البحث عن بدائل للدم
البحث عن بدائل للدم إن التهديد بنقص عالمي للدم والمخاوف من تلوثه سرَّعا المحاولاتِ لكشف بدائل تبقي على الحياة. ويبدو العديد من هذه المركبات البديلة واعدًا. <L .M. نوتشي> – <A. أبوتشوسكي>
في منتصف الثمانينات، أصبحت كلمة الدم من الكلمات السيئة الوقع؛ فالتقارير المتعلقة بانتقال ڤيروس العوز المناعي البشري (HIV) الذي يسبب الإيدز عن طريق نقل الدم، أشاعت جوا من الهلع والذعر بين الناس، مما حمل على اتخاذ إجراءات مسح جديد شامل لبنوك الدم في الولايات المتحدة الأمريكية. وفي بعض المناطق، ومنها فرنسا، ثابر بعض الأطباء على اعتبار التزويد بالدم مأمونًا، في حين أن الأمر ـ ويا للفاجعة ـ لم يكن كذلك. وكانت النتيجة أن المخاوف لم تتبدد. وعلى الرغم من أن فرصة الإصابة بڤيروس العوز المناعي عن طريق نقل الدم تتفاوت بين واحد في ال 000 450 وبين واحد في المليون، فإنه مازال عالقًا بالأذهان أن معظم الدم ملوث.
وتعد السمعة السيئة، وإن لم تكن على حق، إحدى المشكلتين الرئيسيتين اللتين تواجهان بنوك الدم اليوم. وتتمثل المشكلة الأخرى بالإمداد. ففي الولايات المتحدة، حيث يحتاج فرد ما إلى نقل الدم كل ثلاث ثوان أو نحو ذلك، يتناقص عدد المتبرعين بالدم بشكل متواصل؛ إذ لا يتبرع به حاليًا أكثر من 5 في المئة من السكان. وفي الوقت نفسه، تزداد مجموعة الناس الأكثر حاجة إلى نقل الدم وهم المسنون. ومع تفاوت التقديرات، يبدو أن احتياجات العالم من الدم تزداد كل سنة بمقدار 7.5 مليون لتر. ويتوقع الخبراء أنه بحلول عام 2030 سيصل النقص السنوي في الولايات المتحدة إلى 4 ملايين وحدة دم (والوحدة تعادل 500 ملّيلتر).
ولهذه الأسباب وغيرها، يتواصل السعي لإيجاد بدائل للدم. ومع أن الباحثين هم بصدد استقصاء هذه الإمكانيات منذ الخمسينات، فإن الجهود قد تضاعفت بعد أن عقدت إدارة الغذاء والدواء (FDA) والمعاهد الوطنية للصحة (NIH) ووزارة الدفاع مؤتمرات كبيرة في الثمانينات حول الحاجة إلى إيجاد مثل هذه المركبات. وقد قام العلماء في العديد من المؤسسات وفي ست من الشركات بتطوير بدائل للدم. وعلى الرغم من التقدم الكبير والآمال العريضة، فإن التحديات لاتزال هائلة. فبعد مرور عقد من الزمان على بدء الحملة لا يلوح في الأفق حل مثالي؛ إذ إن ما يحاول العلماء والباحثون، ونحن من بينهم، أن يفهموه وأن يصنعوه هو جوهر الحياة.
لبّ المشكلة يتمتع الدم بدرجة من التعقيد تعادل درجة التحدي التي يواجهها إيجاد بديل له. فهو يتكون من خلايا دموية وأملاح ومواد أخرى مثل الپروتينات والڤيتامينات، معلقة كلها في الپلازما. وتشكل الأنواع الثلاثة من خلايا الدم (الخلايا الحمر والخلايا البيض والصُّفَيْحات) نحو 45 في المئة من حجم الدم. وفي الحالة السوية يحوي كل سنتيمتر مكعب من دم الإنسان ما بين 4.5 – 5.5 مليون من الخلايا الحمر و 7000- 000 12 من الخلايا البيض و 000 150 -000 400 من الصفيحات.
ويقوم هذا المعقد من الخلايا والمركبات بمهام كثيرة: إذ ينقل الدم الغُذَيّات (المغذيات) والهرمونات والفضلات الناتجة؛ كما يدافع عن الجسم تجاه الخمج (العدوى) infection، ويقي من فقد الدم بما له من قدرة على التجلّط. إلا أن أكثر الوظائف المألوفة للدم تتمثل بدوره في التنفس وقنصه وإطلاقه لكل من الأكسجين وثنائي أكسيد الكربون. ويعدُّ پروتين الهيموگلوبين (الذي يوجد منه 250 مليون جزيء داخل كل خلية دم حمراء) مفتاح هذه السيرورة process.
يوجد الهيموگلوبين، وهو أكثر الپروتينات شيوعًا في الدم، في معظم الفقاريات. وقد بقي محتَفَظا به على مدى التطور، ويبدو متماثلا بشكل واضح في مختلف الأنواع species. ويتألف دوما من 4 سلاسل متعددة الپپتيد. وفي الإنسان، يتألف الهيموگلوبين من سلسلتين متماثلتين من ألفا ومن سلسلتين متماثلتين من بيتا، وتتكون كل سلسلة من نحو 140 حمضًا أمينيًا. وترتبط السلسلة ألفا بقوة بالسلسلة بيتا لتكوين جزيء مثنوي dimer، ثم يرتبط الجزءان المثنويان ألفا-بيتا ارتباطًا ضعيفًا أحدهما بالآخر لتشكيل جزيء رباعيtetramer.
وتتضمن كل سلسلة من السلاسل المتعددة الپپتيد وحدةَ الهيم(1)؛ وتضم هذه الوحدة بدورها جزيء حديد، وتعد ذرات الحديد مواقع ارتباط الأكسجين. وهكذا يمكن لكل جزيء من الهيموگلوبين أن يرتبط بأربعة جزيئات من الأكسجين. ويلتقط الهيموگلوبين الأكسجينَ في الرئتين وينقله إلى سائر الجسم. وكلما ازدادت كمية الأكسجين التي ترتبط بجزيء الهيموگلوبين، ازدادت قدرة هذا الهيموگلوبين وكفاءته على التقاط هذا الغاز؛ إذ إن انتزاع جزيء من الأكسجين يغير شكل جزيء الهيموگلوبين. وهذا التغير الجوهري في هيئة الهيموگلوبين يتيح في الواقع الفرصة لربط المزيد من الأكسجين حتى تمتلئ جزيئات الحديد الأربعة. وما إن ينطلق الأكسجين من الهيموگلوبين في أجزاء الجسم المختلفة حتى تقوم خلايا الدم الحمراء بالتقاط ثنائي أكسيد الكربون، وهو الفضلات الناتجة من التنفس الخلوي، ثم تنقله عن طريق الدم إلى الرئتين حيث يخرج في النهاية مع هواء الزفير.
ويمكن للهيموگلوبين أيضًا أن يلتقط غازات أخرى. فعلى سبيل المثال، اكتشف الباحثون حديثًا أن بإمكان الهيموگلوبين نقل أكسيد النتريك. ولأكسيد النتريك دور مهم، من بين العديد من الوظائف، في حفظ ضغط الدم. وهكذا يعمل الهيموگلوبين عمل مكوك حياتي vital shuttle يحمل الغازات الضرورية للجسم ولذاته هو كي يقوم بوظائفه بشكل سلس.
قوام الحياة من الواضح أن الفقد الشديد للدم يهدد الكثير من السيرورات المهمة. فإذا فقد الإنسان 30- 40 في المئة من دمه فإن جسمه يستطيع المعاوضة بسرعة بإنتاج خلايا الدم الحمراء، وكذلك بإبعاد الدم عن الأعضاء غير الأساسية، وبتحويل مجرى السوائل إلى الدورة الدموية لاستعادة حجم الدم. ولكن، ما إن يفقد الإنسان أكثر من 40 في المئة من دمه حتى يصبح نقل الدم ضرورة بشكل عام، وذلك وفقا للعمر وللحالة الصحية.
إن لنقل الدم تاريخا طويلا ومظلما بعض الشيء. فعلى مدى قرون، تم تجريب العديد من السوائل. وقد شمل ذلك نوعًا من الجعة ale والبول والأفيون والراتينات النباتية plant resins والحليب ودم الخراف. وفي عام 1667 أجرى <B .J. دنيس>، وهو أحد أطباء لويس الرابع عشر، أول عملية نقل دم ناجحة وموثقة من إنسان إلى آخر. وقد مُنِعَتْ هذه الطريقة في كل من فرنسا وروما وإنكلترا بعد وقت قصير من ذلك، عندما قاضت زوجة أحد هؤلاء المرضى دنيس، ثم اتضح أن موت زوجها لم يكن نتيجة لنقل الدم، بل لأن الزوجة سمَّتْه بالأرسنيك (الزرنيخ). ومع ذلك، فإن سمعة نقل الدم قد ساءَت. ولربما كان ذلك لسبب وجيه وهو أن حالات نقل الدم التي أجريت قد انتهت بالوفاة بنسبة تساوي نسبة إنقاذها للحياة.
ولم يُسْتَرْجع الاهتمام الطبي بهذا الإجراء بشكل حقيقي إلا في بدايات هذا القرن، عندما اكتشف اختصاصي المرضيات pathologist الأسترالي-الأمريكي<K. لاندشتاينر> جملة زمر الدم (3)ABO؛ الأمر الذي حسَّن عمليات نقل الدم إلى حد كبير. فقد اكتشف لاندشتاينر أن هناك مركبين سكريين ـ أطلق عليهما A وB ـ يزيّنان سطح خلايا الدم الحمراء، وأن أي فرد قد يكون لديه توليفة من هذين المركبين السكريين وقد لا يكون. واليوم، يعرف الأطباء أن هناك أربع توليفات، وبالتالي أربعة أنماط دموية. فإذا امتزجت هذه الأنماط أثناء نقل الدم، فإن الأضداد الموجودة في مجرى دم المريض تبدي ارتكاسا (رد فعل) تجاه السكريات، التي يُطلق عليها اسم المستضدات antigens، الموجودة على سطح خلايا الدم الحمراء للمتبرع بالدم، ويؤدي هذا الارتكاس إلى حدوث جلطات دقيقة وإلى انحلال الدم (عندما يتسرب الهيموگلوبين خارج خلايا الدم الحمراء)، مما يفضي إلى الموت.
ومن هنا وجب أن يكون التوافق matching دقيقًا. فمن الممكن إعطاء النمط Aإلى مَنْ زمرة دمه A أو AB، وإعطاء النمط B إلى مَنْ زمرة دمه B أو AB. ولا يمكن إعطاء النمط AB إلا لمن زمرة دمه AB. أما النمط O الذي لا يحتوي على أيّ من المستضدات A أو B، فيمكن إعطاؤه لأي شخص؛ مما يجعل أصحاب الزمرة Oمتبرعين (مانحين) عامين universal donors، غير أن هؤلاء لا يتقبلون إلا النمط O. وأخيرًا، يُطلق على حاملي النمط AB متقبلين (مستقبلين) عامين universalacceptors؛ إذ يمكنهم تلقي أحد هذه الأنماط A، B، AB، O.
إن تحديد أنماط الدم ينبغي أن يأخذ بالاعتبار زمر العامل الريصي (Rh). فقد اكتشف الباحثون في الأربعينات أثناء عملهم على قرود الريص Rhesus أن الدم قد يحوي مستضد العامل الريصي، وعندها يسمى +Rh. وقد يغيب هذا المستضد فيسمى الدم -Rh. وينبغي أن يقتصر إعطاء الدم الإيجابي العامل الريصي (+Rh) على المرضى الإيجابيّي هذا العامل، في حين يمكن إعطاء الدم السلبي العامل الريصي (-Rh) إلى سلبييّ وإيجابييّ هذا العامل على حد سواء.
تذكر تقارير رابطة بنوك الدم الأمريكية نقل أكثر من 23 مليون وحدة دم كل سنة. ولا يزيد خطر الموت بسبب نقل الدم على واحد لكل 000 100، وذلك مقارنة باثنين لكل 000 100 معرَّضين للموت بسبب حوادث السيارات وواحد لكل 000 10 معرض للموت بسبب الإنفلونزا (النزلة الوافدة). ويتضمن هذا الخطر احتمال الوقوع في أخطاءِ تَوافُق الدم والإصابة بالبكتيريا (الجراثيم) أو الڤيروسات. وكما ذُكِر سابقًا، يمكن لنقل الدم أن يعرّض للإصابة بڤيروس العوز المناعي البشري (HIV). فمنذ الشهر 6/1997 أصيب 8450 شخصًا بالإيدز نتيجة لتلوث الدم، وفق إحصائيات مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها. ولا يعكس هذا الرقم الخمجَ الفعلي، لأن أعراض الإيدز قد تحتاج إلى سنوات قبل أن تظهر. ويمكن لنقل الدم أن يكون مدخلاً لأشكال مختلفة من ڤيروسات التهاب الكبد. وتذكر دراسة حديثة نُشِرت في المجلة (4)NEJM أن خطر الإصابة بالتهاب الكبد البائي (B) يبلغ واحدًا من كل 000 63، كما تبلغ الإصابة بالتهاب الكبد الجيمي (C) واحدًا من كل 000 103.
طريقتان رئيسيتان لنقل الدم لابد للبديل الناجح للدم أن يستوفي مجموعة من المتطلبات كحدٍ أدنى، ولكنها ضرورية. فينبغي أن يكون غير سام، خاليًا من الأمراض، سهل النقل، غير مثير لاستجابة مناعية، نافعًا في زمر الدم كلها. ومن الضروري أن يبقى هذا المركب في الدورة الدموية (الدوران) إلى أن يتمكن الجسم من استعادة دمه، وعندها ينبغي أن يُفرَغ من دون تأثيرات جانبية. ولصعوبة التخزين وتكلفته المرتفعة ـ إذ يجب حفظه في درجة 4 سِلْزيوس، ومع ذلك لا يبقى صالحا إلا مدة أقصاها 42 يومًا ـ لابد للبديل الجيد أن يتمتع بعمر تخزيني طويل. وإذا أريد له أن يكون مثاليا، فإن المركب المحاكي للدم يجب أن يؤدي المهام الكثيرة التي يؤديها الدم نفسه.
إن بدائل الدم المتوافرة في السوق أو التي ستطرح فيه تسعى إلى تلبية هذه المتطلبات جميعها، عدا الأخير منها. فجميع البدائل تركز فقط على القيام بأهم وظائف الدم، وهي نقل الأكسجين. (وتختلف هذه البدائل عما يسمى موسّعات الحجم volume expanders ـ مثل المحلول الملحي أو الپلازما أو محلول الدكستروز ـ التي أُنتجت لتزيد حجم الدم فحسب، وليس لإعادة أي من وظائفه الأخرى). ومع مرور الوقت، ظهرت مقاربتان (طريقتان) رئيسيتان لإنتاج بدائل الدم: ترتكز الأولى على المواد الكيميائية، فيما تستند الأخرى إلى الهيموگلوبين.
إن أنصار المحاليل ذات الأساس الكيميائي يعتمدون على المركبات الاصطناعية التي تحمل الأكسجين والتي تعرف بالپرفلوروكربوناتperfluorocarbons PFCs، وهي مركبات شبيهة بالتفلون teflon. ويقدم دعاة الطريقة المعتمدة على الهيموگلوبين حججًا مفادها أنه لا يمكن إنتاج البديل ذي القابلية على قبط (التقاط) الغازات ونقلها إلا باستخدام المادة الحقيقية. [وتُجرى في الوقت الحاضر بحوث عدة إلا أنها لم تثمر عن أي منتجات للتجارب السريرية (الإكلينيكة)، ويتضمن ذلك إنتاج الهيموگلوبين في حيوانات مختلفة النوع، وتغيير سطوح الخلايا الدموية الحمراء للحصول على خلايا حمراء مانحة (معطية) عامة، وتجفيد(5) الخلايا الدموية الحمراء، وتغليف الهيموگلوبين بالجسيمات الشحمية liposomes ـ أو ما يدعى بالخلايا الحمر الجديدة].
ويمكن للپرفلوروكربونات (PFCs) أن تحلّ كميات كبيرة من الغازات مثل الأكسجين وثنائي أكسيد الكربون. وقد اشتهر أمرها في الستينات عندما أظهر <L. كلارك> (من جامعة ألاباما) أن الفأر المغمور في السائل PFC يمكنه أن يتنفس بشكل طبيعي نسبيًا. وقد ظهر مثال أكثر حداثة في فيلم سينمائي عام 19899 هو اللُّجَّة The Abyss، الذي أظهر شخصية استطاعت البقاء حية في أعماق المحيط «بتنفس» سائل حامل للأكسجين. ولما كانت PFCs من المركبات الخاملة التي لا تذوب في الپلازما فإنه يجب أن تُستحلب هذه المركبات ـ التي هي قيد التطوير اليوم ـ مع عامل يسمح لها بتشكيل جسيمات يمكنها أن تتبعثر بعد ذلك في الدم.
وخلافًا للهيموگلوبين الذي يقتنص الأكسجين ويحرره بفعالية، تنقل المركباتPFCs الغازاتِ بشكل غير فاعل؛ إذ ينتقل الأكسجين مباشرةً من الرئتين إلى المركبات PFCs التي تعوم في الپلازما متجنبة الخلايا الدموية الحمراء. ويمكن لهذه المركبات بعد ذلك أن تصل إلى سائر أنحاء البدن، حيث تنتشر في الشعيرات، وهناك تجري سيرورة تبادل يحل فيها الأكسجين محل ثنائي أكسيد الكربون.
وتتمثل إحدى فوائد المركباتPFCs بأن كمية الأكسجين، التي تستطيع أن تلتقطها، تتناسب مباشرة مع كمية الأكسجين التي تدخل أثناء التنفس. لذا فمن الممكن أن يعطى المريض الأكسجينَ تحت ضغط جزئي أعلى مما هو في هواء الغرفة، ويمكن للمركبات PFCs أن تمتص وتنقل المزيد منه، كما أن بإمكانها أن تنقل الغازات بسرعة؛ إذ ليس مطلوبًا منها أن تنتشر عبر أغشية الخلايا الدموية الحمراء. أما جزيئات الهيموگلوبين، فهي بالمقابل لا تستطيع أن تحمل أكثر من أربعة جزيئات من الأكسجين في وقتٍ واحد، وذلك بغض النظر عن كمية الأكسجين المتوافرة؛ كما ينبغي على الغاز أن يتحرك عبر غشاء الخلية الدموية.
وتجري إزالة المركبات PFCs من الدورة الدوية بوساطة الجملة الشبكية البطانية reticuloendothelial system التي تختزن القطيرات في الكبد وفي الطحال حتى يتم إطلاقها على هيئة بخار من الرئتين مع الزفير. ويتم التخلص من القطيرات خلال فترة 4-12 ساعة عقب حقن هذه المركبات في الجسم. أما تأثيرات انحباس هذه المركبات على المدى الطويل فلا يُعْرَف عنها إلا القليل.
وعند البدء باستخدام المركبات PFCs كبدائل للدم عند الفئران في الستينات، كانت هناك عوائق خطيرة؛ فلم يكن يتم إفراغها جيدًا، ولذا كانت تتراكم في نسج البدن. ولكن في الثمانينات، ظهر شكل جديد من المركب PFC، دخل مجال التطوير السريري. إن هذا المركب الذي يدعى Fluosol DA [وصنعته الشركة Green Cross(الصليب الأخضر) في أوساكا باليابان]، حظي بالموافقة على استخدامه لدى مرضى مختارين في الولايات المتحدة، ومن بينهم مرضى يرفضون نقل الدم إليهم بسبب معتقدات دينية. إلا أن المضاعفات الناتجة من التخزين والتأثيرات الجانبية والكفاءة المنخفضة حالت دون تحقيق استعماله على نطاق واسع.
أما المجموعة الثانية من البدائل المرتكزة على المركب PFC والتي صممت للتغلب على هذه المشكلات فهي حاليا قيد التطوير السريري (الإكلينيكي). ويدعى أحدها Oxygent (وقد صنعته شركة الاتحاد الدوائي AlliancePharmaceutical Corporation في سان دييگو)، ويصل عمره التخزيني إلى سنتين عند تبريده. وهناك مركب آخر من المركبات PFCs، أحدث من السابق ويستطيع إيصال 4 أضعاف كمية الأكسجين التي كان المركب السابق يوصلها. إلا إن زيادة سعة حمل الأكسجين في الدم قد تفضي إلى تراكمه في النسج مما يسبب بدوره تضررًا. ولا تزال الدراسات السريرية على البدائل المرتكزة على المركب PFC جارية، ويحاول الباحثون كشف المزيد من الطرق لإنقاص تأثيراتها الجانبية.
وحتى يومنا هذا، ركّز أكبر عدد من الباحثين في مجال بدائل الدم أعمالهم على منابلة (مداورة) manipulation بنية الهيموگلوبين. ومن الواضح أن هذا المركب قد تم اختباره كبديل للدم منذ عام 18688، عندما حقن أحد الباحثين كلابًا بالهيموگلوبين. إلا أن النتائج لم تكن واعدة؛ فقد تعرضت الكلاب للإصابة بالأمراض وعانت تأذيًا كلويّا وخيمًا ونقصًا في قدرة الدم على نقل الأكسجين. وقد اتضح أنه عندما تعرى هيموگلوبين الكلب ـ أي عندما فقد الهيموگلوبين غلاف خلايا الدم الحمراء ـ أصبح غير مستقر، وتفكك إلى جزيئاته المثنويةdimers التي مرت في الكليتين وتسببت في تخربهما قبل أن تُفرغ نهائيًا خلال عدة ساعات. وكانت الوحدات الفرعية من الصغر إلى درجة لم تستطع معها أن ترشح عبر الجهاز الكلوي أو أن تعود إلى الجسم.
الاهتمام بالهيموگلوبين وقد تنشأ المشكلة نفسها بالنسبة إلى الهيموگلوبين البشري. فلكي يكون فعالاً لابد أن يحتوي على مركب يسمى 2،3 ثنائي فسفوگليسرات -2,3diphosphoglycerate ويختصر بـ -2,3DPG، موجود فقط في خلايا الدم الحمراء. ومن دون هذا المركب يرتبط الهيموگلوبين بالأكسجين في الرئتين ولكنه لا يطلقه في أي مكان من الجسم. فمن دون هذا المركب وغيره من العناصر الأخرى الموجودة في خلايا الدم الحمراء يصبح الهيموگلوبين عرضة للتأكسد الذاتي؛ وخلال ذلك تغير ذرات الحديد من حالتها، وتفقد على نحو لاعكوس قدرتها على ربط الجزيئات الغازيّة.
وفي عام 1969 اكتشف العلماء أنهم يستطيعون عكس هذه السيرورة بإجراء تحوير (تعديل) كيميائي للهيموگلوبين اللامرتبط. وعند هذه النقطة، صار من الممكن ثانية التفكير باستخدام الهيموگلوبين كأحد بدائل الدم. ونتيجة لذلك وجد الباحثون عددًا من التحويرات الفعّالة مثل: الارتباطات التصالبية بين السلاسل ألفا-ألفا أو ألفا-بيتا أو بيتا-بيتا؛ أو پلمرة جزيئات الهيموگلوبين؛ أو اقترانها بپلمر (پوليمر) يسمى الگليكول المتعدد الإثيلين polyethylene glycol أو اختصارًا (PEG)، وهو مركب يوجد في بعض الأغذية وبعض مستحضرات التجميل (المزوِّقات). ولما كان مألوفًا أن تزيد هذه التحويرات من حجم جزيئات الهيموگلوبين، فإن التخرب الكلوي يمكن تجنبه؛ كما أن هذا البديل لا يغادر الجسم بسرعة.
وحتى الآن ثمة خمسة منتجات يجري اختبارها على الناس في الولايات المتحدة. وقد صنع العديد منها من دم متبرع به وصار قديمًا إلى درجة لا تسمح باستخدامه. فالمستحضر PolyHeme، الذي تصنّعه مختبرات نورث فيلد في إيفانستون – إيلينوي، هو هيموگلوبين بشري مُپَلْمَر ويتم تقييمه كبديل للدم في أثناء العمليات الجراحية. وقد حُضِّر هذا المركب بوساطة التفاعل الپيريدوكسيpyridoxylation الذي يشتمل على تغيير شكل جزيء الهيموگلوبين لتحسين قدراته على حمل الأكسجين، ثم پلمرته لزيادة حجمه. وهناك المستحضر Hem Assist الذي صنعته الشركة Baxter International في ديرفيلد – إيلينوي، وهو محضر أيضًا من الدم البشري الذي تجاوز تاريخ الصلاحية. ويتم اختبار هذا الهيموگلوبين ذي الروابط التصالبية في أثناء الجراحة القلبية ولدى من يعانون صدمة نزفيةhemorrhagic shock وكذلك مرضى الرضوح trauma.
وهناك منتجات تستخدم طرقًا أخرى مثل المستحضر Optro الذي صنعته الشركة Somatogen في بولدر-كولورادو، وهو وحدات فرعية من هيموگلوبين بشري ذي روابط تصالبية وينتج بتقنية التأشيب recombination في الإشريكيات القولونية.
وهناك المستحضر Hemopure الذي صنعته الشركة Biopure في كامبردج ـ ماسّاتشوستس؛ وهو هيموگلوبين مپلمر من دم الأبقار. وتجري دراسة هذا البديل لاستخدامه في أثناء الرضوح والجراحة وفي فقر الدم المنجلي.
وتركز أبحاثنا التي نجريها في نيوجرسي أيضًا على الهيموگلوبين البقري. فهو رخيص الثمن، ومتوافر بسهولة، ولا يتطلب وجود -2,3DPG لإيصال الأكسجين كما هي الحال في الهيموگلوبين البشري. وبربط الهيموگلوبين البقري بالپلمر PEG استطعنا أن نجعل الجزيء ثابتًا وأكبر حجمًا، وأن نطيل الزمن الذي يمضيه داخل الجسم.
ويتم في الوقت الحاضر تقييم الهيموگلوبينPEG- كإحدى طرق تعزيز العلاج بالإشعاع لبعض الأورام الصلبة. فالعديد من هذه الأورام ذو مستويات منخفضة من الأكسجين في لبّه. ولما كانت المعالجة الإشعاعية تتطلب الأكسجين لتصبح فعّالة، فإن هذه الأورام تقاوم الإشعاع. وقد تمكَّن بعض الأطباء من إيصال الأكسجين إلى الورم باستخدام الهيموگلوبينPEG-، كما استُخدم هذا البديل لمعالجة السكتة الدماغية والإقفار ischemia؛ إذ بما أن الهيموگلوبين الحر أصغر من خلايا الدم الحمراء، فبإمكانه الوصول إلى الأوعية الدموية المصابة بالإحصار blockageكي يؤمن الأكسجين للخلايا المحتاجة إليه.
سلامة البدائل على الرغم من التقدم الواضح، فإن الجهود المستمرة للعثور على بديل للدم تواجه الإخفاق دومًا، وكل تقدم يعقبه تراجع. وبسبب الحجم الذي ينبغي إعطاؤه لكل مريض، فإن على الباحثين أن يوجهوا اهتمامهم إلى قضايا السلامة التي لا تظهر عادةً في استعمال الأدوية التي تعطى بكميات أقل. فإذا كان مُعظم الأدوية يعطى بالملّيغرامات، فإن البدائل المبنية على الهيموگلوبين ستعطى بكميات كبيرة تتراوح ما بين 50 و 100 غرام. ويعود ذلك إلى استعمال بدائل الدم بغرض تعويض حجم الدم إضافة إلى قدرته على حمل الأكسجين.
وبعد، فالتأثيرات الطويلة المدى لهذه البدائل غير معروفة. إن جميع البدائل التي اختبرت أظهرت بعض السمية القصيرة الأمد، وشمل ذلك ارتفاع ضغط الدم، وفشل الكلى وتأذّيها، وتسرع ضربات القلب والآلام الهضمية. ولما كانت معظم بدائل الدم محضرة لتعطى في الحالات المهدِّدة للحياة، فإن على الباحثين أن يثبتوا أن تأثيراتها النافعة على المدى القصير ترجح الأخطار الناجمة عنها على المدى الطويل كما ترجح الأخطار التي تنجم عن الاستعمال المزمن.
ويواجه أيضًا كل شكل من أشكال بدائل الدم عقباته الخاصة به . فلابد للمركبات المبنية على PEC أن تصب اهتمامها على مشكلات الانحباس retentionوالسمية والعمر الدوراني circulating life القصير وأخطار توصيل كميات كبيرة من الأكسجين. أما البدائل المبنية على الدم البشري الذي تجاوز فترة الصلاحية فتواجه مشكلة العثور على المادة الأولية الكافية. كما ينبغي أن يُنْتَج الهيموگلوبين، بتقنية التأشيب المستخدمة في الهندسة الجينية، بكميات كبيرة مذهلة تصل إلى 000 53 كيلوغرام سنويا لتلبية 10 في المئة فقط من حاجة الولايات المتحدة وحدها. ويحتاج مثل هذا الإنتاج إلى منشآت ضخمة ومكلفة. وأخيرًا فإن على البدائل المبنية على الدم البقري أن توجه جهودها إلى خطر انتقال اعتلال الدماغ الإسفنجي البقري، وربما بعض الأمراض الأخرى التي لم يتم تعرفها بعد. ويمكن للمصنِّعين تجنب استخدام الأبقار التي تعطى أغذية مشتقة من منتجات حيوانية ثانوية تُعدُّ المسؤولة عن انتشار مرض جنون البقر. ولكن لابد من التأكد من غياب العوامل الأخرى المسببة للمرض، ومن عدم حدوث تفاعلات مناعية غير ملائمة تلي تلقي المنتجات البقرية المنشأ.
وعلى الرغم من هذه التحديات، فستكون بدائل الدم متاحة في التجارب السريرية (الإكلينيكية) في المستقبل القريب. وحالما يحظى المنتَج بموافقة إدارة الدواء والغذاء فإنه سيواجه الاختبار الأصعب وهو المستهلِك، فما السعر المناسب الذي سيدفعه المستهلِك للحصول على هذا المنتج؟ والأكثر أهمية، ما المبلغ الذي سيكون القائمون على توفير الرعاية الصحية على استعداد لدفعه؟ فعندما نأخذ بالاعتبار المصاريف الهائلة على تطوير هذه المنتجات، سنجد أنها ستكلف من دون شك 3-5 أضعاف تكلفة الدم. ففي الوقت الحاضر تدفع المستشفيات 60 – 85 دولارا أمريكيًا لكل وحدة دم، وغالبًا ما ترتفع تكاليف الوحدة الواحدة إلى 240 دولارا أمريكيا. إن سوق بدائل الدم يقدر بنحو 5 آلاف مليون دولار سنويًا، وذلك في الولايات المتحدة فقط.
وإذا وضعنا قضايا التكلفة جانبًا، فإن بدائل الدم ستحسّن الرعاية الصحية إلى حدٍّ كبير. وما الحيلولة دون حصول نقص في موارد الدم وما تلطيف المخاوف من التلوث إلا اثنتان من الفوائد الكثيرة؛ إذ يمكن للأطباء استخدام البدائل لحفظ الأعضاء، ولمعالجة كل من فقر الدم وفقر الدم المنجلي، وفي أثناء رأب الأوعية angioplasty، وكذلك في إجراءات أخرى؛ فالإمكانيات لا نهاية لها.
المؤلفان Mary L. Nucci – Abraham Abuchowski تعاونا معًا في مجال بحوث بدائل الدم منذ أواخر الثمانينات. فقد عملت نوتشي اختصاصية في المناعيات في إنزون، وهي شركة ساعد أبوتشوسكي على إنشائها. ومؤخرًا تركا إنزون للبدء بالعمل في «الاستشارات المثالية الجديدة»، وهي مجموعة استشارية علمية وطبية أسست في نيوجرسي. وإلى جانب العمل في بدائل الدم، قام أبوتشوسكي ببحوث حول ابيضاض الدم عند الأطفال، وتفرَّغ لتطوير الأدوية لمعالجة الحالات النادرة، وفي عام 1994 قام بتأسيس المجلس التقني الحيوي Biotechnology Council في نيوجرسي.
مراجع للاستزادة BLOOD SUBSiIruTEs. TM.S. Cheng. Marcel Dekker; 1989. BLOOD SUBSTITUTES: PHYSIOLOGICAL BASIS OF EFFICACY. R. M. Winslow. Springer-Verlag, 1995. BLOOD SUBSTITUTES: NEW CHALLENGES. Edited by R. M. Winslow, K. D. Vandegriff and M. In¬taglietra. Birkause5 1996. Scientific American, February 1998
(1) heme: مادة غير بروتينية، تحتوي على جزيء حديد، وهي تتبع مجموعة المركبات المعروفة باسم الپورفيرينات، صيغتها الجزيئية: C34H32FeN4O4، ووظيفتها العمل كمجموعة مرافقة لبعض الپروتينات لتكوين صبغات تنفسية كالهيموگلوبين أو لتكوين الإنزيمات المقترنة بالهيم مثل الپيروكسيداز. (التحرير) (2) ويسمى أيضا رقم الحموضة أو الأس الهيدروجيني، وهو يقيس فعالية وتركيز أيونات الهيدروجين في السوائل والمحاليل ويتدرج من الصفر إلى الرقم 14. وتكون المحاليل حَمْضية عندما تتراوح قيمة الباها فيها بين 0 و7، وتكون معتدلة عندما يساوي الباها سبعة، وقلوية عندما تتراوح قيمة الباها فيها بين 7 و14. وباها الدم مثلا هو 7.35 وباها پلازما الدم 0.8. (التحرير) (4) New England Journal of Medicine. (5) كلمة منحوتة من تجفيف بالتجميد freez-drying. (التحرير) |