أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
روبوتات

إنسالات (روبوتات) كالجداجد


إنسالات (روبوتات) كالجداجد

هل يستطيع جهاز ميكانيكي كهربائي بسيط أن يؤدي سلوكا معقدا

لمخلوق حي؟ هناك طريقة أكيدة للتحقق من ذلك.

<B. ويب>

 

عندما نصف سلوكا بأنه إنسالي(1) (روبوتي) robotic، إنما نفعل ذلك لجذب الانتباه إلى إمكانية التنبؤ به. وسواء كان المُسْنَد إليه هذه الصفة أمين صندوق متبرما في متجر كبير يبيع بطريقة الخدمة الذاتية (سوبر ماركت) أو كان سلوك أحد معارفنا غير عفوي، فإننا نستطيع توصيف السلوك الإنسالي بأنه ـ ظاهريا ـ سلسلة من الارتكاسات reactions الأوتوماتية للرد على تآثرات (تأثيرات متبادلة)interactions  أو أحداث.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/13/SCI97b13N10_H01_006327.jpg

صورة إنسالة قامت بمحاكاة سلوك أنثى الجدجد في تحديد موقع أحد الذكور انطلاقا من صوت سقسقته chirping. وفي هذه التجارب تحركت الإنسالة في مضمار صغير نحو ميكروفون يصدر صوتا يحاكي الصوت الذي يولده ذكر الجدجد. وبشكل يشبه أنثى الجدجد الحقيقية، عالجت الإنسالة الأصوات فور سماعها على نحو مكنها من تصحيح مسارها أثناء تحركها باتجاه هدفها. وقد اتخذ مسارها إلى الميكروفون طريقا متعرجا أشبه ما يكون بالطريق الذي تتبعه أنثى الجدجد وهي تتحرك باتجاه قرين جنسي. ولم يتجاوز قط هذا المسار ضعف المسافة المباشرة بين نقطة البداية والميكروفون.

 

 وكذلك الأمر بالنسبة لسلوك الحشرة، فيمكن اعتباره إنساليا أو أوتوماتيا. ولكن البحوث المعمَّقة بصدد الأفعال النوعية لبعض الحشرات كشفت تنوّعا يفوق كثيرا ما يوحي به هذا التوصيف لسلوك الحشرة. ولعل في سلوك أنثى الجدجد (صَرّار الليل أو صرار الشجر) cricket، وهي تحاول تحديد موضع أحد الذكور اهتداء بأغنية النداء التي يرددها، مثلا جيدا على ذلك. فتبدو هذه الفعالية في بعض نواحيها بسيطة للغاية، إذ إن الأنثى حينما تسمع الأغنية المناسبة تستمر في المشي باتجاه مغنّيها ساعات وساعات، حتى لو وضعت على دولاب الدوس treadmill.

 

ولكن الدراسات التي تمَّت طوال العشرين سنة الماضية كشفت عدة تفاصيل دقيقة لهذا السلوك الأساسي. فمثلاً، يمكن أن تميز إحدى الإناث أغنيةَ ذَكَرٍ من نوعها الخاص من أي ثرثرة غيرها، وأن تقترب منه تحديدا حتى ولو كان ذكور آخرون من نوعها يناجونها بأغنيات مماثلة تقريبا وفي الوقت نفسه. إننا لم نفهم بدقة بعد كيف تُنْجِزُ هذا والأعمال الفذّة المقاربة.

 

وعلى نحو مشابه، قد يبدو سلوك الإنسالات (الروبوتات) لأول وهلة صريحا ومعقدا. وبغض النظر عما يمكن أن تكون عليه إنسالةٌ ما من البساطة، فإن التآثر بين مُحَسِّساتها sensors ومُشَغِّلاتها actuators من جهة والبيئة من جهة أخرى يبقى على الدوام معقدا. وهذا يعني أن ذلك التآثر يكون في العادة أصعب من أن يصبح استجابة أوتوماتية موثوقة وثابتة لِمُنَبِّه (مؤثر) stimulus. فمثلا، تحريك إنسالة ذات عجلات (دواليب) في خط مستقيم ليس مجرد تزويد محركات على كل جانب بالقوة power نفسها، إذ إن أشكال عدم الدقة الميكانيكية للمحركات ولأجهزة تعشيق المسننات gears وكذلك العجلات، ستتطّلب قوة مختلفة قليلا لتأمين معدل الدوران نفسه في عجلات الجانبين. وستتباين كذلك قوى العطالة inertialوالاحتكاك friction، وسيكون علينا تعديل القوة بشكل ثابت بناء على قياسات معدل الدوران والتغذية الراجعة (التلقيم المرتد) feedback للخطأ. وحتى حينما تدور العجلات بالسرعة نفسها، فإن عدم استواء الأرض وانزلاقيتها ستحرف هذه الإنسالة عن مسارها المستقيم الحقيقي ما لم تكن مزودة بحس بوصلي compasssense يسمح لها بتغيير سرعات عجلاتها بشكل معاوض.

 

وهكذا يبدو أن التصدي للتأثيرات المعقَّدة للبيئة بقصد تحقيق تضاد لها، إنما يتطلب خوارزميات للتحكم ذات تعقيد مضاهئ. ولكن هل الأمر هو هكذا حقيقة؟ إن المدخل البديل الذي تزداد شعبيته في علم الإنسالية (الروبوتية) robotics يتمثل في تصميم الإنسالة على نحو يستفاد فيه من تآثرها مع البيئة بدلا من مقاومتها. فمثلا، يمكن برمجة الإنسالة على اتباع الخطوط الكفافية (الكنتورية) للمنطقة التي تقودها إلى مكان قصدها بدلا من إجبارها على السفر في طريق مستقيم الخط، فتدور متبعة محيطها بدلا من اعتلاء مرتفعاتها في مسيرها عبرها. وبهذا النمط من المقاربة، فإن ما يبدو بمثابة سلوك معقد في الإنسالة يمكن أن ينجم عن خوارزمية للتحكم غير معقدة بشكل يثير الدهشة.

 

ومن أجل تحري هذه القضايا، قمتُ بتصميم إنسالة كالجُدْجُد تعتمد على مُعِدّات hardware ومبادئ وخوارزميات بسيطة نسبيا. وقد رغبتُ في أن يشبه سلوكُ هذه الإنسالة الكثيرَ من سلوك الحشرة ذاتها بما فيه من تعقيدات حينما تكون في وسط مشابه. وكذلك رَغِبْتُ في أن أسلّط بعض الضوء على البيولوجيا العصبية التي يمكن أن يرتكز إليها سلوك الجدجد.

 

وبالطبع لم يكن من الممكن نمذجة modeling جميع نواحي سلوك الجدجد بتفاصيله الدقيقة، فاخترتُ لذلك الفعالية (النشاط) النوعية والمهمة المذكورة سابقا: أي مقدرة الأنثى على تحديد موقعِ ذَكَرٍ من نوعها وهو يمارس الغناء. (ويطلق على سيرورة process التحرك باتجاه صوت معين مع جميع متطلباتها الحواسية والحركية اسم الانجذاب الصوتي phonotaxis).

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/13/SCI97b13N10_H01_006328.jpg

 

 

وتتمتع أنثى الجدجد بالانتقائية (الانتخابية) selectivity التامة فيما يخص الأصوات التي تجتذبها. وقبل كل شيء، يُعتبر التواترُ frequency المعتمد للأغنية (أو الموجة الحاملة لها) أكثرَ معالمها تميزا. فالذكور تستطيع توليد صوتٍ صافٍ تقريبا عن طريق فَرْكِ (حك) rubbing أحد جناحيها بالجناح الآخر. وتستجيب الإناث المنتمية للنوع نفسه بأفضل ما يكون لتلك النغمة دون غيرها من الأصوات ذات التواتر الأعلى أو الأخفض منها؛ ويكون تواتر تلك النغمة على العموم نحو 4.5 كيلوهرتز. ويأتي في المقام الثاني إيقاع rhythm  الأغنية (أثناء فتح الذكر جناحيه وإغلاقهما) كَمَعْلَم مميِّز لنوعية النوع species-specific. فكل فَرْكَة للجناحين تولّد اندفاعةَ صوتٍ تعرف باسم مقطع صوتي syllable. وقد أكدت التجارب أن معدل تكرار repetition rate  ذَكَر الجدجد للمقاطع الصوتية هو أهم معالم هذا النموذج فيما يخص إثارة استجابة الأنثى.

 

ومع أن الصوت في العديد من الأنواع يكون أكثر تنميطا ـ بمعنى تكرار المقاطع الصوتية، على سبيل المثال، ما بين ثلاث وخمس مرات في مجموعة تُعْرَف بالسَّقْسَقَة chirp وتتبعها فترة سكوت قبل السقسقة التالية ـ فإن العديد من الإناث ستستجيب لمقاطع صوتية تتكرر مرارا بفواصل غير متباينة. هذا ويجب على أنثى الجدجد ألاّ تميز فقط الإيقاع والتواتر الصحيحين للذكر الذي ينتمي إلى نوعها، بل غالبا ما يجب عليها أيضا أن تفعل ذلك حينما يناجيها في الوقت نفسه عدة ذكور مُحْتَمَلين لطلب وُدِّها الجنسي. وبطريقة ما تعمل تلك الأنثى على توجيه نفسها نحو واحد فقط من هؤلاء الخاطبين suitors متجاهلة الباقين.

 

لقد تبين في المختبر وجود أفضلية رئيسية للأغنيات الأعلى شدة؛ فإذا ما تم تقديم أغنيتين لهما معدل التكرار المقطعي الصحيح، فإن الأنثى ستتجه نحو الأغنية الأعلى شدة؛ إذ يمكن أن تدل هذه الأغنية على ذَكَر أكبر حجما أو مجرد كونه أكثر قربا. وباستثناء ارتفاع loudness الصوت لم يؤكد الباحثون بوضوح أي خاصية نوعية أخرى تفضلها الإناث في الأغنيات التي تصدر بشكل طبيعي.

 

وبعد اختيار الصوت الصحيح ـ وعند الضرورة ـ بعد انتقائه من بين عدة أمثلة منه، يجب على أنثى الجدجد أن تحدد فعليا مصدر الصوت، فعليها أن تتحرك باتجاهه والعثور عليه. إن الدليل الوحيد على أن أنثى الجدجد قد تعرّفتْ الصوت أو اختارته هو، في الحقيقة، تحركها نحوه. وبناء على ذلك، فإن سيرورة منفردة (واحدة يمكنها أن تحدد مصادر أنواعٍ معينة من الصوت دون غيرها) قد تكفي لتوليد السلوك المشاهد. فإذا كانت هذه هي الحال، فإن السلوك الانتقائي الواضح لأنثى الجدجد يمكن تكراره نسخا replicated ببناء إنسالة تعمل فيها  الآليةُ، التي تمكنها من تحديد موضع الصوت، استجابةً للنوع الصحيح فقط من الأصوات.

 

عبر أُذُن جدجد

يمتلك الجدجد آلية حسية بارعة نوعا ما، تمكنه من اكتشاف جهة مصدر الصوت. وتقع أُذُناه في رجليه الأماميتين. ولما كان جسم الجدجد حائلا ضعيفا للأصوات ذات التواتر المنخفض، وُجِد اختلاف بسيط في قوة strength، أو سعةamplitude، الصوت الذي تستقبله كل من أذنيه. وهناك فرق في زمن وصول الصوت إلى الأذنين، إلا أن هذا الفرق يقاس بالميكروثوانٍ، ولا تستطيع العصبونات السمعية للجدجد أن تؤقتها.

 

يمر الصوت في أنبوب قصبي tracheal يربط الأذنين إحداهما بالأخرى، كما يربطهما بفتحتين عند مسافة أعلى على جسم الجدجد تسميان الثغريْنspiracles. ولهذا السبب، فإن الصوت الذي يصل إلى الأذن خارجيا ـ وكذلك داخليا عبر الأنبوب ـ يكون قد سار مسافات مختلفة. ويسبب الزمن الذي يستغرقه الصوت في مروره عبر الأنبوب تغيرا في طوره phase. وعند طبلة الأذن تُقَوّي أو تلغي الموجتان إحداهما الأخرى تبعا لطوريْهما النسبيين اللذين يعتمدان بدورهما على اتجاه الصوت. وبناء على ذلك، فإن السعة الناتجة من اهتزاز طبلة الأذن eardrum vibration  إنما تمثل اتجاه مصدر الصوت [انظر الشكل السفلي في هذه الصفحة]. وببساطة، تكون السعة أكبر في الجانب الأقرب من الصوت.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/13/SCI97b13N10_H01_006329.jpg

ينقل جسم الجدجد الأصوات في أنبوب قصبي داخلي يربط بين أذني الحشرة وفتحتين (تسميان ثغرين spiracles) موجودتين في أعلى الجسم. وتقع كل أذن بالقرب من الركبة في إحدى رجليه الأماميتين (كما في الصورة الفوتوغرافية في اليمين). وبسبب هذا الأنبوب يصل الصوت إلى كل أذن بطريقين: طريق مباشر من مصدر الصوت وطريق غير مباشر عبر الأنبوب قدوما من الثغرين والأذن الأخرى. وفي الأذن الأقرب إلى مصدر الصوت يكون الصوت الذي اتجه مباشرة نحو الجانب الخارجي لطبلة الأذن قد سار مسافة أقصر من المسافة التي سارها الصوت الواصل عبر الأنبوب عند الجانب الداخلي من طبلة الأذن. وبسبب هذا الفرق في المسافة يختلف طور الصوت الواصل إلى أحد جانبي طبلة الأذن هذه عن طور الصوت الواصل إلى جانبها الآخر. وتتجمع الأمواج ذات الطور المخالف عند طبلة الأذن هذه لتسبب اهتزازا ذا سعة أكبر ينجم عنه إحساس بصوت أعلى.

 

 أما أُذُنا الإنسالة التي صنعتُها فقد كانتا ميكروفونين مصغّرين. وقد تمكنتُ، مع قدر كبير من المساعدة، من تصميم دارة إلكترونية electronic circuit استطاعت معالجة الإشارات بطريقة تحاكي الوظائف الأساسية للجهاز السمعي للجدجد. وكان أحد المبادئ الأساسية لهذا الجهاز يتمثل في أن الأنبوب القصبي للجدجد ينقل تواتر أغنية النداء المرغوبة على أفضل وجه، وإن انزياحات الطور phaseshifts في هذا النقل ملائمةٌ لذلك الطول الموجي. ونشير هنا إلى أن هذه الآلية لا تكتشف جهة الصوت في التواترات الأخرى بشكل موثوق. وبعبارة أخرى، فإن هذا الجهاز السمعي ـ بالاستناد إلى انزياحات الطور المتوالفة tuned مع الطول الموجي الصحيح ـ يتجاهل بشكلٍ فطريٍّ موروثٍ الأصوات ذات الطول الموجي المغلوط لكون هذه الأصوات لا تولد استجابة موجهة directional response.

 

لقد كانت الإنسالة المصمّمة عربة صغيرة على شكل مكعب طول ضلعه نحو 20 سنتيمترا ومبني بقطع الليگو. وقد زودت الإنسالة بمقودين وعجلة تحريكcaster في المقدمة. ولما كانت هذه الإنسالة أكبر قليلا من الجدجد، فإن أذنيها كانتا أكثر بعدا الواحدة عن الأخرى، الأمر الذي جعلني أختار تواترا أقل (22 كيلو هرتز) للأغنية التي ستجتذبها. أما الخَرْج (الناتج) output الوارد من دارة الميكروفون، فكان يعطي إشارة كل ثلاثين مليثانية. وتقابل هذه الإشارة اهتزاز طبلة الأذن، كما تحاكي ما يحدث في الجهاز السمعي للجدجد الحقيقي بكونها ذات سعة أعلى في الجانب الذي يوجد فيه مصدر الصوت، في حين يبقى تواترها مساويا للتواتر الصحيح. ولكن من الناحية العملية، أفلحت أُذُنا الإنسالة في الدلالة على الاتجاه الصحيح في 90% من الزمن كحد أعلى، وذلك بسبب الضوضاء غير المرغوب فيها في مكبر الصوت وفي الغرفة وكذلك الناجمة عن محركات الإنسالة نفسها.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/13/SCI97b13N10_H01_006330.jpg

تعتمد استجابة العصبون البيني السمعي على جهة مصدر الصوت. فالسعة الميكانيكية لاهتزاز طبلة الأذن (الأشكال الموجية في الأعلى) تكون أكبر عند طبلة الأذن الأقرب إلى مصدر الصوت (في الأعلى «يسارا»). ويمثل كل «مربع» في الشكل الموجي استجابة لصوت واحد، أو مقطع صوتي syllable، صادر عن ذكر الجدجد. ويستجيب العصبون البيني (الموافق للأذن القريبة) للاهتزاز ذي السعة الأعلى بارتفاعٍ في الكمون potential سريعٍ نسبيا وبإظهار ست ذُرا كمونية (في الأسفل «يسارا»). أما بالنسبة للأذن البعيدة فيكون ارتفاع الكمون أبطأ سرعة، وتكون الذُّرا الكمونية (أو الشوكات spikes) أقل عددا (في الأسفل «يمينا»).

 

لا بد من التكويد العصبي للفرق في سعة الاهتزاز عند طبلتي الأذنين إذا ما أُريد مقارنته واستخدامه في تحفيز استجابة المحرِّك. ففي الجدجد يتقارب خمسون عصبونا حسيا من كل أذن لتتلاقى في عدد صغير من العصبونات البينية interneurons في الجهاز العصبي المركزي للحشرة. ويشكل اثنان من هذه العصبونات البينية (أحدهما يرتبط بالأذن اليسرى والآخر بالأذن اليمنى) زوجا يبدو أنه حاسم في موضوع الانجذاب الصوتي. ويستطيع فيزيولوجيو الأعصاب neurophysiologists قياس ومنابلة الاضطرام manipulate the firing في هذا الزوج العصبوني أثناء قيام الحيوان بالمشي استجابة للصوت. وبعملهم هذا، أظهر فيزيولوجيو الأعصاب أن الحيوان يستدير دوما نحو الجانب الذي يكون فيه الفرد الأقوى استجابةً في هذا الزوج العصبوني.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/13/SCI97b13N10_H01_006331.jpg

يُظهر هذا الشكل أن مسارات الإنسالة نحو مصدر الصوت لم تختلف بشكل رئيسي عن المسارات التي اتخذتها أنثى الجدجد. وكانت جميع التجارب قد أجريت في مضمار طوله أربعة أمتار وعرضه 3.3 متر. وعندما صدرت الأصوات، المعروفة باسم مقاطع صوتية syllables، من قبل ميكروفونين اثنين في آن واحد سارت الإنسالة ببساطة نحو هذا الميكروفون أو ذاك (في اليسار). وكذلك تتحرك إناث الجدجد نحو ذكر مُسَقْسِق chirping واحد حينما يسقسق عدد منها. فعندما تناوبت المقاطع الصوتية بين الميكروفونين غدت مسارات الإنسالة غير هادفة، حيث أخذت العربة تنعطف دائرة بين الميكروفونين (في اليمين). ومرة أخرى، أبدت الإناث سلوكا مشابها في هذا الموقف.

 

وحينما تحدث اندفاعة burst صوتية، يحدد كل فرد في الزوج العصبوني الدَّخْل input الوارد إليه من العصبونات الحسية في الأذن الموافقة، حتى إذا ما بلغ ذلك المجموع عتبة دنيا فإنه يشرع بالاضطرام firing. وتعتمد سرعة شروعه على قوة ذلك الدَّخْل. أما مدى تكرار الاضطرام فهو أيضا يرتبط بشكل وثيق بقوة الدخل. وبناء على ذلك، توجد طريقتان لتكويد اهتزاز طبلة الأذن بوساطة نشاط العصبونات: إحداهما زمن الكمون latency (الذي يمثل الزمن المنقضي قبل بدء العصبونات بالاضطرام)، والآخر معدل الاضطرام العصبي أثناء الاندفاعة الصوتية. وبعد انتهاء الاندفاعة الصوتية يستغرق العصبون برهة قصيرة للعودة إلى حالة الراحة. فإذا انطلق صوت آخر أثناء زمن الترميم recovery timeهذا، يستهل العصبون اضطرامه مجددا بشكل أسرع لأنه يكون حينئذ قريبا من عتبته.

 

إن أفضل طريق مباشر يمكن أن يَستخدم به الجهاز العصبي لأنثى الجدجد هذه الاستجابة في تحديد موقع الصوت يكون بالتفاتها عند كل اندفاعةِ صوت نحو الجانب الذي يبدأ فيه الاضطرام أولا. (بهذه الحالة، ستدور نحو الجانب الذي يكون فيه الصوت أقرب). والنتيجة المنطقية المهمة لهذا السيناريو أن الاستجابة لا تحدث إلا عند بداية الاندفاعة الصوتية. وتتوافق هذه الفكرة بشكل محكم مع حقيقة كون تكرار المقطع الصوتي هو العامل الأهم في تحديد ما إذا كانت الأنثى ستستجيب لأغنية ما أَوْ لا. فإذا كان الصوت مستمرا أو يتكرر بسرعة تفوق زمن الترميم الخاص بالعصبون فإن الاضطرام العصبوني سيكون مستمرا. وفي هذه الحالة سيكون الجانب الذي بدأتْ فيه العصبونات بالاضطرام أولا غير واضح. ومن ناحية أخرى، إذا تكرر الصوت بسرعة بطيئة جدا، فإن المعلومات المطلوبة لجهة دوران الحشرة ستكون أقل تتابعا، وقد لا تكفي لقيادة الأنثى باتجاه الذكر. وهنا يكون معدل التكرار المثالي هو بالطبع الذي يقع بين هذين الحدين البعيدين.

 

أغنية إنسالة (روبوت) الجدجد

إن البديل لمقارنة أزمنة الشروع onset times هو مقارنة معدلات الاضطرام التي يبدو أنها تجعل أنثى الجدجد تدور نحو الجانب الذي يضطرم بشكل أكثر تواترا. (وتقابل هذه الاستجابة كذلك دوران الحشرة نحو الجانب الذي يكون فيه الصوت أقرب). وتُعَدّ هذه الآليةُ الفرضيةَ الأكثر رواجا بين فيزيولوجيي الأعصاب، على الرغم من عدم وجود دليل قاطع على كل من الإمكانيتين. ولما كان معدل الاضطرام سيبلّغ إشاريًّا عن جهة أي نموذج صوتي ـ سواء كان صوتا مستمرا أو كان تكراره المقطعي سريعا أو بطيئا ـ فإن هذه الفرضية تتطلب أن يمتلك الجدجد سيرورات عصبية إضافية يستطيع بوساطتها تحديد الأغنيات ذات الإيقاع الصحيح. وفي الواقع، لقد عُثِرَ في دماغ الجدجد على عصبونات معينة يبدو أنها تتمتع بهذه الخاصية.

 

وعلى الرغم من هذه الحقائق، فقد استخدمتُ في الإنسالة التي قمت بتصميمها، خوارزمية algorithm تستند إلى مقارنة زمن الشروع، وتجاهل معدل الاضطرام. لقد أردت أن أختبر ما إذا كان مثل هذه الآلية يقوى على تفسير انتقائية الأنثى لأغنيات معينة من دون اللجوء إلى سيرورات عصبية أبعد. ولما كان الجهاز الحسّي الإنسالي قد اعتمد على طول موجي خاص للصوت، كما اعتمد مُقَارِنُه «العصبي» neural comparator على امتلاك إيقاع خاص، فإنه لم يكن بحاجة إلى انتقاء الأغنية الصحيحة بشكل فاعل ـ إنه ببساطة لم يكن يستجيب للأغنية المغلوطة. فإذا ما أفلحت إنسالتي هذه بأداء صحيح في تحديد موقع الأغنيات الملائمة، فإن ذلك سيمنح الثقة للفرضية القائلة بأن آلية تحديد الموقع لدى الجدجد الحقيقي يمكن أن تعمل بالأسلوب نفسه.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/13/SCI97b13N10_H01_006332.jpg

يختلف الجدجدان الحقيقي والإنسالي في عدة مزايا فيزيائية، بما في ذلك الحجم. وقد قيست خصائص الأصوات والبيئة المحيطة في تجارب المؤلف فيما يخص الإنسالة. أما في التجارب التي ستتم مستقبلا فسيتم اختبار إنسالات بحجم الجدجد وستستخدم أغنيات مسجلة لذكور جداجد حقيقية.

 

لقد كان من السهل نسبيا برمجة الإنسالة لتعمل بهذه الطريقة، إذ تمت برمجة دماغها ذي المعالج الميكروي microprocessor من النمط 000 688 ليتلقى مُدْخَلات المحسس sensor  المتنوعة ويوصل أوامرَ شروع الحركة وتوقُّفها إلى المحركين الأيمن والأيسر. وإضافة إلى الميكروفونات والدارة التي جسدت تأخر الطورphasedelay والإلغاء على شاكلة ما يحدث في الجهاز السمعي للجدجد، فقد احتوت الإنسالة على مفاتيح تعمل بالصَّدْم والأشعة تحت الحمراء لاكتشاف العوائق (الموانع). هذا وقد تألف برنامج التحكم نفسه من مئة خط تكويد lines of code أو  نحو ذلك.

 

لقد تمّ جمع القراءات المأخوذة من دارة الأذن طول الوقت. فإذا وصل أحد الجانبين عتبةً مسبقة الإعداد أولا، فإن العجلة (الدولاب) الموجودة في ذلك الجانب تتوقف فترةً قصيرة مسببة بذلك تبدلا صغيرا في الاتجاه. وإذا استمر الصوت، يبقى الرصيد sum فوق العتبة ولا تحدث استجابة لاحقة. أما إذا توقف  الصوت، فإن الرصيد يتراجع باتجاه الصفر، مما يحاكي زمن الترميم في عصبون الجدجد. وهكذا، فإن الصوت غير المستمر الذي يتكرر مرارا هو وحده الذي سيسبب استجابة الإنسالة بما يكفي لالتفاتها نحو الصوت.

 

ولما كانت الإنسالة تعالج الصوت ببطء يفوق ما يفعله الجدجد، فإن نماذج (أنساق) المقاطع الصوتية syllable patterns في الأغنية يجب إبطاؤها بعامل مقداره نحو 10- 300 مليثانية لكل مقطع. وعلى الرغم من هذا النموذج الصوتي الأكثر بطئا، فقد بقيت الإنسالة تدور وتتحرك نحو الأمام بسرعة تقارب إلى حد ما سرعة الجدجد الحقيقي. وبكلمات أخرى، غيرت الإنسالة اتجاهها بسرعة الجدجد مع أنها كانت تتلقى معلومات لا تتجاوز جزءا من عشرة أجزاء السرعة. فمن الناحية الفعلية كانت مهمة الإنسالة أصعب. ولكن الجانب المشرق تمثل في أنني استطعت التأكد من أنه إذا كانت الإنسالة قادرة على العثور على الصوت، فبالتأكيد لم تكن فوق مقدرة الجدجد على فعل ذلك بالطريقة نفسها.

 

لقد أخضعتُ الإنسالة لسلسلة من التجارب. وفي كل تجربة، كنت أشغّل الإنسالة عند جانب من جوانب مضمار التجريب، ثم أسجل المسار الذي اتخذته نحو الميكروفون المولِّد للصوت. وعندما اتصفت المقاطع الصوتية بالطول المثالي (300 مليثانية) وبالطبقة pitch النموذجية (اثنين كيلو هرتز)، اتجهت الإنسالة نحو الميكروفون بمسار متعرج zigzag  على نحو أشبه ما يكون بالتعرج الملحوظ في الانجذاب الصوتي للجدجد الحقيقي. ولم يحدث أن غطى هذا المسار أكثر من ضعفي المسافة المباشرة بين البداية والنهاية. أما حينما وضعتُ عوائق بين نقطة البداية ومصدر الصوت اتخذت الإنسالة طريقها التفافا حولها وصولا إلى الميكروفون.

 

ولمعرفة كيفية ارتكاس الإنسالة تجاه الأصوات التي تختلف عن الصوت المثالي، أجريتُ سلسلة من التجارب مستخدما معدلات مقطعية syllable ratesمختلفة. وعندما زدت معدل المقاطع (حيث المقاطع والفواصل تدوم أقل من  200 مليثانية)، لم يعد برنامج الإنسالة يميز الفواصل في الصوت، وأخذ يرسل إشاراتِ دورانٍ قليلة جدا إلى المحركات، مما جعل الإنسالة تسير في خطوط مستقيمة حول مضمار التجريب. وإذا حدث مرة أن وجدتْ الميكروفون، فكان غالبا بمحض الصدفة. وحينما أنقصتُ المعدل (حيث دامت المقاطع والفواصل أكثر من 500 مليثانية) كان سلوكها أقل نجاحا كذلك؛ إذ أصبحت التفاتات turns الإنسالة أقل تواترا، وانتهى بها الأمر إلى اتخاذ مسار منحنٍ في الاتجاه العام للميكروفون من دون أن تبلغه على الأغلب. ومع أنني توقعت أن تنجح الإنسالة فقط ضمن مجال معين لمعدلات المقاطع الصوتية، فقد اكتشفتُ فيما بعد أن الجداجد الحقيقية أيضا تميل إلى اتخاذ مسار منحن عند المعدلات البطيئة، في حين تُخفق بصورة شبه تامة في حالة المعدلات السريعة. وهكذا لا تنجح الإنسالة نجاح الجدجد فحسب، بل وتميل كذلك إلى الإخفاق مثله.

 

 لقد أغفلنا في مناقشتنا المذكورة سابقا، إلى حد ما، أنّ أغنية ذكر الجدجد هي في الواقع سلسلة من السقسقات chirps (ثلاثة مقاطع صوتية أو نحو ذلك يفصل بينها فترات سكون)، ولكنني اعتقدت أثناء تجاربنا أنه قد يكون من المفيد معرفة درجة أداء الإنسالة لدى تجزئة رَتْل المقطع الصوتي إلى سقسقات. وهنا كانت النتائج مشوشة، إذ استطاعت الإنسالة أن تتحرك مسافة لا بأس بها في ميدان التجريب أثناء فترات السكون ما بين السقسقات، حتى إنها مالت لأن تتخطى الميكروفون قبل أن تستعيد انضباطها. ومن ناحية أخرى، حينما وصلت إلى الميكروفون كان وصولها أسرع منه في حالة الأغنية المستمرة ذات المقاطع التي تباعد بينها فواصل متساوية. أما سبب ذلك فيكمن في أن الإنسالة إذا سارت أمورها على ما يرام تتخذ التوجه الصحيح أثناء السقسقات، في حين تتحرك بسرعة نحو الميكروفون من دون تعديلات تهدر الوقت أثناء فترات السكوت.

 

ومرة أخرى، لم اكتشف إلا لاحقًا وجود مقابل لذلك لدى الجداجد. فالسلوك الاقتفائي للجدجد يكون أكثر توجها حين توجد السقسقات. ولكن سلوك الالتفات المُقَيَّد باتجاه موقع واحد مقاسا بحركة الرجلين (أو البطن أثناء الطيران)، يكون أقوى في حالة المقاطع الصوتية المستمرة. وتوحي الأدلة المستقاة من الإنسالة أن عوامل الموقف situational factors، وليس آليات المعالجة العصبية الإضافية، هي التي تستطيع تفسير تأثير بِنْيَة السقسقة في حركة الأنثى نحو شريك جنسي محتمل.

 

مشابهات مذهلة

لقد أظهرت النتائج إلى هذا الحد أن الإنسالة تستطيع محاكاة تعرّف الجدجد الأغنيةَ الصحيحة وموقعها. ولكن هل تستطيع هذه العربة البسيطة، كأنثى الجدجد، انتقاء أحد الذكور المنادية من بين بضعة آخرين؟ لم أكن أعتقد ذلك، ولكن كان من السهل الإجابة عن هذا السؤال بإضافة ميكروفون ثان داخل مضمار التجريب وعَزْف الصوت خلال الاثنين. وقد دُهِشْتُ حينما بدا أن الإنسالة لم تواجه مشكلة في اتخاذ قرارها (بشكل ما) بالتوجه بشكل مباشر تقريبا إلى أحد الميكروفونين وترك الآخر.

 

ولكوني قد برمجت الإنسالة، فقد عرفت أنها لا تقوى على التمييز أو التقرير بين الأصوات. ولكن يبدو هنا أيضا أن التآثر interaction  بين الآليات غير المعقدة للإنسالة ومجالات الصوت الخاصة هو الذي يولد هذا السلوك المهم المفيد؛ كما يمكنه أن يكفي لشرح كيف تصطفي أنثى الجدجد أليفا. ولسوء الحظ، فإنني لم أكن أملك في هذه التجارب التحكم الكافي في خواص المنبِّه (المحرض) بحيث أَختبر ما إذا كانت الإنسالة ستفضل أغنيات معينة على غيرها.

 

ولكن أمكنني تحقيق اختلاف واحد بين مصدرين صوتيين: فقد استطعت اختبار السلوك في حال شطر الأغنية بين الميكروفونين، بحيث تأتي المقاطع الصوتية بالتناوب من هذا الجانب وذاك. ومن الواضح أن هذا الموقف لا يحدث في الطبيعة، وهذا أمر صائب أيضا. فأنثى الجدجد حينما تتعرض لهذا السيناريو تضطرب وتتحرك بين الصوتين. وتفعل الإنسالة الشيء نفسه تقريبا.

 

تُعَدّ هذه النتائج مشجعة بمجملها، مع أن نجاح الإنسالة بالطبع لا يبرهن بنفسه على أن الجدجد الحقيقي يعمل بهذا الأسلوب. ومع ذلك فإن هذه النتائج توحي فعلا ببعض التأويلات البديلة للنتائج الفيزيولوجية العصبية والسلوكية. وعلى نحو أعم، تبين هذه النتائج أنه يمكن أن ينجم عن آلية بسيطة للتحكم أداءٌ وظيفي معقد وواف بالغرض، شرط أن تتآثر هذه الآلية مع بيئتها بطريقة صحيحة. وأقوم مع زملائي بإعادة تحقيق هذه الآلية على إنسالة أصغر تستطيع معالجة الصوت بشكل أسرع. وبعدها ينبغي أن نكون قادرين على اختبارها باستخدام تسجيلات لأغنيات جدجد حقيقية ومعرفة ما إذا كانت تؤدي الانتقاءات نفسها التي تؤديها أنثى الجدجد. وإذا نجحت هذه التجربة، فقد يكون علينا أن نغير فهمنا لما تعنيه عبارة «يتصرف بشكل إنسالي.»

 

 المؤلفة

Barbara Webb

حصلتْ على البكالوريوس (وميدالية جامعية) في علم النفس من جامعة سيدني عام 1987. كما حصلت على الدكتوراه في الذكاء الصنعي من جامعة أدنبرة عام 1993. وهي الآن محاضرة في قسم علم النفس بجامعة نوتنگهام، حيث تقوم بتدريس الذكاء الصنعي. أما اهتمامها البحثي فينصب على الأجهزة الإدراكية لسلوك التحكم في الإنسالات (الروبوتات) والحيوانات الدنيا. وتتضمن اهتماماتها المهنية الأخرى سلوك التجنب escape behavior لدى الجدجد وكذلك تجسيد modeling استخدام الحشرات للضوء المستقطب polarized light في طيرانها.

 

مراجع للاستزادة 

CRICKET AUDITORY COMMUNICATION. Franz Huber and John Thorson in Scientific American, Vol. 253, No. 6, pages 46-54; December 1985.

AUDITORY BEHAVIOR OF THE CRICKET, Vol. 4: INTERACTION OF DIRECTION OF TRACKING WITH PERCEIVED TEMPORAL PATTERN IN SPLIT-SONG PARADIGMS. T. Weber and J. Thorson in Journal of Comparative Physiology A, Vol. 163, No. 1, pages 13-22; January 1988.

CRICKET BEHAVIOR AND NEUROBIOLOGY. Edited by E Huber, T E. Moore and W. Loher. Comstock Publishing Associates, 1989.

PHYSICS OF DIRECTIONAL HEARING IN THE CRICKET GRYLLUS BIMACULATUS. A. Michelsen, A. V Popov and B. Lewis in Journal of Comparative Physiology A, Vol. 175, No. 2, pages 153-162; February 1994.

USING ROBOTS TO MODEL ANIMALS: A CRICKET TEST. Barbara Webb in Robotics and Autonomous Systems, Vol. 16, Nos. 2-4, pages 117-132; 1995.

Scientific American, December 1996

 

(1) إنسالة (روبوت) robot، وجمعها إنسالات: نحت من إنسان آلي. ونقول: إنسالية (روبوتية) robotics، والصفة منها «إنسالي». (التحرير)

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى