تكوين منافذ إلى داخل الخلايا
بمساعدة تقانة الدنا المُؤَشَّب، تعلَّم الباحثون كيف يكوّنون مَسَامات(1)
صنعية؛ لتمرر العقاقير إلى أمكنة معينة في الجسم أو لتقوم
بدور مَحَسّات حيوية تعمل على اكتشاف الكيماويات السامة
<H. بايلي>
إن عمل الغشاء الخارجي للخلية ليس مجرد احتواء ما بداخلها، بل يعمل أيضا كبوّاب جزيئي ينظم بعناية ما يدخل الخلية وما يخرج منها. فالمغذياتnutrients والمركّبات الأخرى المرغوب فيها تدخل الخلية، في حين تبقى الجزيئات غير المرغوب فيها خارجها؛ كما تطرح الفضلات الناتجة. ولكن البكتيريا (الجراثيم) الممرضة استطاعت، عبر الصراع الدائم بين الأنواع الحية، أن تطور قابليةَ اختراقِ الدفاعات الخلوية وأن تعطل ميزان الدخول إلى الخلية والخروج منها.
إن الأسلحة المستخدمة في المعركة تتألف من جزيئات بروتينية يطلقها العامل الممرض pathogen؛ ليثقب بوساطتها مسامات في الغشاء الخلوي تسمح للمادة الغريبة بالاندفاع إلى داخله، كما تسمح لبعض محتويات الخلية بالتسرب إلى خارجه. وما هو جدير بالاهتمام أن البشر يدرؤون العديد من هذه الهجمات بأسلحة مشابهة: كما يستثمر الجهاز المناعي خصائص ما يدعى «البروتينات المكونة للمسامات» pores forming proteins، والتابعة له، في إبادة الخلايا الغريبة.
وفي فريقنا البحثي لا نقتصر على تفحص الجانب العلمي الأساسي للكيفية التي تعمل بها هذه البروتينات فحسب، بل إننا نتفحص كذلك تطبيقاتها المحتملة في علم التقانة الحيوية biotechnology والطب. وفي الحالة المثالية، نتوخى تجهيز حرّاس بوابات gatekeepers من طبيعة جزيئية نقوم بإعدادها. فإذا تمكنّا من ذلك، نستطيع قصف الخلايا السرطانية بوابل من بروتينات تلحق الأذى بالأغشية الخارجية للخلايا، وهذا يجعلها عرضة للتأثر بالمعالجة الكيميائية. أو نستطيع ابتداع أغشية تركيبية (اصطناعية) ذات مسامات صُنْعِية منطمرة في تلك الأغشية لتؤدي دور مَحَسّات حيوية biosensors أو وسائط لإيصال العقاقير.
تُبدي البروتينات البكتيرية المكونة للمسامات عددا من الخصائص. فالبروتين «هيموليزين ألفا» (الحال الدموي-ألفا) الذي سأتناوله بالنقاش في هذه المقالة، تفرزه البكتيريا الشائعة: العنقودية المذهبة staphylococcus aureus. ويهاجم هذا البروتين الخلايا المستهدفة عن طريق تكوين مسامات فيها تقارب أقطارها نانومترين ـ وهو ما يكفي للسماح للجزيئات الصغيرة، مثل السكروز، بالمرور عبرها ولا يكفي للسماح بمرور الجزيئات الكبيرة، بما في ذلك معظم البروتينات. وعلى النقيض من ذلك فإن السترپتوليزين O streptolysin التابع لبكتيريا العقديات streptococcus يستطيع تشكيل مسامات تزيد أقطارها على 300 نانومترا. ويستطيع السترپتوليزين O، كما هي حال الهيموليزين ألفا، أن يتسبب في تلف الخلية أو موتها بِخَرْقِهِ الغشاء الخلوي.
وهناك نوع آخر من البروتينات يعرف باسم بروتين الطبقة S-layer protein يهيئ غلافا دفاعيا للبكتيريا، إذ يشكل ملاءات منبسطة تحوي فتحات عديدة ذات حجوم متساوية نوعا ما (ما بين نانومترين وستة نانومترات عرضا، حسب نوع البكتيرة). وتسمح المسامات الموجودة في هذه الملاءات بوصول مُغَذِّيات مختارة إلى الغشاء الخلوي تمهيدا لنقلها إلى داخل الخلية.
مسام لها شكل الفطر
ولأسباب عدة، اخترتُ في بحثي أن أدرس البروتين «هيموليزين ألفا»؛ إذ يمكن إنتاجه بكميات كبيرة (أو غرامات قليلة عند الضرورة) من المستنبتات البكتيرية، كما أن تركيبه صغير نوعا ما، إذ لا تعدو لَبِنات بنيته 293 حمضا أمينيا، وهذا يجعله سهل التغيير باستخدام تقانة الدنا المؤشب recombinantDNA، إضافة إلى كون جزيئه قوي الثبات إذا ما قورن بالبروتينات الأخرى. أما بنية الجين (المُوَرِّثة) الذي يكوِّد هذا البروتين فقد ذكرها كل من <G.گراي> عام 1984، عندما كان في بيوجين و<M. كيهو>، عندما كان في جامعة جنيف. وفي العام 1996 فقط، تمكن <E.J. گويو> (الموجود حاليا في جامعة كولومبيا) مع مجموعته البحثية من تحديد البنية الثلاثية الأبعاد لمسام الهيموليزين ألفا، وبيّن أنه يوجد على شكلٍ له هيئة الفطر ويتألف من سبعة جزيئات من الهيموليزين ألفا [انظر يسار الشكل في الصفحة 15].
هذا وتوحي بحوثُ مجموعة <S. باكدي> (في جامعة مينز بألمانيا) أن الهيموليزين ألفا يمكن أن يتجمع في مَسَمّ واحد بطريقتين. فبعض الخلايا، مثل الخلايا الدموية الحمراء للأرنب، تمتلك على سطوحها مستقبلات خاصة ترتبط بالهيموليزين ألفا، ويمكن لهذه المستقبلات أن تحفز تشكيل المسام أو أن تساعد على توجيه تركيب الهيموليزين بالشكل الصحيح على الغشاء الخلوي. ولكن المناسب أن جزيئات الهيموليزين ألفا تستمر في العمل حتى في حال غياب مثل هذه المستقبلات. فعلى الأغشية الصنعية (المؤلَّفة من طبقة مضاعفة من جزيئات تعرف بالليپيدات) تُرَتِّب البروتيناتُ نفسَها (أو تتجمع) في مسامات. وستتجمع هذه البروتينات تلقائيا كذلك حينما تختلط بكيماويات مختبرية معينة تنتمي إلى المنظفات الشائعة. ويقدم هذا التجمع الذاتي مزايا حقيقية للمختصين بالتقانة الحيوية، الذين يسعون لصناعة مستحضرات مبنية على الهيموليزين ألفا، ولولا ذلك لظهرت جوانب مزعجة في عملية الإنتاج.
يستطيع المسام الصنعي اختراق غشاء خلوي أو غشاء صنعي مؤلف من طبقة مضاعفة من الدهون (الشحوم)، أو الليپيدات. ويمكن تصميم مثل هذه القُنَيَّة المكونة من نسخ محورة من البروتين البكتيري «هيموليزين ألفا» للتحكم في مرور العقاقير وجزيئات أخرى. |
كما ساعدت الأبحاث التي تُجرى حاليا في مختبري، والأبحاث التي يجريها كل من مجموعتي باكدي وگويو، على إيضاح العديد من التفاصيل الخاصة بكيفية تشكُّل الفتحات فعليا. فما إن ترتبط جزيئات فُرادى من الهيموليزين ألفا بالغشاء الخلوي، حتى تتجمع بعضها مع بعض في مجموعات سباعية تؤلف ما يسمى معقَّد طليعة المسام prepore complex. ويتألف مركز كل مونومير (مَوْحود) monomer فيه من شريط (طاق) طويل يضم نحو 40 حمضا أمينيا. وقد قرر المستقصون اليوم أن هذا الشريط يَنْقب (يحفر) الغشاء؛ ليصبح جزءا من بطانة القُنَيَّة channel. [انظر الشكل العلوي في الصفحتين 14 و15].
افتح يا سمسم
لقد كانت غايتي من الشروع في هذا البحث أن أستخدم تقانات الهندسة البروتينية في منابلة (معالجة) manipulating ثلاث خصائص أساسية لمسام الهيموليزين ألفا تتناول حجم الفتحة، وانتقائية القُنَيَّة بالسماح بمرور مختلف الجزيئات عبرها، ومقدرة المسام على الانفتاح والانغلاق.
ففي الظروف الطبيعية يكون مسام الهيموليزين ألفا مفتوحا، ولا يُبدي إلا أفضلية طفيفة للسماح للجزيئات ذات الشحنة السالبة بالمرور عبره (خلافا للجزيئات ذات الشحنة الموجبة والحيادية، أي المتعادلة). ولكن هذا الانحياز يكون في حدوده الدنيا. وقد تبيَّن لي أن الفتحة ذات حجم مناسب جدا، إذ إن القنيّة الأكبر أو الأصغر من ذلك الحجم سيصعب تعديل شكلها. ولذلك فإنني أعتبر مسام الهيموليزين ألفا صحيفة بيضاء جاهزة للتحوير بوساطة الهندسة البروتينية.
ولكنني حينما بدأت، لم تكن لديَّ سوى فكرة ضئيلة عن كيفية تحقيق انفتاح وانغلاق القنيّة، الأمر الذي يُعْتبر أصعب المهام الثلاث الآنفة الذكر. ولكن الباحثين في مختبري استطاعوا غرز قادحات triggers ومفاتيح جزيئية داخل البروتين بحيث تستحث انفتاح المسام أو انغلاقه حسب الطلب. وقد تركز انتباهنا على هذه الناحية من البحث بسبب مضامينها العملية الهائلة.
توضح هذه الصورة أجزاء تتجمع لتشكل حفرة، فالجزيئات المفردة من الهيموليزين ألفا (a) ترتبط بسطح أحد الأغشية (b). وما إن تتقارب سبعة جزيئات (c) حتى يحفر الشريط الرفيع للحموض الأمينية الموجود في مركز كل وحدة فرعية طريقه عبر الغشاء مكونا قنيّة (d). ولم يتم إلا مؤخرا تحديد البنية الثلاثية الأبعاد للمسام ذي الشكل الذي يشبه الفطر، وذلك بفضل فنّ تصوير البلورات بالأشعة السينية (في أقصى اليسار). ويمثل كل لون وحدة مختلفة من الوحدات الفرعية للهيموليزين ألفا. |
لقد اخترنا الهندسة البروتينية كأفضل خيار تقني؛ لأنها تسمح باستبدال الحموض الأمينية في بروتين ما، بحيث تَحِلَّ محلها حموض أمينية أخرى متوافرة بشكل طبيعي، أو حتى «حموض غير طبيعية» تتم صناعتها في المختبر. وبذلك نستطيع وضع تشكيلة متنوعة من القادحات والمفاتيح (المُشَغِّلات) swithces المحتملة داخل الهيموليزين ألفا، ومن ثم استكشاف أيها سيعمل بنجاح.
ومن حيث المبدأ، يمكن أن تكون المفاتيح كيميائية حيوية (تقوم الإنزيمات بتشغيلها) أو كيميائية فحسب (يعمل ربط جزيئات صغيرة بالبروتين على تشغيلها). أما التنشيط (التفعيل) activation بوساطة منبه فيزيائي مثل الحرارة أو الضوء فيعتبر خيارا آخر ممكنا.
وبمساعدة من <B. والكر> (من مؤسسة وورشيستر في ماساتشوستس، حيث بدأت بحثي) أدخلت قادحا كيميائيا حيويا في الهيموليزين ألفا، وذلك بأن بدأتُ بإضافة سلسلةٍ متعددة الپپتيدات (ما بين 11 و53 حمضا أمينيا) إلى الشريط المركزي للبروتين الذي يخترق الغشاء الخلوي بشكل طبيعي. فهذه القطعة الإضافية تسد فتحات المسامات، ثم عملت المعالجة اللاحقة للبروتين (بإنزيم يعرف بالپروتياز) على بتر هذا الجزء الزائد، وهذا سمح بمواصلة تكوين المسام.
يمكن استخدام القادحات الكيميائية الحيوية في صنع هيموليزينات ألفا لا تخترق إلا خلايا تم انتقاؤها. فمثلا، يمكن توجيه هيموليزينات محوَّرة خصيصا لأحد الأورام، وذلك بمساعدة شُدَفٍ ضدية (قطعة جسم مضاد) antibody fragments (تم انتقاؤها لتتعرف الخلايا السرطانية) تُدْمَج في بنية البروتين بوساطة الهندسة الوراثية. فعندما تصل هذه البروتينات الهجينة إلى الخلايا السرطانية يمكن تنشيط (تفعيل) تكوين المسام بوساطة الپروتيازات التي تُطْلِقها الخلايا السرطانية نفسها. ونشير هنا إلى أن الخلايا السرطانية النقيلية metastatic تفرز إنزيمات تعرف بالپروتيازات الورمية، وتساعد تلك الخلايا على الهرب من أورامها الأصلية، وكذلك على استعمار مواضع جديدة. أما الهيموليزينات المحوَّرة فتبدأ حَفْر فوهات في الخلايا السرطانية فتعزز بذلك نفاذيتهاpermeability، ومن ثم حساسيتها (تأثرها) للعقاقير المختلفة ذات الفعل الخلوي السام. وكخطوة في هذا الاتجاه، أنشأ <R. پانشال> (الذي يعمل في مجموعتي) هيموليزينات ألفا طافرة يتم تنشيطها بوساطة الپروتيازات الورمية.
تقوم تشكيلة متنوعة من البروتينات بصنع مسامات مجهرية القدّ. وقد درس المؤلفُ مشتقاتٍ للهيموليزين ألفا تشكل بصورة عامة فتحات ذات أقطار تقارب نانومترين اثنين. ويمكن لنسخ معدلة معينة أن تكون أكبر قطرا، حتى ستة نانومترات (a). أما البروتين «سترپتوليزين O» فيمكنه عمل مسامات يفوق قطرها 30 نانومترا (b). وهناك نمط ثالث من البروتين (يطلق عليه اسم بروتين الطبقة S) يشكِّل ملاءاتِ مسامات ذات أقطار متماثلة، فالمسامات المرئية في (c) تبلغ أقطارها نحو ثلاثة نانومترات. |
وأخيرا، قد يكون بالإمكان إدخال مفتاح كيميائي حيوي يدير فعالية تكوين المسام في الاتجاهين (تشغيلا وإيقافا) بدل أن يكتفي بالتشغيل. وقد قام <D. أوري> (من جامعة ألاباما في برمنگهام) بتحوير شكل أحد البروتينات التركيبية (الاصطناعية) ثم أعاده إلى هيئته البنيوية الأصلية بمساعدة تفاعل الفسفرةphosphorylation. وقد بدأنا من جانبنا بتطوير طرائق «أوري» على أمل إنشاء مفاتيح كيميائية حيوية تمكِّننا من فتح وإغلاق مسام الهيموليزين ألفا بشكل متكرر.
قادحات كيميائية
كما أدخلنا نمطا آخر من القادحات في بنية الهيموليزين ألفا تم تنشيطه (تفعيله) بوساطة جزيئات معينة صغيرة وشديدة التفاعل، واعتقدنا أن هذه التقانة يمكن تكييفها لإنتاج أغشية صنعية حساسة تُستخدم في مَحَسّات حيوية تكتشف الجزيئات السامة، بما في ذلك مبيدات الهوام pesticides وغازات الأعصاب. وقد صمم باحثون في مختبري نسخة طافرة من الهيموليزين ألفا تنطمر في سطح جسيم دهني liposome وتتجمع في مسام مفتوح حينما يرتبط مركب عضوي شديد التفاعل ارتباطا مستديما بمنطقة من البنية تمت هندستها جينيا. (ونشير هنا إلى أن الجسيم الدهني كيس مجهري القَدِّ مصنوع من غشاء ثنائي الطبقة الليپيدية). ويمكن اكتشاف فتحة القنيّة بوضع صبغةٍ متفلورة داخل الجسيم الدهني ومشاهدة تسربها عبر المسامات حينما يتجمع هذا الهيموليزين ألفا.
وكذلك أوجدنا مفتاحا كيميائيا يمكن تشغيله وإيقافه بوساطة ربط أيونات (شوارد) معدنية بالبروتين. وسيكون مثل هذا المفتاح مفيدا في أخذ قياسات متكررة بالمَحَسّات الحيوية. ونذكر هنا أن استبدال خمس نسخ من الحمض الأميني «هِسْتيدين» لتحل محل خمسة حموض (أحماض) أمينية متنوعة في الشريط المركزي للبروتين، إنما يؤدي إلى تكوين موضع يمكن أن ترتبط عنده أيونات الزنك ومعادن أخرى بالبروتين، وبذلك يمتنع تكوين المسام. هذا ويستمر تجميع assembly المسام لدى إزالة الأيون المعدني. وما إن ينفتح المسام حتى يمكن للأيون أن يختمه seal ثانية عبر ارتباطه بالقنيّة المركزية واعتراضه سبيل مرور جزيئات أخرى. ويمكن تكرار عملية الخَتْم وإعادة الختم مرات عديدة.
إن ثَقْبَ الخلايا السرطانية سيجعلها نفاذة للعقاقير السامة للخلايا. ويعمل الباحثون الآن على تطوير شكل معدَّل من الهيموليزين ألفا يتضمن شدفة ضدية (قطعة جسم مضاد) antibody fragment تتعرف المستقبلات الموجودة على الخلايا السرطانية من جهة وتمنع تكوين المسامات من جهة أخرى. فعندما يصل الهيموليزين ألفا المعدل إلى الخلية السرطانية تقوم الپروتيازات الورمية ببتر الشدفة الضدية (a). وهذه الپروتيازات هي بروتينات تفرزها الأورام جميعها. وبعد أن تتقارب سبع وحدات فرعية للبروتين (b) ينفتح المسام (c). |
إن هذه البنية التي تدعى H5 (اختصارا للهستيدينات الخمسة التي تؤلفها)، إضافة إلى هيموليزينات أخرى ذات قرابة بها (كان قد أنشأها والكر و<S. شيلي> الموجود في مجموعتي «مجموعة وورشستر»)، يمكن أن تكون فعالة كمَحَسّات حيوية شديدة الاستجابة في مجال رصد الملوثات المعدنية. وفي الواقع، عملنا على إيجاد وسائل كهذه بالتعاون مع <J. كازيانوڤيتش> (من المعهد القومي للمواصفات والتقانة). وتبدي القوات المسلحة البحرية في الولايات المتحدة اهتماما بالغا بالقياسات السريعة والمستمرة للأيونات المعدنية في مياه البحار ـ وترغب في ابتكار أجهزةِ اقتفاء تكتشف الكميات الضئيلة جدا للمعادن المتسرِّبة من السفن المعادية ـ ولذلك قام مكتب بحوث القوات المسلحة البحرية بتمويل هذا الجانب من بحثنا.
وبفضل التقدم في تقانات هندسة البروتينات وفي المعلومات الجديدة حول بنية الهيموليزين ألفا، تمكنتْ <O. براها> (وزملاؤها في مختبري) من إدخال تحسينات على الجزيء H5 عن طريق عمل مسامات لا تكون جميع وحداتها الفرعية subunits متماثلة. ففي أحد الأمثلة تكون ست وحدات فرعية على حالها من دون تغيير، ولكن إحداها تضم موضعا يستطيع أيون معدني الارتباط به. وعندما يرتبط الأيون المعدني، يتغير تيار كهربائي مُرْسَل داخل المسام بوساطة حقلِ كمونٍ potential field مُطَبَّق عليها. ويعطي تذبذبُ هذا التيار تركيزَ الأيون الموجود وماهيتَه. ومما تجدر ملاحظته أن الإشارة المتذبذبة الصادرة عن المسام يمكن استخدامها في قياس عدة معادن في الوقت نفسه. وهكذا يمكن لتشكيلة من المَحَسّات أن تتعامل مع مزيج معقد من المواد. وهناك ميزة أخرى لهذه المَحَسّات تتمثل في حجومها؛ فلما كان الارتباط بمسام واحد فقط يكفي للحصول على قراءة للتيار، فإن هذه المحسات يمكن أن تكون في غاية الصغر.
يعرض هذا الشكل منافذ إلى داخل الخلايا يمكن فتحها وإغلاقها بشكل متكرر حسب الطلب. فعندما ترتبط أيونات معدنية بالبروتين المعدل المسمى H5، فإن القنيّة لا تتكوّن (a). وتؤدي إزالة المعدن إلى فتح المسام (b)، في حين تؤدي إضافته إلى إعادة ختم المسام (c). وقد استخدم فريق <M. تونر> هذه التقانة في مستشفى ماساتشوستس العام لإدخال كيماويات حافظة للتجمد cryoprotectant في الخلايا الحية التي ينبغي تجميدها بغرض التخزين. |
يمكن إجراء آلاف (إن لم يكن ملايين) التحويرات المختلفة على البروتينات المكوِّنة للمسام، الأمر الذي ينجم عنه تشكيلة رائعة من المحسات الحيوية المحتملة. ونحن نطور الآن محسّات للمواد غير المعدنية أيضا. فقد بيَّن كازيانوڤيتش وزملاؤه مؤخرا، أن أشرطة مفردة من جزيئات ضخمة مثل الدناDNA يمكن الكشف عنها أيضا أثناء انتقالها عبر المسام.
إن ما تم التوصل إليه من مكتشفات على الجزيء H5 يقدِّم توضيحا للتفاعل بين علم التقانة الحيوية والعلوم الأساسية. فهذه البنية لم تقدم مكوِّنا أوليّ النموذج لأحد المحسّات فحسب، بل أماطت اللثام كذلك عن معلومات عن الكيفية التي يعمل بها المسام: أي إن العمل باستخدام H5 ساعد على تبيان كون الشريط المركزي للبروتين الطبيعي يُبَطِّن داخل المسام.
مفاتيح ضوئية
لدى التفكير بتصميم نوع من الهيموليزين ألفا يمكن تنشيطه بوساطة نمط ثالث من المفاتيح (واحد من المنبهات الفيزيائية)، لاحظتُ من جانبي وجود قُنَيّات غشائية طبيعية يمكن تنشيطها ميكانيكيا أو كهربيا من خلال الغشاء الخلوي. ولكن في معظم الأحوال، يعتبر التنشيط بالضوء خيارا أكثر وَقْعا: فالضوء لا يتعارض مع العديد من السيرورات الطبيعية، ويمكن تطبيقه بدقة فائقة التحكم في المكان والزمان.
وفضلا عن ذلك، فعندما كنت طالبا بالدراسات العليا في مختبر <R .J. كنوليس> بجامعة هارڤارد ما بين عامي 1974 و1979، عملت على تطوير كيماويات حساسة للضوء تفيد في دراسة بنية البروتينات الغشائية membraneproteins. ولذلك فإنني لم أستغرب أن تلجأ مجموعتي البحثية بعد عدة سنوات إلى الجمع بين الكيمياء الضوئية والبروتينات الغشائية، ولكن من زاوية اهتمام مختلفة تماما.
تستطيع محسات حيوية biosensors مكوَّنة من مسامات صنعية اكتشاف تشكيلة متنوعة من المواد. فالبروتين هيموليزين ألفا المعدل بعناية، والذي تم فيه تغيير وحدة فرعية واحدة (تظهر هنا باللون القرمزي) من أصل الوحدات الفرعية السبع، ينغلق بشكل جزئي حينما يرتبط به أحد المعادن (a)، وينفتح حينما يزاح ذلك المعدن (b). ويحدد كبرُ magnitude التغيرات في التيار الكهربائي المُرْسَل عبر المسامات المنفردة ومدتُه نوعَ المعدن الموجود (المؤطر الداخلي)، أما تواتر (تردد) frequency الانزياحات التيارية current shifts فإنه يكشف عن تركيز concentration ذلك المعدن. |
فقد استند أسلوبنا البحثي إلى البنية الحساسة للضوء لمركبات النتروبنزيل التي استخدمها <J. بارلتروپ> لأول مرة في الاصطناع العضوي، وذلك في الستينات من القرن الحالي عندما كان في جامعة أكسفورد، ثم جرى تكييفها فيما بعد من أجل الجزيئات البيولوجية الصغيرة على يد <J. كاپلان> وزملائه عندما كان هذا الأخير في جامعة ييل. وقد قمنا بتحضير مشتق للنتروبنزيل يدعى حمض برومونتروفينيل أسيتيك (أو اختصارا BNPA)، ويعمل بعد ارتباطه بالبروتين على إيقاف عملية تكوين المسام.
وكيما يتحقق ذلك، لجأ العاملون في مجموعتي بادئ ذي بدء إلى إدخال حمض أميني «سيستئين» cysteine وحيد في موضع رئيسي بالبروتين. فحينما يتفاعل السيستئين مع الحمض BNPA يصبح البروتين خاملا. ويمكن تجديد نشاط البروتين بتعريضه للأشعة فوق البنفسجية (عند أطوال موجية لا تسبب إلا القليل من التلف لمعظم الخلايا). وفي نهاية المطاف قد يستطيع الباحثون صنع جزيئات مكوِّنة للمسام يمكن تشغيلها بضوء ذي طول موجي معين، كما يمكن إيقافها بضوء ذي طول موجي آخر. ويمكن للباحثين صنع مفاتيح هجينة تستطيع تشغيل البروتين باستخدام الضوء، كما تستطيع إيقافه بأيونات معدنية.
يمكن أن يفتح شعاعٌ ضوئي مسارا إلى داخل الخلية. فالضوء يمكن توجيهه إلى خلايا معينة، مثل أحد العصبونات (كما في المؤطر الداخلي)، بغاية الدقة. وهكذا يستطيع الباحثون استخدام هذه الطريقة للتحكم في أي الخلايا يريدون جعلها نفاذة. وهنا تحول الجزيئات الحساسة للضوء، والمرتبطة ببروتين الهيموليزين ألفا المعدَّل، دون تكوين مسام ما (a)، إلى حين إزاحة هذه الجزيئات بالضوء (b). فما إن تغادر هذه الجزيئات موقعها حتى ينفتح ذلك المسام (c). |
ولكن التقانة الحالية تمتلك تطبيقات مباشرة في المختبرات: فالباحثون كثيرا ما يحتاجون إلى تحويل خلايا مختارة في عينة نسيجية إلى خلايا مُثَقَّبَة من دون أن يطرأ أي تغيير على أي من الخلايا الأخرى. وبهذا الأسلوب يمكن إدخال جزيئات صغيرة تسبر النشاط داخل الخلية مع الإبقاء على البروتينات الحيوية بداخلها. وفي مختبري استطعنا أن نجعل عصبونات مفردة (ضمن حشد من العصبونات) نفّاذة permeable، وذلك بتوجيه الضوء إلى الخلية المختارة. فالهيموليزينات المهندَسة engineered التي تعرَّضت للضوء اخترقت العصبون المختار، في حين بقيت العصبونات الأخرى سليمة. وباستخدام وسائل ضوئية حاذقة sophisticated optical devices سيكون من الممكن جعل رقعة من العصبون فقط تتصف بالنفاذية، وذلك بتسليط الضوء على تلك الباحة (المنطقة) من الخلية.
يكمن أحد أكثر تطبيقات البروتينات المكوِّنة للمسامات في مجال إيصال العقاقير. فمثلا يمكن نقل العقاقير إلى داخل الجسيمات الدهنية (الليبوزومات)، ومن ثم يمكن تسريب هذه الأخيرة حسب الطلب عبر مسامات صنعية مغروسة في الغشاء الخلوي بمساعدة أي من التقانات القادحة الآنفة الذكر. يضاف إلى ذلك أن الباحثين المختصين بالطب الحيوي يهتمون إلى حد كبير بتغليفencapulating إنزيمات بل وخلايا كاملة بحيث تتقي هجوم الجهاز المناعي للمريض. فما إن يتم نقل الإنزيمات إلى الموقع المرغوب فيه حتى يمكن استخدامها لتحطيم المواد السامة التي تتراكم لدى المصابين باضطرابات جينية معينة، مثل مرض البيلة الفينيلية الكيتونية phenylketonuria، الذي لا يستطيع الجسم فيه استقلاب الحمض الأميني «فينيل ألانين». ونشير إلى أن هذه الحالة يمكن أن تؤدي في النهاية إلى تلف الخلايا العصبية.
يمكن استخدام الخلايا المغلَّفة لإيصال الهرمونات المنقوصة لدى المصابين بأمراض مثل السكري المنوط (المعتمد) بالأنسولين. فالعقاقير والإنزيمات والخلايا المضمَّنة في أغشية ذات مسامات اصطناعية سوف تزودنا بمستوى من التحكم في زمانِ ومكان وكيفية إيصال الدواء، يفوق بشكل ملحوظ مستوى التحكم الذي توفره التقانات الحالية.
ويتم اليوم في مختبرنا وغيره إعادةُ هندسةٍ reengineering لپروتيناتٍ أخرى بكتيرية مكوِّنة للمسامات وذات خصائص مختلفة تماما (من ضمنها السترپتوليزين O وبروتينات الطبقة S). وقد سبق للباحث<U. سليتر> وزملائه (في جامعة العلوم الزراعية بڤيينا) أن كيّفوا ملاءات طبيعية ذات مسامات تشكلت من بروتينات الطبقة S وذلك لاستخدامها في أجهزة الترشيح. فهذه الملاءات أفادت كذلك كمراصف templates لتشكيل شبكات grids تقاس بالنانومتر عن طريق ترسيب أبخرة معدنية في بحثٍ أجراه في المختبر كل من<K. دوگلاس> و<N. كلارك> من جامعة كولورادو في بولدر و<K. روتشيلد> من جامعة بوسطن.
أما في مختبري، فإننا نحاول صنع قادحات ومفاتيح في مسامات مصممة من پپتيدات متعددة أُسست من دون إحكام على بنى طبيعية، وبالطريقة نفسها التي ابتكرها <M. مونتال> ومساعدوه في جامعة كاليفورنيا بسان دييگو. فالبروتينات المصممة التي أسست على بنى من الهيموليزين ألفا، على سبيل المثال، يمكن أن يكون لها استخدام إضافي بمثابة وسائط مضادة للميكروبات إذا أمكن جعلها تمزق الأغشية الخارجية لميكروبات معينة بشكل انتقائي.
مازال هناك الكثير مما يجب فعله عن طريق الهندسة البروتينية للهيموليزين ألفا نفسه. فمثلا، نقوم حاليا بدراسة تقنيات لتحسين الاستقرار (الثبات) الآلي والحراري لمسامات الهيموليزين ألفا المستخدمة كمكوّنات للمحسّات الحيوية. ويفحص الباحثون كذلك تحويرات كيميائية لتقليل استمناع immunogenicityالهيموليزين ألفا (بمعنى نَزْعَة هذا المركب لاستفزازِ هجومٍ من الجهاز المناعي عليه) في التطبيقات العلاجية الحيوية، إذ يشكل هذا الاستمناع الآن عقبة رئيسة في وجه جميع أشكال المداواة الحيوية.
فإذا أمكن مواجهة هذه التحديات، يمكن أن يظهر مزيد من الإمكانيات المستقبلية لصالح هذه التقانة. فقد تُستخدم البروتينات المكوِّنة للمسامات كمكونات ناقلة في الوسائل الإلكترونية الجزيئية. ومع أن البروتينات أكبر نسبيا من أن تصلح لهذا الدور حسب المعايير الحالية، فإنها تتمتع فعلا بخصائص حاذقة، مثل القدرة على تعرّف الجزيئات الأخرى، وهي قدرة لا يمكن بناؤها في المواد اللاعضوية (غير العضوية). ونشير هنا إلى بلورات ثنائية البعد تتشكل بسهولة من قبل الهيموليزين ألفا وبروتينات الطبقة S ، وتفيد كمراصف templates لسلاسل منتظمة من الجزيئات في العِلْم الواعد للتقانة النانوية (دون المجهرية) nanotechology. وأكثر من ذلك قد يكون بالإمكان تصميم أغشية يمكن استخدامها لابتكار مرشحات filters عالية الانتقائية من أجل تنقية مواد مثل العقاقير والمياه الملوثة والدماء، وذلك خلال سماحها لجزيئات معينة دون غيرها بالمرور عبرها. ونختم بالقول إن ميدان البروتينات المكونة للمسامات بدأ لتوه بالانفتاح.
المؤلف
Hagan Bayley
أستاذ ورئيس قسم الكيمياء الحيوية الطبية والوراثة في جامعة تكساس، حيث يشغل أيضا وظيفة أستاذ في الكيمياء. وقد استهل دراساته على الهيموليزين ألفا في مؤسسة وورشستر للبيولوجيا في شروزبيري بولاية ماساتشوستس. وهو يهتم بالعمل في نطاق التداخل بين الكيمياء والبيولوجيا محاولا إيجاد تقنيات للتحوير البروتيني الذي يقدِّم تطبيقات هادفة لكل من العلوم الأساسية وعلم التقانات الحيوية.
مراجع للاستزادة
A PHOTOGENERATED PORE-FORMING PROTEIN. Chung-yu Chang, Brett Niblack, Barbara Walker and Hagan Bayley in Chemistry and Biology, Vol. 2, No. 6, pages 391-400; June 1995.
TUMOR PROTEASE-ACTIVATED, PORE-FORMING TOXINS FROM A COMBINATORIAL LIBRARY. Rekha G. Panchal, Evelyn Cusack, Stephen Cheley and Hagan Bayley in Nature Biotechnology, Vol. 14, No. 7, pages 852-856; July 1996.
STRUCTURE OF STAPHYLOCOCCAL α-HEMOLYSIN, A HEPTAMERIC TRANSMEMBRANE PORE. Langzhou Song, Michael R. Hobaugh, Christopher Shustak, Stephen Cheley, Hagan Bayley and J. Eric Gouaux in Science, Vol. 274, pages 1859-1866; December 13, 1996.
REVERSIBLE PERMEABILIZATION OF PLASMA MEMBRANES WITH AN ENGINEERED SWITCHABLE PORE. Michael J. Russo, Hagan Bayley and Mehmet Toner in Nature Biotechnology, Vol. 15, No. 3, pages 278-282; March 1997.
DESIGNED PROTEIN PORES AS COMPONENTS FOR BIOSENSORS. Orit Braha, Barbara Walker, Stephen Cheley, John J. Kasianowicz, Langzhou Song, J. Eric Gouaux and Hagan Bayley in Chemistry and Biology, Vol. 4, No. 7, pages 497-505; July 1997.
Scientific American, September 1997
(1) pore مسام (ثقبة) وجمعها مسامات. (التحرير)