استنبات أصناف من الرزّ مقاومة للأمراض
استنبات أصناف من الرزّ مقاومة للأمراض لأول مرة يستخدم العلماء الهندسة الجينية (الوراثية) لحماية هذا المحصول الأساسي من المرض. <C.P. رونالد>
يمكن الافتراض بأن الرزّ (الأُرْز) هو الطعام الأكثر أهمية في العالم، إذ يعتمد عليه ثلث سكان العالم(1) كغذاء أساسي. وتغطي حقول الرز ما يزيد على 360 مليون هكتار من مساحة الكرة الأرضية، تصل غلتها السنوية إلى نحو 560 مليون طن من الحبوب سنويا. لكن المزارعين لا يجنون من هذا المحصول ما يفترض أن يعطيه، لأن الحشرات والبكتيريا والڤيروسات والفطريات تنال نصيبا ملموسا من كل محصول. وإحدى أكثر هذه الآفات تدميرا هي مرض اللفحة blightالذي يسببه نوع من البكتيريا شائع في آسيا وأفريقيا.
وتنتقل هذه البكتيريا المسماة oryzae Xanthomonas (2)oryzae pv. (اختصاراXoo) من نبات رز إلى آخر ومن حقل إلى آخر محمولة في قطيرات الماء. وفي غضون أيام تظهر على الأوراق المصابة أعراض التبقع lesions والاصفرار والذبول. وفي الحقول شديدة الإصابة يمكن أن تقضي اللفحة البكتيرية على نصف محصول الرز.
بيد أن نباتات الرز تحتوي على تشكيلة مدهشة من الجينات (المورثات) genesالتي توفر لها الحماية من عدد من الأمراض، ومن بينها اللفحة البكتيرية. لكن المشكلة بالنسبة للمزارعين هي أنه ليس هناك صنف variety واحد يحوي جميع الجينات اللازمة لحمايته، وأن جميع النباتات قد تكون عرضة للإصابة ببعض الأمراض دون غيرها. لقد استثمر المستنبتون جينات مقاومة للأمراض في الرز على مدى نحو قرن من الزمن، وأعادوا توزيع هذه الثروة الجينية من الأنواع الصلدة hardy إلى الأصناف المفيدة زراعيا. إلا أن الاستنبات(3) breedingبالأساليب التقليدية عملٌ مضنٍ ومستنفد للوقت، إذ كثيرا ما يستغرق الحصول على الخصائص traits المرغوبة عقدا من الزمن أو أكثر.
وبظهور علم الهندسة الجينية أصبحنا قادرين على عزل جينات مقاومة للأمراض وإدخالها مباشرة في نبات الرز، مختصرين بذلك سنوات من الوقت اللازم لتطوير صنف مفيد. لقد أنجزتُ وزملائي مؤخرا كَلْوَنَة (استنساخ) cloningأول جين لمقاومة الأمراض في الرز، وهو الجين الذي يحميه من الأشكال الشائعة من اللفحة البكتيرية، واستعملناه لاستنبات أول نباتات رز في العالم محوَّرة جينيا (مطفَّرة) transgenic لمقاومة الأمراض. إن لهذه الأصناف الجديدة إمكانات كامنة هائلة لخدمة المزارعين في جميع أنحاء العالم.
صيد الجينات إن قصة أول جين مُكَلْوَن لمقاومة الأمراض بدأت في الدول النامية، إذ يوجد نوع بري من الرز يسمى Oryza longistaminata موطنه الأصلي في مالي بأفريقيا، وهو نوع غير مفيد كنبات زراعي؛ لرداءة طعمه وانخفاض غلته، إلا أنه صلد تماما فيما يتعلق بمقاومة اللفحة البكتيرية. وفي عام 1977 أجرى باحثون في الهند تقييما لقدرة هذا النبات على مقاومة سلالات مختلفة من بكتيريا اللفحة (Xoo)، ووجدوه قادرا على تحمل العديد من الاختبارات.
وفي العام 1978، بدأ . <.S.Gخوش> وزملاؤه [في المعهد الدولي لبحوث الرز (IRRI) في الفلبين] بالعمل على دراسة البكتيريا O. longistaminata؛ بهدف نقل خاصية مقاومةِ اللفحة من هذا الرز البري إلى صنف مزروع وذلك باستخدام التقانات المعتادة. وبعد اثني عشر عاما من الاستنبات (الاستيلاد) المكثف أمكن إنتاج صنف مقاوم، إضافة إلى معرفة أن هذه المقاومة تتحكم فيها منطقة صغيرة على صبغي (كروموسوم) واحد، بل ربما جينٍ مفردٍ أطلقوا عليه اسم Xa21.
وحينما كان هؤلاء الباحثون يجنون من تجاربهم ثمار أفكارهم، حصلت المؤلفة عام 1990 على زمالة ما بعد الدكتوراه من جامعة كورنل. وفي محاولة منها لتعرّف آليات مقاومة اللفحة البكتيرية، قررت أن تجرب كلونة الجين Xa21 من الصنف الذي أنتجه المعهد IRRI. يتألف جين كهذا من قطعة صغيرة من الدناDNA، وهي المادة الجينية التي تكود encode البروتين، ومن ثم وعلى الأغلب تكود لصفة ما مثل صفة مقاومة اللفحة. ومع أننا كثيرا ما ندرس الصفات المختلفة في الكائنات الكاملة، فليس من السهل دراسة جينات محددة ضمن كامل التركيبة الجينية للكائن، أي المجين (الجينوم). كما لا يمكننا تطبيق الهندسة الجينية من دون الحصول على جينات معزولة. إذًا يكمن الحل في استنساخ الجينات المطلوبة من خلال السيرورة المعروفة بالكَلْوَنَة.
وحتى يمكن كلونة (استنساخ) الجين Xa21 يحتاج الفرد أولا إلى تحديد دقيق للمنطقة التي تحمله داخل مجين الرز، ثم تنقل قطعة الدنا هذه إلى خلايا بكتيرية يمكن نسخها بسهولة، وبعد ذلك يتم إدخال هذه النسخ في نباتات الرز القابلة للإصابة بالمرض، وأخيرا يتم التأكد من أن هذا الإدخال قد جعل النباتات مقاومة للّفحة. وتقول المؤلفة، عندما باشرت مهمتي لم يكن أحد قد نجح بعد في كلونة أي جين مقاوم من أي نبات كان، على الرغم من معرفة العديد من هذه الجينات واستخدامها في الاستنبات التقليدي. وفي ذلك الوقت، كانت العقبات أمام الهندسة الجينية تتمثل في زمرتين: مشكلات العثور على الجينات، ومشكلات تحريكها من مكانها ونقلها إلى نباتات أخرى.
إن العثور على جين معين ضمن المجين يشبه كثيرا مقولة «البحث عن إبرة في كومة من القش». والمجين في أكثر النباتات يمثل كومة قش بالغة الضخامة. لقد بينت الممارسة أن تحديد موضع جين معين يزداد صعوبة كلما كان المجين كبيرا. كما أن المجين الكبير يصعب منابلته (معالجته) manipulation. وكمقياس بسيط على ذلك هناك مجين الإشريكية القولونية Escherichia coli الذي يمكن عزل الجينات منه بسهولة. وبهذا المقياس فإن مجين الرز يعتبر ضخما جدا، ويكاد يبلغ مئة ضعف حجم الإشريكية القولونية. إن اصطياد الجينات من الرز يمثل تحديا كان يمكن أن يستغرق عدة سنوات وكثيرا من التقانات المعقدة، لمجرد العثور على الجين Xa21. إلا أنني كنت محظوظة قياسا بالعقبات الأكبر التي يواجهها الباحثون عن جينات معزولة في بعض محاصيل الحبوب الأخرى. فمجين القمح على سبيل المثال يبلغ حجمه نحو 3500 ضعف حجم مجين الإشريكية القولونية، ويعادل خمسة أضعاف مجين الإنسان. لذا فإن كلونة جين من النجيليات كالقمح أو الرز أمر بالغ الصعوبة من دون معرفة مسبقة بموضع هذا الجين أو تتاليه (تسلسله) sequence. ويمكن تشبيه ذلك بمحاولة العثور على بيت صديق في نيويورك أو طوكيو من دون معرفةٍ للعنوان أو من دون وصفٍ للمكان.
وفي عام 1990 شعرت أن الوقت صار مناسبا لكلونة جينات الرز؛ لأن عملا طليعيا قاده <S.D. تانكسلي> و <R.S. مكوش> في كورنل أيضا، وصل حينها إلى تطوّر مهم: لقد تم وضع خريطة للمجين الوسيع للرز، والتي يمكن الاسترشاد بها في البحث عن الجين المقاوم للأمراض. إن طريقة الكلونة التي استخدمتها تسمى «الكلونة على الخريطة» map-based cloning، وهي تتطلب ـ كما يدل اسمها ـ بعض المعرفة بمواقع علامات مختلفة على الدنا تسمى واسماتmarkers. وقد بينت الخريطة الجينية التي أعدها فريق جامعة كورنل مواضع مئات من الواسمات المفيدة على صبغيات الرز الاثني عشر.
وخلال عدة سنوات، قمت مع زملائي ـ في كورنل ثم في ديفيس (جامعة كاليفورنيا) ـ باستعمال هذه الخريطة الجينية لتتبع الجين Xa21. لقد فحصنا أثناء بحثنا أكثر من 1000 نبات من الرز لملاحظة مدى ارتباط ظهور واسمات الدنا المعروفة بصفة مقاومة اللفحة البكتيرية. وتستند هذه الخطة إلى حدوث قدر معين من تبادل swapping وإعادة ترتيب قطع الدنا بين الصبغيات المتقابلة أثناء التكاثر الجنسي(4). فكلما كان موقعان جينيان متقاربين على الصبغي الواحد، قل احتمال انفصالهما أثناء عملية إعادة التوليف (التأشيب)recombination. وفي حالتنا هذه، إذا تكرر مشاهدة صفة المقاومة في النسلprogeny مترافقة مع واسمة معينة فإن هذا يدل على قرب موضع جين المقاومة من هذه الواسمة.
وبمحض الصدفة تبيَّن أن أول علامة صبغية حددتها مع زملائي، والتي تقع قريبا جدا من الجين Xa21، ذات فائدة تفوق التصور. ففي إحدى نهايات الأسبوع من الشهر 5/1994، وبعد سنتين من تأسيس مختبري الخاص في ديفيس، اكتشفت أن تتالي الدنا الواسم marker DNA مماثل لما يوجد في عدة جينات مقاومة للأمراض كُلْوِنَتْ مؤخرا من التبغ والبندورة (الطماطم) والكتان ونبات الخردل. ومن المختبر ـ الذي كنت فيه وحيدة صباح ذلك الأحد ـ اتصلت بصديقي القديم وزميلي في الدراسة <J. سالمرون> (في جامعة كاليفورنيا ببركلي) وطلبت إليه أن يقارن التتالي الذي حصلت عليه بجين مقاوم للأمراض في البندورة. وأثارنا اكتشافُ تشابهٍ قوي جدا بين جينات آتية من نباتين بهذا الاختلاف. وهكذا أصبحتُ واثقة من أنني أبحث في الاتجاه الصحيح.
وأمضيتُ العام التالي مع مجموعتي في كلونة الجينات Xa21 المحتملة والاستعداد لإدخالها في نباتات رز أخرى. لقد كنا نعرف أن الاختبار الحاسم آت عندما نقلنا الدنا المعزول من الرز إلى نبات قابل أصلا للإصابة بالكتيرة Xoo. فإذا كنا قد كَلْوَنّا الجين الصحيح فستكون النباتات المحورة الناتجة مقاومة للّفحة البكتيرية. كنا قلقين عندما بدأنا هذه التجارب، إذ واجهتنا عقبة تمثلت في عدم توافر خبرة سابقة لدينا لإدخال الجينات إلى خلايا الرز. وفي ذلك الوقت لم يكن إلا قليل جدا من المختبرات في العالم قادرا على القيام بهذه السيرورة المسماة التحوير transformation في نبات الرز.
تحت المدفع إن مشكلة نقل الجينات إلى خلايا النبات هي العقبة الكبرى الثانية في هندسة مقاومة الأمراض. فأنماط عديدة من الخلايا النباتية ـ من ضمنها خلايا الرز ـ مستعصية على قبول الدنا الغريب (الخارجي). وقد حدث الاختراق في هذا المجال عام 1987 عندما قام <C.J. سانفورد> (من جامعة كورنل) بتطوير مدفع يطلق جسيمات مجهرية داخل الخلايا السليمة(5). كانت النماذج المبكرة من مدفع سانفورد تعمل بشحنة من البارود. أما النماذج اللاحقة فتعمل بالهليوم المضغوط، وتطلق حبيبات (كرات صغيرة) pellets مصنوعة من الذهب. وهذه الحبيبات التي يقل قطرها عن 1/100 مليمتر (100 ميكرون) يمكن تلبيسها بالدنا الذي تنقله مباشرة إلى داخل الخلايا.
لم يستخدم الباحثون هذه التقانة في الرز حتى عام 1991. وعندما أصبحنا جاهزين لاختبار الجين Xa21 الذي كلونّاه، كان المختبر الدولي للتقنيات الحيوية الزراعية المدارية (ILTAB) واحدا من المراكز التي تمارس ذلك روتينيا. وكان من المناسب وجود هذا المختبر في كاليفورنيا، كما أنه وافق على مساعدتنا وكنا مبتهجين بذلك.
استخدم باحثو المختبر ILTAB المدفع لتحوير صنف الرز تايبيه Taipei 309بوساطة الدنا الذي كلونّاه، وهذا الصنف قديم ولم يعد مزروعا الآن. لكننا اخترناه لسهولة تحويره ولقابليته للإصابة بالبكتيرة Xoo. قمنا بتنمية نحو 1500 من النباتات الناتجة من الخلايا المحورة، وحمل كل منها في كل خلية من خلاياه قطعة من الدنا المكلون. وعندما وصل عمر النباتات إلى ستة أسابيع، كان الوقت قد حان لاختبار مقاومتها للفحة البكتيرية.
لقد قمنا بتعريض النباتات المحورة جينيا للبكتيرة Xoo بقطع أطراف أوراقها بمقص غُمِس مسبقا بالمعلّق البكتيري bacterial suspension. وبعد عشرة أيام فحصنا النباتات بحثا عن البقع lesions التي تحدثها البكتيرة. ومن بين الـ 1500 نبات وجدنا 50 نباتا متميزا بمقاومة عالية لعدوى البكتيرة Xoo. وكانت البقع التي ظهرت عليها أصغر بما يتراوح بين 75 و 90 في المئة مقارنة بالنباتات الأصلية القابلة للإصابة. وفي هذه النباتات الخمسين كانت قطعة الدنا المنقولة محتوية على جين كامل غير منقوص مقاوم للّفحة.
قطعة المقاومة لقد نجحنا في كلونة الجين Xa21، وأثبتنا بعد ذلك أن هذا الجين عبر إلى الجيل التالي من خلال الإخصاب الذاتي self-fertilization؛ إذ كانت البادراتseedlings الناتجة منه مقاومة أيضا للّفحة البكتيرية. لقد أَعْدَيْنا نباتاتنا المحورة بـ 31 سلالة مختلفة من البكتيرة Xoo جلبت من ثمانية بلدان ممتدة من آسيا حتى كولومبيا في أمريكا الجنوبية، وقاومت النباتات عدوى 299 من هذه السلالات، مُكرِّرةً تماما صورة مقاومة الأمراض لدى سلفها الأفريقي البري. وهكذا تمكنّا لأول مرة من هندسة نبات الرز ليقاوم اللفحة البكتيرية.
إن هدفنا الحالي هو إدخال الجين Xa21 في أصناف مهمة زراعيا، بعكس الصنف تايبيه 309. لقد نجحنا بالتعاون مع المختبر ILTAB في إدخال جين المقاومة في اثنين من الأصناف المرغوبة هما IR64 و IR72 يُزرعان بمساحة تقارب 9 ملايين هكتار في آسيا وأفريقيا، وأظهرت دراساتنا الجارية أن هذه النباتات المحورة مقاومة للفحة. وتمكنّا مؤخرا من هندسة المقاومة في الصنف Ming Hui63، وهو صنف من الرز واسع الزراعة في الصين.
وبعد حصولي على هذه النتائج المثيرة، أرسلت الجين Xa21 إلى عدد من العلماء في أوروبا وأفريقيا وآسيا والولايات المتحدة، لكي يدخلوا مقاومة اللفحة البكتيرية في أصناف الرز المهمة محليا. فبسبب اختلاف ظروف نمو المحصول من مكان لآخر يفضل المزارعون عادة زراعة صنف جيد التكيف في منطقتهم بالذات، حيث تملك الأصناف المحلية، عادة، صفات قيمة كمقاومة الجفاف وتحمُّل البرودة وقصر القامة (مقاومة الريح) ومقاومة الآفات والأمراض المستوطنة. أما النسخ المهندسة جينيا (وراثيا) فستكون مطابقة للنباتات الأصلية في كل شيء ماعدا إضافة جين مكلون واحد يمنحها القدرة على مقاومة اللفحة البكتيرية.
وبعد إكثار هذه الأصناف الجديدة، يلزمنا اختبارها حقليا من أجل الإنتاجyield والطعم والصلادة hardiness، وذلك للتأكد من بقاء الصفات المفيدة للأصناف الأصلية من دون تغيير. وفي السنوات القليلة القادمة سيقوم باحثون من كاليفورنيا وآسيا وأفريقيا بالاختبارات الحقلية للرز المحور جينيا والمحتوي على الجين Xa21. فإذا كان أداء هذه التراكيب جيدا كالأصناف المكيفة محليا، ستقوم برامج الاستنبات الوطنية بتوزيع بذورها على المزارعين في الدول النامية. ونظرا لتوريث الجين المقاوم للأمراض المنقول إلى النسل بالتكاثر البذري العادي، فيمكن للمزارعين استخدام البذور التي ينتجونها بأنفسهم في الموسم التالي.
محاصيل المستقبل تتميز الهندسة الجينية بالسرعة والمرونة مقارنة بطرق الاستنبات المعتادة؛ إذ يمكننا في غضون أشهر فقط نقل جينات مفردة مكلونة من نبات إلى آخر. ولا يحتاج الاستنبات بهذه الطريقة أن يكون المعطي donor والمستقبل recipient متوافقين، بل سيمكننا نقل الجينات بين أنواع متباينة للمحصول الواحد، بل وحتى بين محاصيل مختلفة.
صيحة الإنذار
وهكذا يُفْترض أن يستطيع العلماء تسخير جينات المقاومة المكلونة للسيطرة على الأمراض في محاصيل عديدة أخرى بجانب الرز. فأنواع من البكتيرياXanthomonas التي تسبب اللفحة، على سبيل المثال، يمكن أن تعدي فعلا جميع نباتات المحاصيل. إن نسبة 99 في المئة من محصول الحمضيات في فلوريدا قابلة للإصابة، ويجب أن يرصد المزارعون العدوى البكتيرية عن كثب لتفادي حدوث الأوبئة. ففي منتصف عقد الثمانينات تم إحراق أكثر من 20 مليون شجرة برتقال لحصر انتشار المرض الذي كان متوقعا. وأنفقت حكومة الولاية والحكومة الفدرالية أكثر من 20 مليون دولار في عملية الاستئصال eradication وحدها، وخسر مئات المزارعين أكثر من ذلك كفاقد من المحصول. وقد يتمكن العلماء مستقبلا من حماية الحمضيات أو محاصيل مربحة أخرى بمنابلة جيناتٍ مقاومة للفحة البكتيرية في الرز ونقلها إلى الأنواع القابلة للإصابة.
ويمكن للهندسة الجينية أن تساعدنا أيضا على التعامل مع المشكلات التي تواجه أي نبات مقاوم للأمراض عندما يكون في الحقل. وبالتحديد، يمكن لمسببات الأمراض أن تطفر mutate (تتغير وراثيا) وتتغلب على الحماية التي يوفرها أي جين مقاوم. لذا كان على المستنبتين أن يعرفوا ويدخلوا جينات جديدة مفيدة باستمرار لتقليل القابلية للمرض، سواء بالطرق التقليدية أو بالهندسة الجينية. ومن حسن الحظ أن جينات عديدة للمقاومة أصبحت معروفة وجاهزة للكلونة. ويمكن لبعض التوليفات combinations من هذه الجينات أن تعزز مقاومة الأمراض، بما يشبه كثيرا تأثير توليفات من عدة مضادات حيوية antibiotics أو من العقاقير المضادة للڤيروسات في محاربة ميكروبات مثل بكتيريا السل (الدرن الرئوي) أو ڤيروس العَوَز المناعي البشري (HIV).
ونأمل أيضا إدخال مقاومة لأكثر من مُمْرِض (مسبب للمرض) pathogen واحد في صنف واحد محوَّر جينيا؛ إذ لا يستطيع المزارعون في بعض الأحيان استخدام أصناف الرز التي استُنْبِتت لمقاومة اللفحة البكتيرية، لأنها تفتقر إلى المقاومة تجاه أمراض وآفات أخرى. ومن أكثر هذه الآفات أهمية حشرة نطاط النبات البني(6) brown plant hopper التي تُحْدِث ضررا كبيرا لنبات الرز بتغذيها به. كما تسبب له أضرارا إضافية بنقلها لمسببات أمراض مثل ڤيروس التقزم العشبي grassy stunt virus وڤيروس التقزم الخشن ragged stunt. وفي محاولة مبكِّرة لهندسة المقاومة الجينية لأخطار متعددة، نتعاون الآن مع زملاء من الصين وإنكلترا لإدخال صفات المقاومة لكل من اللفحة البكتيرية ونطاط النبات البني في عدة أصناف مهمة من الرز باستخدام جينات مُكَلْونة، منها الجين Xa21. وكلما استطعنا زيادة عدد جينات المقاومة المكلونة، ازدادت أُسِّيًا أعداد التركيبات المتعددة الجينات.
ومن المتوقع أن يكون للنباتات المحورة جينيا لمقاومة الأمراض مستقبل تجاري عظيم. وذلك على الرغم من أن أيا منها لم يصل بعد إلى أيدي المزارعين. وللشركات الأمريكية الآن دور رائد في تسويق محاصيل محوَّرة الجينات لخصائص أخرى. فصنف البندورة المسمى Flavr Savr، الذي طورته الشركةCalgene بهدف إطالة عمر التخزين، كان أول طعام مهندس جينيا طُرِح لأغراض تجارية. وفول الصويا المقاوم لمبيد الأعشاب Roundup جرى تسويقه عام 19966؛ كما تمت مؤخرا موافقة على بيع بذور الذرة المهندسة جينيا لمقاومة مبيدات الأعشاب في كلٍّ من الولايات المتحدة وكندا.
ربما كانت الدول الصناعية هي المستفيد الأكبر من المنتجات المحورة جينيا المتوافرة حاليا. ففي الدول النامية مثلا، لا يستطيع المزارع في كثير من الأحيان تحمُّل أعباء التقانات التي تحتاج إلى مدخلات غالية الثمن كمبيدات الأعشاب. وبالمقابل، فإن من المتوقع أن تجد البلدان النامية والصناعية على السواء فائدة من الحبوب المحورة جينيا لمقاومة الأمرض. ويمكن أيضا أن تحظى هذه الحبوب بقبول أفضل مما لاقته بعض الكائنات الأخرى المحورة جينيا والتي أثارت الجدل، على شاكلة النباتات المنتجة لمبيدات حشرية، والتي يخشى البعض أن تؤدي عاجلا إلى ظهور حشرات مقاومة للمبيدات في الطبيعة. يفترض أن يصبح للنباتات المحورة جينيا لمقاومة الأمراض تأثير ملموس في اقتصاديات زراعة المحاصيل بزيادة كفاءة استعمال الأراضي وتحسين موارد الغذاء في العالم ومكافحة الأمراض والآفات بأساليب أسلم بيئيا.
أشجار الخوخ(7) والڤيروسات
ومع المستقبل التجاري الواعد لهذه المحاصيل تأتي المسؤولية الاجتماعية. ففي عام 1996 أُسس في ديڤيس (أحد فروع جامعة ولاية كاليفورنيا) صندوق تمييز المصادر الجينية (الوراثية) Germplasm Resource Recognition Fund اعترافا بمساهمات الدول النامية في إنجاح برامج الجامعة، بما في ذلك برنامج الجينXa21 الذي أعد من أجله ملف طلب براءة اختراع. وسيكون تمويل هذا الصندوق من دخل تسويق المواد الجينية التي جُمِّعت في العالم الثالث. وسيساعد الصندوق على تمويل منح الزمالة للباحثين من الدول النامية. كما سيتمكن المزارعون في هذه المناطق الفقيرة من الحصول على بذور الأصناف المحورة جينيا بنفس تكاليف الأصناف الأصلية التقليدية traditional parent lines. كما سيقدم الصندوق المساعدة إلى علماء جامعة كاليفورنيا لتسجيل براءات الاختراع وتحويلها إلى منتجات تجارية فعّالة إلى جانب الاعتراف بمساهمات العالم النامي وترويجها.
إن إمكانات الهندسة الجينية للرز والحبوب الأخرى لن تستنفد في مجال مقاومة الأمراض فقط؛ إذ من المؤكد أن المستقبل سيشهد كلونة جينات عديدة مسؤولة عن خصائص قيّمة أخرى (ربما تحمُّل البرودة ومقاومة الجفاف). وفي نهاية المطاف ستتوفر للمهتمين بالاستنبات والمزارعين ذخيرة toolboxful كاملة من الجينات المكلونة تمكنهم من جني حصادٍ يفوق ما بذروه.
المؤلفة Pamela C. Ronald حصلت على الدكتوراه من جامعة كاليفورنيا (بيركلي) سنة 1990. وفي الدراسات العليا كان بحثها منصبا على الأسس الجينية (الوراثية) لمقاومة الأمراض في محاصيل البندورة (الطماطم) والفلفل. بدأت عملها في مجال مقاومة أمراض الرّز بزمالة ما بعد الدكتوراه في جامعة كورنل، وحاليا تتابع هذا العمل في جامعة كاليفورنيا (ديفيس).
مراجع للاستزادة PLANT DISEASES: THEIR BIOLOGY AND SOCIAL IMPACT. G. Schumann. American Phytopathological Society, 1991. RICE, THE ESSENTIAL HARVEST. Peter T. White. National Geographic, Vol. 185, No. 5, pages 48-79; May 1994. MOLECULAR GENETICS OF PLANT DISEASE RESISTANCE. B. J. Staskawicz et al. in Science, Vol. 268, pages 661-667; May 5, 1995. A RECEPTOR KINASE-LIKE PROTEIN ENCODED BY THE RICE DISEASE RESISTANCE GENE, Xa21. Wen-Yuan Song et al. in Science, Vol. 270, pages 1804-1806; December 15, 1995. SIGNALING IN PLANT-MICROBE INTERACTIONS. B. Baker et al. in Science, Vol. 276, pages 726-733; May 2, 1997. Scientific American, November 1997
(1) نحو مليونين من البشر. (2) اختصارا لـ pathovar أي الصنف المُمرض، والمصطلح منحوت بالإدغام من pathogenic variety. (التحرير) (3) استنبات (استيلاد) النبات: استخدام بعض التقنيات، مثل نقل الجينات المفيدة من أنواع أخرى قريبة أو بعيدة، للحصول على سلالات وأصناف محسَّنة من النباتات المتوافرة. (التحرير) (4) وهي الحادثة المعروفة بالارتباط linkage. (التحرير) (5) [انظر: «محاصيل زراعية متطورة عبر الجينات»، مجلة العلوم العدد 3/4 (1993) ، ص 79]. (التحرير) (6) اسمها وتصنيفها (NILAPARVATA LUGENS STAL (HEMIPTERA. (7) plum: ويطلق على الخوخ في بعض الأقطار العربية اسم البرقوق. |