قاهرو الأشباح : تشارلز داروين وزملائه
قاهرو الأشباح : تشارلز داروين وزملائه
عندما وضعت المؤسسة العلمية أحد الروحانيين في موضع الاتهام، اتخذ مكتشفا
الانتقاء الطبيعي ـ داروين و والاس ـ موقفين متعارضين.
<R.ميلنر>
في 16/9/1876 تمدد <Ch. داروين> بعد الغداء على أريكته في غرفة الرسم كعادته التي لم تتبدل، وأخذ يدخن لفافة من التبغ التركي ويقرأ صحيفة “التايمز” التي كثيرا ما أحنقته مواقفها السياسية (كوقوفها مع الجنوبيين ضد الشماليين في الحرب الأهلية الأمريكية) والتي طالما اقترحت عليه زوجته <إيما> أن يتخلى نهائيا عنها، ولكنه رفض ذلك دوما، قائلا فأولى أن “أتخلى عن اللحم والشراب والهواء.”
وفي ذلك اليوم لاحظ داروين في عمود “رسائل القراء” تقريرا عن عالمِ حيوان شاب يسمى <R.E.لانكستر>، كان يقاضي وسيطا روحانيا(1) spirit mediumمشهورا هو “الدكتور” <هنري سليد> الذي كان يخادع بسطاء اللندنيين. وبذلك يكون لانكستر أول عالم يلاحق روحانيا محترفا “بجرم الاحتيال”، وهو ما كان داروين يتمنى حدوثه منذ زمن طويل. وبقدر ما أغبطه هجوم لانكستر على سليد، فقد آساه أن يعلم أن غريمه الودي وشريكه في وضع نظرية الانتقاء (الانتخاب) الطبيعي(2) natural selection <.R.A والاس> كان أيضا هدفا للهجوم.
قُيض لمحاكمة سليد أن تصبح واحدة من أغرب القضايا في إنكلترا العصر الڤيكتوري. فقد رآها البعض حلبة صراع يمكن أن يسجل فيها العلم انتصارا ساحقا على “الخرافات”. في حين اعتبرها <.C.Aدويل> (الروحاني(3) المتعصب، على الرغم من تجسيد المنطق في شخصية المحقق شرلوك هولمز التي ألفها) بمثابة اضطهاد persecution لسليد وليس محاكمة prosecution. ولكن ما جعل القضية فريدة من نوعها هو المواقف المتعارضة منها لأكبر اثنين من علماء التاريخ الطبيعي في ذلك القرن. فقد منح داروين “المادي(4) الرئيسي” تأييده لصالح الادعاء، في حين كان صديقه القديم والاس الشاهد البارز للدفاع. مما أضفى طابعا دراميا (مثيرا) على هذه الحقبة من تاريخ العلم.
كان والاس شخصا مرموقا كمؤلف وكعالم حيوان ونبات وكمكتشف للعديد من الأنواع الجديدة وكأول أوروبي يدرس القرود في البرية، وكرائد في دراسة توزع الحيوانات. لكن الإخفاق كان يحالفه كلما انبرى لتأييد القضايا الراديكالية كالاشتراكية والسلام وتأميم الأراضي والمحافظة على الطبيعة البرية وحقوق المرأة والروحانية. فإلى جانب مؤلفاته الكلاسيكية عن الجغرافيا الحيوانية والانتقاء الطبيعي والحياة في الجزر وأرخبيل ملايو، ألف كتابا بعنوان “المعجزات والروحانية المعاصرة” يمجد الوسطاء الروحانيين. وكان قد أجاز لتوه مقالة مثيرة للجدل حول “تواصل الأفكار” لتقرأ في اجتماع (الرابطة البريطانية لتقدم العلوم) مما أثار ضجة أدت به إلى اعتزال الاجتماعات العلمية حتى آخر حياته.
تشارلز داروين عام 1868 |
لقد أراد والاس أفضل ما في العالميْن معا: فمع الحشرات والطيور كان أكثر من داروين تشددا في تطبيق مبدأ الانتقاء الطبيعي، ولكنه شك في إمكانية تطبيقه على الإنسان. فإذا كان ذكاء الغوريلا كافيا لبقاء البشريات(5) hominids الأولى ـ تساءل والاس ـ فلماذا تطورت منها أدمغة قادرة على صياغة اللغة وتأليف السيمفونيات وإنتاج الرياضيات؟ وهكذا فقد استخلص: إنه على الرغم من تطور جسم الإنسان Homo sapiens بالانتقاء الطبيعي فإنه “يمتلك شيئا لم يكتسبه من أسلافه الحيوانات، طبيعة أو جوهرا روحيا.. لا يوجد له تفسير إلا في عالم الروح الخفي.”
والحق أن موقف والاس هذا لم يكن نابعا من أي اعتقاد ديني تقليدي، وإنما من اهتمامه بالروحانية منذ وقت طويل، أي بمزيج من المعتقدات الشرقية القديمة والنزعات الغربية “لإضفاء” طابع دنيوي على الروح، وبالتالي إثبات وجودها. وعندما نشر والاس نظريته هذه عام 1869 كتب له داروين: “إنني مختلف معك بشدة، فلعلي لا أرى حاجة إلى استدعاء أي سبب إضافي [قوة خارقة للطبيعة] فيما يخص الإنسان.. آمل ألا تكون قد أجهزت تماما على طفلك الوليد وطفلي أيضا” ـ قاصدا بذلك نظريتهما في الانتقاء الطبيعي.
في الأعلى: لوح الأردواز المزدوج المتضمن كتابة الأرواح المزعومة، والمحفوظ منذ خريف 1876، مع رسالة (في الأسفل) تشهد بصحته بقلم <هنسلي ودوود>، ابن خال داروين ونسيبه. والكتابة باليونانية على اللوح العلوي هي جزء من سفر التكوين (الخليقة) التوراتي يصف خلق البشر والحيوانات ـ لعل الهدف من اختيار هذه الفقرة (هذا الشاهد) كان إزعاج التطوريين بصورة خاصة. لقد اكتشف مؤلف المقال هذا اللوح في صيف 1995 في مكتبة جامعة كامبريدج، حيث بقي غير ملحوظ منذ إيداعه هناك ضمن مجموعة من الرسائل والصور وهبتها للمكتبة جمعية أرشيف البحوث النفسية Society for Psychical Research Archive. |
داروين “المادى” materialist
على شاكلة والاس ومريديه، كان الكثيرون من مثقفي العصر الڤيكتوري قد ارتدوا عن البديهية المادية في العلم الفيزيائي، وأخذوا يبحثون عن “التلغراف اللاسلكي” الذي يمكن أن يصلهم بعالَم غير محسوس. أما داروين وأكثرية العلماء الآخرين فقد أبقوا المعجزات بعيدا عن نظرياتهم، غير أن بعضهم شارك والاس آراءه وكان من بينهم الفيزيائي<O. لودج> والكيميائي <W.كروكس> مكتشف عنصر الثاليوم.
لقد اجتذبت الروحانية أناسا ذوي طيف واسع من الاهتمامات، ولكنها تمحورت أساسا حول إمكانية التخاطب مع الموتى. وقد بدأ هذا الجانب من نشاط الحركة في العام 1848 بظهور الأختين <K&.M. فوكس> وهما من مدينة هايد سڤيل في ولاية نيويورك. فعندما كانت الفتاتان اليافعتان تتخاطبان مع “الأرواح”، كانت تسمع أصوات قرع غامضة وكأنها تتهجى رسائل مطولة. (بعد ثلاثين عاما من ذلك، وبعد أن نالتا الشهرة والثروة، اعترفت إحدى الأختين أنها كانت تحدث النقرات بطقطقة إبهام قدمها داخل الحذاء.) على أية حال فقد تمتعت الروحانية بشعبية واسعة في كل من إنكلترا والولايات المتحدة وأوروبا طوال السنوات الثمانين التالية.
لوحة حفر من الصحافة لمشهد من المحاكمة التي شدت إنكلترا الڤيكتورية، ويبدو البيولوجي <R.E.لانكستر> (واقفا) يشهد ضد “الروحاني” <H.سليد> (أقصى اليسار)، كمايبدو لانكستر ممسكا بلوح أردواز استعمله سليد في جلساته. |
وأصبح من أتباعها في بداية السبعينات (من القرن 19) <H. وِدْوود> ابن خال داروين ونسيبه، والذي كان يتوق أن يصبح عالما مرموقا مثله، أو مثل قريبهما الفسيولوجي <F.گالتون> أو مثل جد داروين <إيراسموس> (6). ولكن اثنين من المحتالين هما <Ch. وليامز> و <F.هرن> اكتشفا أن وِدْوود هو الأكثر سذاجة في العائلة. وبإلحاح منهما توسل وِدْوود إلى داروين ليحضر جلسات استحضار الأرواح، وليسمع الأكورديونات تعزف من تلقائها، وليشاهد الموائد تعلو في الهواء والأقلام تكتب بذاتها، وليرى أيادي الأرواح تتوهج في الظلام. لكن داروين كان يرفض دوما الحضور متعللا بالتعب الشديد أو بالمرض أو بالانشغال. وقد اعترف ذات مرة أنه “شديد التعصب حيال هذه الأمور.”
ومع ذلك فقد أرسل في الشهر 1/1874 عضوين مقربين من حلقته ليحضرا جلسة من جلسات وليامز، وهما ابنه <جورج> ـ وعمره حينذاك 29 عاما وصديقه ومساعده الشهير عالم الحيوان <.H.Thهكسلي> الذي دخل باسم مستعار. وقد خلص الاثنان ـ على الرغم من دوران القوارير وعزف القيثارة تلقائيا ـ إلى أن ما شاهداه لا يتجاوز خداعا فجا. وكتب الابن جورج ـ وهو فلكي ناشئ ـ أنه صدم من رواية عمه ودوود “عديمة القيمة” حول جلسات وليامز. وفي وقت لاحق من العام نفسه كتب داروين إلى أحد رجال الصحافة يحثه على فضح وليامز بوصفه “وَغْدًا خدع الجمهور طوال هذه السنوات.”
وفي العام التالي قرر لانكستر ـ المساعد المختبري الشاب لهكسلي ـ أن يمسك بوليامز وهرن وهما يمارسان الغش، وكان يدرك أنه سينال بذلك إعجاب بطليه داروين وهكسلي. لكن الوسيط أصبح أكثر حذرا بعد زيارة هكسلي وجورج داروين، وأخذ يتجنب أي شخص له صلة بحلقة داروين. حينذاك، وفي الشهر 4/1876 ظهر أمام لانكستر هدف جديد جذاب. فقد وصل إلى لندن وسيط نفسانيpsychic أمريكي شهير هو “الدكتور” <H.سليد> “للبرهنة على حقيقة التواصل مع الموتى.” وزعم سليد أن روح زوجته المتوفاة تكتب له الرسائل على ألواح الأردواز(7).
ذهب لانكستر مع زميله طالب الطب <H.دنكين> إلى سليد زاعمين أنهما من المؤمنين بمناجاة الأرواح. وبعد أن دفعا رسم الدخول أمكن لهما طرح الأسئلة على الأرواح، وتلقيا أجوبة مكتوبة بغموض. وفجأة في ظلام الغرفة، اختطف لانكستر اللوح من يد سليد فوجد عليه إجابة عن سؤال لم يطرح بعد، فجاهره بأنه “وغد ودجال.”
في اليوم التالي كان سليد وشريكه <G.سيموندس> في قبضة الشرطة بتهمة مخالفة مرسوم التشرد Vagrancy Act، وهو قانون قديم يستهدف حماية الجمهور من قارئات الكف الجوالات ومن حاذقي خفة اليد. وطوال خريف 1876 بقيت لندن كلها تطن بمحاكمة سليد، واكتظت قاعة المحكمة الصغيرة بمؤيدي سليد وبمعارضيه وبثلاثين صحفيا، ونقلت صحيفة التايمز اللندنية وقائع المحاكمة يوما بيوم.
لم يكن داروين ـ الذي توفيت ابنته الحبيبة <أنّي> عام 1851 وعمرها عشر سنوات ـ يضمر سوى الازدراء “للمحتالين المهرة” الذين يتصيدون الأقارب المكلومين. ولكنه تجنب التعبير عن ذلك علنا، لأن كتابه عن أصل الأنواع On the Origin of Species كان قد أثار من الجدل ما يكفي لحياة بأكملها. أما على الصعيد الشخصي فقد كتب إلى لانكستر رسالة مفعمة بالتهنئة يقول فيها: إن في إرسال سليد إلى السجن منفعة عامة. وأصر على المساهمة بمبلغ عشرة جنيهات في تكاليف الدعوى (في القانون الإنكليزي يدفع المشتكي نفقات المحاكمة. و10 جنيهات كانت مبلغا كبيرا يعدل الأجر الشهري لعامل واحد).
كان من بين المعتقدين بالروحانية <هنسلي ودوود> (في الأعلى) و <R.A.والاس> (في الأسفل، أمام نبات رمح الملك kings-spear في حديقته الخاصة عام 1905). وقد تأثرت سمعة والاس العلمية كثيرا بسبب دفاعه عن سليد، كما أدت الوقائع إلى فراق دائم بين ودوود وداروين. |
من ملفات المحاكمة
مع استمرار المحاكمة، أعلن محامي الادعاء أن الساحر المسرحي <N.J.ماسكلين> مستعد لأداء كافة “الظواهر المزعومة” التي شوهدت في جلسات سليد. لكن القاضي حذر بدوره من أن تقديم حيل اللوح السحري في المحكمة لن يثبت شيئا، وأن السؤال هو ما إذا كان لانكستر ودنكين قد أمسكا بالفعل بالمتهميْن وهما يزوِّران الكتابات الروحية المزعومة.
اتضح في نهاية الأمر أن هذين العالمين كانا مجرد شاهدين بائسين. فيبدو أن مهارات الملاحظة التي اكتسباها في التشريح والفسيولوجيا، لم تكن ذات نفع يذكر لاكتشاف غش المحتالين المحترفين. وكما كتب هكسلي لاحقا فإن “صفات المُحَقِّق هي الأكثر نفعا من صفات الفيلسوف في مثل هذه التحريات.. وأن بوسع المرء أن يكون عالما في التاريخ الطبيعي أو كيميائيا بارعا، ولا يكون في الوقت نفسه ـ سوى محقق ساذج للغاية.”
كان باديا بالفعل أن لانكستر ودنكين لم يستطيعا الاتفاق على شيء أكثر من اتهامهما لسليد بأنه محتال. هل استخدم الوسيط في الكتابة أداة كشتبانية، أم أنه أمسك بعقب قلم تحت اللوح في حين كانت إبهامه مرئية فوقه؟ هل استبدل اللوح النظيف بآخر مكتوب سلفا؟ هل كان اللوح عاديا أم احتوى على عوارض منزلقة أو لوحات خفية؟ لم يستطع شاهدا الادعاء أن يقررا متى أو كيف تمت الكتابة.
وفي المقابل، بلغت شعوذة ماسكلين في قاعة المحكمة حد الكمال. فجوابا عن سؤال يتعلق بالكتابة الفورية ـ وقبل أن يتمكن القاضي من منعه ـ أخذ يفرك لوحا نظيفا بإسفنجة رطبة إلى أن ظهرت عبارة: “الأرواح موجودة هنا!” ثم مسح اللوح ومرر عليه الإسفنجة ثانية فظهرت العبارة نفسها من جديد. وهنا صاح سيموندس شريك سليد مفتونا: “رائع! هل لي أن أتفحص اللوح؟” فرد ماسكلين: “أوه، أنت تعرف عنه كل شيء.”
تابع محامي الادعاء توفير الفرص لماسكلين لعرض المزيد من حيل اللوح إلى أن منعهما القاضي أخيرا من الاستمرار. حينذاك قدم المحامي لسليد لوحين صغيرين مرتبطين بِمِفْصَلات من جانب وبِمِشْبَك من الجانب الآخر مقترحا عليه أن يظهر الكتابة بداخل اللوحين المقفلين ويقنع بذلك العالم أجمع. فكان رد سليد أنه كثيرا ما تضايق في الماضي من أمثال هذه الاختبارات حتى أن روح <آلي> (زوجته المتوفاة) أقسمت ألا تكتب مطلقا على لوح مقفل.
أصبح لانكستر في النهاية مديرا للمتحف البريطاني للتاريخ الطبيعي كما غدا وجها علميا معروفا. وهو يبدو في هذا الرسم الساخر وجها لوجه أمام طائر بوقير hornbill محنط، في حين ظهر في أسفل اللوحة سرطان نعل الحصان horseshoe crab، وهو مفصلي الأرجل ألف عنه لانكستر كتابا مازال يعتبر مرجعا كلاسيكيا. ومع ذلك فقد خُدع في العام 1912 بأكذوبة “إنسان پيلتداون” المؤيدة للتطور. |
ومن بين العديد من شهود الادعاء، أفاد كيميائي يدعى<A. دُفيلد> أن سليد قد أقنعه “بإمكان تأسيس ما يشبه مكتب البريد للاتصال بالعالم الآخر”، ولكنه يشك في ذلك الآن. وذكر شاهد آخر أن سليد سبق وتعرض للموقف نفسه في الولايات المتحدة قبل بضع سنوات عندما خطف أحدهم اللوح من يديه وفضح حيلته.
بلغت المحاكمة ذروتها بظهور والاس كشاهد دفاع، وكانت استقامته وصراحته معروفتين للجميع. فعندما نودي عليه قال إنه شاهَد بالفعل الظواهر المزعومة، ولكنه امتنع عن الجزم بكون الكتابات من فعل الأرواح، واعتبر أن سليد محترم وصادق و”لا يعرف الاحتيال.. تماما كأي باحث مخلص في قسم العلوم الطبيعية، يجتهد في البحث عن الحقيقة.”
وفي مرافعته الأخيرة جادل محامي سليد بعدم وجود أدلة حقيقية ضد موكله، إذ لم يُثبت أحد أن اللوح كان معدا مسبقا. أما عروض ماسكلين حول احتمالية أن يكون الخداع قد تم، فكانت خارج الموضوع. وإن ظهور الكتابة قبل طرح السؤال المتعلق بها لا يثبت شيئا حول مصدرها، ثم إن لانكستر ودنكين لم يستطيعا الاتفاق حول ما شاهداه بالتحديد أثناء الجلسة. وفضلا عن ذلك، فإنه يجب اعتبار عالم مرموق مثل والاس موثوقا بقدر الشاب لانكستر على أقل تقدير. ثم أنهى المحامي مرافعته مستشهدا بـ<گاليليو> (8) وملاحظا أن العلماء المجددين الذين يتحدون معتقدات عصرهم هم دائما مذمومون، موجها تلميحه الساخر إلى زمرة التطوريين.
لكن شيئا لم يستطيع إنقاذ سليد. فقد قال القاضي إنه تفهم أن الروحانية “نوع من دين جديد،” وهو لا يريد إيذاء مشاعر من يعتقدون بها صادقين. لكن السؤال يظل مطروحا على المحكمة فيما إذا كان المتهمان قد قدما أعمالهما احتيالا على أنها ظواهر خارقة. وبعد أن استنتج أن عليه أن يقرر “حسب المساق المعروف للطبيعة،” أصدر حكمه بالأشغال الشاقة ثلاثة أشهر.
لم يقض سليد هذه العقوبة، لأنه استأنف الحكم. وقرر قاض آخر أن مرسوم التشرد الذي يحرم قراءة الكف palmistry لا يمكن تطبيقه على دعاوى كتابة الأرواح. غادر سليد وشريكه إنكلترا إلى ألمانيا على وجه السرعة، وخلال زمن قصير تمكن سليد من إقناع كل من مالك بيته وساحر محلي ورئيس الشرطة وعدة علماء ألمان بارزين (من بينهم الفيزيائي <J.تسولنر> من جامعة لايبزيگ) بأنه على اتصال بالأرواح وبقوى خارقة مختلفة. وحينما نفدت حيلته وانكشف أمره، اضطر ـ للمرة الثانية ـ إلى مغادرة المكان. وانتهى سليد آخر المطاف مدمنا على الكحول في نُزُل متقوض بنيويورك وأمسى صيدا سهلا لمحرري الصحف الشعبية الذين بعثوا إليه بمراسلين مبتدئين يشهِّرون به من جديد.
الوسيط الروحاني هكسلي
على خلاف <تشارلز داروين> فقد تعامل عالم الحيوان <توماس هكسلي> مع مزاعم الروحانيين إما بلا مبالاة أو بروح الدعابة. ولقد حضر ذات مرة مجلسا، عمدت فيه سيدة أمريكية حاذقة وفاتنة أيضا، إلى تضليل الحضور من علية القوم بعرضها الزائف للقوى الروحانية وقراءة الأفكار. وكتب هكسلي ـ فيما بعد ـ أنه على الرغم من اكتشافه ألاعيب هذه السيدة فقد افتن بعرضها لدرجة منعته من التعريض بها، ثم أضاف متأملا “الخداع عبقرية في غير مكانها، وإنني لأعترف بأنه لم يكن في وسعي مطلقا تجاوز نوع من الإعجاب المكتوم بالسيدة X.” وحينما أهداه <A.R. والاس> نسخة من كتابه عن الروحانية كتب له هكسلي: “ربما يكون هذا كله صحيحا.. غير أنني ببساطة لا أستشعر أن لديَّ أي اهتمام بالموضوع.” ومع ذلك فقد كان لدى هكسلي من الاهتمام ما يكفيه لإتقان فن طقطقة إبهام القدم في الحذاء، وبما يمكّنه هو أيضا من الزعم بقدرته على استحضار الأرواح. يقول هكسلي: “يمكن بمزيد من الصبر والمثابرة والممارسة أيضا تكرار طقطقة الإبهام بسرعة كبيرة.. بقوة أو بخفة وحسب الرغبة. وإنه يلزم لإحداث تأثير أوقع، أن تكون الجوارب رقيقة والحذاء متسعا وقاسي النعل. وفوق ذلك يستحسن اختيار موقع رقيق من البساط، للإفادة من رنين أرضيته الخشبية.” |
بعد المحاكمة
دفع ضريبة هذا النزاع مشاركون آخرون غير سليد. ففي العام 1879 حاول داروين أن يطالب لوالاس بمعاش تقاعدي حكومي اعترافا بمساهماته الباهرة في التاريخ الطبيعي، إذ كان يعلم أن والاس يتكسب عيشه الهزيل من تصحيح أوراق الامتحانات. ولكن عندما كتب داروين إلى صديقه عالم النبات <J.هوكر> مدير حدائق كيو، رفض هذا تقديم المساعدة مجيبا بفظاظة أن “والاس فقد مكانته تماما، ليس بمجرد انضمامه إلى الروحانية، وإنما أيضا لإجازته متعمدا ـ وضد رأي اللجنة كلها ـ عرض مقالة حول التخاطر العقلي mental telepathy في الاجتماعات العلمية.” ثم أضاف أنه “يعتقد أن من الإنصاف أن تعرف الحكومة أن المرشح روحاني ضالع وقيادي!”
لم ييأس داروين وأجاب أن معتقدات والاس “ليست أسوأ من الخرافات السائدة في البلاد” ـ قاصدا بذلك الديانة المنظمة organized religion. حاول داروين وهكسلي لدى أشخاص آخرين من دون جدوى. فكتب داروين شخصيا إلى رئيس الوزراء <وليام گلادستون> الذي رفع الالتماس إلى الملكة ڤيكتوريا. وهكذا حصل والاس في النهاية على معاش متواضع مكنه من الاستمرار في تحرير مقالاته وكتبه، إلى أن توفي عام 1913 وعمره 90 سنة.
في السنوات التي تلت المحاكمة لم يلتق ودْوود وداروين إلا لماما. وقد حدث في العام 1878، أن مراسلا للجريدة Light عزم على فضح الوسيط الروحاني <Ch.وليامز> الذي سبق وحاول استغلال ودوود لينال من عائلة داروين. فخلال جلسة لاستحضار الأرواح قام الصحفي على حين غرة بإضاءة المكان، وحينئذ شوهد وليامز مرتديا أسمالا بالية ذات وميض فوسفوري ولحية مستعارة سوداء. أي كما قال داروين فيما بعد: “ملابس أشباح قذرة.”
“عرض بديع،” هكذا صاح داروين مبتهجا حينما طالع هذا النبأ في الصحف. لكن إيمان نسيبه ودوود بالأرواح لم يتزعزع، فبضعة عروض زائفة لا تعني بالنسبة له سوى أن الوسيط يجد صعوبة أحيانا في الاتصال بالعالم الآخر مع وجوب إرضاء جمهور الحاضرين. كان هذا التفسير بالنسبة لداروين بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، إذ صرخ مستشيطا: “<هنسلي ودوود> يقر بثبوت احتيال وليامز ولكنه مصر على رؤيته لأشباح حقيقية في الجلسات. أليست هذه طرفة نفسانية؟”
وفي العام 1880 أرسل ودوود إلى داروين مخطوطة مقال مطول ينضوي على مؤالفة روحانية بين العلم والدين، راجيا منه أن يقرأه، وربما يقترح عليه كذلك: أين يمكنه نشره؟ وبمزاج سوداوي جلس داروين ليرد على قريبه. ولعله تذكَّر وقت أن حارب ودوود من أجله سنوات عديدة خلت. فقد ساعد على إقناع أبيه وعمه ليسمحوا له بالمشاركة في الرحلة الاستكشافية على ظهر السفينة الملكية بيگل(9). كما كان داروين قد أوكل له طباعة ونشر مؤلف عن نظريته في الانتقاء الطبيعي.
كتب داروين “ابن خالي العزيز: لقد مضى بالفعل وقت طويل منذ التقينا آخر مرة، وربما قد لا يعرف أحدنا الآخر إذا التقينا الآن، غير أن صورتك السابقة مازالت واضحة في مخيلتي على نحو تام.” على أن داروين لم يشأ مجرد قراءة مخطوطة قريبه لأنه “كان ثمة ما يكفي ويزيد من مثل هذه المحاولات للتوفيق بين الخليقة(10) (التكوين) Genesis والعلم.” وهكذا اثنان من أبناء العمومة كانا يوما جد قريبيْن، افترقا الآن تماما حول مسألة العلم والخوارق.
في العام نفسه رفض لانكستر الذي أصبح أستاذا في علم الحيوان، دعوات للاستمرار في ملاحقة مستحضري الأرواح. ففي رسالة إلى الجريدة Pall MallGazette كتب يقول: “الوسيط الروحاني أنموذج عجيب وكريه في التاريخ الطبيعي، وإذا أردت دراسته فيجب أن تأخذه على حين غرة.. لقد قمت بنصيبي في مطاردة (الظربان)، فليتابع آخرون.” وقد عين لانكستر فيما بعد مديرا للمتحف البريطاني للتاريخ الطبيعي.
على أن ما يدعو للسخرية حقا، أن يُستغفل تماما خصم المحتالين لانكستر، في العام 1912 بخدعة إنسان پيلتداون Piltdown man، وهي واحدة من أشهر التزييفات في تاريخ البيولوجيا (الحَياتِيّات) التطورية evolutionary biology. فطوال الأربعين عاما التالية قَبِل العلماء قطع عظام “الإنسان القرد” ape-manالتي نبشت على بعد نحو 25 ميلا من منزل داروين، على أنها من بقايا “الحلقة المفقودة” missing link. فبحماسهم المتقد لنظرية داروين ووالاس تبنى لانكستر وغيره من تطوريي الجيل الجديد هذا التزوير الأحفوري من دون انتقاد كان هكسلي الذي توفي عام 1895 يعلم تماما أن علماء عديدين ينزعون إلى إنماء معتقدات لاعقلانية تخص كلا منهم. لقد جابه في شبابه رجال الكنيسة في سبيل ترسيخ المقاربة العلمية اللازمة لحل ألغاز أصول الإنسان. لكنه أَسَرَّ في وقت لاحق لأحد المدرسين ساخرا “سنعيش نحن أو أولادنا لنرى الحماقة كلها مؤيدة للعلم.” وهي نبوءة صالحة تماما للعديد من الادعاءات العلمية اللاحقة من مثل: إنسان پيلتداون، و”العصر الحجري” المزعوم لقبيلة تاسادي في الفيليبين، و”الاندماج البارد” في الفيزياء النووية. وقد حث داروين نفسه في كتابه نسب الإنسان The Descent of Man على مقاربة متشككة للملاحظات غير المؤكدة. وكان يعتقد أن قبول البراهين الضعيفة أكثر خطورة من تبني نظريات خاطئة. ومما كتبه في ذلك: “تضر الوقائع المزيفة مسيرة العلم أيما ضرر، لأنها ـ على الأرجح ـ تعمر طويلا. هذا في حين لا تؤذي الآراءُ غير الصحيحة كثيرا طالما توافرت بعض الأدلة، لأن الكثيرين سيتسابقون لإثبات زيفها.”
المؤلف
Richard Milner
هو مؤرخ للعلوم ركَّز دراسته في السنوات العشرين الماضية على تشارلز داروين. لقد كشف النقاب عن عدة أحداث في حياته بقيت مجهولة. ويذكر أن ميلنر حصل على ماجستير في علم الإناسة (الإنثروبولوجيا) من جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، وحصل على الدكتوراه في التطور البشري من جامعة كاليفورنيا في بيركلي عام 1968. يعمل حاليا محررا في مجلة التاريخ الطبيعي Natural History الصادرة عن “المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي”. وهذا مقاله الثاني في مجلة “ساينتفيك أمريكان.”
مراجع للاستزادة
ALFRED RUSSEL WALLACE, THE ORIGIN OF MAN, AND SPIRITUALISM. Malcolm Jay Kottler in Isis, Vol. 65, No. 227, pages 145-192; June 1974.
THE WEDGWOOD CIRCLE, 1730-1897: FOUR GENERATIONS OF A FAMILY AND THEIR FRIENDS. Barbara and Hensleigh Wedgwood. Collier-Macmillan (Canada), 1980.
“I WILL GLADLY DO MY BEST”: HOW CHARLES DARWIN OBTAINED A CIVIL LIST PENSION FOR ALFRED RUSSEL WALLACE. Ralph Colp, Jr., in Isis, Vol. 83, No. 1, pages 3-26; March 1992.
THE ENCYCLOPEDIA OF EVOLUTION: HUMANITY’S SEARCH FOR ITS ORIGINS. Revised edition. Richard Milner. Henry Holt and Company, 1993.
Scientific American, October 1996
(1) الوسيط الروحاني (واختصارا: وسيط) من يزعم القدرة على الاتصال بعالم الأرواح أو بقوى أخرى خارقة للطبيعة.
(2) محور النظرية الداروينية لتفسير تنوع الكائنات الحية وتطورها، والذي يركز على قدراتها المتفاوتة على البقاء والتكاثر في ظروف بيئية متباينة ودائمة التغير.
(3) الروحانية spiritualism: مذهب الاعتقاد بإمكانية مناجاة الأرواح.
(4) المادِّية materialism: مذهب فلسفي يستند إلى الحقائق المادية الملموسة القابلة للتجريب والقياس دون غيرها. وينفي هذا المذهب بصفة خاصة وجود عوالم أخرى غير مادية مثل عالم الأرواح.
(5) فصيلة من الرئيسات primates تضم الإنسان الحالي وأشكاله القريبة المندثرة مثل إنسان نياندرتال Neanderthal man. (التحرير)
(6) طبيب وعالم وشاعر بريطاني (1713-1802). له عدة مؤلفات طرح فيها أفكارا سابقة لعصره في علوم الطبيعة والمجتمع. (التحرير)
(7) ألواح من الحجر الأسود الطبيعي كانت تستخدم حتى أواسط هذا القرن من قبل تلاميذ المدارس. (التحرير)
(8) فلكي وفيزيائي إيطالي (1564 – 1642)، من أهم علماء عصر النهضة، تعرض لاضطهاد شديد من الكنيسة لمجاهرته بأن الأرض هي التي تدور حول الشمس.
(التحرير)
(9) اسم السفينة الشراعية التي دارت حول العالم في رحلة استكشافية طويلة (1831- 1836)، وعلى ظهرها تشارلز داروين الشاب الذي قام بجمع العينات وتدوين الملاحظات الجيولوجية والبيولوجية، التي استندت إليها نظريته الثورية في التطور.
(10) أول أسفار العهد القديم (التوراة) ويتضمن سيرة خلق الكون والكائنات في سبعة أيام، وهبوط آدم وحواء من الجنة، وطوفان نوح، وقصصا أخرى. يرجح حاليا أنه كتب من قبل أحبار اليهود أثناء السبي البابلي. (التحرير)