الهدايا الغُدِّيَّة
الهدايا الغُدِّيَّة
الطريقُ إلى قلب أنثى الجُنْدُب معدتُها.
<T .D. گوين>
تتغذى أنثى خنفساء الزهر الملساء الجناح (Malachius bipustulatus) (في اليسار) بسائل تفرزه غدد موجودة في وجه الذكر أثناء المغازلة، ويحدث هنا على قمة مُزْهِرَة لعشبة تيموثية timothy grass. وفي أعداد هائلة من أنواع الحشرات، يقوم الذكر بتقديم إفرازات غدية أو أجزاء من جسمه كهدية عرس. |
في عام 1859، عام ظهور نظرية التطور لِداروين(1) ، كان الكابتن <J. فيلنَر> من فرقة الخيالة في الولايات المتحدة يستكشف شمال كاليفورنيا. لقد قُتِل فيلنر في نهاية المطاف على أيدي الهنود، ولكن بعد أن قدّم ملاحظاته حول طباع نطاطات البرسيم grasshoppers إلى معهد سميثسونيان. فلقد لاحظ عقب عملية التزاوج «التصاق كيس صغير ـ يبدو أنه المبيض ـ بجسم الأنثى قرب الذيل.»
وبعد 50 سنة تقريبًا – في النصف الآخر من الكرة الأرضية، في فرنسا ـ وضح رائد علم السلوك <H .J. فابر> تفاصيل هذا التزاوج الغريب. ففي الجزء الخاص بالحشرات المستقيمة الأجنحة المتعلق بحياة نطاط البرسيم من مذكرات عن الحشرات (Souvenirs entemologiques)، حدّد فابر بدقة منشأ الكيس على أنه من الذكر. فكتب أن بنية برّاقة «بحجم ولون ثمرة الدبق» mistletoe berry، كانت متصلة بحامل النطاف spermatophore، وهو كيس منفصل ممتلئ بالنطاف، وقد أكلته الأنثى في «مأدبة نهاية الحفل»، بالغة بذلك ذروة مسلسل التزاوج.
إن مثل هذا التوظيف المتطرف في التزاوج ينظر إليه علماء الحياة على أنه لغز من الألغاز. فذكور الحيوانات عادة ما تودع مادتها الجينية (الوراثية) في أعراسها gametes الرخيصة ـ النطاف. ويعتقد أن فائدتها العظمى تأتي من استراتيجية تعدد التزاوج لديها وليس من وضع كثير من مواردها في قرين واحد. ومن جهة أخرى، تُنتج الإناث أعراسًا قيّمة (بيوضًا تحتوي على كل من المادة الجينية والمغذية)، وغالبًا ما تبذل قدرًا كبيرًا من الجهد لتتأكد من إنتاجية كل تزاوج. لذلك فإنها تنتقي أقرانها بكل عناية.
قد تكمن جذور مشاركة الذكور إما في الانتقاء الطبيعي أو الانتقاء الجنسي، وكلتا السيرورتين اقترحهما داروين سببًا للتطور الحيوي. فالانتقاء الطبيعي يتم من خلال الصراع من أجل البقاء والتكاثر، أما الانتقاء الجنسي فينتج من التنافس من أجل القرين، أو ـ كما سأشرح في حالة الهدايا الغدية glandular gifts ـ من أجل الإمناء insemination.
والمِنَح النموذجية بالنسبة لكثير من الجَداجِد (صَرّارات الليل)(2) cricketsوالجنادب katydids هي وجبات ما بعد الجماع: إذ تأكل الإناث ذكورها بعد التزاوج، بينما ينقذف حامل النطاف spermatophore الملتصق خارجيًّا مثلما تنقذف محتويات المحقن الطبي. وهكذا فإن القذف لدى هذه الأنواع يتم بعد انفصال القرينين. وقد أدت حقيقة تزامن الوجبة العرسية nuptial feeding مع نقل النطاف إلى اقتراح البيولوجي الروسي <T .B. بولديريڤ>، عام 1915، سببًا لمثل هذه الهِبات وهو أنها حقيبة غذائية للجنادب. فقد افترض أن هذه الحقيبة، التي سماها حافظة النطاف spermatophylax، تقوم بصرف انتباه الأنثى عن أكل حامل النطاف، الذي كان من المحتمل أن يمثل بحد ذاته بعض الغذاء. وإن أي إطالة من هذا القبيل ستفضي إلى إخصاب عدد أكبر من البيوض، لأن جزءًا أكبر مما تم قذفه سيتم نقله، مما يساعد نطاف الذكر مانح الهدية على أن تنافس وتتفوق عدديًّا على نطاف الذكور الأخرى التي كانت قد خزنت نطافها في الأنثى (خزن النطاف هو القاعدة لدى الحشرات، ويوجد في جسم الأنثى عضو خاص لذلك، يسمى كيس النطاف spermatheca وقد تَشَكَّل لهذه الغاية).
الأجنحة الخلفية اللَّحْمية لذكر جُدجد القُوَيْسة (الناعمة) sagebrush cricket (Cyphoderris strepitans) (رتبة Haglidae) تُقَدَّم إلى الأنثى (ترى في الأعلى) أثناء التزاوج. لكن في مسلسل التزاوج هذا تخرِّب الأنثى الأجنحة الأمامية للذكر أيضا (في أقصى اليمين). |
لقد دُرِسَت الفرضية القائلة بأن وجبة العرس هي نتيجة للانتقاء الجنسي من قبل <N. ويدل> (من جامعة استوكهولم) التي اقترحت حدوث «سباق تسلح» تطوري بين الأجناس. فقد أوجدت الذكورُ حوافظَ النطاف المغرية لتمنع الإناث من أكل نطافها. ثم تطورت الإناث لتقترن عدة مرات ـ ربما للحصول على وجبات إضافية ـ حاثة الذكور على إنتاج نطاف أكثر لإزالة أعراس منافسيها. وهكذا صار من الضروري وجود كيس غذاء أكبر لحماية كيس النطاف الأكبر.
قدم <L .R. تريڤرز> (من جامعة روتگرز) فرضية بديلة حول هدايا العرس (القران). فقد لاحظ أن ما يوظفه الذكر قد يكون شكلاً من العناية الأبوية غير المباشرة: فيمكن أن يكون الانتقاء الطبيعي قد أثر في الذكور بحثّها على إنتاج مغذّيات ستندمج في البيوض، وبالتالي ستفيد ذريتها.
كل شيء في العائلة
يجب أن نلاحظ أن هذه الأفكار ليست قاطعة؛ فما يوظفه الذكر يكون له مَرْدود مزدوج. وحتى من الممكن أن تكون هذه الخاصية التطورية قد وجدت أصلا لغرض ما، لكنها تستمر الآن لغرض آخر. لذلك قررتُ استقصاء الإمكانية الثانية، وذلك بالدراسة المتعمقة للسجل التاريخي.
يقوم العلماء بفحص أصول أي تكيف بتتبعه بين مختلف الزمر taxa(مجموعات الكائنات الحية المتقاربة). فإذا كان لكل الكائنات التي في أطراف الشجرة (العِرْقِيّة) phylogenetic tree ـ وهي شجرة العائلة التي تُظْهِر القرابات وسلالات الكائنات المتقاربة ـ مثلاًَ سمة معينة، أمكن استنتاج أن سلف هذه الكائنات له أيضًا السمة نفسها. لقد تَبَنَّيْتُ هذا المنطق لمعرفة أصل هِبات العرس التي تقدمها ذكور مجموعة الجنادب والجداجد.
حافظة النطاف spermatophylax هي كيس غذائي يُنقل مع النطاف، وهي أكثر الهدايا شيوعًا بين الجنادب katydids (رتبة Tettigonidae) وأقاربها الجداجد (صرارات الليل) crickets. يشاهد هنا ثلاثة أنواع من الجنادب وهي تأكل حوافظ النطاف (من اليسار إلى اليمين): جندب مروج أمريكا الشمالية (Conocephalus stricright) وجندب الأوراق الكاذبة البرازيلي (غير مسمّى) وجندب الطلع الأسترالي (Kawanaphila nartee). |
تُوضع حوامل نطاف معظم الحشرات داخل الأنثى، كما في نطاطات البرسيم قصيرة القرون. وهكذا فإنه إذا نشأت مساهمات الذكر لمنع التدخل في نقل النطاف، كان معنى ذلك أنها نشأت بعد أول ظهور لكل من التوضع الخارجي لحامل النطاف واستهلاك الأنثى لهذه الصُّرة المعرّضة للتأذي. وقد دعم تحليلي هذا التسلسلَ للحادثات التطورية. وفعلا في كل الزمر في شجرة الجنادب-الجداجد، تأكل الأنثى حامل النطاف، مما يوحي بأن الجندب السلف في قاعدة الشجرة قد فعل ذلك أيضًا. إضافة إلى ذلك فإن جميع الزمر الموجودة على الفرع الأيسر من الشجرة ـ وبعض ما يوجد على الفرع الأيمن منها – تقدم عمليا هدايا عرس مع النطاف، مما يشير إلى أن هذا التحسن ظهر متأخرًا نوعًا ما. والحقيقة أن المقارنات تبدي وجود نحو دزينة من الأصول المستقلة للوجبات الغدية ووجبات أجزاء الجسم، شاملة ثلاثة أصول واضحة لحافظة النطاف. (الغريب في الأمر أن أكثر العطايا العُرْسِية شيوعًا في المملكة الحيوانية – سواء كانت فريسة أو أي مادة غذائية أخرى جناها الذكر، كبديل لنسجه أو إفرازاته – لا توجد لدى مستقيمات الأجنحة مطلقا).
وتُبيّن الدراسات التجريبية أن الذكور، في الحالات النموذجية، لا تقدّم من الغذاء أكثر من الضروري، بحيث يتوافر الوقت الكافي لانتقال النطاف بأمان، مما يشير إلى أن الدور الوقائي (الحمائي) للوجبات الغدية عند الأسلاف موجود أيضًا حاليًا لدى معظم أنواع الجنادب والجداجد. إضافة إلى ذلك يبدو أن النقل المُجدي للنطاف الذي يتم بفضل الوجبة الكبيرة، يعود بمكافأة في صورة أبوّة زائدة (ذرية أكبر). لقد نجحت ويديل في أن تجعل ذكرين من Decticusverrucivorus (وهما فعليًّا من الجنادب «المتنافسة») يقترنان بالأنثى نفسها، فوجدتْ أن نسبة الذرية التي أنتجها الذكر تتناسب طردًا مع حجم الوجبة التي يقدمها مقارنة بوجبة المنافس.
تشير شجرة تطور الجداجد والجنادب (رُتَيْبَة Ensifera من مستقيمات الأجنحة) إلى تشكّل حوامل نطاف spermatophores مكشوفة معرضة للأذى أولاًً (•). تبع ذلك تشكل وجبات العرس، أو حقائب الغذاء (•) بشكل حوافظ للنطاف. وهذا التسلسل يشير إلى أن الولائم قد ظهرت لتمنع الأنثى من أكل النطاف. |
وقد أظهر تحليل آخر للأبوة نمطًا شبيهًا جدًا بذلك الذي لدى مفصلي أرجل مختلف تمامًا – نمطًا تُنهي فيه الوجبةُ مقدرةَ الذكر التناسلية. فذكَرُ العنكبوت الأسترالي الأحمر الظهر البالغ الصغر يؤكل في نحو ثلثي حالات الاقتران، لأنه ينقلب ويَعْلَق ـ أثناء الإمناء ـ بين فكوك قرينته الأكبر منه كثيرا. وأحد التفسيرات التي قُدِّمت لهذه الوجبة المروّعة هو أن اشتراك الذكر ظهر كآخر فعاليات مشاركة الأب الغذائية. ومع ذلك، بيّنت الدراسات التي أَجْرَتْها <C .M. أندريدفي> جامعة تورونتو، أن تضحية الذكر بذاته ـ مثل معظم وجبات التزاوج ـ تساعد على إطالة فترة الجماع وليست لتقديم الغذاء.
إن هذه الوجبة الانتحارية تُلهي الأنثى، الأمر الذي يطيل الوقت فيصير كافيًا لنقل النطاف ويزيد عدد البيوض المخصَّبة. وعلى الرغم من أن كُلاًّ من هدية العنكبوت الجسدية ووجبة الجندب المنافس تحتوي بكل تأكيد على بعض المغذيات، فإنه ليس لهما أية قيمة ملموسة من حيث خصوبة الأنثى أو بقاؤها. وهكذا فإن عطايا الذكور المفرطة هذه لا تخرق القاعدة القائلة بأن جهود الذكر للتزاوج ما هي إلا للمساعدة على تخصيب أكبر عدد ممكن من البيوض وليس لتغذية الذرية.
إن العنكبوت الأسترالي الأحمر الظهر هو واحد من عناكب الأرملة السوداءblack widow spiders (الجنس Latrodectus). وإناث الأنواع الأخرى لعناكب الأرملة السوداء تلتهم الذكر بعد التزاوج أحيانًا. لكن يبدو أن هذا الالتهام – في معظم الأحيان – لا يعد مثالا لِمَنْحِ الهدايا، لأن الذكور لا تقوم بدور المشارك في عملية الالتهام. والأمر نفسه صحيح من أجل كثير من عمليات التزاوج الأخرى المحفوفة بالمخاطر، مثل تزاوجات فرس النبي praying mantises، حيث تبذل الذكور جهدها للإفلات من براثن قريناتها.
لذا يبدو أن الانتقاء الجنسي هو القاعدة العامة في الوجبة العرسية nuptialfeeding. وإن بعض الوجبات هذه تحسِّن الكفاءة الجينية (الوراثية) لدى الإناث، ربما لأن الإناث الأسلاف كانت تفضِّل الهدايا الأكثر تغذية. والمعروف أن وجبات التزاوج لدى بعض الجنادب لا ترفع عدد البيوض فقط، بل تزيد حجمها أيضًا؛ وازدياد الوزن يحسِّن فرصة بقاء البيضة في الشتاء. وقد بيَّنت أعمال <W. براون> (من جامعة تورنتو) أن ما تلعقه الأنثى من المفرزات من تجويف غدي «يشبه زبدية شوربة» صغير موجود على ظهر ذكر، يحتوي على مادة الميثيوسيلا Methuselah، وهي مادة غدّية لا يُعرف تركيبها وتطيل عمر الأنثى.
تؤمن غددُ الصدر الخلفي على ظهر الذكر وجبةَ ما بعد التزاوج (في اليمين) لأنثى صرار الشجر ذي النقطتين (Gryllidae) Neoxabea bipunctata. ويمكن رؤية حقيبة النطاف المعرضة للأذى معلقة قرب طرف بطن الأنثى. تتغذى أنثى جدجد ألارد Allard الأرضي (Allonemobius allardi) بمفرزات غدية من مهاميز قصبية متحوّرة توجد على رجل الذكر (في الأسفل). |
إن مثل هذه التأثيرات الإيجابية بحد ذاتها لا تؤكد فرضية الأبوّة، ومع ذلك: فإن وجبة تستخدم بانتقاء جنسي للإلهاء وصرف الانتباه، قد تكون مغذية أيضًا. ولدعم الدور الأبوي لابد من وجود نمط واضح من تغذية الذكور لنسلها هي، لا لنسل منافسيها. وفي نوعين من الجنادب الأسترالية، تبدو الذكور واثقة من أبوتها، لأن البيوض توضع قبل أن تقبل الأنثى تزاوجا ثانيا؛ علاوة على ذلك فإن هذه البيوض تكون أسمن عندما تكون الوجبة العرسية أدسم.
وربما يكون ذكر الخنافس النارية اللون (Neopyrochroa flabellata) قد تطور أيضا ليقوي نسله – ليس بالغذاء بل بمفرزات كيميائية تحمي الذرية من المفترسين. لقد تفحص<Th. آيزنر> وزملاؤه (في جامعة كورنيل) استخدام الخنافس للكانثاريدين cantharidin، وهي المادة الفعالة في «الذبابة الاسبانية» المثيرة للشهوة الجنسية (الباه) aphrodisia (الخطرة نوعا ما). فبعد أن يأكل الذكر الكانثاريدين يقوم باختزان بعضه في غدة برأسه؛ ولكن معظم المادة تذهب إلى غدد متخصصة موجودة في البطن. وأثناء المغازلة تتذوق الإناث غدد الرأس وتتزاوج مع الذكور التي كانت قد أكلت الكانثاريدين وترفض الآخرين. وفي النهاية تقذف معظم مدخراتها من الكانثاريدين داخل الإناث، لتدمجه في بيوضها. وهكذا تعلن الذكور بأمانة عن نفسها – فهي تتخلى عن مدخراتها من الكانثاريدين بدلاً من الاحتفاظ به لاجتذاب إناث أخرى. ولهذا قد يكون دور الوجبة الكيميائية في التغذية والرعاية الأبوية أكبر منه في الاستغلال الجنسي.
لا يستطيع الجدجد المورموني المهاجر Migrating Mormon cricket قرب سانت أنتوني في ولاية إيداهو الأمريكية أن يجد إلا القليل جدا من الطعام. ولكي تحصل الإناث على وجبات حوافظ النطاف، فإنها تسعى بعدوانية للتزاوج، تمامًا كما تفعل إناث جنادب الطلع الأسترالية (في أقصى اليمين). أنثيان تتدافعان فوق الذكر المتوافر. |
تبادل الأدوار
إن أحد الجندبين اللذين يبدو فيهما تغير دور حافظة النطاف من الإلهاء الذي استعمله الأسلاف إلى دور أكبر في التغذية والتنشئة هو جندب الحديقة في غرب أستراليا (Requena verticalis). فذكر Requena يقدم وجبة أكبر من اللازم ليُلهي قرينته وليحقق إمناءً كاملاً. وعلى الرغم من ذلك، لا تتوقف إلحاحات الانتقاء الجنسي تماما. فقد بيّن<W .L. سيمونز> وزملاؤه (في جامعة غرب أستراليا) أن الذكور تحتفظ بأحسن الولائم للتزاوج بالإناث الفتية ذات الصحة الجيدة. فالأنثى الفتية هي التي لم يمض على انسلاخها وتحوُّلها إلى مرحلة البلوغ أكثر من أسبوع واحد؛ في حين تكون الأنثى الهرمة قد أمضت ثلاثة أسابيع في مرحلة البلوغ، وغالبا ما تكون قد اختزنت نطافًا من ذكور منافسين. وتبدي الذكور عند التزاوج مع إناث أكبر سنًا – حيث تكون قضية أبوة الذرية أمرا مشكوكا فيه – شكلا خبيثا من التمييز (التفرقة) بنقلها وجبات صغيرة من حوافظ النطاف.
إن فكرة انتقاء الذكور لقريناتها جعلتني أغير رأيي النهائي بطريقة غير متوقَّعة في قصة الهدايا المنوية؛ إذ إن تطور حافظة نطافٍ كبيرة مغذية لدى كثير من الأنواع سبّبت، مع شيء من التناقض، تحولا جذريًا في الأنماط المعروفة للانتقاء الجنسي، حيث تتنافس الذكور من أجل قريناتها كما أن الإناث تختار قرناءها. ومن هذه الجنادب الجدجد المورموني Mormon cricket وهو حشرة مؤذية زراعيا في بعض أجزاء الغرب الأمريكي، ويغلب أن يكون هو نطاط البرسيم الذي شاهده كابتن فيلنر، «بأعداد تغطي وجه الأرض تماما». ففي مثل هذه الكثافات لا تتوافر إلا كميات قليلة جدا من المواد الغذائية، ويكون للجوع تأثيرات غريبة، فيقل تزاوج الذكور؛ لأنها لا تستطيع إنتاج وجبات كثيرة؛ في حين تصبح الإناث، على النقيض، أكثر شبقًا، ويزداد إلحاحها في التفتيش عن وجبات التزاوج. إن هذه التغيرات تعكس جذريًا السلوك الجنسي النمطي.
لو بقي فيلنر حيًا ليراقب نطاطات البرسيم وقتًا أطول، ربما توصل إلى هذه النتيجة. فالإناث، وليس الذكور، هي التي تجاهد من أجل الوصول إلى الأزواج، في حين تدقِّق الذكور الخجولة بشدة في اختيار الأنثى التي تقدم لها هداياها الثمينة لتأكلها.
يقدم ذكر العنكبوت الأسترالي الأحمر الظهر كامل جسمه للأنثى (الأكبر حجما). بعد أن يولج مِلْمَسَهُ الجماعي ينقلب ويعلق بين فكي الأنثى التي تلتهمه أثناء انتقال النطاف. هذه الأضحية – ذات القيمة الغذائية التافهة – تزيد فترة الجماع، وبالتالي عدد البيوض المخصبة. |
المؤلف
Darryl T. Gwynne
يدرس البيولوجيا التطورية والسلوكية لدى الحشرات والعناكب. حصل على الدكتوراه من جامعة ولاية كولورادو عام 1979. وبعد قيامه بمهمات بحثية في نيومكسيكو وأستراليا، انضم إلى قسم علم الحيوان في كلية جامعة تورنتو. وهو زميل في جمعية سلوك الحيوان.
مراجع للاستزادة
ORTHOPTERAN MATING SYSTEMS: SEXUAL COMPETITION IN A DIVERSE GROUP OF INSECTS. Edited by D. T Gwynne and G. K. Morris. Westview Press, 1983.
THE EVOLUTION OF SEXUAL DIFFERENCES IN INSECTS. Randy Thornhill and Darryl T. Gwynne in American Scientist, Vol. 74, No. 4, pages 382-389; July-August 1986.
THE MATING OF TREE CRICKETS. David H. Funk in Scientific American, Vol. 261, NO. 2, pages 50-59; August 1989.
EXPERIMENTAL REVERSAL OF COURTSHIP ROLES IN AN INSECT. D. T Gwynne and L. W. Simmons in Nature, Vol. 346, pages 172-174; July 12, 1990.
JEAN HENRI FABRE. Georges Pasteur in Scientific American, Vol. 271, No. 1, pages 74-80; July 1994.
Scientific American, August 1997
(1) حول أصل الأنواع .On the Origin of Species
(2) [انظر: «تزاوج صرار الشجر»، مجلة العلوم، العدد7(1990)، ص 40]. التحرير