المسببات والوقاية إن العديد من مسببات السرطان الرئيسية الأكثر شهرة، ليس في واقع الأمر مسؤولا إلا عن عدد قليل نسبيا من الوفيات. والأخبار الجيدة في هذا المضمار هي أننا نستطيع عمل الكثير لحماية أنفسنا. وثمة مجال دراسة متنام (الوقاية الكيميائية) تسعى الجهود فيه إلى جعل هذه المهمة أيسر. المحتويات ما الذي يسبب السرطان؟ 26 لماذا يتم في كثير من الأحيان تجاهل تجمعات حالات السرطان؟ 32 استراتيجيات لتقليل خطر السرطان 35 الوقاية الكيميائية من السرطان 42 موضوع مختلف حوله أخطار المعالجة بالهرمونات 46 ما الذي يسبب السرطان؟ إن التدخين ونمط التغذية يأتيان على رأس مسببات السرطان، إذ يتسببان في حدوث نحو ثلثي مجموع وفيات السرطان، ويُعَدّان من أكثر العوامل المسرطنة قابلية للتصحيح. <D. تريكوپولوس> ـ <P .F. لي> ـ <J .D. هنتر>
إن السرطان، وهو قاتل رئيسي عبر تاريخ البشرية، كان يغير قبضته تبعا للتقدم الذي يحرزه الإنسان صناعيا وتقانيا. ومع أن هذا القرن حمل معه تراجعا حادا في خطورة القليل من أنواع السرطان في البلدان المتقدمة، فقد ازداد معدل حدوث الغالبية العظمى من السرطانات الرئيسية. ففي البلدان التي شهدت ارتفاعا في عوامل خطر الإصابة بالسرطان، مثل التدخين والعادات الغذائية غير الصحية والتعرض في العمل أو في البيئة للمواد الكيميائية الضارة، أصبحت سرطانات الرئة والپروستاتة (الموثة) والثدي والقولون والمستقيم أكثر شيوعا.
ومع انتشار التصنيع ازدادت الأسباب المحتملة لحدوث السرطان. كما ازدادت في السنوات الأخيرة التحذيرات المتعلقة بجميع أساليب الرفاهية الحديثة، من الأدوية وحتى الهواتف الخلوية (النقالة) cellular telephones. فتسارُع إيقاع التطور التقاني الحالي يحتم علينا تمييز العوامل المسببة فعليا للسرطان من بين المجموع المتزايد من الاحتمالات.
وفي هذه المهمة الشاقة، يعتمد الباحثون بشكل كبير على علم الوبائياتepidemiology؛ فمن خلاله يتم تعرّف بعض عوامل الخطر الشائعة في سِيَر حياة ضحايا السرطان لتقييم هذه العوامل ضمن سياق مفاهيمنا البيولوجية الحالية. وفي نهاية المطاف قد ترشد الدلائلُ الباحثين إلى أن واحدا أو أكثر من هذه العوامل «يسبب» السرطان ـ أي إن التعرض لأحد هذه العوامل يزيد زيادة مهمة احتمال الإصابة بالمرض.
خلال نصف القرن الماضي، مكّن علمُ الوبائيات الباحثين من تعرّف العديد من المسببات البيئية غير الوراثية noninherited للسرطان، بل وحتى حساب المعدل السنوي لوفيات السرطان الناجمة عن كل منها. وعلى الرغم من أن ما تم التوصل إليه لن يمكّننا من التنبؤ بما سيحدث لنا كأفراد، فإنه يوفر معلومات مفيدة إجمالا للذين يهمهم التقليل من تعرضهم للعوامل المسببة للسرطان، أي المسرطنات carcinogens.
لقد تبين أن السرطان ينشأ عن تأثير نوعين مختلفين من المسرطنات. ويتضمن أحد هذين النوعين العوامل التي تصيب الجينات (المورثات) وتؤدي إلى إفلات الخلية ونسائلها descendants من الضوابط الطبيعية للانقسام والهجرة. وينشأ السرطان عندما تتعرض خلية ما، وعلى مدى سنين عديدة، إلى عدد من هذه الطفرات (التغيرات الجينية) mutations، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى تخلصها من جميع ضوابط الانقسام proliferation. وتتيح هذه الطفرات حصول تغيرات إضافية في الخلية ونسائلها مؤدية إلى تراكمها بأعداد كبيرة، لتشكل ورما tumor يتألف بمعظمه من هذه الخلايا الشاذة. أما النوع الآخر فيتضمن العوامل التي لا تؤثر في الجينات وإنما تزيد بشكل انتقائي من نمو الخلايا الورمية أو أسلافها precursors. ويكمن الخطر الأساسي للخباثات malignanciesفي قدرتها على تشكيل نقائل metastasize، تُمكّن بعضَ خلاياها من الهجرة، وبالتالي نقل المرض إلى أجزاء أخرى من الجسم. وفي النهاية، يمكن أن يصيب المرض أحد أعضاء الجسم الحيوية ويعطل وظائفه [انظر في هذا العدد: «كيف ينشأ السرطان»].
لم يكن هناك أي شك لدى الباحثين بأن التعرض المتكرر لجزء من أجزاء الجسم إلى عوامل كالمواد الكيميائية الموجودة في دخان التبغ، يمكن أن يؤدي في النهاية إلى إصابة خلوية تؤدي إلى السرطان، إلا أن تفاصيل حدوث هذه الإصابة لاتزال مبهمة. وتشير النظرية السائدة إلى أن الضغوط البيئية والكهولة وسيرورات حياتية أخرى، تؤثر عن طريق زيادة تَشَكُّل ما يُدعى بالجذور الحرةfree radicals ـ التي هي عبارة عن كِسَر fragments كيميائية فعالة من الجزيئات. ومن خلال تفاعلها مع الدنا الجيني، تؤدي هذه الكِسَر إلى تخريب وحدوث طفرات دائمة في الجينات، في حين تعمل مسببات السرطان الأخرى كالڤيروسات بطريقة مختلفة تماما، وذلك من خلال تسريع معدل الانقسام الخلوي.
وبالطبع، فإن للجينات الموروثة من الأبوين دورًا في حدوث السرطان. فالبعض يولَد بطفرات تساعد بشكل مباشر على النمو المفرط لخلايا معينة أو على تشكيل عدد أكبر من الطفرات. ويعمل الضغط الانتقائي (الانتخابي) على إبقاء هذه الطفرات في حدها الأدنى؛ فهي مسؤولة عما يقل عن 5% من السرطانات القاتلة. (إن الجينات المعروفة بإحداثها للسرطانات البشرية الوراثية قد أُدرجت في جدول بالصفحة 34).
من جهة أخرى، إن معظم الخصائص الفيزيولوجية العامة الموروثة، بخلاف الطفرات التي تصيب الجينات المنظِّمة لنمو الخلايا، تسهم إلى حد ما في الغالبية العظمى من السرطانات. فعلى سبيل المثال، وراثة البشرة الفاتحة تجعل الشخص أكثر قابلية للإصابة بسرطان الجلد. ومع ذلك فإن ظهور المرض عند ذوي البشرة الفاتحة يحدث فقط بعد التعرض الشديد لأشعة الشمس (أي للعامل البيئي المسرطن) وأيضا، إذا ما ورث شخص نمطا جينيا طبيعيا يجعل حامله أقل قدرة على التخلص من عامل مسرطن معين، فإن هذا الشخص ـ بعد تعرضه المتكرر للعامل المسرطن ـ يكون أكثر عرضة للإصابة بالسرطان من أقرانه الحاملين للنسخة الأكثر كفاءة من هذا الجين.
إن أحد الأسئلة الشائعة حول السرطان يتعلق بمعرفة عدد الحالات التي يتوقع أن تنشأ بشكل طبيعي عند الأصحاء الحاملين لجينات طبيعية، والذين أمكنهم بشكل ما من تجنب جميع المسرطنات البيئية. وقد أمكن التوصل إلى تقدير تقريبي فقط لعدد تلك الحالات، وذلك من خلال مقارنة مجموعات لها أنماط سرطانية مختلفة تماما. إن نحو ربع حالات السرطان تكون متأصلة وراسخة، أي إنها قد تنشأ وتتطور حتى في عالم خال تماما من المؤثرات الخارجية، وذلك بسبب تشكل المواد المسرطنة داخل الجسم وحدوث الأخطاء الجينية غير المُصَحَّحة.
ومع ذلك فقد بيَّن علماء الوبائيات أن البيئة، بما فيها العوامل المتعلقة بنمط الحياة، تؤدي دورا كبيرا في معظم الحالات. فما مصداقية هذه البيانات (المعطيات)؟ إن الحلقة الضعيفة في وبائيات السرطان هي أنه لأسباب أخلاقية لا يمكن القيام بالدراسات على مجموعات بشرية مختارة بشكل عشوائي وتعريضها لعوامل مسرطنة محتملة أو حتى لمركبات قد تقي من السرطان، الأمر الذي يعقِّد بصورة بالغة عملية استقراء تلك البيانات.
وبالتالي، يمكننا أن نعتبر أن الدراسات الوبائية قد حددت مُسَبِّبًا للمرض فقط عندما تتكرر في مجموعة مصابة بسرطان معين قصةُ تعرّضٍ غير عادي لعامل معين بشكل مستمر. وبعبارة أخرى، إن علاقةً سببيةً يمكن أن تُستنتج عندما تُسجَّل بشكل ثابت وفي حالات متنوعة صلةٌ (حتى وإن كانت ضعيفة) بين عامل ما وأحد أشكال المرض، مع توافر تفسير بيولوجي مُرْض.
لذلك، فقد بنينا تقييمنا للأدلة حول مسببات السرطان على أساسين؛ الأول يعتمد على وجود بيانات وبائية قوية جدا مع غياب تفسير بيولوجي دقيق، والآخر يعتمد على وجود صلة ضعيفة إنما ثابتة ومدعومة بتفسير بيولوجي بيّن. فعلى سبيل المثال، دور الخضراوات والفواكه في الوقاية من السرطان ينتمي إلى الفئة الأولى، في حين ينتمي تقييم القدرة المسرطنة للتدخين السلبي إلى الفئة الأخرى: إذ يصاب فقط بعض الناس المعرَّضين للتدخين السلبي بسرطان الرئة، إلا أن الصلة بين السببين تظهر بشكل ثابت ولها تفسير مقنع.
تمثل البيانات الواردة في هذه المقالة خلاصة منتقاة من مئات الدراسات، ويشاركنا في الآراء المعروضة هنا معظم الباحثين وإخصائي الصحة العامة الآخرين، إن لم يكن جميعهم. وحسب الممارسة السائدة في وبائيات السرطان كان اهتمامنا منصبًّا على السرطانات القاتلة أكثر من سائر الحالات الأخرى للسرطان، وذلك لتجنب التشويش الناتج من السرطانات الشائعة والتي نادرا ما تصبح قاتلة. تبقى البيانات التي نناقشها هنا صحيحة بالنسبة للولايات المتحدة وسائر الدول الصناعية إلا إذا أشرنا إلى غير ذلك. ويختلف الوضع في البلدان النامية، حيث يزداد احتمال الإصابة بالسرطانات المتسببة عن عوامل مُعدية (خمجية) أو مسرطنات مهنية.
دخان التبغ هو المسرطن الأول إن التدخين ونمط التغذية مسؤولان عن نصف حالات وفيات السرطان في الولايات المتحدة، وربما حتى %60 من هذه الحالات. يسبب التدخين %30 من وفيات السرطان، مما يجعل من دخان التبغ القاتلَ الأول بين المسرطنات في الولايات المتحدة. وفيما عدا التدخين ونمط التغذية، تسهم العوامل البيئية الأخرى بنسبة ضئيلة من مجمل وفيات السرطان.
يسبب التدخين (السگائر بشكل خاص) كلا من سرطان الرئة وسرطان الطرق التنفسية العلوية وسرطان المريء وسرطان المثانة وسرطان الپنكرياس (المعثكلة) وربما حتى المعدة والكبد والكليتين. ويبدو أن للتدخين دورا في ابيضاض الدم النقوي المزمن chronic myelocytic leukemia، كما يحتمل أن يسبب سرطان القولون والمستقيم وأعضاء أخرى. وتعتمد قدرة التدخين على إحداث الخباثة malignancyعلى عدة عوامل، تتضمن عدد مرات التدخين وكمية القطران في السگائر ـ والأهم هو مدة استمرار هذه العادة. فمزاولة التدخين منذ سنٍ مبكرة يزيد من الخطورة بشكل واضح. وتختلف الخطورة بحسب نوع السرطان؛ فمعدل إصابة المدخنين بسرطان المثانة bladder cancer هو ضعف المعدل العادي، في حين أن معدل إصابتهم بسرطان الرئة lung cancer هو ثمانية أضعاف المعدل الطبيعي.
إن التدخينَ السلبي، أي استنشاق دخان السگائر المنتشر في البيئة، يسبب سرطانَ الرئة بنسبة أقل من التدخين الفعلي. ومع ذلك، يموت عدة آلاف من الناس كل عام في الولايات المتحدة بسبب السرطانات الناجمة عن التدخين السلبي. وهكذا، فالتدخين السلبي يقتل تماما مثل الهواء الملوَّث أو مثل التعرض المنزلي لغاز الرادون المشع radioactive gas radon (الذي ينطلق من الأرض بشكل طبيعي في بعض المناطق).
الأكل الصحيح يطيل الأعمار تعتبر التغذية(1) المنافس الوحيد لدخان السگائر كمسبب للسرطان في الولايات المتحدة، إذ تسبب أعدادا مشابهة من الوفيات في كل عام. تترافق الشحوم (الدهون) الحيوانية المشبعة animal saturated fat، في اللحم بشكل عام واللحم الأحمر بشكل خاص، مع عدة أنواع من السرطانات؛ فكلا النوعين من اللحم وثيق الصلة بسرطانات القولون والمستقيم وأيضا سرطان الپروستاتة.
ما زال الغموض يكتنف بعض جوانب موضوع دُهْن (دسم) الطعام. فقد أظهرت التجارب على الحيوانات أنه تحت شروط خاصة تزيد بعض أنواع الدهون المتعددة اللاإشباع poly-unsaturated fat من خطر الإصابة بالسرطان في أمكنة معينة من الجسم، إلا أنه ليس لدينا إلا القليل من الدلائل على أن هذه البيانات تنطبق على البشر أيضا. كما لم تستطع الدراسات الوبائية المكثفة أن تؤكد بعض النظريات المبكرة التي ما زالت شائعة حول علاقة السرطان بدهن الطعام. فعلى سبيل المثال، أظهرت معظم الدراسات التي تابعت مجموعة كبيرة من النساء البالغات خلال اثني عشر عاما، أن الوارد العالي من الدهن (الحيواني بشكل رئيسي) لا يزيد من خطر الإصابة بسرطان الثدي breast cancer.
الميكروبات المسببة للسرطان
أما بالنسبة للمنكِّهات (المواد المضافة إلى الطعام)، فقد تبين أن لملح الطعام فقط دورًا في السرطان، إذ أظهرت الدراسات التي أجريت لبعض المناطق السكانية خارج الولايات المتحدة أن الوارد العالي من الملح يمكن أن يتسبب في سرطان المعدة stomach cancer. كما يزداد معدل الإصابة بسرطان البلعوم الأنفيnasopharynx (القسم العلوي من البلعوم المتصل بالمجرى الأنفي) في جنوب شرقي آسيا، وبخاصة عند صغار السن، بسبب تناول السمك المملح بكميات كبيرة. وبصورة مشابهة، تبيَّن أنه يمكن للمشروبات الساخنة جدا ـ مثل المَتّه(2)mate، وهو مشروب أمريكي جنوبي يشبه الشاي ـ أن تزيد من خطر سرطان المريء espophageal cancer.
أما القهوة (مع أو من دون كافئين)، فقد أظهرت معظم الدراسات عدم وجود علاقة بينها وبين السرطان. إضافة إلى ذلك، لا يبدو أن لطريقة تحلية المشروب أي تأثير، فهناك أدلة وافرة تشير إلى أن المُحلّيات الصنعية artificial sweetneres بكميات معقولة لا تسبب السرطان. وعلى ما يبدو، فإن العلاقة ما بين السرطان والتغذية تتعلق بما يَنْقص الراتب الغذائي أكثر مما يحويه. فقد يؤدي حذف الخضراوات والفواكه من التغذية إلى الإصابة بأنواع مختلفة من السرطان، وذلك لأسباب غير معروفة بشكل كامل. فالتأثير الوقائي لهذه الأطعمة يمكن أن ينتج من مكونات خاصة تثبط من فعالية المُسَرْطِنات التي تتشكل ضمن الجسم نفسه. فمثلا تُعَدِّل neutralize مضاداتُ المؤكسدات antioxidants الموجودة في الطعام الجذورَ الحرة. كما يُعتقد بأن بعض المواد الكيميائية في الأطعمة الصحية تقوم بتثبيط الإشارات التي ترسلها الستيرويدات مثل هرمون الإستروجين ـ والتي تحض خلايا الثدي ومناطق أخرى في الجسم على التكاثر. إلا أن الطعام يحتوي على آلافِ المواد الكيميائية، وما زال العلماء غير متأكدين أي هذه المواد أو أي مزيج منها هو الأكثر فعالية في الوقاية من السرطان.
إن تأثير التغذية لا يعتمد فقط على نوع الحريرات calories المستهلَكة، وإنما أيضا على كمية هذه الحريرات. ويعتقد العلماء أن تناول الشخص كمية من الطاقة أعلى من القدر الذي يستهلكه منها مؤذ على امتداد حياته، ومن المحتمل أن يحدث ذلك بآليات تختلف باختلاف المرحلة العمرية. فمثلا يزداد نمو الأطفال الذين يتناولون كمية زائدة من الطعام ويستهلكون كمية قليلة من الطاقة، كما يزداد خطر إصابتهم ببعض أنواع السرطان.
ويَظهر هذا التأثير بشكل خاص في سرطان الثدي. فالنمو الزائد أثناء الطفولة، والذي ينعكس على شكل زيادة في الطول والوزن، يؤدي إلى بلوغ الفتيات في سن مبكرة نسبيا، ويعتبر الطمث المبكر early menstruation العامل الأكثر أهمية من حيث التعرض لخطر الإصابة بسرطان الثدي (كما يمكن أن يسهم هذا النمو الزائد في حدوث أنواع أخرى من السرطانات). وهكذا فإن بعض عوامل الحياة المبكرة، مثل النمو الزائد بسبب كثرة الطعام وقلة الحركة يمكن أن تكون مسؤولة عن 5% من سرطانات الثدي والپروستاتة، والتي يمكن أن تكون قاتلة في العديد من الحالات.
إن البدانة مسبب مهم لسرطان بطانة الرحم cancer of endometrium (الطبقة المبطنة للرحم) لدى الأنثى البالغة، كما تشكل البدانة أحد المسببات المثبتة إنما الضعيفة نسبيا، لسرطان الثدي بعد الإياس (سن اليأس) postmenopausal. كما تَبيّن أن البدانة تزيد من خطورة الإصابة بسرطانات القولون والكلية والمرارة لأسباب غير معروفة.
إن تناول كميات كبيرة من المشروبات الكحولية، وبخاصة من قبل المدخنين، يزيد من خطورة الإصابة بسرطان الطرق التنفسية العلوية upper respiratory tractوسرطان السبيل الهضمي digestive tract، وكثيرا ما يؤدي تشمع الكبد الكحوليalcoholic cirrhosis إلى سرطان الكبد. ومع أن الاستهلاك المعتدل للكحول يقلل من خطر الآفات القلبية، فإن البيانات تشير إلى أن مثل هذا الاستهلاك المعتدل (كأس أو كأسين يوميا) قد يسهم في حدوث سرطان الثدي وربما سرطان القولون والمستقيم أيضا.
ويُقدَّر أن المشروبات الكحولية مسؤولة عن %3 من المعدل الكلي لوفيات السرطان في الدول المتقدمة (إضافة إلى %30 التي تنشأ عن نمط التغذية.) كما تضيف الحياة الخاملة %3 إلى هذه الأرقام. أما المنكهات، وبشكل خاص الملح، فيمكن أن تضيف إلى هذه النسب نحو %1.
الإنسان والإشعاع بخلاف التدخين والتغذية، ثمة عوامل خطر أخرى عديدة من العسير إلى حد ما تجنبها، وإن تكن أقل شأنا. ومن بين عوامل الخطر المقترحة، حظيت الأشكال المتنوعة من الإشعاع (من الشمس وخطوط الطاقة الكهربائية والأدوات المنزلية والهاتف الخلوي ومن غاز الرادون المشع الذي ينبعث في الجو بشكل طبيعي) بأكبر قدر من التغطية الإعلامية. يسبب الإشعاع نحو %2 من العدد الكلي لوفيات السرطان. وتنشأ معظم هذه الوفيات عن المصادر الطبيعية للإشعاع؛ إذ تُنسب الغالبية العظمى إلى سرطان الجلد «الميلانوم» melanoma الناتج من التعرض لأشعة الشمس فوق البنفسجية.
ويتألف الجزء الأكثر خطورة من الأشعة فوق البنفسجية التي تصل إلى الأرض، من الأشعة فوق البنفسجية عالية التواتر من النوع البائي B، القادرة على إحداث تخريب في الدنا. وتسبب الأشعة البائية فوق البنفسجية %90 من سرطانات الجلد، بما فيها الميلانوم الذي تتجاوز خطورته سائر أنواع سرطانات الجلد [انظر في هذا العدد: «أشعة الشمس وسرطان الجلد»]. واليوم يعتقد العديد من الباحثين بأن تكرار حروق الشمس أثناء الطفولة هو أكثر تأثيرا من التعرض الزائد لأشعة الشمس في إحداث الميلانوم. لذا فإن الخطر أقل عند من تغمق بشرتهم من دون أن تحترق.
المسرطنات في أمكنة العمل
والمصدر الطبيعي الثاني للإشعاع هو الرادون radon، وهو غاز مشع عديم الرائحة عديم اللون ينبعث من الأرض في بعض المناطق. ويمكن أن يتسرب هذا الغاز إلى داخل الأبنية ليتجمع في الطابق الأرضي أو الأقبية. وقد وُجِد أن استنشاقا طويل الأمد لسويات مرتفعة من الرادون، المصادف غالبا في المناجم تحت الأرض لهو ذو تأثير في حدوث سرطان الرئة. إلا أن الرادون لا يُعد من المسببات المهمة للسرطان عند عامة الناس، كما يمكن التقليل من مستواه عن طريق تحسين التهوية في الأبنية والمناجم.
إن الحقول الكهربائية والمغنطيسية، التي تولِّدها خطوط الطاقة والأدوات المنزلية الكهربائية والتي تدور بمعدل 60 دورة في الثانية بالنسبة للولايات المتحدة، تُعرف بالحقول ذات التواتر المنخفض جدا extremely low frequency fields. وقد أُخضعت هذه الحقول لدراسات مكثفة لتحديد تأثيرها المسرطن. لكن البيانات المتجمعة حول هذا الأمر ما زالت مشتتة وانتقائية الاستخدام، كما أسيء تفسيرها بشكل عام. وكثيرا ما أثارت المخاوف عند الناس عبر التقليل من قيمة الدراسات العلمية حولها. فمن المعروف أنه لا يمكن للإشعاع إحداث الطفرات الجينية المسببة للسرطان، ما لم تُشحَن جزيئات داخل الجسم عن طريق اكتسابها أو فقدانها لإلكترون أو أكثر ـ أي عندما تصبح متأينة (متشردة)ionized. وهكذا يجب أن تكون الفوتونات المرافقة للحقول ذات التواتر المنخفض جدا، أقوى بمليون مرة لتكون قادرة على تأيين الجزيئات.
ومع ذلك فقد أشارت الدراسات الوبائية إلى أن هذه الحقول تزيد بدرجة طفيفة من خطر الإصابة بابيضاض الدم leukemia عند الأطفال؛ في حين أن الأدلة أضعف بالنسبة لسائر السرطانات. كما لا يمكن أن نُهمل كليةً احتمالَ إسهام خطوط الطاقة في إحداث بعض أشكال السرطان، ولكن الأدلة على ذلك ما زالت ضعيفة من وجهة نظرنا. وحتى بالنسبة لابيضاض الدم عند الأطفال، فإن الأدلة من الضعف بحيث يمكن تفسيرها على الوجهين؛ أي لتدل على وجود علاقة حقيقية بالمرض أو لتدل على عيوب في البيانات الوبائية.
ويردّ القلق المتعلق بالحقول ذات التواتر المنخفض جدا إلى أسباب عدة. أحدها هو الربط الخاطئ لهذه الحقول بالأشكال الأخرى من الإشعاع. والسبب الآخر هو التركيز الإعلامي الواسع على دراسات قليلة وابتدائية نسبيا.
ومن الواضح تماما أن الأشعة الكهرمغنطيسية ذات التواترات الراديوية التي تنبعث من الهواتف الخلوية (النقالة) وأجهزة الميكروويڤ والأجهزة اللاسلكية الأخرى وحتى من المخلوقات الحية، مختلفة تماما عن الحقول ذات التواتر المنخفض جدا. وحتى عند تواترات راديوية أعلى، فإن طاقة الفوتون تظل أقل بمرات عديدة من تلك اللازمة لتأيين الجزيء. ففي المدن، حيث تكون حقول التواترات الراديوية على أشدها، يظل مستوى الطاقة في البيئة المحيطة أقل من واحد في المئة من تلك التي يبثها الإنسان نفسه. ويدرس الباحثون الآن البث الراديوي المنطلق من الهواتف الخلوية لتقصي العلاقة المحتملة بين استعمال هذه الهواتف وبين حدوث سرطان الدماغ brain cancer، وإلى الآن لم تُثبِت الأدلة التجريبية وجود علاقة كهذه. (فالدراسة المهمة الوحيدة التي أجريت إلى الآن لم تثبت صحة هذه العلاقة.)
ومن جهة أخرى، فإن الإشعاع الصادر عن المواد النووية nuclear materialsوتفاعلاتها قوي بشكل كاف لتأيين الجزيئات، وبالتالي فقدرته المسرطنة لا جدال فيها. إنما هنا أيضا، يميل عامة الناس إلى المبالغة في تقدير الخطر الناجم عن المستويات المنخفضة من الإشعاع. فمن بين سكان هيروشيما وناگازاكي الذين عاشوا أكثر من سنة تقريبا بعد انفجار القنبلة الذرية وتعرضوا لمستويات من الإشعاع تفوق أي كمية يمكن أن يتعرض لها إنسان على الإطلاق، نجد أن فقط %1 منهم توفي بسرطانات لها علاقة بالإشعاع. وفشلت الدراسات الوبائية في إثبات المزاعم بأن نسبة ابيضاض الدم تكون أعلى لدى الناس الذين يسكنون بالقرب من المفاعلات النووية nuclear plants أو لدى أطفال العاملين فيها.
المسرطنات في أمكنة العمل والأدوية والميكروبات إن عددا من المواد التي تُعرف الآن بأنها مسرطنة ـ مثل الأسبستوس (3)asbestos والبنزين benzene والفورمالدهيد formaldehyde ونواتج احتراق الديزل والرادون ـ والتي تم اكتشاف خطرها من خلال «تجارب حية» غير سارة اشتملت على تعرض عال لإشعاعات هذه المواد أثناء العمل [انظر الجدول في الصفحة المقابلة]. إلا أنه تمت في السنوات الأخيرة السيطرة على مثل هذه المسرطنات المهنية accupational في الدول المتقدمة على الأقل، وتلك إحدى قصص النجاح القليلة في مجال الصحة العامة.
لقد أدت الإجراءات الدقيقة الصارمة، التي شملت أمكنة العمل على مدى الخمسين سنة الماضية، إلى تقليص نسبة الوفيات الناجمة عن التعرض المهني للمسرطنات إلى أقل من %5، وقد كانت ضعف هذه النسبة قبل عام 1950. ولسوء الحظ من المرجح تزايد حدوث السرطانات المهنية، التي تصيب بشكل أساسي الرئة والمثانة والجلد والأعضاء المصنّعة للدم hematopoietic، في البلدان النامية مع تسارع تحولها نحو التصنيع.
وكما في التعرض المهني، ألقت المعالجة الدوائية بالصدفة بعض الضوء على أسباب السرطان، إذ تبين أن لبعض المنتجات الدوائية والتطبيقات العلاجية تأثيرات مسرطنة. وعلى عكس ما ينتظر، فإن الأدوية والمعالجات الدوائية قد تكون مسؤولة عن نحو %1 من جميع حالات السرطان. إلا أن فوائدها السريرية تفوق خطورتها. وينطبق هذا على المعالجات السرطانية، بما فيها المعالجتان الشعاعية والكيميائية؛ إذ يمكن أن تسبب بعض الأدوية أو المشاركات (التوليفات) الدوائية المستعملة لمعالجة السرطان، مثل الأدوية المستعملة في داء هودجكن Hodgkin’s disease، في حدوث ابيضاض دم حاد acute leukemia عند نحو %5 من المرضى الباقين على قيد الحياة، وفي حالات نادرة يمكن أن تسبب سرطان المثانة bladder cancer.
وقد يكون أيضا لمثبطات المناعة immunosuppressive drugs تأثير مسرطن؛ إذ تسبب أنواعا خاصة من اللمفومات. كما ترتبط الإستروجينات البديلة، التي تستعمل لمعالجة أعراض الإياس (سن اليأس)، بسرطاني بطانة الرحم والثدي. أما الستيرويدات المستعملة لمعالجة فقر الدم اللاتنسجي (غير المصنع) aplasticanimia فتترافق مع سرطان الكبد في حالات نادرة.
وأشارت التقارير المبكرة إلى أن التاموكسيفين tamoxifen، وهو أحد الأدوية التجريبية المستعملة في سرطان الثدي، يمكن أن يسبب سرطان بطانة الرحم أحيانا، الأمر الذي أكَّدته الدراسات الحديثة. كما يُشتبه بأن أدوية الإخصابfertility drugs، ذات التأثير المماثل لمحرضات الأقناد gonadotropins بما فيها البيرگونال pergonal، تزيد من خطر سرطان المبيض ovarian cancer. كما يمكن أن تزيد هرمونات النمو growth hormones من خطر التعرض لابيضاض الدم عند الأطفال. وأيضا يمكن أن تزيد بعض المدرات البولية diuretics من خطر الإصابة بسرطان الكلية، وتزيد بعض الأدوية الخافضة للكولستيرول cholestrol-loweringdrugs من خطر الإصابة بسرطان القولون والمستقيم، ولكن الأدلة ضعيفة هنا أيضا.
وتزيد موانع الحمل الفموية oral contraceptives بشكل طفيف من خطر الإصابة ببعض أنواع أورام الكبد، وفي حالات خاصة تزيد من خطر الإصابة بسرطان الثدي ما قبل الإياس premenopausal breast cancer. وفي الوقت نفسه تخفض موانع الحمل من خطر الإصابة بسرطان المبيض وسرطان بطانة الرحم وربما أيضا سرطان القولون والمستقيم.
أما الڤيروسات والعوامل المُعدية (الخمجية) الأخرى، التي بدأنا النظر إليها كمسببات للسرطان فقط خلال الثلاثين عاما الماضية، فيمكن أن تسهم في نحو %5 من السرطانات القاتلة في البلدان المتقدمة. [انظر ما هو مؤطر في الصفحتين 28 و 29].
دور التلوث يؤدي التلوث البيئي، للهواء والماء والتربة، دورا عرضيا صعب الإثبات في سرطانات البشر. وإنه لمن الصعب التحقق من التأثيرات الضارة للملوثات، فهي تَنتج بشكل عام من التعرض لمسرطنات متعددة وبمستويات منخفضة جدا. ومع ذلك، فمن الممكن القول إن الملوثات pollutants تسهم في نحو %2 من حالات السرطان القاتلة، وبشكل رئيسي في سرطاني الرئة والمثانة.
تشير الدراسات البيئية، التي تشبه الدراسات الوبائية إلا أنها أقل نوعية وتفصيلا، إلى أن نسبة سرطان الرئة في المدن الملوَّثة تفوق نسبته في المناطق الريفية. وفي الواقع تشير البيانات إلى أن مدخني المدن معرضون أكثر من مدخني الأرياف للإصابة بسرطان الرئة ـ حتى بعد الأخذ في الاعتبار سلوك المدخن (من حيث كمية السگائر التي يدخنها ونوعها، وغير ذلك.) ومع ذلك لم تتضح أية زيادة في نسبة خطر الإصابة بسرطان الرئة عند سكان المدينة غير المدخنين.
وإذا ما أُخذت مجتمعة، فإن هذه الدراسات وقائمة المواد التي تنطلق في الجو والتحاليل الكيميائية لعينات الهواء المأخوذة من المدن، تشير إلى أن تعرضا طويل الأمد لمستويات عالية من الهواء الملوث يزيد من خطر الإصابة بسرطان الرئة بنحو %50، بين المدخنين خاصة. (على الرغم من أن هذه النسبة قد تبدو عالية، فإن التدخين بكثرة بحد ذاته يزيد من الخطر بنحو %2000). وتشير الدلائل إلى أن نواتج احتراق الديزل (المازوت)، التي يُحتمل أن تكون مسرطنة أكثر من نواتج احتراق أنواع الوقود الأخرى، هي عامل مسرطن مُرَجَّح.
ويعتقد بعض الباحثين بأن المركبات العضوية التي تحتوي جزيئاتها على الكلورين chlorine وعلى مكونات حَلَقِيّة الشكل تزيد من خطر الإصابة بسرطان الثدي، وربما ببعض السرطانات الأخرى المتعلقة بهرمون الإستروجين الأنثوي. وينتج بعض هذه المركبات عندما تتحول مبيدات pesticides معينة، مثل الـ (دي ـ دي ـ تي) DDT داخل الجسم. والنظرية المقترحة كتفسير لهذا هي أن هذه المواد التي يطلق عليها اسم الإستروجينات الخارجية (الغريبة)(4) xenoestrogens، تتشبه بإستروجينات الجسم، وبالتالي تنشِّط انقسام الخلايا في الثدي وسائر أعضاء جهاز التكاثر. لكن الدلائل التجريبية في الإنسان قليلة، كما أن الفعالية الإستروجينية لهذه المركبات أضعف بكثير من تلك التي للإستروجينات الداخلية.
ويمكن أن يكون للقرب من أمكنة دفن المخلفات الخطرة hazardous-waste sites أو الآبار الملوثة contaminated wells تأثير في الصحة، إنما لم يتبين بعد أن هذا العامل يسبب زيادة ملحوظة في خطر الإصابة بالسرطان. ولم يتضح بعد ما إذا كان ضعف الارتباط هذا حقيقيا أم أنه ناتج من محدودية الطرائق الإحصائيةstatistical methods في تقصي ارتباط ضعيف جدا.
كما اقترحت دراسات قليلة ـ من دون توضيح مقنع ـ وجود علاقة إيجابية ضعيفة بين كَلْوَرَة المياه water chlorination وسرطان المثانة. وتستعمل الكلورة في جميع أنحاء العالم، وبخاصة في الدول المتقدمة، لقتل الجراثيم في مياه الشرب. ويبقى الخطر الناجم عن عدم استعمال هذه الطريقة لمنع انتشار الأمراض التي تنتقل عن طريق الماء مثل الكوليرا (الهيضة) والزحار (الدوزنتاريا) والتيفوئيد (الحمى التيفية)، أكبر بكثير من الخطر الناجم عن القدرة المسرطنة الضئيلة جدا وغير المؤكدة للماء المُعامَل بالكلور. أما التحريات المتعلقة بعملية فلورة المياهwater fluoridation فكانت مطمئنة.
العوامل النسائية والتناسلية من بين السيرورات الطبيعية العديدة في الجسم، فإن تلك المتعلقة بالتوالد (الجهاز التناسلي وملحقاته) هي الأكثر ارتباطا بالسرطان، من الناحية الوبائية. فبالنسبة للنساء، يعتبر كل من الطمث المبكر والحمل في سن متأخرة والإياس (سن اليأس) المتأخر عوامل تزيد من خطورة التعرض لسرطان الثدي؛ وكلما ازداد عدد ولادات المرأة، تناقص احتمال تعرُّضها للإصابة بسرطانات بطانة الرحم والمبيض والثدي.
إن التفسيرات الفيزيولوجية لمثل هذه الملاحظات غامضة في الغالب. فعلى سبيل المثال، لا أحد يعرف بالضبط لماذا يترافق كل من الطمث المبكر وتأخر الإياس مع سرطان الثدي. ويمكن أن يكمن السبب ببساطة في زيادة الفترة التي تتعرض خلالها المرأة لتأثير هرموناتها الجنسية، وبشكل خاص الإستروجين.
من جهة أخرى، فإن التأثير الوقائي للحمل المبكر يمكن أن يتأتى من جعل خلايا الثدي أكثر تمايزا. فالتمايز يحد من قدرة الخلية على النمو الشاذ وعلى تغيير نمطها، كما يحد من قدرتها على العيش ضمن أنواع أخرى من النسج. ويؤدي الحمل الأول في سن مبكرة إلى تمايز مبكر لخلايا الثدي، وبالتالي يحد من تأثرها بالعوامل المسرطنة لاحقا.
إن نمط التوالد في البلدان المتطورة محكوم بعوامل اقتصادية واجتماعية، إذ تؤجِّل ملايين النساء في البلدان المتقدمة حملهن ويقللن من عدد أطفالهن عما كان لدى أمهاتهن وجداتهن، بسبب الدراسة أو العمل أو لأسباب أخرى. ولسوء الحظ، فإن قرارات كهذه تؤدي إلى معدلات أعلى من سرطاني الثدي والمبيض. فتأجيل الحمول الأولى الحاصل عند النساء الأمريكيات الشابات، سوف يزيد من معدل إصابتهن بسرطان الثدي بنحو 5 إلى %10 خلال الأعوام الـ 25 القادمة من أعمارهنّ.
كما بينت بعض الدراسات، أن الإجهاضات المحرَّضة induced abortion تترافق مع زيادة خفيفة في خطر الإصابة بسرطان الثدي، إلا أن البيانات ليست قاطعة بهذا الشأن. كما لوحظ وجود ارتباط بين سرطانات الطرق التناسلية وحالات خاصة أو سلوك معين، ولكن هذه البيانات أيضا ليست قاطعة وأهميتها ضئيلة وقد تكون بدائل للأسباب الحقيقية. فعلى سبيل المثال، لفترة من الزمن كان ينظر إلى تعدد الشركاء الجنسيين كعامل مؤهب لحدوث سرطان عنق الرحم عند النساء. وبدلا من ذلك، قد تكون زيادة خطر التعرض لهذا السرطان ناجمة عن زيادة التعرض للڤيروسات البشرية ذات التأثير المسرطن والتي تنتقل عن طريق الاتصالات الجنسية.
فإذا ما وضعنا في اعتبارنا جميع هذه النواحي، أمكننا أن نردّ نحو %4 من وفيات السرطان إلى العوامل المتعلقة بالجهاز التناسلي.
الفوارق الاجتماعية الاقتصادية تعزى الفروق في معدلات السرطان بين المجموعات السكانية المختلفة عادة إلى الفوارق في نمط المعيشة بين هذه المجموعات. ففي الطبقات الفقيرة يرتفع معدل الإصابة بسرطانات الفم والمعدة والرئة وعنق الرحم والكبد وكذلك الإصابة بنوع من سرطان المريء esophageal cancer (سرطان الخلايا الحرشفية (الصدفية)squamous cell cancer). وقد اعتُبر الفقرُ السببَ الأساسي لهذا؛ لأنه غالبا ما يترافق مع معدلات عالية من التدخين واستهلاك الكحول والتغذية السيئة والتعرض لعوامل مُعدية (خمجية) معينة ـ والتي يمكنها مجتمعة أن تفسر زيادة خطر الإصابة بالسرطانات التي جئنا على ذكرها.
وبالمقابل، ولأسباب غير معروفة حتى الآن، فإن سرطاني الثدي والپروستاتة وبعض السرطانات الأخرى شائعة أكثر عند الطبقات الغنية. وقد اعتقد بعض العلماء أن السبب في زيادة معدل هذه السرطانات يكمن في زيادة النمو الناجم عن قلة النشاط البدني والتغذية المفرطة في المراحل المبكرة من الحياة. إلا أن هذه الفرضية تحتاج إلى تمحيص جدي.
لماذا يتم في كثير من الأحيان تجاهل تجمعات حالات السرطان
ويمكن أن يُعزى الاختلاف في معدلات السرطان ما بين المجموعات العرقية المختلفة إلى عوامل اجتماعية اقتصادية أيضا. كما يمكن أن يكون ثمة أساس جيني لبعض الاختلافات بين المجموعات العرقية، ولكن التباين الجيني بين أفراد المجموعة العرقية الواحدة هو أعلى منه بين المجموعات العرقية المختلفة. وبشكل عام، يمكن رد الاختلافات بين البيض والسود والآسيويين إلى نمط التغذية وأسلوب الحياة والتعرض للعوامل البيئية. فعلى سبيل المثال، تتعرض النساء اليابانيات في اليابان إلى الربع فقط من خطر سرطان الثدي الذي تتعرض له النساء البيضاوات في الولايات المتحدة. إلاّ أن الجيل الثالث للنساء الأمريكيات من أصل ياباني يصاب بسرطان الثدي تقريبا بنفس معدل إصابة الأمريكيات.
آليات مراوغة ومع أن الآليات النوعية الفيزيولوجية والجينية ـ التي يمكن بوساطتها للمسرطنات البيئية أن تسبب السرطان ـ ما زالت غامضة، فإن لدى العلماء الآن فهما جيدا لمدى إسهام المجموعات المختلفة من العوامل المسرطنة في السرطانات القاتلة. وإلى حد بعيد، يوضع كل من تدخين التبغ والعادات الغذائية على رأس قائمة السلوكيات المسببة للسرطان في الدول الصناعية. أما في الدول النامية، فإن السرطانات الناجمة عن العوامل المعدية هي الأكثر شيوعا. ولكن الانتشار السريع لعادة التدخين في جميع أنحاء العالم يَعِدُ بتصدّر التدخين لقائمة أسباب وفيات السرطان في هذه البلدان أيضا.
الجينات وخطر الإصابة بالسرطان تؤدي وراثة أنماط طافرة في هذه الجينات إلى زيادة كبيرة في خطر الإصابة بالسرطان. ويشير النمط الأحمر إلى السرطان الذي غالبا ما يرافقه شكل طافر من الجين المقابل.
ومع أن البيانات البيئية مفيدة في وضع أسس التدابير الوقائية وفي صياغة أهداف سياسة الصحة العامة، فإن تحديدها للأهمية النسبية للمسرطنات البيئية لا يفيد في التنبؤ بمصير كل فرد على حدة، إذ يمكن للمدخن بكثرة ألا يصاب بسرطان الرئة، كما يمكن للحامل المزمن لڤيروس التهاب الكبد من النوعhepatitis B virus B ألا يصاب بسرطان الكبد، وكثير من كبار السن هم أصحاء على الرغم من اتباعهم نمطا غذائيا غير صحي. أما بالنسبة لسائر العوامل الأخرى المشار إليها في هذه المقالة، مثل الإشعاع المؤيِّن وبعض العوامل المهنية، فإن التعرض الشديد لها (أو حمل جينات طافرة) هو وحده الذي يعرض الشخص لخطر ملحوظ. ويُردّ ذلك إلى أنه من الضروري في أغلب الأحيان تضافر وتآثر عدة عوامل لتشكل السرطان.
وفي الوقت الحاضر ليس لدينا سوى فهم محدود عن الكيفية التي تؤهب فيها هذه التآثراتُ الموادَّ المسرطنة لإحداث السرطان. وبمرور الوقت، قد تتمكن الأبحاث من كشف هذه العلاقة المهمة، وتقديم صورة أكثر تكاملا عن حقيقة هذا المرض وكيفية إيقافه.
المؤلفون Dimitrios Trichopoulos – Frederick P. Li – David J. Hunter يعملون جميعا في جامعة هارڤارد. تريكوپولوس هو مدير مركز هارڤارد للوقاية من السرطان في كلية الصحة العامة، وأستاذ في الوبائيات وأستاذ كرسي گريگوري للوقاية من السرطان. ولد تريكوپولوس في أثينا باليونان. وولد لي في الصين، وهو أستاذ الطب الداخلي بكلية طب هارڤارد، وأستاذ وبائيات السرطان السريرية في كلية الصحة العامة. أما هنتر الأسترالي فهو أستاذ مساعد في الوبائيات بكلية الصحة العامة والمدير الإداري لمركز الوقاية من السرطان. والمؤلفون يتوجهون بالشكر إلى الكثير من العلميين في مركز هارڤارد للوقاية من السرطان على المساعدات التي قدموها لهم في تحضير هذه المقالة.
مراجع للاستزادة CANCER: CAUSES, OCCURRENCE AND CONTROL. Edited by L. Tomatis. Oxford University Press, 1990. CANCER EPIDEMIOLOGY AND PREVENTION. Edited by D. Schottenfeld and J. F Fraumeni, Jr., Oxford University Press, 1996. EPIDEMIOLOGY OF CANCER. DlmltrlOS Trichopoulos, L. Lipworth, E. Petridou and H.-O. Adami in Cancer: Principles and Practice of Oncology. J. B. Lippincott (in press).
(1) [ انظر في هذا العدد: «الغذاء والسرطان»]. (2) شاع شرب المَتّه في بعض مناطق بلاد الشام عن طريق المهاجرين إلى أمريكا الجنوبية من هذه المناطق. (التحرير) (3) [ انظر: «عودة إلى الأسبستوس»،مجلة العلوم، العدد 12(1997)، ص 54 ]. (4) [ انظر: “هل بإمكان إستروجينات البيئة أن تسبب سرطان الثدي” مجلة العلوم، العدد 3(1996)، ص28] |