التقانة المفقودة للتجذيف الإغريقي القديم
التقانة المفقودة للتجذيف الإغريقي القديم
أفادت أساطيل الإغريق التقليدية من الحركة الانزلاقية، تلك التقنية
التي اكتشفها ثانية مجذفو القرن التاسع عشر المتنافسون.
<R .J. هيل>
في العصر الكلاسيكي للسفن الشراعية ذات المجاذيف (المجاديف) هيمنت الأساطيل الإغريقية على البحر المتوسط، كما سيطر الأثينيون على غيرهم من الإغريق. ففي حين كانت القوة العسكرية لمعظم الدول تعتمد على سلاح الفرسان الأرستقراطي أو المشاة من العبيد، كانت أثينا تحشد آلاف المواطنين من الطبقات الأدنى للتجذيف في الأسطول. لقد تحمل تيميستوكليس Themistocles، العقل الموجه لهذه السياسة البحرية، هجمات مغالية شنها عليه منافسوه المحافظون الذين قالوا إنه «قد سلب الأثينيين دروعهم وحرابهم، وحط من قدرهم إلى وسادة ومجذاف.» إن الإشارة إلى المجاذيف واضحة تماما: إذ كانت كل سفينة أثينية حربية ذات الصفوف الثلاثة من المجاذيف تتطلب 170 مجذفا لتسييرها. ولكن ما سر ذكر الوسائد؟
تطرح هذه الوسادة، أو مخدة التجذيف، أحجية من الأحجيات العديدة في تاريخ التقانة. لقد اقترحتُ حلا لهذا اللغز يوحي بأن الوسائد التي استخدمها المجذفون الإغريقيون كانت في واقع الأمر واحدا من الإنجازات التقنية العديدة المتواضعة ـ كرِكَاب الفرسان أو القوس الطويلة في القرون الوسطى ـ التي كان بإمكانها تقرير مصير إمبراطوريات. إن وسادة التجذيف التي تعد لغزا اليوم، كانت ذات يوم أمرا مألوفا جدا حتى إن الجغرافي الإغريقي إيراتوسثينيسEratosthenes استخدمها عندما أراد وصف بلاد ما بين النهرين قائلا: إنها على شكل وسادة التجذيف(1) rowing cushion. ومع هذا فقد افتقرت الكتابات اللاحقة إلى وصف هذه الوسادة، وكان على المؤرخين أن يعتمدوا على دلائل يجدونها مصادفة بين أنقاض العالم القديم. ومثل هذه الوسيطة، كمثل العديد من الأجهزة التقنية، لم يسبق أن وصفت أو رسمت بالتفصيل.
نقش حجري اكتشف في مبنى الأكروپولس الأثيني، يبين سفينة شراعية إغريقية ثلاثية الصفوف تعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد تدعى ترايريم trireme، أي ذات الصفوف الثلاثة. توحي وضعية المجذِّف وقد انعطفت ركبتاه بزاوية نحو الأعلى (في الوسط)، أن المجذفين الإغريق استخدموا الحركة الانزلاقية ليفيدوا من قوة عضلات الساق للمجذِّفين. |
ولحسن الحظ، هنالك معلومات أكثر من حقيقة أن الوسادة تشبه بلاد ما بين النهرين ـ أي عريضة في الوسط، ومستدقة في الطرفين. إذ كانت مخدة التجذيف (وهي في اليونانية hyperesion وتعني «تحت المجذف») وسادة حقيقية. فقد كان العلماء الرومان أو البيزنطيون الذين وضعوا معاجم لشرح المصطلحات الغامضة في النصوص اليونانية يُعرِّفون كلمة hyperesion بجزَّة صوف أو كتلة ناعمة من شيء كالصوف، أو بجلدٍ أو وسادة تحفظ ردف المجذِّف من الاهتراء. من الواضح أن وسادة التجذيف كانت تُربط بالمجذّف، إذ شكا أحد الخطباء الأثينيين من الشكل المضحك الذي ظهر به أبناء بلده في الخارج عندما نزلوا إلى الشواطئ وهم يرتدون مخدات التجذيف. ومن الواضح أيضا أن وسادة التجذيف هذه كانت تشكل ضرورة ملاحية. فعندما شن أهل إسبارطة (الإسبارطيون) هجوما برمائيا على الأثينيين عام 429 ق.م.، كان على كل مجذف أن يحمل وسادة تجذيف مع مجذافه وهو يعبر البر إلى السفن. وتعد مثل هذه الأوصاف، على أية حال، يونانية خالصة.
زخرفة مزهرية كورنثية corinthian من القرن السادس قبل الميلاد، تبين وضعية المجذِّفين الإغريق وقد رفعوا ركبهم. |
لقد زوّد الرومان سفنهم الحربية بالرجال كما فعل الإغريق، ومع ذلك لم يستخدم المجذفون الرومان وسائد تجذيف. والواقع إن اللغة اللاتينية تخلو من أية كلمة تتعلق بهذا الموضوع. كما أن وسائد التجذيف لم تكن معروفة في سفن البندقية الشراعية في العصور الوسطى وعصر النهضة. فلو كانت قد استخدمت لَسُجِّل ذلك الحدث بالتأكيد. فقائمة الموجودات البحرية للبندقية، التي تتميز بأنها بالغة الكمال، تذكر بالتفصيل جميع البنود بما فيها قبعات المجذفين. فهل على المرء أن يعتقد أن الإغريق بمن فيهم أهل إسبارطة القساة كانوا على درجة من النعومة بحيث كانوا وحدهم غير قادرين على التجذيف من على مقعد عار؟
مجذّفون متنافسون في إنكلترا وأمريكا الشمالية، أعادوا اكتشاف مزايا الحركة الانزلاقية في منتصف القرن التاسع عشر. تبين مطبوعة حجرية لسباق تجذيف تعود إلى مطلع القرن العشرين وضعية الركبتين المنحنيتين في بداية حركة التجذيف (المجذفون في مقدمة الصورة) والامتداد الكامل للساقين في نهاية الحركة (المجذفون في خلفية الصورة). |
ولحل هذه الأحجية لا بد من إدراك أن تقنيات تجذيف مختلفة قد تطورت عبر التاريخ. إذ لا بد من أن يكون مبتكرٌ ما في مرحلة ما قبل التاريخ اكتشف بأنه يستطيع استخدام مجذافه كرافعة إذا ما ربطه بجانب قارب وجره إليه. ومنذئذ أوحت كفاءة الدفع التي تحققت بمثل هذا التجذيف بتطور طيف واسع من حركات وأشواط التجذيف. وتتراوح التقنيات من «الحركة الأحادية» التي كان يستخدمها مجذف الجندول البندقي الذي يدفع المجذاف الوحيد إلى الوراء وإلى الأمام بأسلوب حركة ذيل السمكة، حتى الحركة «السيارة» التي كان يستخدمها مجذفو السفن الشراعية الكبيرة في العصور الوسطى والتي كانت تتطلب مجاذيف ضخمة تجعل المجذفين يخطون جيئة وذهابا أثناء التجذيف. فقد أسهم التجذيف في حمل الفايكينگز عبر الأطلسي والفينيقيين حول أفريقيا. كانت القوة البشرية أمرا حاسما على نحو خاص فيما يتعلق بأساطيل الإغريق القدماء الذين كانت سفنهم الحربية أشبه بزوارق طوربيد مجهزة بقرون برونزية ثقيلة مثبتة في مقدماتها
[انظر: “Ancient Oared Wanships”
by V. Foley – W. Soedel;
Scientific American, April 1981].
جلد غزال وزبدة
من بين تقنيات التجذيف المختلفة التي تطورت عبر الزمن تقنية من القرن التاسع عشر كانت تعتمد، كحركة التجذيف الإغريقية القديمة، على استخدام مخدة جلدية. ففي خمسينات القرن التاسع عشر وستيناته شرع المجذفون الجماعيون والمجذفون الفرديون المتنافسون في الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا باختبار مخدة رقيقة من «جلدٍ ليِّن» (طري) خيطت إلى مقعد سراويل التجذيف. فلدى تشحيم هذه المخدات الجلدية، يغدو بإمكان المجذِّف أن ينزلق إلى الأمام وإلى الخلف على مقعده، محققا زيادة في طول حركة التجذيف ومضيفا قوة دفع عضلات ساقيه الكبيرة والشبيهة بقوة دفع المكبس (الكباس) إلى حركة ذراعيه وظهره.
يستفيد المجذِّف ذو الوضعية الانزلاقية من الدفع الإضافي لعضلات الساق الذي يولد حركة أطول (السهم) ويزيد من فعالية الحركة. إذ تبدأ الحركة الانزلاقية بثني الركبتين بإحكام وتنتهي بمدهما بكامل طولهما. |
تضمنت طبعة عام 1871 من الدليل السنوي المصور وكراسة المجذفين لـ <T .G. بالخ>، مديحا وثناء لهذا الابتكار. «يصنع المقعد من لوح خشبي، من خشب الكرز عادة، رقيقٍ قاس ذي ألياف متراصة باتجاه الأمام والخلف مصقول السطح جيدا. ولتقليل الاحتكاك أكثر فأكثر يشحم سطح هذا اللوح وسروال المجذف المقوى بجلد لين.» أشار بالخ إلى تقنية التجذيف هذه على أنها «طريقة جلد الغزال والزبدة». كما تضمن دليل تجهيزات التجذيف الذي أعدّه إعلانات عن أدوية متنوعة لمعالجة القروح والبثور الناجمة عن الانزلاق المتكرر.
ولما كانت سباقات البطولة في تلك الأيام تمنح الفائزين جائزة تصل إلى أربعة آلاف دولار، كان المجذفون يسعون جاهدين إلى ابتكار تقنيات جديدة تمكنهم من تحقيق أقصى سرعة تنافسية. ولقد دلت التجارب على أن حركة أمامية بمقدار بوصة واحدة على مقبض المجذاف تؤدي إلى مضاعفة هذه المسافة في الماء. فحركة انزلاقية بمقدار ست بوصات تزيد بداية الحركة قدما كاملة، وهي أكثر النقاط حسما في مفعول العتلة. لم يكن بالإمكان تحقيق مثل هذا الأداء بمقعد ثابت حيث يضطر المجذّف إلى استخدام حركة حادة غاطسة.
لقد رفعت السفن الرومانية مقاعد المجذفين (الذين كانوا عادة من الأحرار وليسوا من العبيد كما صوروا في فيلم بن-هور). وهكذا، لم يستطع هؤلاء المجذِّفون استخدام الحركة الانزلاقية التي طورها الإغريق سابقا. |
وفي القرن التاسع عشر كانت سباقات التجذيف تشبه بعض المنافسات البحرية القديمة، بمعنى أن القدرة على الانعطاف الحاد بسرعة عالية تعني الفرق بين الربح والخسارة. فقد كان المتنافسون الفيكتوريون يندفعون عادة إلى وتد ثابت ثم يستديرون حوله بسرعة مضاعفة ويجذفون إلى الوراء في المسار نفسه إلى أن يعودوا إلى نقطة الانطلاق. وتبين لوحة رسمها <T. إيكنز> عام 1873 بعنوان «(الإخوة بيگلين) يلتفون حول الوتد» كيف أن حركة تجذيف أطول يقوم بها المجذّف على الحد الخارجي للمنحنى تؤدي إلى رفع القارب حول المنعطف. لقد أعطت الحركة الانزلاقية ـ بطريقة جلد الغزال والزبدة التي أشار إليها بالخ ـ ميزة قصوى لمثل هذه المناورة.
وأخيرا استُعيض عن المخدة الجلدية المشحمة التي كانت تستخدم في القرن التاسع عشر بوسيلة ميكانيكية لجعل الحركة الانزلاقية أكثر سهولة: وهي مقعد مركب على عجلات تتدحرج إلى الأمام والخلف على مجرى خشبي. وحاليا تعد مثل هذه الزلاقات الميكانيكية أجهزة جوهرية في قوارب السباق الأولمبية أو العائدة إلى النوادي أو الكليات. وحتى في هذه الأيام فإن بحارة قوارب النجاة الأستراليين، الذين يهرعون فوق أمواج عاتية، يعزفون عن المجازفة بتثبيت الزلاقة الميكانيكية أو كبح حركتها الانزلاقية بل يجلسون، بدلا من ذلك، على مقاعد مكسوة بمادة البوليمر الناعمة بحيث يستطيعون الانزلاق على سطح ثابت كما كان يفعل المجذفون في القرن الماضي.
حقيقة في مسرحية هزلية
من المنطقي إذًا أن يستخدم المجذِّفون الإغريقيون القدماء وسائدهم تماما كما استخدم مجذفو القرن التاسع عشر الجلد المرن المشحم للحصول على حركة انزلاقية أقوى. هل هناك دليل، سوى استخدام مخدة التجذيف، على أن الإغريقيين قد استخدموا تقنية انزلاقية؟ الواقع إن الأعمال الفنية والأوصاف الأدبية وتقنيات بناء السفن كلها تشهد بوجود مثل هذا النمط من التجذيف. فالفخاريات المزينة بالرسوم، والنقوش المنحوتة، على سبيل المثال، تبين المجذِّفين الإغريق جالسين وقد انحنت ركبهم نحو الأعلى ـ وهو دليل عياني قوي على استخدام الحركة الانزلاقية. وتثبت هذه الصور أيضا أن المجذفين الإغريق لم يكونوا يجلسون على مقاعد مرتفعة بل على ألواح منخفضة على مستوى أقدامهم. فبهذه الوضعية تُقيَّد حركات الجزء العلوي من البدن تقييدا شديدا ويغدو الانزلاق الوسيلة الفضلى لإنجاز حركة فعالة.
مجذِّف ثابت الموضع يستخدم عضلات الذراعين والظهر ليدفع المجذاف في حركة قصيرة نسبيا (السهم). أما الساقان فتقومان فقط بمهمة دعم المجذف، في حين لا يمكن رفع الركبتين عاليا جدا من دون التأثير في حركات المجذِّف. |
من الغريب أن كثيرا من المعلومات المتعلقة بتفاصيل التجذيف القديم لم تصلنا، لا من كتب التاريخ ولا من الكراسات التقنية، بل جاءتنا من المسرحيات الأثينية الهزلية. إن هذه المسرحيات الساخرة كانت تسلي في الأساس جمهورا معظمه من المواطنين الفقراء الذين كانوا يزودون مجاذيف الأسطول الأثيني بالرجال. (ومع ذلك كان معظم المجذفين في الأساطيل التقليدية أحرارا وليسوا عبيدا كما بدا في الفيلم الشعبي بن-هور Ben-Hur عام 19599). فقد أوجد أريستوفانيس Aristophanes، على سبيل المثال، جوقة من الضفادع تسخر من صرخات مجذِّف مبتدئ يشكو من بثرات وقروح في ردفيه. كما كتب المسرحي يوپوليس Eupolis مشهدا كان فيه الجنرال العجوز الصارم فورميو Phormio يُعلِّم جنديا مستجدا غير راغب في التطوع كيف يجذف. إن أول أمر من أوامر الجنرال الغاضب «كف عن رشق الماء» يمكن أن يطبق على أي أسلوب من أساليب التجذيف. أما أمره الثاني الذي أصدره بصوت مرتفع «مدّ ساقيك» فإنما يدل على الحركة الانزلاقية، حيث تكون الساقان في البداية منحنيتين ثم تُمدَّان مستقيمتين عندما يسحب المجذّف مجذافه عبر الماء.
تبنّى مجذِّفو القرن التاسع عشر، كما فعل البطل العالمي جيمس رينفورث من نيوكاسل، (المبيّن في هذا النقش المحفور على الخشب) الحركة الانزلاقية في خمسينات القرن التاسع عشر وستيناته. استخدم هؤلاء المجذِّفون في البداية رقعا مشحمة خيطت على مقاعد سراويلهم لكي ينزلقوا بسهولة. ثم ابتكرت فيما بعد مقاعد ميكانيكية متحركة. |
لقد طور مهندسو الأسطول الإغريقي وبناة السفن الإغريق تصاميم تعكس استخدام الحركة الانزلاقية. كانت السفن ذات الصفوف الثلاثة من المجاذيف مجهزة «بمساند» خشبية في كل جانب لتحمل الخوابير الخشبية التي تربط بها المجاذيف. كان المسند يعد نقطة ضعف في المعركة، ولكنه كان ضروريا لتأمين المدى الأطول الذي تتطلبه حركة التجذيف الانزلاقية. إن إعادة إدخال الحركة الانزلاقية إبان القرن التاسع عشر أسفرت عن زيادة المسافة بين المجذف ونقطة مفصل المجذاف بمقدار 30 في المئة.
استخدَمَتْ السفن الحربية الإغريقية الثلاثية الصفوف في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد الصدم كسلاح هجومي أولي أثناء الاشتباكات البحرية (أقصى اليمين). فقد كان المهاجم يأخذ دائما موقعا على الجانب المكشوف من خط العدو مستخدما إحدى مناورتين، الاختراق أو الالتفاف (اللوحتان في الأعلى). |
وأخيرا طور مصممو القوارب في القرن التاسع عشر هيكلا منخفضا انسيابيا للسفينة سعيا وراء مزيد من السرعة. وفي هذه العملية اختفى مقعد التجذيف وخفِّض مقعد المجذف إلى مستوى قدميه. لقد توصل مهندسو الأساطيل الإغريق القدماء إلى النتائج ذاتها، ولكن دوافعهم كانت مختلفة تماما. إذ أضيفت صفوف إضافية من المجذفين فوق خط المجاذيف الأصلي وتحته، وذلك من أجل حشر المزيد من الرجال في جسم السفينة. إن هذا الحشر المتراص يتطلب أن يرفع المجذفون في الطابق العلوي سيقانهم لتحرير مجاذيف نظرائهم في الطابق السفلي.
يصف الدليل السنوي المصور وكراس المجذف المطبوع عام 1871 معدات التجذيف. تتضمن البنود مقعدا خشبيا متراص الألياف يتيح الانزلاق لمجذِّف يلبس سروالا ذا جلد مشحم ـ طريقة «جلد الغزال والزبدة». |
ظل الدليل على أن المجذفين في السفن الشراعية الإغريقية كانوا يجلسون على مستويات مختلفة موضع تحد طوال قرون من قبل العلماء المتشككين الذين عدوا ذلك الترتيب غير عملي. بيد أن حقيقة وجود سفن متعددة الطبقات قد انتصرت عندما برهن عليها <S .J. موريسون>، من جامعة كمبردج، الذي انتعشت نظرياته لدى إعادة بناء السفينة أوليمپياس Olympias الثلاثية الصفوف. [انظر: «السفينة ثلاثية صفوف المجاذيف على كل جانب تبحر من جديد»،مجلة العلوم، العدد 1(1990)، صفحة 90]. إن الاختبارات البحرية لهذه التجربة الطموحة في علم الآثار البحرية القديمة أيدت عددا من الادعاءات القديمة، بما في ذلك القول بأن هذه السفن الشراعية حققت أقصى سرعة لها نتيجة الجمع بين المجاذيف والأشرعة. من الواضح، على أية حال، أن هذه السفن ذات الصفوف الثلاثية وغيرها من أمثالها كانت تزود أثناء المعارك الفعلية بالمجذفين فقط. إذ كانت تترك السواري والأشرعة على الشاطئ، وكانت معظم المعارك البحرية تجري عند الفجر حيث كانت البحار الهادئة توفر ظروفا مثالية للمجاذيف.
انزلاق كامل إلى الأمام
كانت السفينة الحربية ثلاثية الصفوف واحدة من أبسط أشكال السفن المقاتلة التي ابتُكرت حتى الآن. إذ لم يكن لديها سوى تكتيك وحيد: تحطيم السفن الحربية المعادية وتعطيلها عن طريق صدمها (نطحها). وكانت هذه النتيجة تتحقق بمناورتين مختلفتين. وكانت المناورتان تقنيتين وتستخدمان لكسب موقع ممتاز بعيدا عن مؤخرة السفينة المعادية أو عن رُبْعها الخلفي؛ وكلتا المناورتين تتطلبان مقدرة على الالتفاف الحاد السريع. وكان القادة يتجنبون صدم قيدومprow بقيدوم؛ لأن ذلك قد يُحْدِث ضررا للسفينة المهاجمة لا يقل عن الضرر الذي يصيب السفينة المعادية.
كانت السفينة، في إحدى خدعها الحربية المعروفة بدايك پلاوس diekplous(وهي كلمة يونانية تعني «الاختراق») تخترق خط العدو بالانطلاق مباشرة عبر الفجوات الموجودة بين المراكب المعادية إلى الفسحة المائية المفتوحة خلفها. وما إن تصل هناك حتى يستدير المهاجم بسرعة ليضرب كوثل(2) السفينة المعادية المكشوف، أو ربعها الخلفي. أما المناورة الثانية الشائعة فهي پاري پلاوسperiplous (وهي كلمة يونانية تعني «الالتفاف»). فإذا ما حاول العدو رص صفوفه أو مضاعفة خطه ليحول دون اختراقه، فإن المهاجم يستغل الخط الأقصر فيستدير حوله من أحد طرفيه. إن كلتا المناورتين تتطلبان من المهاجم القيام بحركة التفافية حادة جدا خلف خط العدو من دون أن يفقد سرعته، وإلا غدا هو نفسه هدفا مكشوفا سهلا.
يلاحظ المرء على الفور المزايا التي أضفتها الحركة الانزلاقية إلى السفينة في مبارزة ثنائية بين سفينتين يونانيتين في أواخر الشهر10/429 ق.م. ففي أثناء المراحل الأولى من الحرب الپيلوپونيزية (Peloponnesian (3 كان القائد الإسبارطي تيموقراطيس يطارد القائد الأثيني فورميو من على ميسرته بسفينة القيادة پارالوس Paralos. لم يستطع فورميو الاستدارة لمواجهة مطارده من دون أن يكشف خاصرة سفينته الخاصة المعرضة للصدمة الإسبارطية. ولكن صدف أن كانت سفينة تجارية قد رست خارج الميناء. وعندما جانبت پارالوس هذا المركب الساكن أصدر فورميو الأمر بالانعطاف.
استطاع البحارة الأثينيون، باستخدام السفينة التجارية الراسية كستارٍ، تنفيذ استدارة محكمة بمقدار 270 درجة بسرعة فائقة بحيث لم يعد لدى السفينة الإسبارطية وقت كاف للمراوغة، فصدم فورميو السفينة المعادية في وسطها تقريبا بمقدمة سفينته فحطمها. خجل تيموقراطيس من انعكاس الحظ المفاجئ خجلا شديدا لدرجة أنه انتحر على الفور. لقد أفاد الأثينيون، في واقع الأمر، من المزايا التي حققتها الحركة الانزلاقية. إذ نجح فورميو وبحارته المدربون تدريبا عاليا في القيام بالاستدارة البالغة السرعة على الوجه الأكمل.
لم تكن مناورة الاختراق ولا مناورة الالتفاف فعّالتين في بعض الاشتباكات البحرية القديمة. إذ ظلت الميزة محصورة بالسفينة التي تستطيع تنفيذ أسرع استدارة بمقدار 90 درجة في أصغر فسحة مكانية. إذ إن مثل هذه الرشاقة تتيح للسفينة الاندفاع مباشرة نحو خط العدو لوضع حد للسفينة المعادية بفضل انحراف مفاجئ يهدف إلى صدم خاصرة السفينة المعادية بمقدمة السفينة المهاجمة.
إن أشهر استخدام لمثل هذه الاستدارة القصيرة حدث في سالاميس في أواخر الشهر 9 من عام 480 ق.م. إذ كانت تلك الجزيرة مسرحا لمعركة عنيفة بين تحالف ثلاث مدن يونانية تقوده أثينا، وأسطول الملك الفارسي الغازي زيركسيس Xerxes. كان عماد قوة البحرية الزيركسية أسطول فينيقي من صور وصيدا (وهما مدينتان قديمتان تقعان في لبنان). كانت السفن الفينيقية تفتقر إلى مساند المجاذيف، الأمر الذي يوحي بقوة أنها ـ خلافا للسفن اليونانية المعادية ـ لم تكن تستخدم الحركة الانزلاقية.
لم يستطع الإغريق الذين كان عدوهم يتفوق عليهم كثيرا بالعدد استخدام مناورة الاختراق ولا مناورة الالتفاف في معركة سالاميس؛ لأن الأسطول الفارسي الضخم سد جميع المضايق من الشاطئ إلى الشاطئ. والواقع إن الإغريق كانوا أكثر عرضة لكلا النوعين من المناورات بسبب أعدادهم الصغيرة. لذلك أخذوا زمام المبادرة فهاجموا الأعداء الفرس قبل أن يتمكّنوا من خرق الصف الإغريقي أو محاصرته. وقد ذكر شاهد عيان أن أول سفينة إغريقية اشتبكت مع العدو نفَّذت استدارة حادة بفعالية عالية جدا بحيث تمكّن قرنها من تمزيق مقدمة السفينة المعادية. وقد لاقت هجمات يونانية عديدة أخرى نجاحا مماثلا، الأمر الذي أعاق الخط الفارسي على الفور بالسفن المعطلة، فانشغلت سفنهم بمحاولة الاستدارة والهرب إلى الحشد الخلفي. لقد تعطل عدد كبير من السفن الفارسية في الجناح الأيسر من الأسطول، بحيث تمكن الأثينيون في النهاية من شق طريقهم حوله بحركة التفاف أولية، فأحاطوا بالأسطول المعادي. فلو كانت السفن الفارسية وبحارتها قادرين على القيام باستدارات حادة مماثلة وبسرعة عالية لما تمكَّن الإغريق من كسب ميزة المباغتة الحاسمة هذه.
بعد معركة سالاميس وما أسفرت عنه من تراجع الملك زيركسيس وحلفائه، بدأت أثينا تفرض هيمنتها على جزر بحر إيجة ومدنه. كان العنصر الرئيسي في نهضة الإمبراطورية الأثينية هو الرغبة في تسخير الزمن والمال والطاقة البشرية لبناء أسطول دائم. قدم الأثينيون 000 12 مجذّف للتدريب طوال ثمانية أشهر كاملة في السنة؛ ذلك أن إتقان الحركة الانزلاقية إتقانا كاملا يتطلب تدريبا مديدا.
تقانة تضيع ثم تكتشف
بافتراض تفوّق التقنية الانزلاقية الشراعية الحربية ثلاثية الصفوف قد نتساءل: لم إذًا تم التخلي عنها منذئذ؟ لم يجد الأثينيون أنفسهُم سببًا للبحث عن وسيلة فعالة لأنهم كانوا يمتلكونها. ومع ذلك، كان لا بد للدول التي وجدت نفسها عاجزة عن منافسة السفن الأثينية من تطوير تقنيات مبتكرة خاصة بها. ففي عام 400 ق.م. أنزل القرطاجيون السفن الرباعية الأولى إلى الماء. ففتح هذا النوع من السفن باب سباق التسلح الذي كانت وسيلة النجاح فيه تكمن في مضاعفة عدد المجذفين على كل مجذاف. (كانت السفن الشراعية الثلاثية تستخدم دائما رجلا واحدا لكل مجذاف.) ومع تزايد حجم السفن وعدد البحارة تفوقت قوة العضلات غير الماهرة على رقة المحترفين الأثينيين المدربين تدريبا مكثفا ومديدا. كما تغير التكتيك، فقد استعيض عن مناورتي الصدم الهجوميتين بمناورة سحب السفن المعادية بكلابات ومجانبتها ثم مهاجمتها بالصعود إليها، فغدت بذلك السفن الحربية لا تعدو كونها منصات متحركة لجيوش صغيرة من الجنود المشاة. ويبدو أن الحركة الانزلاقية بقيت فقط في بعض المواقع الخلفية. لقد ورد آخر ذكر لوسادة التجذيف في وثيقة من البردي تتضمن قائمة بمعدات سفينة شراعية يونانية تمخر عباب نهر النيل بعد قرون عديدة من تنحي السفن الثلاثية للسفن الأكبر التي تحمل رجالا أكثر.
أثناء الفترة التي قدر فيها التجذيف الماهر تقديرا عاليا وأينعت ثماره، جعلت منافعه الأثينيين أكبر قوة بحرية في العالم القديم. كان الأثينيون أنفسُهم مدركين تماما للدور الذي لعبته تقنيتهم التجذيفية في إحراز النصر على أسطول الملك زيركسيس ـ بداية هيمنتهم البحرية. ففي مشهد من مسرحية هزلية لأريستوفانس Aristophanes، يشرع رجل عجوز اسمه ديموس (يمثل في سخريته ما تمثله مسرحية «كل إنسان» الأثينية) بالجلوس على سطح حجري خشن. فيقدم له زميل أثيني وسادة على الفور ليجنبه خطر إتلاف ردفه الذي «أبلى بلاء حسنا في سالاميس.»
ربما كانت الوسيلة متواضعة، بل ساخرة. بيد أن النتيجة النهائية كانت قرنا من التفوق البحري الذي وَطَّد هيمنة أثينا في بحر إيجة. لقد أسهمت الجزية التي كانت تُحَصَّل من هذه الامبراطورية البحرية في بناء الپارثينون(4)Parthenon وتمويل الديمقراطية الأثينية ورعاية مسرحيات سوفوكليس Sophocles وأريستوفانس، ووضع حجر الزاوية لأكاديمية أفلاطون وأرسطو. ومع ذلك فقد رفعت قواعد العصر الذهبي لأثينا بجهود آلاف قليلة من المجذفين المهرة ـ وعلى قطعة صغيرة من جلد الغزال وقليل من الزبدة.
المؤلف
John R. Hale
عالم آثار ومدير الدراسات الليبرالية(5) في جامعة لوس فيل. أجرى دراسات حول التاريخ البحري والتجذيف في جامعتي ييل وكمبردج. استكشف هيل أثناء تلك الدراسات التكتيكات البحرية القديمة والاختبارات البحرية في علم الآثار التجريبي وتطور سفينة الفايكنگ الطويلة. لقد دفعه عمله إلى الذهاب إلى البرتغال للتنقيب عن فيلا رومانية حيث كانت تُربّى الخيول لسباق العربات، وإلى غرب اليونان لمسح محطات بحرية ومواقع معارك قديمة.
مراجع للاستزادة
A TEXT-BOOK OF OARSMANSHIP, WITH AN ESSAY ON MUSCULAR ACTION IN ROWING. Gilbert Charles Bourne. Oxford University Press, 1925.
THE ATHENIAN TRIREME: THE HISTORY AND RECONSTRUCTION OF AN ANCIENT GREEK WARSHIP. John S. Morrison and John F. Coates. Cambridge University Press, 1986.
THE STORY OF WORLD ROWING. Christopher Dodd. Stanley Paul, 1992.
SHIPS AND SEAFARING IN ANCIENT TIMES. Lionel Casson. University of Texas Press, 1994.
Scientific American, May 1996
(1) منتفخة في الوسط ومستدقة في الطرفين. (التحرير)
(2) الكوثل: مؤخرة السفينة.
(3) نسبة إلى Peloponnesus أو Peloponnesos أو Peloponnese أو Morea، وهي شبه جزيرة تشكل الجزء الجنوبي من البر اليوناني. (التحرير)
(4) هيكل الإلهة أثينا في مدينة أثينا.
(5) تشتمل الدراسات الليبرالية على دراسات في اللغة والعلوم والفلسفة والتاريخ وغيرها، الأمر الذي يميزها عن الدراسات المهنية أو التقنية. (التحرير)