إلى أن يُرسي سفينته خلال الليل قريبا من إحدى الجزر المنخفضة التي تقع عند منتصف النهر. وفي الصباح ارتاع لمشاهدته خنازير بحر porpoises بيضاء كبيرة تحيط بالسفينة. فأخبره المرشدان المحليان أنها صالحة للأكل وسمَّياها أدوثيويز Adothuys. لقد كانت هذه الحيوانات حيتانَ البيلوگا (البيضاء)، وهي من الأحياء القطبية التي عاشت في نهر سانت لورنس آلافا من السنين.
وكانت بداية مجيء هذه الحيتان المسنَّنة (ذات الأسنان) الصغيرة الحجم إلى النهر من المحيط الأطلسي بعد نهاية العصر الجليدي بمدة وجيزة. وعندما دَفُؤَ المناخ ارتفع المحيط الأطلسي غامرا الجزء الأكبر من ساحل البحر الشرقي لأمريكا الشمالية. وغمرت المياه مساحات شاسعة من الأراضي فيما وراء خليج سانت لورنس حتى كادت تبلغ البحيرات العظمى وتدخل إلى نيويورك وڤيرمونت. وغامر عديد من أنواع الفُقم والحيتان بدخول هذا البحر الداخلي الذي يُطلق عليه اسم شمپلين Champlain. ومع مرور الوقت برزت اليابسة مرة أخرى، وجفّ الحوض وأخذ نهر سانت لورنس شكله الحالي.
واستمرت حيتان البيلوگا وغيرها من الحيتان تسبح صاعدة المصبّ ثم النهرَ نفسه إلى أبعد مسافة يمكنها الوصول إليها. ولكن تجوالها الآمن لم يدم وقتا طويلا. فمنذ نحو 8500 عام وفدت القبائل الرُّحَّل من الجنوب الغربي إلى حافة النهر، وتجمعت بجوار الشواطئ التي تقترب منها حيتان البيلوگا خلال الصيف. وهناك أقام الناس مساكن موسمية مازالت بقاياها مطمورة تحت الحشائش والتربة ومعها عظام الفقم وحيتان البيلوگا التي اصطادوها.
وفي القرن السابع عشر رسا بحارة الباسْك على الشاطئ بالقرب من ساگناي لاستخلاص دهن حيتان البال right whales، ومن المحتمل حيتان البيلوگا أيضا. وفي القرن التالي تَبِعَ البحارةَ تجارُ الفراء والمستوطنون الذين وفَّر لهم الصيد دخلا جيدا. وقد منح ممثلُ ملك فرنسا حق امتياز صيد حيتان البيلوگا لعدد محدود من الصيادين الذين استخدموا في معظم الأحيان أَسْوِجَةً من القضبان الثابتة. لقد أفادت هذه الأسْوِجة العملاقة ذات الفتحات الواسعة من انحسار المد لتُوقِع في شراكها حيتان البيلوگا على امتداد المسطحات الطينية mudflatsالشاسعة للنهر. وبحلول عام 1721 كان هناك 15 من مثل هذه المصايد fisheries على ضفتي نهر سانت لورنس.
وصار صيد البيلوگا وسيلة لكسب العيش عند بعض المجتمعات، وصار الحوت حديث الناس. تحكي إحدى القصص أنه بعد اصطياد ما يربو على مئة من حيتان البيلوگا في يوم واحد، أقامت إحدى القرى حفلا في مخزن للحبوب بالقرب من النهر. وفي منتصف الليل، وعندما بدأت أمواج المد المرتفع في الارتطام برفق بالحيتان الميتة، شاهد أحد المُعَرْبِدين من الصيادين أيدي عظمية تحاول الإمساك بالراقصين، ففروا جميعا من مخزن الحبوب ليكتشفوا ـ وقد ملأهم القنوط ـ أن المدَّ قد استعاد صيدهم. وبرزت من بين الأمواج التي أضاءها القمر أشباحٌ بشرية تمتطي ظهور الحيتان. وقد لمعت عيون حيتان البيلوگا كالجمر المتَّقد، وأخذت الحيتان تنفث من ثقوبها التنفسية blowholes ألسنة من اللهب، وهي تسبح بعيدا في الليل مخلفة وراءها ذيلا متوهجا فوق ظلمة الماء.
ولا يعرف أحدٌ عددَ حيتان البيلوگا التي قُتلت قبل القرن التاسع عشر. ومع ذلك فقد قُدِّرَ بأنه اصطيد ما بين عامي 1866 و 1960 نحو 16200 من حيتان البيلوگا، أي بمتوسط 172 حوتا كل عام. ويُوحي هذا المحصول السنوي بأن عدد العشيرة (الجمهرة) لا بدّ أنه كان ما بين 5000 و 10000 مع حلول نهاية القرن العشرين. وعندما تضاءل المصيد وتناقص الطلب على منتجات الحيتان، كادت حيتان بيلوگا سانت لورنس تصير نسيا منسيا.
وفي عام 1979 منحت الحكومةُ الكندية الحيتانَ حمايتَها الكاملة من الصيادين. وعلى الرغم من هذا الإجراء، لم تستعِدِ العشيرة كيانها السابق؛ إذ لم يَتَبَقَّ حاليا في سانت لورنس سوى 500 حوت. أما لماذا لم ينجح هذا العدد في الازدياد، فقد كان لغزا غامضا. وقد أشار بعض دارسي البيولوجيا البحرية إلى معدلات توالد منخفضة في تلك العشيرة الصغيرة أو إلى تدهور البيئات التي تعيش فيها بسبب مشروعات توليد الكهرباء بالقوى المائية hydroelectric projects. ولكن على مدار الاثنتي عشرة سنة الماضية قمت وزملائي بكشف النقاب عن سبب آخر.
على شواطئ سانت لورنس الكثير من مخلفات مصانع الكيميائيات (الصورة). وإن نحو 25 مركبا ذا سمية محتملة ـ بما فيها المادتان PCB و DDT ـ وُجدت في حيتان البيلوگا التي تعيش في النهر. وعلاوة على ذلك كان الكثير من الحيتان محملا بالميركس Mirex، فقد كان يُصنع هذا المبيد خلال السبعينات بالقرب من بحيرة أونتاريو. لقد أصاب الميركس بالتلوث ثعابين السمك (أسماك الأنكليس) التي تهاجر نحو مصب نهر سانت لورنس (الخريطة)، حيث كانت تتغذى به حيتان البيلوگا. تتجمع الحيتان بالقرب من مصب نهر ساگناي خلال الصيف (الأحمر) وتتفرق خلال الشتاء (الأزرق). |
ضحايا التلوث
لقد بدأت بحوثي في خريف عام 1982 عندما ذهبت مع <D. مارتينو>، وهو أحد الأطباء البيطريين المحليين، لفحص أحد حيتان البيلوگا الميتة الذي انحسرت عنه المياه على شاطئ نهر سانت لورنس. لقد كان الحوت صغيرا نسبيا ولكنه برز بوضوح على أرضية من الحصى الأدكن في شمس الأصيل المتأخرة. لقد بدا ناعم الملمس كالبلاستيك (اللدائن) وأكثر بياضا من زَبَد موج البحر المتكسِّر على الشاطئ، واقترح مارتينو «أن نفتحه». لقد أوضح الفحص المختبري (المخبري) اللاحق احتمال موت الحوت من فَشَل كُلوي renal failure. وأوضح فحص عينات النُّسُج (الأنسجة) أنها كانت ملوثة بشدة بالزئبق والرصاص، وأيضا بثنائيات الفنيل عديدة الكلور) polychlorobiphenyls PCBsوالمركبين DDT وميرِكْس، وغيرها من المبيدات. وبعد ذلك وفي الموسم نفسه تم العثور على حوتين مصابين بالتسمم على ذلك النحو.
وإلى حد ما، لم يكن هذا الكشف شيئا جديدا. فقد سبق أن وثَّق كثير من العلماء ـ في مناطق أخرى ـ وجود مستويات عالية من المركبين PCB وDDT لدى فقم الميناء harbor seals وخنازير الميناء harbor porpoises. إن هذه المركبات المعروفة بالهالوجينات العضوية organohalogens، ذات قابلية عالية للذوبان في الليپيدات (الدهون). ولأنها لا تتحلل داخل جسم الحيوان، تتراكم في نُسُجِه الدهنية. وتنتقل هذه المواد الكيميائية إلى أعلى السلسلة الغذائية، حتى تبلغ في النهاية أعلى مستوياتها في مُفترِسات القِمَّة. وقد وصفت مراجع كثيرة جدا أمراضا متنوعة مصاحبة للهالوجينات العضوية ـ من بينها: تلف (تأذي) الكبد والتآكل المعدي gastric erosin وآفات الجلد والغدد والخلل الهرموني. ولكن في باكورة الثمانينات كان الخبراء يعتقدون أن الهالوجينات العضوية تسبب تهديدا بسيطا للثدييات البحرية.
فيما مضى، حدثت عمليات صيد واسعة النطاق لحيتان البيلوگا على طول نهر سانت لورنس، كما تُوضح هذه الصورة التي التقطت عام 1918. وتبين سجلات صيد الحيتان بأن ما يربو على 16000من حيتان البيلوگا قد اصطِِيدت ما بين عامي 1866 و 1960. |
لكنّ عَجَبَنا من بقاء عشيرة حيتان بيلوگا سانت لورنس منخفضة العدد، على الرغم من إجراءات حمايتها، دَفَعَنا إلى مواصلة دراستنا. وخلال السنوات الخمس عشرة التالية أو نحو ذلك، سجلنا 179 حالة وفاة وفحصنا 73 جثة في كلية الطب البيطري بجامعة مونتريال. وقد أثبتت التحاليل اللاحقة أن العشيرة كلها كانت ملوثة بشدة بعدد كبير من الكيميائيات. لقد كان لتلك المشاهدات الباثولوجية الواضحة وقع الصاعقة. فأربعون في المئة من الحيوانات كانت مصابة بأورام (14 منها أورام سرطانية) تمثل أكثر من نصف جميع الأورام الخبيثة التي سُجلت في أي وقت مضى في رتبة الحوتيات بأسرها. وأيضا كانت هناك إصابات كثيرة بالقَرْحات المَعِدِيَّة stomach ulcers، بما فيها ثلاث حالات لقرحات مثقوبة، وهي سابقة لم تُسَجَّلْ من قبلُ عند الحيتان. كذلك كانت خمس وأربعون في المئة من الإناث تنتج فقط كميات قليلة من اللبن، وذلك بسبب ما أصاب غددها الثديية من عدوى (خَمَج) أو نخر (موات) necrosis أو أورام. وكانت آفات الغدتين الدرقية والكظرية أيضا شائعة. ويبدو أن الكثير من تلك الحيوانات كانت مناعتها متدهورة فبعضها كان مصابا بعدوى بكتيرية وبحيوانات أولية (أوالي) انتهازية opportunistic protozoan؛ والبعض الآخر كان يعاني أمراضا تصيب أكثر من جهاز. كما أن بعضها فقد أسنانه؛ وكان أحد الحيتان التي فحصناها خنثى حقيقيا.
لقد ساعدت السجلات المصورة الباحثيْن <R. ميشو> و <N. بودرو> على تعرف أكثر من 150 حيوانا تعيش في سانت لورنس. وهما يأملان، عن طريق متابعة حيتان معلومة وَرَصْدِها، في معرفة كم مرة تضع الإناث مواليدها وما هي أعداد العجول التي تبقى منها على قيد الحياة. كما يمكنهما تحديد حجم القطعان ودراسة تركيبها وبيئاتها المفضلة. |
وبالمقارنة، لم تُظهِر الأنواع الأخرى من حيتان البيلوگا القطبية أيا من هذه الحالات المَرَضية، بل ولا حتى الأنواع الأخرى من الحيتان والفقم التي تعيش في سانت لورنس. ومع ذلك فالمجموعتان كانتا تحتويان على المواد السامة نفسها التي وجدناها في حيتان البيلوگا، وإن كانت بكميات أقل. لقد كانت أعلى مستويات المركبات PCBs في حيتان البيلوگا القطبية نحو خمسة أجزاء في المليون (ppm) فقط، في حين كانت التراكيز في حيتان بيلوگا سانت لورنس أكبر من ذلك بما قد يبلغ مئة ضعف. لقد احتوت معظم النُّسج على أكثر من 50 جزءا في المليون، وهو تركيز يجعلها طبقا للمقاييس الكندية نفاية سامة! وقد اكتشفنا أيضا أن المواد السامة لم يقتصر وجودها على شحم الحوت كما هو متوقع، بل وُجدت كميات قليلة منها في الليپيدات الموجودة في النُّسُج الأخرى حيث تكون أقدر على إحداث أضرارها في أعضاء حيوية من الجسم.
الآثار الضارة للهالوجينات العضوية
وعلى الرغم من كشوفنا، أصر كثير من دارسي البيولوجيا البحرية على أن المواد السامة ليست هي الملومة. وكانت حجتهم أنه حتى لو كانت الأمراض والآفات التي لاحظناها في البيلوگا قد ضاهت التأثيرات المعروفة للكيميائيات السامة، فإننا لم نُقِمْ بعدُ الدليل على أن العلاقة بينهما هي علاقة السبب وأثرهcause-and-effect. ولكي نقوم بذلك كان علينا أن نختار مركبا واحدا بعينه والآلية التي قد يُحدث بوساطتها المرض. لقد انصرف انتباهنا إلى الخلل الأكثر لفتا للأنظار وهو السرطان، فقد كان معدل حدوثه في حيتان البيلوگا ضعفَيْه في الإنسان، وأعلى منه في الخيول والقطط، وأقل قليلا منه في الكلاب. فإذا قصرنا مقارنتنا على سرطان الأعضاء التي تكون فيها الإصابة أعلى ما يمكن في الحيتان ـ تلك التي تصيب القناة المَعِدِيَّة المعوية ـ فقد كان التفشي أكثر إزعاجا؛ إذْ لم يَفُقْهُ سوى ما شُوهد في الخراف بأستراليا ونيوزيلندا، حيث عُزِيَ معدل الإصابة العالي بالمرض إلى معالجة المراعي بمبيدات الحشائش المسببة للسرطان.
فاقترحنا أننا قد عثرنا على حالة مشابهة من الأمراض؛ إذْ تحتوي رسوبيات نهر ساگناي على أطنان من بنزو (a) پيرين (benzo (a) pyrene (BaP، وهي مادة مسبِّبة للسرطان وذات فعالية شديدة جدا، تتجمع في اللاَّفقاريات. ولعقود كثيرة، أخذ واحد من أكبر المصانع المنتجة للألومنيوم يُلْقي المادة BaP في نهر ساگناي.
لقد كان باستطاعتنا إقامة الدليل على وجود تلك المادة في حيتان البيلوگا، ولكننا لم نكن متأكدين من كيفية وصولها إلى أجهزتها. لكن حيتان البيلوگا فريدة بين الحيتان ذات الأسنان؛ فهي إضافة إلى أكلها الأسماك، تحفر في رواسب القعر لتتغذى باللافقاريات القاطنة في القعر. وهكذا بدا لنا أنه من المعقول أن نشير إلى أن المادة BaP قد دخلت أجهزتها بهذه الطريقة وأدت إلى المعدلات العالية من السرطان التي تتفشى بين حيتان بيلوگا سانت لورنس، ومن ثم تسهم في النهاية ـ وبصفة عامة ـ في تناقص أعدادها.
وبالطبع اعترض مسؤولو الصناعة على اقتراحنا. وكي نكون منصفين، لم تكن معلوماتنا عن السرطان قاطعة فعلا. فقد كانت مجموعة متنوعة من الأعضاء مصابة ـ المعدة والأمعاء والمثانة والغدد اللعابية والكبد والمبيض والغدد الثديية. ولكن التعرض لنوع محدد من المسرطنات (المواد المسببة للسرطان) يؤذي في المعتاد نسيجا معينا. لذا بدا محتملا أن هناك مواد سامة أخرى لها أثرها في تلك النتائج. في البداية اتجهنا نحو الهالوجينات العضوية، وهي الكيميائيات التي كانت متوافرة بكثرة في الحيتان. فهذه المواد على الرغم من أنها ليست مسببة للسرطان بصورة مباشرة، كانت هناك أدلة على قدرتها على إحداث تغيرات في تعبير جينات معينة. كذلك تثبط الهالوجينات العضوية في كثير من الحيوانات، نشاط الخلايا التائية T-cells القاتلة، وهي خلايا مناعية تقضي عادة على خلايا الورم الخبيث (السرطاني) malignant tumor.
علاوة على ذلك؛، عندما تُعطى هذه الكيميائيات إلى حيوانات التجارب في أثناء الأطوار الجنينية الباكرة والمتأخرة وعقب الولادة مباشرة، تؤدي إلى حدوث تشوهات في الأجهزة العصبية والتناسلية والغدد الصماء. ثم إنها تثبط إنتاج البروتينات والخلايا المناعية الضرورية. لقد كان من المرجح، إلى حد بعيد، أن للهالوجينات العضوية هذه الآثار نفسها على الحيتان، الأمر الذي يمكن أن يفسر لماذا كانت حيتان بيلوگا سانت لورنس معرَّضة لسرطانات متنوعة وأيضا لأنواع أخرى كثيرة من الأمراض. وتبين حقا أن بعض الآفات التي لاحظناها في عيناتنا هي نتيجة للقصور المناعي immunodeficiency.
الصفات المميزة لحيتان البيلوگا
ترتحل عجول البيلوگا عادة مع أمهاتها (الحيتان في يمين الشكل). ويكون لون العجول بنيا عند ولادتها ولكنه يصير بالتدريج رماديا ثم أبيض عند بلوغها النضج. وفي المعتاد يتراوح طول أنثى البيلوگا البالغة بين 12 و 13 قدما، ونادرا ما يبلغ أطول الذكور 15 قدما (الحوت في يسار الشكل). وتتواصل الحيتان فيما بينها وتبحر في المياه التي تعيش فيها مستخدمة مدى واسعا من الأصوات. وهي تُركز تلك الأصوات الكثيرة وتستقبلها بطريقة أفضل بتغيير هيئة «البطيخة» melon التي على رأسها ـ وهي عضو متكور في مقدمة جبهتها. وتحصل العجول على طعامها من لبن أمهاتها فقط، وهو أغنى بنحو ثماني مرات من لبن البقر. وفي حيتان بيلوگا سانت لورنس، تحمل الدهون في هذا اللبن جرعات عالية من المواد السامة، ومن ثم تصير أجيال متتالية من الحيتان أكثر تلوثا. |
انضم إخصائي علم الأمراضpathologist ـ <S. دوگويز> الذي سبق أن قام بتشريح وفحص جثث عشرات الحيتان التي عثرنا عليها لمعرفة سبب وفاتها ـ إلى فريق من الباحثين برئاسة <M. فورتييه> من جامعة كويبك بمونتريال. وكانت تلك المجموعة تحلل عينات الدم المأخوذة من حيوانات حية لتحصي أنواع الخلايا المناعية، ولتختبر ما إذا كانت تلك الخلايا تقوم بوظائفها. فقررنا أن نستخدم طرقا مماثلة لفحص عينات دم من الحيتان المصابة بالتلوث للبحث عن علاقة بين مستويات الهالوجينات العضوية في الپلازما وأعداد الخلايا المناعية واستجاباتها.
في البداية كان علينا أن نصف الخلايا المناعية في دم أحد حيتان البيلوگا ونكيف اختباراتنا عليها. ولهذا الغرض استخدمنا عينات دم مأخوذة من حيتان قطبية أسيرة في مَمَاهة(1) (مربى مائي) شِدْ shedd aquarium بشيكاغو، وكذلك من حيتان برية حبسناها لحظة في بيئتها الطبيعية. ثم كيَّفْنا طرقنا التحليلية لقياس الكميات الضئيلة من المواد السمية الموجودة في الپلازما. ولاحظنا في مستنبتات الخلايا المناعية لحيتان البيلوگا القطبية حدوث تغيرات في تلك الخلايا عند تعرضها للهالوجينات العضوية في المختبر. وثمة دراسة حديثة أجريت في هولندا، أظهرت أيضا أن الفقم الأسيرة تُعاني تثبيطا لوظائفها المناعية عند تغذيتها بأسماك ملوثة طبيعيا. لقد كانت المستويات الكيميائية في هذه الأسماك تضاهي تلك الموجودة في الأسماك التي تعيش في نهر سانت لورنس. ونأمل في المستقبل القريب أن نحصل على إجابة حاسمة بفحص عينات مأخوذة من حيتان حية تعيش في نهر سانت لورنس.
ونحن مهتمون، على وجه الخصوص، بتعيين أدنى المستويات التي تحدث عندها التأثيرات المَرَضية للهالوجينات العضوية. فكل الحيتان والفقم التي تعيش في نظام سانت لورنس تحمل هالوجينات عضوية بدرجات متباينة، ومع ذلك لا تعاني كلُّها الأمراضَ بقدر ما تتعرض له حيتان البيلوگا. فنحن نعلم أن الحيوانات الكبيرة الأحجام تحتوي، كقاعدة عامة، على مستويات أقل من المواد السامة. فمثلا أصغر الحيتان (وهو خنزير الميناء) أكثرها تعرضا للتلوث، في حين أن أضخمها (وهو الحوت الأزرق) أقلها تأثرا. ويُعزى ذلك إلى أن الحيتان الصغيرة تحتاج من الطعام ـ لكل رطل من وزن جسمها ـ أكثر مما تحتاج إليه الحيتان الأكبر حجما. وفضلا عن ذلك فإن خنزير الميناء يحصل على غذائه من قمة السلسلة الغذائية حيث تتراكم الهالوجينات العضوية، أما الحوت الأزرق فيستهلك العوالق plankton التي توجد عند قاعدة السلسلة.
والحقيقة أن حيتان البيلوگا هي أكثر تلوثا مما يوحي به حجمها، الأمر الذي وجدناه في أول الأمر محيِّرا تماما. وبمعرفة المحتويات الكيميائية النموذجية في رطل من دهن الحوت تمكنَّا من تقدير الكمية الكلية لكل مادة كيميائية على حدة في العشيرة كلها التي تشمل 500 حوت. فإذا أدخلنا في حساباتنا القيمة الإجمالية لكل الطعام الذي تناولته العشيرة لأكثر من 15 عاما، أظهر نموذجنا أن تراكيز المواد السامة في الأسماك المحلية كانت أقل كثيرا من المقدار الذي يفسر العبء الكلي الذي لاحظناه. وعلى هذا كان من المرجح كثيرا وجود مصدر آخر.
عثرنا على هذا المصدر بتقصِّي مادة كيميائية معينة تسمَّى ميركس Mirex. لقد دُهشنا في باكورة الثمانينات عندما عثرنا على هذا المبيد الحشري ـ الذي كان يُستخدم لمقاومة نمل النار fire ants في جنوب الولايات المتحدة الأمريكية ـ في الحيتان التي تعيش في شرق كندا. وكشفت دراسة تتبعية follow up أن كلَّ مادة الميركس التي وُجِدت في حيتان البيلوگا كانت قد أُعِدَّت في مصانع كيميائية بولاية نيويورك بالقرب من بحيرة أونتاريو ثم تسربت داخل البحيرة حيث تجمعت في نسج ثعابين السمك (الأنكليس) eels. وفي الشهر 10 من كل عام، تهاجر ثعابين السمك البالغة إلى الأطلسي لتتوالد، سابحة أولا نحو مصب نهر سانت لورنس، مارة خلال الوسط الذي تعيش فيه حيتان البيلوگا.
فلما عدنا إلى نموذجنا وجدنا أنه إذا كانت حيتان البيلوگا قد أكلت ثعابين السمك عشرة أيام فقط كل عام، طيلة مدة الـ 15 عاما، فإنها تكون قد استهلكت من مادة الميركس الكميات التي كنا نقيسها في نُسُجِها. ويبين النموذج أيضا أن كيميائيات أخرى في ثعابين السمك (مثل المادتين PCB و DDT) علَّلَتْ وجود نصف التركيز الكلي للهالوجينات العضوية التي لاحظناها في الحيتان ـ وعند هذا المُفْتَرَق، شعرت وكأنني مخبر غرير يحاول كشف الطريقة التي تتحرك بها الطرود بين المدن وذلك عن طريق تفتيش عشوائي للسيارات على طريق سريع. ولن أتوصل والحالة هذه إلى شيء ما لم أقع مصادفة على شاحنة بريد.
وفي أواخر الثمانينات نقصت كمية الهالوجينات الكلورية التي قيست في فونة fauna البحيرات العظمى نقصا كبيرا. ولكننا لم نلاحظ انخفاضا مماثلا في حيتان البيلوگا. في البداية افترضنا أن التحسن لدى الحيتان ربما يَحدث متأخرا في نهاية الأمر. هذا فضلا عن أنها، على أية حال، بعيدة عن البحيرات العظمى جغرافيا وكذلك من ناحية السلسلة الغذائية. ولكن في النهاية توارد لتفكيرنا تعليل بديل، ولكنه لم يكن ينبئ بخير كثير في المستقبل.
يتكون نحو 40 في المئة من وزن الحوت من الشحم. ونحو 85 في المئة من هذا الشحم عبارة عن نسيج دهني تتركز فيه الهالوجينات الكلورية. وقد لاحظنا أن مستويات الهالوجينات العضوية كانت في كثير من الأحيان أعلى لدى الحيوانات الصغيرة جدا منها لدى تلك الأكبر منها سنا، وهذا يناقض الافتراض الشائع بأن المواد السامة تتراكم طوال حياة الحيوان كلها. ووجدنا أيضا أن الإناث كانت دائما أقل تلوثا من الذكور. فإذا أخذنا هذه الحقائق معا موضع الاعتبار، فإنها تعني ضمنيا أن الإناث مرَّرَتْ إلى عجولها كميات محسوسة من الكيميائيات. وقد تمكَّنَّا من إثبات صحة هذا الفرض بما حدث لعدد قليل من الإناث التي ماتت بعد أن وضعت صغارها بوقت قصير. فقد كانت تلك الإناث تنتج لبنا يحتوي على نحو 35 في المئة منه دُهْنًا. وعند اختبار ذلك الدهن، وُجد أنه يحتوي في المتوسط على 10 أجزاء في المليون من المواد PCBs وبعض المواد السامة الأخرى أيضا.
كناري البحار القطبية
لما كانت حيتان البيلوگا تصدر مدى واسعا بصورة استثنائية من الأصوات ـ يتراوح بين الصفير والطقطقة والصرير والتغريد ـ فقد أطلق عليها الملاحون الأوائل الذين كانوا أول من سمعها اسم كناري البحر.
وعلى الرغم من أن أعداد حيتان البيلوگا التي تعيش في نهر سانت لورنس لم تتجاوز 500 فرد منذ السبعينات، يقدر الخبراء أن نحو 100000 من حيتان البيلوگا تتجول في البحار القطبية حول ألاسكا وكندا وگرينلاند واسكندنافيا وروسيا. وتبين الصورة السفلى على اليمين أحد هذه القطعان. وبتتبع مسار أفراد الحيتان، عرف العلماء أن الحيتان كثيرا ما ترتحل مسافات طويلة جدا، وأحيانا عدة أميال تحت الجليد القطبي (الصورة السفلى). وبدلا من الزعنفة الظهرية يوجد للبيلوگا حيد ridge نسيجي طويل (الصورة العليا إلى اليمين). وباستخدامها هذا الحيد، يمكنها أن تشق طريقها خلال بضع بوصات من الجليد لتفتح لها ثقبا للتنفس. |
التُّراث السُّمِّي لسانت لورنس
لقد كانت كمية المواد السامة في اللبن نحو ثُلُثٍ واحد فقط من الكمية الموجودة عادة في شحم أنثى حوت البيلوگا. ومع ذلك فإنها كمية مذهلة ـ فبالمقاييس البشرية أي شيء يحتوي على أكثر من جزءين في المليون من المواد PCBs يُعَدُّ غير صالح للاستهلاك. وقد دل هذا أيضا على أن المواد السامة قد نُقِلَت بسرعة من الأم إلى العجل. وينمو العجل من نحو 50 كيلوغراما عند ولادته إلى 150 كيلوغراما في غضون عام واحد باغتذائه بنحو أربعة كيلوغرامات من اللبن يوميا. فإذا افترضنا أن شحم الحوت في الأم يحتوي على 30 جزءا في المليون من المواد PCBs (ويوجد في كثير من الإناث البالغة ما يربو على ثلاثة أمثال تلك الكمية)، وأن الدهن في لبنها يحتوي على 10 أجزاء في المليون من المواد PCBs، وأن نحو 70 في المئة من المواد PCBs هذه قد اكتُسبت، فمعنى ذلك أن الأم قد تنقل إلى عجلها، في غضون عام واحد، نحو 3.8 غرام من المواد PCBs. وهذا يعادل تركيز 60 جزءا في المليون في شحم عجل الحوت، أي ضعف الكمية الموجودة في أمه. وطوال هذه المدة كلها، قد تستهلك الأم 10 كيلوغرامات من الأسماك يوميا لتجدد ما تنوء به من عبء المواد PCBs الخاصة بها.
لقد أمدنا اللبن بالتفسير. فالعجل الرضيع يأكل طعاما أكثر تلوثا بكثير من طعام أمه. وبلغة الإيكولوجيا، تتغذى العجول عند مستوى أعلى في السلسلة الغذائية، حيث تكون المواد السامة قد تركزت إلى حد أعلى. وكانت بداية دخول المواد السامة نظام سانت لورنس في الثلاثينات والأربعينات. ولدينا عينة من زيت شحم حوت البيلوگا من باكورة الخمسينات تحتوي على 5 أجزاء في المليون من المواد PCBs. ونحن نعلم حاليا أن كل موجة جديدة من العجول بدأت بمستوى من المواد السامة الكامنة في شحمها أعلى من ذلك الذي لأمهاتها، ثم تغذت بأسماك كانت تحتوي أيضا على مستويات متزايدة من المواد السامة كل عام. ومن ثم بدأ كل جيل جديد من وضع أسوأ من ذلك الذي كان للجيل الذي سبقه.
ولا بدَّ أن هذا التفكير المنطقي ينطبق على كل الثدييات المائية المفترسة، معتمدا، إلى حدٍّ ما، على استراتيجيتها فيما يتعلق بمخزونها الدهني وإدرارها اللبن لإرضاع صغارها. فالليپيدات (الدهون) مواد قيّمة ـ وعلى وجه الخصوص في البحار الباردة ـ تُخْتزن وتُنقل للجيل التالي. ولكن عندما تحتوي الدهون على مواد سامة غير قابلة للتحلل بيولوجيا nonbiodegradable، فإن هذا الإرث يماثل في سميته الجينات الرديئة. ونظريا ينبغي أن تُظهر الحيوانات الصغيرة دلائل على التأثيرات الحادة acute effects للمواد السامة أكثر من تلك الموجودة في سانت لورنس. ولكن، لسوء الحظ لم يُعثر إلا على أعداد قليلة من حيتان البيلوگا في سنوات عمرها الأولى.
وفي الحقيقة، نحن نعتقد أنه لا تُولد أعداد كبيرة من العجول ـ فالإناث وربما الذكور أيضا قد لا تكون خصبة بالقدر الذي يتوقع لها. فالمواد السامة التي تعرضت لها في الرحم ربما أدت إلى تعطيل نمو أجهزتها التناسلية. كما أن المواد السامة التي تأكلها الحيوانات البالغة قد تؤدي إلى اختلال في الدورات الهرمونية الضرورية للتكاثر. ومنذ بضع سنوات أشير إلى أن الفقم الأسيرة التي تُطْعَم أسماكا ملوثة طبيعيا لا تتناسل. وكان لتلك الفقم مستويات منخفضة من فيتامين A ومواده السليفة precursors ـ وهي العناصر الضرورية للنمو وللتكاثر ومقاومة العدوى (الخَمَج).
ومن الواضح أن إنتاج العجول ونضج الصغار لتصل إلى سن البلوغ هي المفاتيح إلى بقاء عشيرة ما على قيد الحياة. ويُمضي كل من <R. ميشو> و <D. لپفيبفر>، من معهد سانت لورنس القومي لعلم السموم الخارجية ecotoxicology، شهورا كل عام على نهر سانت لورنس، ليراقبا حياة حيتان البيلوگا. كما أشرفا على مسوح من الجو، لتقدير حجم القطعان وتحديد بيئاتها المفضلة. وهما يعملان أيضا، باستخدام قارب صغير، لحساب نسبة الحيتان الصغيرة. لقد استخدما صورا فوتوغرافية لتعرُّف أكثر من 150 حيوانا، كان عددٌ منها إناثا ومعها نسلها من أعمار مختلفة. وهما يأملان في مشاهدتها في السنوات القادمة، لتقدم لنا بعض ما يدلنا على عدد المرات التي تلد فيها الإناث، وعلى عدد العجول التي تبقى من نسلها على قيد الحياة. نحن نستطيع، بتتبع حيتان معروفة، أن ندرس التركيب الاجتماعي للعشيرة، كما أننا نستطيع، باستخدام فحص أجزاء من نسيج الجلد، أن نقدر درجة صلات القرابة الوراثية في الجماعات الاجتماعية.
ليس لدينا إجابات محددة بعد، ولكن لدينا كل الأدلة على أن حيتان بيلوگا سانت لورنس لم تستطع زيادة أعدادها بسبب تعرضها مددا طويلة لخليط معقد من المواد الكيميائية السامة. لقد عالجنا المشكلة من زوايا مختلفة، ونحن نعتزم متابعة كل واحدة من تلك الزوايا. فدراسة الحيتان في أي مكان تستلزم قدرا كبيرا من تكريس الجهود لها. ويلزم سانت لورنس أيضا قَلْبٌ جَسُور وشيء من عدم التحيز. وكوننا نعرف عددا كبيرا من حيتان بيلوگا فردا فردا، فإن الإبحار بينها يكون أشبه بزيارة بعض الأقارب. إننا لا نجد أنفسنا في مياه غريبة ونحن محاطون بأسراب الحيتان، كما كانت الحال أيام <J. كارتييه>. فهي تأتي في مجاميع صغيرة لترحب بنا، ونحن ندرك أهمية كل واحد منها من أجل مستقبلها.
المؤلف
Pierre Béland
يعمل باحثا رئيسيا في معهد سانت لورنس القومي لعلم السموم الخارجية. وفي هذه الوظيفة ـ وفي عمله السابق باحثا بقسم المصايد والمحيطات بكندا، ورئيسا لمركز بحوث إيكولوجية المصايد ـ درس النظم البيئية البحرية لمصب نهر سانت لورنس وخليجه. وقد نَشَر ما يربو على 60 بحثا و 27 مقالة عامة وكتابين.
مراجع للاستزادة
DOOMED CANARIES OF TADOUSSAC. Jon R. Luoma in Audubox, Vol. 91, No. 2, pages 92-97; March 1989.
MESSAGE FROM THE BELUGAS. Wendy Penfield in International Wildlife, Vol. 20, No. 3, pages 40-45; May June 1990.
TOXIC COMPOUNDS AND HEALTH AND REPRODUCTIVE EFFECTS IN ST. LAWRENCE BELUGA WHALES. E Beland, S. De Guise, C. Girard, A. Lagace, D. Martineau, R. Michaud, D.C.G. Muir; R.J. Norstrom, E. Pelletier, S. Ray and L. Shugart in Journal of Great Lakes Research, Vol. 19, No. 4, pages 766-775;1993.
BELUGA: WHITE WHALE OF THE NORTH. Kenneth S. Norris in National Geographic, Vol. 185, No. 6, pages 2-31; June 1994.
BELUGA: A FAREWELL TO WHALES. Pierre Beland. Lyons and Burford, New York, 1996.
Scientific American, May 1996
(1) حوض صنعي لحفظ أو عرض الأسماك والحيوانات والنباتات المائية الحية.