المسببات والوقاية
المسببات والوقاية استراتيجيات لتقليل خطر السرطان يمكن بإجراءات وقائية واقعية بسيطة إنقاذ مئات الآلاف من الأرواح كل عام في الدول المتقدمة وحدها. <E.N. مويلر> ـ <A.G. كولديتس> ـ <C.W. ويليت>
في عام 1996 تجاوز عدد وفيات السرطان في الولايات المتحدة 000 550 من البشر، ولم يقل العدد في أوروبا عن 000 840. ولكن الأدلة المتوافرة تشير إلى أنه كان من الممكن نظريا الحيلولة دون موت أكثر من نصف هؤلاء الناس في هذين الجزأين من العالم اللذين يتصفان بمعدلات عالية نسبيا ومحققة من وفيات السرطان.
وتنبثق فكرة قدرتنا على تقليل خطر السرطان من دراسات دامت عشرات السنين. فقد بينت التجارب المختبرية الواحدة تلو الأخرى أن مجموعة متنوعة من الكيماويات والعوامل البيئية الأخرى يمكن أن تسبب السرطان لدى الحيوانات. وربطتْ الدراسات على البشر أيضا بين التعرض المكثف لمواد معينة في مواقع العمل والأخطار العالية لأنماط نوعية من السرطان. كما أكدت الدراسات العالمية المتكررة على المهاجرين أنهم يميلون إلى اكتساب النموذج السرطاني لأوطانهم الجديدة خلال مدة تتراوح بين عشر سنوات (في حالة سرطان القولون والمستقيم) وعدة أجيال (في حالة سرطان الثدي)، مما يعني أن ذلك ناشئ من شيء ما في البيئة مِثْل تغيير الغذاء أو أنماط النشاط البدني. فإذا كان ثمة عوامل خارجية تستطيع زيادة خطر السرطان فإن تفادي تلك العوامل لا بد أن يقلل هذا الخطر.
ولكن كيف حدَّدنا المدى الذي يمكن بلوغه في تخفيض عدد الوفيات؟ لقد بدأنا بتحديد أدنى معدلات أنماط السرطان المختلفة لدى مجموعات سكانية كبيرة في العالم تحتفظ بأرقام معتمدة للوفيات بسبب السرطان. ففي اليابان والصين يقل إلى حد كبير حدوث العديد من السرطانات الأكثر شيوعا في الولايات المتحدة وأوروبا. ولتكوين بيان بالخط القاعدي base line التقديري لحدوث السرطانات، اخترنا أدنى معدل لكل نمط من أنماط السرطان من بين البيانات التابعة للولايات المتحدة واليابان والصين. ثم حسبنا الفرق بين أعلى معدل والخط القاعدي. فاستنتجنا من هذه المقارنات أنه يمكن تخفيض وفيات السرطان بنحو 60 في المئة في الولايات المتحدة. وربما أقل قليلا في حالة النساء الأمريكيات السوداوات، لأن معدل حدوث السرطان لديهن هو في الأصل أقل قليلا. وتعتبر أرقام معظم الأوروبيين مماثلة.
ومع أننا واثقون من أن معدلات الوفاة في معظم أنماط السرطان يمكن تخفيضها بشكل جوهري، فإننا نصادف استثناءيْن ملحوظين. ففي حالتي سرطان الثدي لدى النساء وسرطان الپروستاتة لدى الرجال، لا توجد إجراءات وقائية مؤكدة يحتمل أن يكون لها تأثير بارز.
وتتعدى هذه الأرقام في أهميتها إطار خبراء السياسات والتأمين. فبالنسبة لملايين الأفراد، تعني هذه النتائج أن تغيير نمط الحياة يمكن أن يطيل العمر ـ عدة سنوات في المتوسط، بل عدة عقود لأولئك الذين قد يصابون في منتصف أعمارهم. ولكن تقليل أخطار السرطان لدى معظم هؤلاء الناس إنما يتطلب عددا كبيرا من التغييرات لتغطي طيفا واسعا من الأسباب. أما بالنسبة للناس القلائل الذين ورثوا جينات طافرة تزيد بشكل درامي (مأساوي) خطر إصابتهم بأنماط معينة من السرطان، أو بالنسبة للذين تعرضوا لأخطار مهنية غير عادية، فإن الاستراتيجيات لا بد أن تتجه بشكل رئيسي إلى الوقاية من هذا السرطان بالذات.
درهم وقاية يمكن تفادي الموت بالسرطان عبر منع الإصابة به أو اكتشاف المرض بصورة مبكرة تكفي لمعالجته بنجاح، أو عبر الاثنين معا (بمعنى محاولة منع المرض مع التيقظ له بدرجة تكفي لاصطياده مبكرا ومعالجته بمجرد حدوثه). وتتضمن أمثلة استراتيجيات الوقاية من السرطان عدم التدخين أصلا أو الإقلاع عن هذه العادة لمن يدخن. فالتحرر من هذه العادة يمكِّن من كان يدخن من التمتع بمزية غير المدخن من قلة الإصابة بسرطان الرئة بعد نحو عشر سنوات من الإقلاع. ومن وسائل الوقاية الأخرى أكل خضراوات معينة وأطعمة أخرى تبطل نشاط المسرطنات (المواد المسببة للسرطان) في الجسم. كما أن التلقيح (التطعيم)vaccination ضد مختلف العوامل المُعدية التي يعرف أنها تسبب السرطان يمكن نظريا أن يساعد؛ ومع ذلك فاللقاح الوحيد الذي يخدم هذا الغرض حاليا هو ذاك الذي يمنع العدوى بالتهاب الكبد الڤيروسي البائي (B).
والكشف المبكر يعني تشخيص المرض في مرحلة أكثر قابلية للمعالجة، أي قبل ظهور الأعراض التي تجعل المريض يطلب الرعاية الطبية [انظر في هذا العدد: «تطورات في الكشف عن السرطان»]. ولقد تم تطبيق هذه المقاربة (الأسلوب) على بعض السرطانات مثل سرطان عنق الرحم وسرطان القولون والمستقيم. وتشير الدراسات الوبائية إلى أن معدليْ الوفاة بهذين المرضين يمكن تخفيضهما بنسبة %50 على الأقل إذا ما طُبِّق الاستقصاء على نطاق واسع، بحيث يمكن استئصال الأورام المحتملة التسرطن وكشف الخباثات malignanciesبشكل أبكر. وتعتبر لطاخة پاپانيكولاو Pap smear المعروفة الاختبارَ اللازم للكشف عن سرطان عنق الرحم، في حين يتمثل أكثر الإجراءات فعالية للكشف عن سرطان القولون والمستقيم في تنظير السيني sigmoidoscopy وتنظير القولون colonoscopy.
وبصرف النظر عن مدى نجاعتهما، فإن الكشف المبكر والمعالجة لا يرقيان إلى مستوى الوقاية الأولية (المنع) لأسباب عدة. فالوقاية، بكل وضوح، تتفادى صدمة من يشخص لديه السرطان ويُعالج منه. يضاف إلى ذلك أن العديد من طرائق الوقاية من السرطان (مثل الرياضة المنتظمة والغذاء المناسب) لها فوائد أخرى مثل تقليل خطر الإصابة بالأمراض القلبية الوعائية وغيرها من الأمراض التي تجعل الوقاية الأولية أكثر جدوى من المعالجة. وعلاوة على ذلك، فإن مقدرة الطب على معالجة الأشكال الكثيرة من السرطان تبقى محدودة لِنَزْعَة المرض للانتشار إلى أجزاء أخرى من الجسم فيما يسمى ظاهرة الانتقال (النقائل) metastasis. وبالطبع، فإن إخفاق الوقاية يُبقي على المعالجة كملاذ أخير.
وعلى الرغم من مزاياها، فإن قوة الوقاية كدفاع ضد السرطان لم تدركها جميع الجماهير إدراكا كاملا، بدليل الاستمرار الواسع الانتشار للعادات غير الصحية؛ ولربما نتفهم نحن هذه الملاحظة المخيبة للأمل؛ ومع ذلك فإنه من المستحيل تقرير ما إذا كان أسلوب الحياة الصحي قد دفع أذى السرطان عن فرد ما. وعلى النقيض من ذلك، فإن المعالجة الناجحة تغدو دائما حَدَثا بارزا. وعلاوة على ذلك، فإن نتائج المعالجة المجدية تظهر بسرعة في حين يستغرق ظهور تأثير النظام الوقائي (مثل الإقلاع عن التدخين) سنوات وسنوات.
وعلى شاكلة ما جاء في مقالة زملائنا حول مسببات السرطان، فإننا نركز هنا على الأنواع المميتة منه أكثر من تركيزنا على جميع الحالات لتفادي التشويهات (التحريفات) الحسابية التي يسببها العدد الكبير من السرطانات الشديدة التوضع(1) وتلك الأشكال من سرطان الجلد التي يندر أن تكون مميتة. ومن أجل كل سبب رئيسي للوفاة بالسرطان، نقوم بتقدير عدد الوفيات التي يمكن الإقلال منها بالنسبة لمن يعيشون في الولايات المتحدة والبلاد المتقدمة المشابهة.
احتمالات إصابة النساء بالسرطان حتى سن الخامسة والسبعين
المزيج القاتل: التبغ والكحول تركِّز معظم حملات الوقاية من السرطان، بجدارة،، على مكافحة وباء تدخين التبغ. ولكن هذا الهدف لم يتحقق كما يجب، إذ إن انخفاض التدخين في معظم الأقطار المتقدمة قابله في السنوات الأخيرة ازدياد سريع للتدخين في أرجاء أخرى من العالم. فالبرامج المحدودة النطاق وجهود التوعية الصحية التقليدية لا تضاهي القوة الإدمانية للنيكوتين والسطوة التسويقية لصناعة التبغ.
ومن المقاربات المبشرة في المجتمعات الديمقراطية ثلاث يكمل بعضها بعضا وتتمثل في تربية عامة مطورة وفرض الضرائب وغرس وتنمية قيم اجتماعية مضادة للتدخين. فالارتباط (التناسب) العكسي القوي بين الإنجازات التوعوية والتدخين يُبرز أهمية التوعية (التربية) الصحية لجميع قطاعات المجتمع. كما أن الضرائب العالية على منتجات التبغ إلى جانب الرفض (الاستهجان) الاجتماعي أو منع التدخين داخل المكاتب والطائرات وفي الأمكنة العامة أدت إلى تخفيض معدلات التدخين.
وربما تمكنّا من فعل المزيد، بجعل إدراك الناس لخطورة التدخين يتوافق مع الحقيقة. فكثيرا ما نصادف مدخنين شرهين يهتمون فعلا بالتأثيرات الصحية لعوامل بيئية لم يثبت ضررها بشكل قطعي أو ربما كانت ضئيلة الشأن مثل الحقول المغنطيسية أو المياه المُكَلْوَرَة (ولا يأبهون بالآثار الضارة الخطيرة المؤكدة للتدخين).
لا يمكن استئصال شأفة تدخين التبغ بشكل تام، شأنه شأن الرذائل الراسخة الأخرى. ولكن بالاستناد إلى الانخفاض المثير في التدخين لدى البالغين المثقفين في الولايات المتحدة على مدى العقود القليلة الفائتة، وكذلك الانتشار المتنامي للمشاعر المناهضة للتدخين، فلن يكون من قبيل الوهم أن نتوقع انخفاض تدخين التبغ (ومن ثم الوفيات العائدة للتبغ) بنحو الثلثين خلال عدة عقود. وبالطبع، لن يتطلب تحقيق مثل هذا الانخفاض استمرار ذلك المنحى فقط، ولكن توسيعه أيضا ليشمل الجماعات الأقل ثقافة.
إن تناول المشروبات الكحولية باعتدال، في حدود مرة أو مرتين يوميا يقلل احتمال الوفاة بأسباب قلبية وعائية؛ ولكن في الوقت نفسه ارتبط الكحول بعدة أشكال من السرطان. كما يُعتقد أن مفعوليْ تناول الكحول وتدخين التبغ يتآثرانinteract فيؤديان إلى تشكل السرطان في المسالك التنفسية العليا والمسالك المعدية المعوية.
ومن الواضح، لعدة أسباب، أن الإفراط في تناول الكحول أمر ينبغي تجنبه. كما ينبغي على أي شخص يَعتبر شرب الكحول باعتدال مفيدا للقلب أن يستشير الطبيب وأن يُدخل في اعتباره أية حادثة تسمم كحولي في الأسرة عندما يوازن بين أخطار السرطان وأخطار المرض القلبي الوعائي. وبالنسبة للنساء اللاتي لم يبلغن الخمسين واللواتي يقل احتمال إصابتهن بالأمراض القلبية الوعائية نسبيا، فيبدو أنه لن يكون هناك تخفيض للوفيات بينهن نتيجة تناولهن الكحول باعتدال. وعموما، فإن الوفيات بالسرطان المرتبط بالكحول ربما يمكن إنقاصها بمقدار الثلث إذا قلّ بحق عدد الناس الذين يشربون الكحول أكثر من مرتين يوميا.
الوقاية من السرطان الناجم عن التغذية مع أن ما نعرفه عن مكونات الغذاء النوعية المفيدة أو الضارة قليل، فإن لدينا فكرة جيدة عما ينبغي للناس تناوله إذا أرادوا تحسين فرصهم لتفادي السرطان. فغذاؤهم ينبغي أن يكون غنيا بالخضراوات والفواكه والبقول (مثل البازلاء والفاصولياء) ولا يحوي إلا القليل من اللحم الأحمر والدهون المشبعة والملح والسكر. وينبغي تناول الكربوهيدرات على شكل حبوب كاملة مثل خبز القمح الكامل (الخبز الأسمر) والأرز البني (غير المقشور) بدلا من الخبز الأبيض والأرز الأبيض. أما الدهون المضافة فينبغي أن تأتي بشكل رئيسي من النباتات وأن تكون غير مهدرجة unhydrogenated؛ ويبدو أن زيت الزيتون بخاصة ذو فائدة كامنة.
يجب أن يجتهد كل امرئ لتجنب زيادة وزنه، وأفضل وسيلة لتحقيق ذلك جزئيا هي النشاط البدني. فإضافة إلى المساعدة في ضبط الوزن، تقلل التمارين الرياضية حدوث سرطان القولون، وربما أيضا حدوث أنماط أخرى من السرطان. كما يمكن للنشاط البدني المنتظم أثناء الطفولة والمراهقة أن يبطئ النمو الزائد وأن يجنب الأنثى البدء المبكر لدورات الطمث، وكلاهما له صلة بالخباثةmalignancy.
تربط بعض الأدلة بين ازدياد خطر الإصابة بسرطانيْ الثدي والپروستاتة وبين الوزن الولادي المرتفع(2) وعوامل أخرى تعود إلى وقت الولادة. ومع أن هذه المعلومات ذات أهمية للعلماء، فإنها لا تُتَرْجَم بسهولة إلى وسائل عملية للوقاية. ويتناقض هذا الموقف مع نظيره في معظم أشكال السرطان الأخرى التي اتضحت استراتيجيات الوقاية منها حينما تأكدت أسبابها. ويترتب على هذا أنه في المستقبل القريب سيصبح تخفيض حدوث سرطانيْ الثدي والپروستاتة في الدول المتقدمة أمرا صعبا ولذلك يمكن أن يكون هذان السرطانان مسؤولين عن نسبة مئوية متزايدة من جميع وفيات السرطان عندما يتراجع عدد وفيات الأشكال الأخرى من السرطان (انظر الشكلين في الصفحتين 36 و37).
ومع أن فوائد التمارين الرياضية والاعتدال الغذائي معروفة منذ عشرات السنين، فإن نسبة الأمريكيين الزائدي الوزن قد ارتفعت. لقد زاد انتشار البدانة في الولايات المتحدة بنسبة 33 في المئة. ومع ذلك، فإن العديد من الناس (ولا سيما أولئك الذين يتمتعون بثقافةٍ ودخل مالي عاليين) تعلموا كيف يتجنبون زيادة الوزن المرتبطة بالعمر، لذا فإنه ليس من المستبعد أن نأمل ببعض التحسن لدى المجموعات الأخرى في المستقبل المنظور.
وعلى نحو مشابه، فإن التحولات المتواضعة للسكان ككل نحو مزيد من العادات الصحية ستكون ممكنة. فإذا حققت أغلبية الناس تغييرين حكيمين أو أكثر ـ على سبيل المثال، التريض بنشاط مدة عشرين دقيقة يوميا وإضافة مقدار من الخضراوات الورقية إلى طعامه يوميا أو الاقتصار على تناول وجبة واحدة من اللحم الأحمر في الأسبوع ـ فإنه يمكن تخفيض عدد وفيات السرطان المرتبط بالغذاء والحياة الخاملة بمقدار الربع تقريبا. ومثل هذه التغييرات مجتمعة يمكن أن تحول دون موت ما يقدر بأربعين ألف مصاب بالسرطان سنويا قبل الأوان في الولايات المتحدة. كما ستقلل هذه الإجراءات نفسها حدوث الأمراض القلبية الوعائية، الأمر الذي ينقذ المزيد من الأرواح. وإن المزيد من المعلومات عن المكونات النوعية المضادة للسرطان في الخضراوات والفواكه (وهو ما يسعى العلماء جهدهم للكشف عنه هذه الأيام) سيؤدي إلى تصميم استراتيجيات غذائية أكثر وضوحا وفاعلية، [انظر في هذا العدد: «الوقاية الكيميائية من السرطان»].
وثمة أدلة كثيرة توحي بأن معظم الأمريكيين لا يحصلون على الكفاية من حمض الفوليك في طعامهم. وقد يسهم نقص هذه المادة الغذائية في الإصابة بسرطان القولون وأمراض القلب. ولذلك، فإن عديد الڤيتامينات multivitamins الذي يتضمن حمض الفوليك ـ ويسمى أيضا الفولات folate ـ قد يكون مفيدا. أما بالنسبة للجرع الضخمة من الڤيتامينات megavitamins، فيشير بحث صغير موثوق إلى أن هذه الإضافات العالية التركيز ليست أكثر وقاية ضد السرطان من عديدات الڤيتامينات البسيطة القديمة (وحتى بالنسبة لهذه الأخيرة فإن فائدتها ليست مؤكدة).
اجتناب الڤيروسات تؤدي العدوى بڤيروس الورم الحليمي (الحليموم) papillomavirus البشري إلى أكثر العداوى(3) (الأخماج) المسببة للسرطان شيوعا في الولايات المتحدة، كما تُعتبر السلالات المنتقلة جنسيا والتي يمكن أن تسبب سرطان عنق الرحم أكثرها فتكا (تسببا في الوفاة). ولكن يمكن مكافحتها باللجوء إلى الإجراءات ذاتها الموجهة ضد انتقال ڤيروس العوز المناعي البشري (HIV) الذي يسبب الإيدز (مثل تأخير بدء ممارسة النشاط الجنسي وتقليل الاتصال الجنسي العرضي (غير الآمن) واستخدام الرفال المطاطي (الواقي الذكري) latex condom. وقد يقود التطبيق الواسع الانتشار لهذه الاحتياطات إلى هبوط بسيط آخر في عدد الوفيات بسبب سرطان عنق الرحم والأورام التناسلية الأخرى التي تعود إلى ڤيروس الورم الحليمي. وعلى مدى العقود القليلة الماضية، أسهم التقصّي باختبار لطاخة پاپا نيكولاو ـ الذي يمكِّن الأطباء من كشف الأورام (التي توشك أن تبدأ) في وقت مبكر يسمح بشفائها ـ في خفض عدد وفيات سرطان عنق الرحم بشكل مثير. ولعل التوسع في استخدام هذه التقانة يؤدي إلى تعزيز هذا الخفض.
يسبب ڤيروسا الالتهاب الكبدي B وC في الولايات المتحدة قليلا من حالات سرطان الخلايا الكبدية haptocellular carcinoma وهو شكل من أشكال سرطان الكبد. ويُتوقع أن تساعد اللقاحات الحديثة ضد ڤيروس الالتهاب الكبدي Bوتَحسُّن استقصاء الدم والمنتجات الدموية والاستخدام المعمَّم للمحاقن والإبر ذات الاستعمال الواحد disposable من قبل مدمني المخدرات الوريدية، على تقليل انتشار الڤيروسات. وعلى الرغم من شيوع ڤيروسات إپشتاين-بار، فإنها لا تسبب إلا وفيات سرطانية قليلة نسبيا لدى الأمريكيين. ولا يتوافر حتى الآن أي تمنيع ضد هذا الڤيروس الكبير المعقد.
وتناقصت الوفيات بسرطان المعدة في الولايات المتحدة نصف القرن المنقضي. وقد يُفَسَّر ذلك جزئيا بأن تحسين التصحاح sanitation البيئي أعاق العدوى ببكتيرة (جرثومة) المتحلزنة البوابية Helicobacter pylori المسبِّبة لالتهاب المعدة المزمن الذي يمكن أن يغدو سرطانيا. أما الإصابة المتأخرة بهذا الميكروب المنتشر فلا تمنح المرض الوقت الكافي لتطوره. كما أن الناس يميلون هذه الأيام لتناول ملح أقل وفواكه وخضراوات تحوي الڤيتامين C أكثر مما كان شائعا قبل سنوات. ويبدو أن هذه التحسينات الغذائية أيضا تتدخل في مقدرة العدوى على إحداث السرطان. ولعل استخدام المضادات الحيوية (الصادات) لمعالجة العدوى يؤدي إلى مزيد من تخفيض عدد الإصابات.
وإذا لم يحدث أي تعطيل للإجراءات والسياسات المعمول بها حاليا، فإن الوفيات بالسرطانات ذات الأصل العدوائي infectious يحتمل هبوطها على مدى العقود القليلة القادمة (في الولايات المتحدة والدول المتقدمة الأخرى) ربما بنحو الخُمْس. أما في الأقطار الأقل تقدما، فمن المحتمل أن تستمر الإصابات بالعدوى مسببة وفيات كثيرة بالسرطان.
عوامل إنجابية توجد أدلة وشواهد كثيرة تربط السلوك الإنجابي بالسرطان، ولا سيما سرطان الثدي وسرطان المبيض لدى النساء. ولسوء الحظ، فإن الدراسات والأفكار المتعمقة والبحوث العديدة الأخرى حول أسباب سرطان الثدي، لم تَقُدْ إلى استراتيجيات وقائية فعّالة. ويكمن جزء من المشكلة في أن السلوك الإنجابي (التوالدي) تُوجِّهه أصلا قوى اجتماعية واقتصادية، لذا فإن تعديله لصالح الوقاية من السرطان في معظم الأحوال إجراء غير واقعي.
إن حبوب تنظيم النسل تسبب زيادة صغيرة في معدلات سرطان الثدي أثناء استخدامها، ولكن زيادة الخطر هذه تتراجع بسرعة عقب التوقف عن استخدامها. كما أن استخدام تلك الحبوب قبل سن الخامسة والثلاثين، حينما يكون احتمال حدوث سرطان الثدي ضئيلا، ليس له سوى تأثير تافه في الوفيات بسرطان الثدي. وبالمقابل، فإن استعمال موانع الحمل الفموية مدة خمس سنوات أو أكثر يقلل بشكل جوهري خطر سرطان المبيض وبطانة الرحم طول العمر. وبهذا يكون التأثير الإجمالي لاستخدام حبوب منع الحمل في وفيات السرطان نافعا (إيجابيا) ـ إذا اقتصر ذلك الاستخدام على مرحلة العمر الإنجابية المبكرة. وتوحي بعض الأدلة بأن رَبْط البوق يمكن أن يقلل أيضا أخطار سرطان المبيض، في حين قد يزيد استئصال الأسهر vasectomy (قطع القناة الدافقة) لدى الرجل أخطار سرطان الپروستاتة.
أما موانع الحمل الهرمونية التي تستحث الحمل المبكر لدى المراهقات أو النساء في أوائل العشرينات أو الانقطاع المبكر للطمث لدى النساء في الثلاثينات أو الأربعينات من أعمارهن، فإنهما قد يقللان أخطار الإصابة بسرطان الثدي. ويستمر إجراء عدد متواضع من البحوث والتطويرات على هذه الموانع. ومع أن أول مستحضرات لقطع الطمث مبكرا قد تكون متاحة للاستخدام في غضون عقد من الزمن، فقد يستغرق الباحثون عشر سنوات أخرى لتقدير تأثيراتها في الإصابة بسرطان الثدي.
البيئة والتلوّث وعلى مدى العشرين سنة الماضية لم يشهد أيٌّ من مجالات وبائيات السرطان عددا من الفرضيات الجديدة يعادل العدد المعني بالتلوث البيئي. وتتسع دائرة ما يحتمل أن يكون مسرطنا لتشمل المجالات (الحقول) المغنطيسية المنخفضة التردد جدا المتولدة من خطوط الطاقة الكهربائية، والإشعاعات الكهرطيسية الراديوية التردد المستخدمة في الهواتف الخلوية (النقالة)، ومجاورة المحطات النووية ومدافن (مطامر) النفايات الكيماوية، وفَلْوَرَة المياه، وحتى المصادر غير النوعية وغير المرئية المسؤولة عن تجمعات من حالات السرطان داخل مناطق جغرافية صغيرة. ولقد ثبتت صحة بعض هذه الفرضيات، ولكنها جميعا تخدم غرضا هاما هو استمرارية اليقظة والحذر الضروريين في وجه التفجر التقاني السريع.
وفيما يخص الإشعاع من المصادر النووية والسينية والمسرطنات في أمكنة العمل، فإن كل ما يستطيع المرء فعله هو مطالبة السلطات بتنفيذ التعليمات والقوانين. فالتقدم التقاني المؤدي إلى التحول عن التوظيف الصناعي التقليدي، وتقليل المشتغلين في الأعمال العالية الأخطار السرطانية نسبيا، والكف عن استخدام الأسبستوس في المباني؛ هذه جميعا تبرر لنا توقع انخفاض عدد الوفيات بالسرطانات المرتبطة بالعمل إلى النصف في العقود القليلة المقبلة.
إضافة إلى ذلك، فإن المزيد من الوعي بأخطار التعرض للشمس بين الساعة الحادية عشرة صباحا والثالثة بعد الظهر وزيادة استخدام الستائر الشمسية يمكن أن يقللا وفيات الميلانوم، وهو الأكثر إماتة من بين أشكال سرطان الجلد بمقدار النصف. ولكن هذا الخفض سيتراجع إذا ما استمر استنزاف طبقة (غلاف) أوزون الأرض، الأمر الذي يسمح بعبور المزيد من أشعة الشمس فوق البنفسجية. ويعتبر جزء من الطيف فوق البنفسجي مسؤولا عن معظم سرطانات الجلد.
لقد انخفض تلوث الهواء في الولايات المتحدة على مدى الثلاثين سنة الماضية. ومع أن الإجراءات التي سببت هذا الانخفاض استهدفت غايات قصيرة الأمد على الأغلب (مثل تخفيف معاناة المصابين بالربو)، فقد يحدث بعض الهبوط في عدد وفيات السرطان المرتبط بالتلوث. ومع ذلك فإنه يصعب توثيق أي فائدة من هذا القبيل مثلما يصعب إثبات وجود الصلة نفسها أصلا. وقد يمكن خفض حالات السرطان المرتبط بالتلوث بمقدار الربع، وهو ما يمثل أقل من 1 في المئة من جميع وفيات السرطان.
وكذلك خَضَع للتدقيق إمكانية أن يكون تصوير الثدي mammographyوالإستروجينات التي توصف لتخفيف أعراض الإياس (سن اليأس) وعقار التاموكسيفين tamoxifen (المستخدم للوقاية من سرطان الثدي) عوامل مسرطنة. ومعلوم اليوم بشكل عام أن تصوير الثدي الشعاعي ينطوي على خطر لا يستحق الذكر في مقابل فائدته المهمة (كوسيلة للتشخيص المبكر). أما إستروجينات الإياس فيمكن أن تسبب سرطان بطانة الرحم وسرطان الثدي مع أن المستحضرات التي تتضمن الپروجستين progestin تعد أكثر أمانا فيما يخص سرطان بطانة الرحم.
وأما التاموكسيفين، وهو دواء قيّم في معالجة سرطان الثدي، فإنه يخضع الآن للتقييم وتقرير ما إذا كان يقي من سرطان الثدي لدى النساء الصحيحات اللواتي لديهن احتمال كبير للإصابة بالمرض. ولكن الصعوبة أن هناك دليلا قويا يشير إلى أن التاموكسيفين يمكن أن يسبب سرطان بطانة الرحم. ومما لا شك فيه أن المنتجات والإجراءات الطبية ستستمر تسبب نسبة صغيرة من كافة السرطانات، ولكن فوائدها الجوهرية بشكل عام تفوق أخطارها.
ما العمل؟ إجمالا يستطيع أي إنسان تقليل احتمالات إصابته بالسرطان باتباع بعض الإرشادات المعقولة وهي: أَكْثِر من تناول الفواكه والخُضَر، تَرَيَّض بانتظام، تجنب زيادة الوزن والتدخين والدهون (الدسم) الحيوانية واللحوم الحمراء والإفراط في تناول الكحول والشمس في وضح النهار والممارسات الجنسية المحفوفة بالأخطار والمسرطنات المعروفة في البيئة وأمكنة العمل. وبالطبع، لن يلتزم كل الناس بهذه النصيحة، كما لن يأبه كثيرون آخرون بها تماما. فإذا ما أخذنا هذه الحقيقة بالحسبان [انظر الشكل في الصفحة 39] فإننا نقدِّر أن الهدف المعقول على المدى المتوسط لبرامج الوقاية في الولايات المتحدة أو المجتمعات الأخرى المتقدمة اقتصاديا هو تخفيض وفيات السرطان بنحو الثلث حتى من دون مكتشفات جديدة أو منجزات تقانية حديثة. صحيح إن هذا التخفيض هو أقل بكثير من نحو الثلثين الممكنين نظريا، ولكنه يبقى مع ذلك كبير الشأن. وبالمزيد من البحوث والمعلومات الجديدة عن أسباب السرطان يمكن تحقيق المزيد من التخفيض.
يمكن تصميم استراتيجيات وقائية بمواصفات خاصة لتناسب مجموعة صغيرة من الناس. فالأفراد الذين ولدوا وهم يحملون جينات طافرة خاصة بسرطانات مختلفة تزيد إلى حد كبير من احتمالات إصابتهم، تُقدَّم لهم عادة استشارات جينية تركّز على درء ذلك النوع من السرطان الذي يواجههم. وبافتراض أن مثل هذه الطفرات غير شائعة، وأن بعض الولادات ذات الأخطار العالية يمكن اجتنابها، وأن الإجراءات الوقائية يتم اتخاذها لدى المصابين، فقد يمكن تخفيض عدد وفيات السرطان الوراثي بنحو النصف. ولكن يبقى هذا الرقم تقديرا تخمينيا في مجال سريع التغير ولا يمكن قياس تأثيراته لسنوات قادمة عديدة.
ولما كانت معظم الأفعال المطلوبة للوقاية من السرطان يجب أن يقوم بها الأفراد، فإن توزيع المعلومات الصحيحة المصحوب بالمساعدة على التخلص من العادات السيئة وإحداث تغييرات سلوكية بديلة، يعتبر أمرا حاسما. ولكن الوقاية الناجعة من السرطان تتطلب أيضا أنشطة على مستويات أخرى، منها المشورات والاستقصاءات التي يقوم بها مقدمو الرعاية الصحية. لذا فإن تزويد مقدمي الرعاية أنفسهم بالمعلومات السليمة علميا أمر في غاية الأهمية.
وثمة مستوى آخر يتعلق بالنُّظُم والاشتراطات الحكومية لتقليل تعرض الجماهير للعوامل الضارة قدر الإمكان وتشجيع المنتجات الأكثر نفعا صحيا وضمان أن توافر الصناعة بيئات عمل آمنة. وفي بعض الحالات، يتعين على الإداريين التدخل في نقل العمال الذين تعتمد أرزاقهم على إنتاج منتجات سامة. فمثلا، إن تكاليف إعانة مزارعي التبغ على زراعة نباتات غير التبغ، قد تساعد على تفادي تكاليف أعلى منها في المستقبل بتقليل عدد المحتاجين إلى المعالجة من سرطان الرئة. وثمة مستوى إضافي يتضمن تنفيذ سياسات تهدف إلى تحسين الصحة العامة. ومن أمثلة ذلك تأمين تسهيلات جماعية لأنشطة بدنية آمنة مثل طرق خاصة للدراجات كوسيلة انتقال يومية، وبيانات بأمكنة ممارسة الأطفال للرياضة البدنية بعد المدرسة.
وعلى المستوى الدولي، تؤثر أعمال الدول المتطورة في الوقاية من السرطان عالميا. فغالبا، للأسف، ما تتعزز صادرات التبغ وتحوَّل الصناعات الخطرة إلى دول العالم الثالث غير المنضبطة. وسيسهم هذان المنحيان في رفع معدلات أنواع السرطان في أرجاء العالم.
يمكن إلى حد كبير الوقاية من معظم أشكال السرطان حتى وإن اقتصر الأمر على المعارف والتقانات المتاحة حاليا. إن «الحرب ضد السرطان» والتي جرى خوضها في الأصل بحثا عن معالجات أفضل لم تحقق إلا نجاحا محدودا، لذا ينبغي موازنة ذلك بمزيد من الجهود المكثفة في مجالات الوقاية.
المؤلفون N. E. Mueller – G. A. Colditz – W. C. Willett هم زملاء في جامعة هارڤارد. يرأس ويليت قسم التغذية وهو أستاذ علم الأوبئة في كلية الصحة العامة وأستاذ في كلية الطب وطبيب مشارك في برگهام وفي مستشفى النساء في بوسطن. وگولديتس أستاذ مشارك في كلية الطب ومدير مشارك للتربية في مركز هارڤارد للوقاية من السرطان. أما مويلر فهي أستاذة علم الأوبئة في كلية الصحة العامة وعضو في هيئة المستشارين العلميين للمعهد الوطني للسرطان.
مراجع للاستزادة THE TREATMENT OF DISEASES AND THE WAR AGAINST CANCER. John Cairns in Scientific American, Vol. 253, No. 5, pages 51-59; November 1985. SMOKING AND HEALTH: A 25-YEAR EXPERIENCE. Kenneth Warner in American Journal of Public Health, Vol. 79, No. 2, pages 141-143; February 1989. TOWARD THE PRIMARY PREVENTION OF CANCER. Brian E. Henderson, Ronald K. Ross and Malcolm C. Pike in Science, Vol. 254, pages 1131-1138; November 22, 1991. THE CAUSES AND PREVENTION OF CANCER. Bruce N. Ames, LOIS 5wirsky Gold and Walter C. Willett in Proceedings of the National Academy of Sciences, Vol. 92, No. 12, pages .i258-5265; June 6, 1995. AVOIDABLE CAUSES OF CANCER. Special issue of Environmental Health Perspectives, Vol. 103, Supplement 8; November 1995.
(1) highly localized، وهي تلك السرطانات التي تبقى في أماكن تكوّنها، ولا تنتشر إلا قليلا أو نادرا. (التحرير) (2) أي وزن المصاب الزائد ساعة ولادته. (3) جمع عدوى. |