أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
العلوم البيئية

الغبار الجوّي والمطر الحمضي


الغبار الجوّي والمطر الحمضي

بشكل مأساوي، تساقطت انبعاثات من ملوثات هوائية حمضية. ونتساءل اليوم لماذا

تستمر مشكلة المطر الحمضي؟ وقد يكون الغبار الجوي جزءا من الإجابة.

<O .L. هيدين> ـ< E .G. لايكنز>

 

لقد انصرف العلماء خلال عدة عقود ماضية، ومازالوا، لدراسة المطر الحمضي وكيفية تأثيره في البيئة. ولما كانت العواقب الضارة للملوثات الهوائية الحمضية تتزايد بوضوح، فقد بدأت الحكومات في أمريكا الشمالية وأوروبا بتنظيم انبعاثات هذه المركبات. وقد سنّت عدة دول في الاتحاد الأوروبي عددا من القوانين لمراقبة انطلاق ثنائي أكسيد الكبريت وأكاسيد النتروجين (الآزوت). كما فَرض قانونُ الهواء النظيف تنظيمات مشابهة في الولايات المتحدة. ويتوقع واضعو السياسة أن تساعد التخفيضات في تلك الملوثات على تجدد كل من الغابات والبحيرات والجداول في مناطق عديدة. وقد بدا وكأن بعض نواحي هذه القضية قد شارفت على الانتهاء.

 

أما مشكلة المطر الحمضي فلم تغب. لماذا لايزال المطر المتساقط على أجزاء من أوروبا وأمريكا الشمالية حمضيا؟ ولماذا تُبدي بعض المنظومات البيئيةecosystems الطبيعية (ولا سيما الغابات) مستويات من التأذي بالمطر الحمضي  تفوق ما تنبأ به العلماء أصلا؟.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/13/SCI97b13N12_H04_006518.jpg

يحتوي الغبار الجوي (الأسهم ذات اللون البني) على كيماويات تعرف بالقواعد (الأسس)، وتعمل هذه الكيماويات على معادلة ملوثات الهواء الحمضية (الأسهم ذات اللون الأصفر) التي تسبب المطر الحمضي. ويشار إلى أن الانبعاثات الصناعية والعمليات الزراعية (مثل الحراثة) وكذلك حركة المرور على الطرق غير المعبدة تسهم جميعها في الغبار الجوي. أما المصادر الطبيعية فتتضمن حرائق الغابات والحت بفعل الرياح. وتنجم الملوثات الحمضية بشكل رئيسي عن حرق الوقود الأحفوري في المصانع والسيارات والبيوت. وهناك فائدة إضافية لجسيمات الغبار تتمثل في أنها تقدم مغذيات للغابات، ولكن لسوء الحظ فإن هذا الغبار قد يسبب مشكلات صحية وبيئية.

 

توحي المكتشفات الحالية أن المطر الحمضي ظاهرة أكثر تعقيدا بكثير مما كان يظن سابقا. وتشير النتائج المستقاة من عدة دراسات إلى الدور الحاسم وغير المتوقع للكيماويات الجوية المعروفة بالقواعد (الأسس) bases، التي تستطيع معاكسة تأثيرات المطر الحمضي عن طريق تعديل (تحييد) الملوثات الحمضية. ولقد وجدنا أن جل الانتباه الموجَّه للمركبات الحمضية في الجو قد أغفل حقيقة كونِ انبعاثات القواعد قد تناقصت أيضا. ويبدو أن عددا من العوامل يقلل من مستوى هذه القواعد الكيميائية الجوية ومن تفاقم التأثيرات الإيكولوجية للمطر الحمضي مع مرور الأيام. ولعله من المفارقات أن يكون بين هذه العوامل بعض الخطوات المهمة التي اتخذتها الحكومات بالذات لتحسين نوعية (جودة) الهواء.

 

تقاس الحموض والقواعد بما يُعرف بمقياس الإمكانية الهيدروجينية أو مقياس الscale pH (مقياس درجة الحموضة والقاعدية). فالمحاليل ذات pH أقل من 7 تكون حمضية في حين تكون المحاليل ذات pH أكبر من 77 قاعدية (قلوية)، وتكون المحاليل ذات pH يساوي 7 معتدلة أو حيادية. ونذكر من الحموض الشائعة في البيوت كلا من الخل وعصير البرتقال والبيرة، ومن القواعد الأمونيا وصودا الخبيز (بيكربونات الصوديوم) والأقراص المضادة للحموضة. ومعظم القواعد الكيميائية الجوية توجد ضمن جسيمات محمولة في الهواء تسمى الغبار الجوي atmospheric dust. وتكون جسيمات الغبار هذه غنية بمعادن مثل كربونات الكالسيوم وكربونات المغنيسيوم اللذين يعملان كقواعد حينما ينحلان في الماء.

 

تنشأ جسيمات الغبار الجوي عن مجموعة مصادر؛ فاحتراق الوقود الأحفوري والأنشطة الصناعية (مثل صناعة الأسمنت وعمليات التعدين ومعالجة الفلزات metals) تولِّد جميعها جسيمات تحتوي على قواعد؛ كما تسهم مواقع التشييد والمزارع وحركة المرور على الطرق غير المعبدة في نشوء جسيمات الغبار الجوي. وعلى الرغم من أن بعض المصادر مثل حرائق الغابات والحتّ erosion، الذي تسبِّبه الرياح أثناء هبوبها فوق الأراضي القاحلة مع قلة الغطاء النباتي، يعتبران عوامل طبيعية فإنهما مع ذلك يبقيان على علاقة بالنشاط البشري.

 

مضاد حموضة طبيعي

تستطيع جسيمات الغبار العالقة بالهواء تعديل المطر الحمضي بطريقة تشبه تلك التي تعاكس بها مضادات الحموضة فائضَ الحمض في المعدة المتوعكة. وفي معنى من المعاني، حينما يجتمع حمض ما وقاعدة (أساس) فإن أحدهما يلغي دور الآخر، ويتكون من اتحادهما مادة أكثر اعتدالا من أي منهما. ويحدث التعادل في الجو حينما تنحل جسيمات الغبار في قطيرات ماء السحابة الحمضية أو تتحد مباشرة مع غازات حمضية مثل ثنائي أكسيد الكبريت أو أكاسيد النتروجين. وتولِّد هذه التفاعلات كذلك ما يسمى كاتيونات قاعدية basecations، وهو مصطلح يستخدم لوصف ذرات العناصر المشحونة إيجابيا (مثل الكالسيوم والمغنيسيوم) التي تنشأ عن انحلال القواعد المعدنية بالماء.

 

وإضافة إلى الإسهام في تقليل حموضة الهطل المطري فإن الكاتيونات القاعدية الكيميائية الجوية تُعدِّل أيضا المطر الحمضي فور وصوله إلى الأرض؛ مع أن الآلية الكيميائية تختلف قليلا عنها في الجو. فجسيمات الطين والدبالhumus (وهو مادة عضوية متفسخة) في التربة تحمل شحنات سالبة، وبذلك تجتذب الكاتيونات المشحونة إيجابيا مثل الكالسيوم والمغنيسيوم. ونتيجة لذلك تحتوي التربة على مخزن طبيعي من الكاتيونات القاعدية التي ترتبط بهذه الجسيمات. ولدى ارتشاح (تصريف) مياه المطر الحمضي داخل الأرض، تتخلى الكاتيونات القاعدية عن أمكنتها لأيونات الهيدروجين المشحونة إيجابيا والموجودة في الحموض، فترتبط هذه الأيونات بدقائق التربة بشكل وثيق. ولما كانت هذه الدقائق تصادر أيونات الهيدروجين، فإن حموضة المياه المنسابة عبر التربة تبقى منخفضة. ولكن العملية تغدو أكثر تعقيدا في بعض الترب: إذ يقدح المطر القاعدي انحلال أيونات الألمنيوم السامة التي تحل أيضا محل الكاتيونات القاعدية.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/13/SCI97b13N12_H04_006519.jpg

تحجب الانخفاضات المتوازية في الملوثات الكبريتية الحمضية والكاتيونات القاعدية التي تعادل تلك الملوثات، جزءا كبيرا من الفائدة المتوقعة من تخفيض الملوثات الحمضية. وتقدم دراسات المؤلِّفيْن التي أجْرياها في السويد والولايات المتحدة أدلة على هذه الاتجاهات. إضافة إلى ذلك، أظهرت دراسات أخرى أن مستويات الكاتيون القاعدي (الكالسيوم) تناقصت في أشجار غابة نيوهامپشاير على مدى بضع عشرات السنين الماضية. ومثل هذه التخفيضات في المغذيات الأساسية تُضْعف بيئة الغابات.

 

ومادامت التربة محتوية على مَدَدٍ وفير من الكاتيونات القاعدية، فإن هذه المنظومة الموازنة (الدارئة، الموقية) buffering system  المعروفة باسم المبادلة الكاتيونية (جهاز تبادل الأيونات الموجبة) cation exchange  تحمي الغابات من التأثيرات الضارة للمطر الحمضي. ولكن الاحتياطي الطبيعي للكاتيونات القاعدية قد يُستنزفُ في الترب التي تكون فقيرة بالقواعد بشكل طبيعي إذا ما تعرضت هذه الترب للمطر الحمضي عشرات السنين، مثلما حدث في مناطق في كل من أوروبا وأمريكا الشمالية. ففي هذه المناطق أزاحت أيونات الهيدروجين وأيونات الألمنيوم جزءا كبيرا من الكاتيونات القاعدية المتاحة في الترب، مما سمح بزيادة مستويات الألمنيوم وترك التربة مرتفعة الحموضة. إضافة إلى ذلك فإن هذه الترب الحمضية قد تغدو غير قادرة على حماية المنظومات البيئية للمجرى المائي من المطر الحمضي: فالمياه التي تسيل في هذه الغابات تنقل كلا من الحموض والألمنيوم إلى الجداول والبحيرات والأنهار.

 

يمكن لجسيمات الغبار أن تؤدي دورا مهما آخر. فالعناصر الممكن وجودها في الغبار المعدني (مثل الكالسيوم والمغنيسيوم وكذلك الصوديوم والبوتاسيوم) تعتبر مغذيات ضرورية لمعظم النباتات. ولا يكتفي المطر الحمضي بطرد هذه العناصر من الدقائق الطينية والدبالية التي تستقي منها النباتات معظم مغذياتها، بل ويجرفها نحو الأنهار والجداول حارما بذلك المنظومة البيئية من مخزونها من المعادن. ونشير هنا إلى أن العلماء، باستثناء البحث المبكر في الخمسينات الذي أجراه <H. إيگنر> (من جامعة أوبسالا الزراعية بالسويد) و <E.گورهام> (من مختبر الاتحاد البيولوجي للمياه العذبة في إنكلترا)، لم يعيروا فكرة احتمال أن يكون الجو مصدرا رئيسيا للكاتيونات القاعدية الموجودة في الترب كبير اهتمام؛ إذ اعتقدوا بشكل تقليدي أن الانحلال البطيء للمعادن والصخور في الأجزاء العميقة من التربة يعوِّض نقص الكاتيونات القاعدية بعملية طبيعية تسمى التجوية الكيماوية chemical weathering.

 

ولكن المكتشفات الحالية (بما في ذلك دراساتنا الخاصة) تعمل الآن على تنقيح وجهة النظر العامة عن كيفية تغلغل القواعد في أعماق التربة وكيفية اعتماد الغابات على المدخلات inputs  الجوية للمعادن والمغذيات. وفي بعض الغابات، يظهر الجو وكأنه فعليا المصدر الرئيسي للكاتيونات القاعدية. وتوحي هذه النتائج الجديدة أن العديد من الغابات يكون أكثر حساسية للتغيرات في كيمياء الجو مما كان يعتقده العلماء في يوم من الأيام.

 

أقلّ غبارًا، أكثر تلفًا

لقد قدَّمت الجهود المبذولة لتقليل انبعاثات ملوثات الهواء الحمضية، نتائج مشجعة في بداية الأمر. فمثلا هبطت مستويات الكبريت الجوي بشكل مثير في العقود الثلاثة الماضية في جزء كبير من أوروبا وشرق أمريكا الشمالية.ولكنَّ ما أقلقنا ـ نحن الاثنين ـ أن واضعي السياسة ومثلهم العلماء قد يكونون مهملين لدور القواعد الكيميائية الجوية في محاولاتهم تقييم ما إذا كانت هذه التخفيضات في المركبات الكبريتية قد أفادت البيئة أم لا. وبأخذنا في الحسبان أهمية الكيماويات الأساسية لنمو الغابات ولمنع المطر الحمضي، فقد قررنا أن نستقصي ما إذا كانت مستويات الغبار الجوي قد تغيرت أيضا مع مرور الزمن بسبب ما فرضته القوانين الجديدة من انخفاض في الانبعاثات.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/13/SCI97b13N12_H04_006520.jpg

تُقدِّم الكاتيونات القاعدية (اللون الأخضر) في التربة المغذيات للنباتات التي تمتص الكيماويات عبر جذورها. ومن الناحية النمطية تُثبِّت الكاتيونات القاعدية نفسها على دقائق الدبال أو الطين (في اليسار). ولكن حينما يتساقط المطر الحمضي على التربة تحل أيونات الهيدروجين (اللون الأحمر) محل الكاتيونات القاعدية التي تُغسل بعيدا بعدئذ. ومع مرور الزمن يمكن لأيونات الهيدروجين ومعها أيونات الألمنيوم (اللون الأزرق) المتحررة من التربة نتيجة المطر الحمضي أن تتجمع في جسيمات (في اليمين). ولا يحل الهيدروجين والألمنيوم محل المغذيات الضرورية فحسب بل يتدخلان في الكيمياء الحيوية للنبات. فالألمنيوم يمكن أن يكون ساما بشكل خاص.

 

لقد تم سن تشريعات للحد من انبعاثات الغبار؛ لأن الجسيمات المكروية المعلقة في الهواء، حسبما عرف العلماء لبعض الوقت، يمكن أن تسبب عددا من المشكلات الصحية بعد استنشاقها، كما أنها تفسد وضوح الرؤية وتسهم في عدد من المشكلات البيئية الأخرى. وقد وضعت الحكومات في أمريكا الشمالية وأوروبا على مدى عشرين عاما مواصفات قياسية للمواد الجسيمية (الدقائقية، الهبائية) particulated matter في الهواء ذي الجودة المقبولة. وكانت هذه التشريعات تتميز تماما عن التشريعات الموجَّهة للتلوث الحمضي. (نشير هنا إلى أن الغبار الجوي الناجم عن مصادر أخرى قد تضاءل كذلك على ما يبدو: إذ وجد <G. ستنسلاند> و <D .گاتز>، من مصلحة فحص المياه لولاية إيلينوي، أن انبعاثات الجسيمات المحتوية على قواعد تراجعت نتيجة لقلة حركة المرور على طرق غير معبدة).

 

ومن خلال عملنا مع علماء أوروبيين، بدأنا بتقييم أطول سجلات كيمياء الهطل المطري الممكنة في شرق أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية. وأمكننا، عن طريق قياس الكاتيونات القاعدية المنحلة في الثلوج ومياه الأمطار، تتبع مستويات القواعد المعدنية في الجو ورصد مدخول هذه الكاتيونات القاعدية داخل المنظومات البيئية الغابية. وكانت نتائجنا مذهلة: فلقد اكتشفنا أن القواعد الكيميائية الجوية انخفضت بمعدل انحدار غير متوقع خلال السنوات العشر إلى الثلاثين السابقة. وأظهر أطول سجل أمريكي شمالي موجود (تم جمعه في غابة هوبارد بروك التجريبية بنيوهامپشاير) انخفاضا بمقدار 49 في المئة في الكاتيونات القاعدية الكيميائية الجوية منذ عام 1965.

 

أما في الجانب الآخر من الأطلسي، فقد وجدنا أن أطول سجل أوروبي متتابع وعالي الجودة (مأخوذ من المنطقة الحراجية في Sjoangen بجنوب السويد) يُظهِر نقصانا مقداره 74 في المئة في الكاتيونات القاعدية منذ عام 19711. وقد أكدت تحليلاتنا لسجلات غيره (مع قليل من الاستثناءات) أن القواعد الكيميائية الجوية انخفضت بشدة عبر مناطق شاسعة من أوروبا وأمريكا الشمالية.

 

ولكن، هل كانت هذه التخفيضات في القواعد الكيميائية الجوية كافية لإعاقة (أو حتى إلغاء) الفوائد البيئية المتوقعة من التخفيضات في الانبعاثات الحمضية؟ وهنا يشير بحثنا إلى أن هذا هو ما حدث فعلا. إذ وجدنا أن انخفاض القواعد غالبا ما كان مرآة لانخفاض الكبريت الجوي بمعدلات من الحدّة بما يكفي لمعادلة جزء كبير من انخفاض المركبات الكبريتية. فمثلا، وجدنا أن نقصان الكاتيونات القاعدية ألغى مفعول ما بين 54 و 68 في المئة من انخفاضات الكبريت الجوي في السويد، في حين بلغ 100 في المئة في بعض أرجاء شرق أمريكا الشمالية [انظر الرسم التوضيحي في الصفحة 26]. وتعني هذه الاتجاهات أن انخفاضات القواعد أبقت الجو حساسا للمركبات الحمضية على الرغم من تراجع انبعاثات هذه الكيماويات. وحينما بدأنا هذا البحث، لم نكن بالتأكيد نتوقع أن تؤدي التخفيضات في أحد أشكال الملوثات (وهو هنا الجسيمات الغبارية) إلى تراجع نجاح تخفيضات ملوث آخر غيره (هو ثنائي أكسيد الكبريت).

 

إن المصادر الكثيرة للجسيمات الغبارية وكذلك المعلومات الغامضة عن انبعاثات الجسيمات particulate emissions تجعل تحديد سبب حدوث هذه التخفيضات الحادة في القواعد الكيميائية الجوية أمرا صعبا. ولكن ما نعرفه حقا أن التقنيات الصناعية النظيفة التي نشأت مراعية التشريعات الخاصة بإطلاق المواد الجسيمية شكَّلت عاملا مهما في هذا الصدد. فمثلا، قلصت كفاءة الاحتراق المحسَّنة، وممارسة تنقية (غسل) الجسيمات (الهبائب) من المداخن، التلوثَ المصاحب لحرق الوقود الأحفوري. أما تقييم إسهام المزيد من مصادر الغبار المنتشرة، مثل حركة المرور والطرائق الزراعية وحت الرياح، فقد كان أكثر صعوبة. ولكن دراساتنا توحي بأن نقصان الجسيمات الغبارية إنما يعكس بشكل رئيسي تغيرات سلوك الإنسان مقارنة بالتغيرات الطبيعية.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/13/SCI97b13N12_H04_006521.jpg

تستطيع عاصفة رملية في الصحراء الكبرى أن تنثر جسيمات الغبار حول الكرة الأرضية. وقد بينت الدراسات على غابات الأمازون غبارا منشؤه الصحراء الكبرى التي تبعد عنها ثلاثة آلاف ميل.

 

مصدر رئيسي للمغذِّيات

راقب العلماء على مدى سنوات نقصان مستويات الكالسيوم والمغنيسيوم والبوتاسيوم في ترب الغابات حول العالم. فمثلا، وثَّق <L. هالباكين> و<C.أولوف تام> (كلاهما من جامعة أوبسالا الزراعية في السويد) حدوث خسارة تراوحت ما بين 56 و74 في المئة من الكاتيونات المتاحة في الغابات الصنوبرية للنرويج على مدى الستين سنة الماضية. وتبين تقارير أخرى خسارات مثيرة مشابهة في الكاتيونات القاعدية بإنكلترا وألمانيا والولايات المتحدة. كما تبين بضع دراسات حالية عن الغابات المعتلَّة أن الخسارة الشديدة في الكاتيونات القاعدية يمكن أن تكون العامل الرئيسي في ظاهرة تقوض الغابات. وقد جادل<D-E. شولز> وزملاؤه (في جامعة بيروث) أن نضوب المغنيسيوم في التربة يؤدي دورا مهما في تقلص الغابات الصنوبرية في فيشتلكيبرگ بألمانيا. ومع أن دليلهم ليس واضحا جدا، فقد وجد باحثون في مختبر أوك ريدج الوطني بولاية تنسي بقيادة <S. مكلوگلين> أن تباطؤ النمو في أشجار الصنوبر الأحمر بجبال الأپلاش الجنوبية مرتبط بانخفاض كميات الكالسيوم المتاح في التربة. وإنه لمن الممتع أن التجارب على المدى القصير والتي تضمنت تسميد بعض الغابات بالكاتيونات القاعدية، ولا سيما الكالسيوم والمغنيسيوم، خففت التلف في غابات سكر القيقب بكويبك، على سبيل المثال، وكذلك الأمر في غابات الصنوبر والتنّوب بألمانيا وفرنسا.

 

لقد جعلتنا مثل هذه التقارير نتساءل إن كانت معاناة بعض الترب لا تعود فقط إلى تعرضها المستمر للمطر الحمضي، بل وكذلك لعدم تلقيها ما يكفيها من الكاتيونات القاعدية من الجو. ويستطيع العلماء اليوم تحديد منشأ الكاتيونات القاعدية ومتابعة حركتها عبر المنظومات البيئية الغابية باقتفاء النظائر المشعةisotopes الطبيعية لعنصر السترانشيوم (من خلال تقييم عدد النيوترونات في نواة ذرة السترانشيوم) الذي يُستخدم بمثابة قائف tracer للكالسيوم. وتميل ذرات السترانشيوم التي تشتق من الصخر الصلد الكائن تحت التربة وكذلك الذرات الآتية من الجو للبقاء في مزيجين مختلفين من النظائر المشعة. وقد أوضحت هذه التقنية أن الغبار الجوي هو في الواقع مصدر حاسم للأيونات المعدنية في العديد من المنظومات البيئية الغابية.

 

إضافة إلى ذلك، يبدو أن معظم الكالسيوم في المناطق التي تميل التربة فيها للتلف بفعل المطر الحمضي، أو التي تكون فقيرة بشكل طبيعي بالكاتيونات القاعدية، إنما يأتي من الجو عوضا عن الصخر الأديمي bedrock. فمثلا، توصّلنا إلى أن نوع الشجر السائد في غابات تشيلي غير الملوثة (وهو الزان الجنوبي) يتغذى بالكالسيوم الذي يتكون معظمه في الجو.

 

توحي هذه الملاحظات بأن العديد من الغابات يعتمد بشدة على الجو كمزوِّد للقواعد المعدنية؛ لذا أدت انخفاضات الكاتيونات القاعدية في الجو إلى تعويض بطيء للنقص في القواعد الحدّية critical والمغذيات الضرورية في ترب الغابات. وبالطبع، كانت المستويات الطبيعية للغبار الجوي تختلف دائما، ولكن عبر مئات أو آلاف السنين. وقد أشارت الدراسات التي أجراها <P. مييفسكي> ومساعدوه (في جامعة نيوهامپشاير على كتل جليدية من باطن الأرض في گرينلاند) إلى أن كميات الغبار والكالسيوم في الجو تأثرت بشدة بالتغيرات المناخية على مدى العشرين ألف سنة الماضية. ففي المناخات العالمية الأشد برودة وجفافا سادت مستويات مرتفعة من الكالسيوم والغبار، في حين شهدت الفترات الأكثر رطوبة وحرارة تراكيز متدنية من الكالسيوم والغبار. أما التحليلات التي تناولت الاتجاهات المعاصرة منذ عام 700 بعد الميلاد وحتى الآن، فإنها توحي بأن الكميات الحالية للغبار قليلة نسبيا مقارنة بظروف العشرين ألف سنة الماضية، وذلك فيما عدا الاستثناء البارز الذي تمثَّل بالعاصفة الترابية والجفاف الطويل الأمد الذي أصاب الجزء الغربي من الولايات المتحدة في منتصف الثلاثينات من هذا القرن.

 

أسئلة متبقية

عندما اكتشف العلماء أهمية القواعد الكيميائية الجوية، واكتشفوا مؤخرا الصلة بين انبعاثات الغبار الجوي والمغذيات في التربة، بدأوا برسم صورة جديدة عن استجابة الغابات للتلوث الجوي. وتوحي وجهة النظر الناشئة هذه بأن تأثيرات المطر الحمضي أكثر تعقيدا مما هو متوقع، وأن التلف الذي يحدثه التلوث أخطر مما هو متوقع. فمثلا، يبدو أنه لم يعد بالإمكان الدفاع عن الاستنتاج المقتبس من البرنامج الوطني لعام 1990 لتقدير الهطل المطري الحمضي (وهو أحدثُ تقييم لمشكلة المطر الحمضي أجرته حكومة الولايات المتحدة) بعدم وجود دليل واضح على الصلة بين تلف الغابات والمطر الحمضي.

 

من الواضح تماما أن استمرار المطر الحمضي في الاشتراك مع الإمدادات المحدودة من الكاتيونات القاعدية يمكن أن يولد ظروفا بيئية لم يتعرض لها في يوم من الأيام (خلال مسيرة التطور) العديد من الأنواع النباتية ولا سيما في المنظومات البيئية الحساسة. لذا فإنه سيصعب جدا التنبؤ بكيفية استجابة هذه الأنواع النباتية على مدى بضع عشرات السنين القادمة. وقد لا تقتصر التأثيرات على النباتات، إذ ذكر <J. گرافلاند> وزملاؤه في جامعة گروننگن أن بعض الطيور مثل العصفور العظيم great tit في هولندا، تعطي بيوضا هشة رقيقة القشرة في الغابات التي خلف فيها المطر الحمضي تلفا شديدا ومخزونا متدنيا من الكالسيوم في تربتها.

 

ماالذي نستطيع فعله بشأن المطر الحمضي والغبار الجوي؟ تتراوح الاقتراحات بين ما هو غير محتمل وما هو معقول. فبعد صدور إحدى نشراتنا العلمية الحديثة كتب لنا أحد القراء يقترح إمكانية إنقاذ الغابات عن طريق حملة مناطيد تعمل بالهواء الساخن وتذرُّ جسيمات غنية بالكالسيوم من الجو. إنه حل باهظ الثمن وغير عملي، كما أن الزيادات المتأنية في إطلاق الجسيمات بالجو تعد غير واقعية وتعيق التقدم في ضبط التلوث الهوائي عشرات السنين. أما الاقتراح المعقول فيتمثل في إنقاص انبعاثات الملوثات الحمضية إلى مستويات يمكن معادلتها بكميات طبيعية من المركبات القاعدية في الجو، وسيعني مثل هذا الهدف إجراء تخفيضات مستمرة في أكسيد الكبريت وأكاسيد النتروجين بدرجات ربما تكون أكبر من التخفيضات التي وردت في تعديلات عام 1990 لقانون الهواء النظيف في الولايات المتحدة.

 

من المحتمل جدا أن يبقى معنا اللغز الإيكولوجي للغبار الجوي بعض الوقت: إذ إن الكاتيونات القاعدية تستغرق أعواما لاستقرارها في الترب، وقد تستغرق الغابات عشرات السنين أو أكثر لاستعادة رصيدها المستنزف من المغذيات، حتى لو استمرت مستويات التلوث الهوائي الحمضي بالانخفاض. وفي الوقت نفسه، يجب على الباحثين والحكومات وضع استراتيجيات دقيقة، ليس من أجل مراقبة الحالة الصحية الراهنة للغابات فقط بل ومن أجل التنبؤ باستقرارها في القرن القادم وما بعده؛ فالحلول البسيطة لا تصلح دوما في المنظومات البيئية المعقدة.

 

 

 المؤلفان

Lars O. Hedin – Gene E. Likens

عملا معا أكثر من عشر سنوات في فحص الكيفية التي يؤثر بها المطر الحمضي في الغابات والمنظومات البيئية المائية. يشغل هيدين وظيفة أستاذ مساعد في الجيوكيمياء الحيوية لليابسة، وذلك في شعبة الإيكولوجيا والتصنيف بجامعة كورنل. وإضافة إلى بحوثه في الكاتيونات القاعدية يدرس دورات المغذيات في الغابات الاستوائية والمعتدلة غير الملوثة. أما لايكنز فهو مدير معهد دراسات المنظومات البيئية في ميلبروك بنيويورك، وقد نشر أبحاثا كثيرة حول موضوع المطر الحمضي والكيفية التي تؤثر بها الأنشطة البشرية في البيئة.

 

مراجع للاستزادة 

ECOLOGY AND DECLINE OF RED SPRUCE IN THE EASTERN UNITED STATES. Edited by C.-Eagar and M. B. Adams. Springer-Verlag, 1992.

POOR REPRODUCTION IN FOREST PASSERINES FROM DECLINE IN SNAIL ABUNDANCE OF ACIDIFIED SOILS. J. Graveland, R. van der Wal, J. H. van Balen and A. J. van Noordwijk in Nature, Vol. 368, pages 446-448; March 31, 1994.

STEEP DECLINES IN ATMOSPHERIC BASE CATIONS IN REGIONS OF EUROPE AND NORTH AMERICA. Lars O. Hedin, Lennart Granat, Gene E. Likens, T. Adri Buis¬hand, James N. Galloway, Thomas J. Butler and Henning Rodhe in Nature, Vol. 367, pages 351-354; January 27, 1994.

LONG-TERM EFFECTS OF ACID RAIN: RESPONSE AND RECOVERY OF A FOREST ECOSYSTEM. Gene E. Likens, Charles T Driscoll and Donald C. Buso in Science, Vol. 272, pages 244-246; April 12, 1996.

Scientific American, December 1996

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى