أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
فيزياء نظريةكيمياء

حشود فلزية وأعداد سحرية

حشود فلزية وأعداد سحرية(*)

إن دراسة التجمعات الصغيرة جدا من الفلزات

يمكن أن تساعد على ردم الهوة في فهم الفيزيائيين

للفرق بين الذرات المنعزلة والكتل الجامدة.

<M.بْرَاكْ>

 

سخِّن قطعة صغيرة من فلز (معدن) إلى أن تبدأ بالتبخر. انفخ البخار من خلال فوهة ضيقة إلى غرفة تفريغ (مخلاة) vacuum chamber. ماذا سيحدث؟ سيتكثف رذاذ الجسيمات في حشود ضئيلة يحتوي كل منها على عدد يقع بين بضع ذرات وعدة آلاف من ذرات الفلز. وهذه الحشود الفلزية، التي هي أصغر كثيرا من قطرات الماء أو حبات الرمل، تشكِّل ترتيبا جديدا وعجيبا للمادة.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/16/SCI2000b16N1_H03_003655.jpg

في تجارب حزم الجسيمات، ترسَل كميات ضئيلة من الفلز من مصدر ساخن لتسري في غرفة تفريغ طويلة. وتبعا للشروط التجريبية المفروضة، يمكن أن تكون الحشود الناشئة بهذا الأسلوب إما جزيئات صغيرة تتجمع الذرات فيها عن طريق أربطة جاسئة، وإمّا تجمعات كبيرة من الذرات تتراص مكونة أشكالا منتظمة من كثيرات الوجوه، وإما قطيرات هلامية تفتقر إلى أي تركيب داخلي جامد. وتنشأ أمثلة كثيرة مستقرة عن كل من هذه الأنواع الثلاثة، ولكن ليس خلال تجربة واحدة.

 

مع أن معظم تجارب الحشود تتضمن أشياء دقيقة إلى حد ما، فإن الحشود الفلزية ربما تكون كبيرة بأية درجة. ومن ثم فإن هذه التجمعات تقع بين الذرات أو الجزيئات المنعزلة وبين الكتل الجامدة أو السائلة. وبهذا المفهوم، فهي تربط بين العالَمَين الماكروي (الكبري) macro والمكروي (الصغري) micro. وبالنسبة إلى فيزيائي نظري، تثير الحشود عددا كبيرا من الأسئلة المحيرة: لماذا تكون بعض الحشود أكثر استقرارا من غيرها؟ وكم يلزم من الذرات قبل أن تبدأ خواص الحشد بأن تصبح شبيهة بخواص الكتل المادية؟ وكيف تتغير بنية الحشد بالازدياد المتعاظم لعدد الذرات المتجمعة معا؟

 

لكن الاهتمام بالحشود الفلزية ليس مقصورا على الفيزيائيين النظريين. فعلى سبيل المثال، يعرف الكيميائيون الصناعيون ـ من خلال ممارساتهم ـ أن الحشود الفلزية قد تكون مواد حفازة catalysts جيدة للغاية. ولكن، قد يكون من الصعب تسخير الحشود الفلزية بفعالية أكبر قبل أن يتم فهم أسس تكوينها ـ وهو هدف ازداد اقترابه من التحقق على مدى العقد الماضي.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/16/SCI2000b16N1_H03_003656.jpg

 

سحر الاستقرار

ثمة صفة خاصة تتميز بها الحشود الفلزية وهي أنها تحدث بحجوم معينة مفضَّلة على غيرها، وعلى العلماء أن يفسروا سبب ذلك. وقد عالج الكيميائيون مشكلة مشابهة منذ أكثر من مئة عام عندما صاغوا الجدول الدوري للعناصر. لقد وجدوا أن ثمة عناصر معينة تتميز باستقرار عال؛ لأن ذراتها تحتوي على أعداد خاصة من الإلكترونات. وقد سموا العناصر الغازية التي تحتوي ذراتها على 2 و10 و18 و36 و54 إلكترونا «غازات نبيلة (خاملة)»؛ لأن هذه الغازات خاملة كيميائيا، ومن ثم لا تتفاعل ذراتها مع جمهرة العناصر التي تتقاسم الجدول الدوري. وخلال القرن الحالي، اكتشف الفيزيائيون أن النوى الذرية التي تحتوي على 2 و8 و20 و28 و50 و82 و126 من البروتونات أو النيوترونات مستقرة بدرجة عالية. لذا أطلقوا على هذه الأعداد اسم الأعداد «السحرية». فالرصاص، مثلا، الذي تحتوي نواته على 82 بروتونا، سحري الاستقرار. (تحتوي نواة أحد أشكال هذا العنصر على 126 بروتونا، ويقال عنه إنه مزدوج السحرية.)

 

وقد تبيّن أن الحشود الفلزية يمكن أن تكون هي الأخرى سحرية أيضا. وفي عام 1984، اختبر عدد من الباحثين من جامعة كاليفورنيا في بركلي حشودا مكونة من فلز الصوديوم الساخن، ووجدوا أن الحشود التي تحتوي على 8 و20 و40 و58 ذرة متوفرة أكثر من الحشود ذات الحجوم الأخرى. وقد سادت الحشود التي لها هذه الأعداد لأنها ـ ولسبب ما ـ كانت مستقرة بدرجة عالية للغاية.

 

تحقق الفيزيائيون الآن أن الحشود غير المستقرة، التي يُحصل عليها في درجات حرارة عالية بقدر كاف، تتخلص من الذرات الزائدة وتتحول بسرعة إلى حشود أصغر وأكثر استقرارا. وقد وجد التجريبيون أن متتابعة (متتالية) الأعداد السحرية الخاصة بالحشود المستقرة للصوديوم الساخن تتوالى بالأعداد 92 و138 و198 و264 و344 و442 و554 وأعداد أعلى من ذلك. وحشود الصوديوم (وأيضا حشود فلزات كثيرة أخرى)، التي لها هذه الأعداد من الذرات، تظل مستقرة حتى لو سخنت إلى درجة لا تتمكن فيها من الرجوع إلى الحالة الجامدة وتبقى كقطيرات سائلة.

 

إن ميل الحشود لتتكوّن بهذه الحجوم بالضبط ينشأ عن قواعد الميكانيك الكمومي التي تحدد طاقات معينة للإلكترونات المقيدة. وفي حالة الذرات المنعزلة، يكون ارتباط الإلكترونات الزائدة عن الأعداد الموجودة بذرات الغازات النبيلة ضعيفا للغاية، وتنحو هذه الإلكترونات الزائدة إلى الشرود بعيدا عن النوى. وتعرف هذه الإلكترونات باسم «إلكترونات التكافؤ»، وهي مسؤولة عن خواص كيميائية عديدة للعناصر المختلفة.

 

وفي حشد من ذرات فلز (أو في قطعة أكبر من الفلز)، لا تظل إلكترونات التكافؤ هذه مرتبطة بالذرات المعينة التي كانت فيها أصلا. وبدلا من ذلك، تنساب هذه الإلكترونات بحرية ـ إلى حد ما ـ بين الذرات، ويقال إنها فقدت محليتها، ولكنها تبقى في الحشد أو حوله؛ لأن الذرات صارت موجبة الشحنة بعد أن تركتها الإلكترونات، وتعمل على جذب هذه الإلكترونات (كانت الذرة متعادلة الشحنة أولا، والآن، وبعد خروج إلكترونات التكافؤ منها، تصبح الشحنة الموجبة للبروتونات أكبر من الشحنة السالبة للإلكترونات المتبقية التي يقل عددها عن عدد البروتونات، وتفقد الذرة تعادلها وتصبح موجبة الشحنة.)

 

لفهم السبب في أن أعدادا معينة من الذرات تؤدي إلى استقرار الحشد، يرغب الفيزيائيون، مثاليا، في تعيين الصورة التفصيلية لجميع الأيونات الداخلية وإلكترونات التكافؤ ـ ومعرفة ذلك بدقة أمرٌ بالغ الصعوبة. ومع ذلك، فقد اتضح أنه يمكن للفيزيائيين أن يحصلوا على إجابات تخص أحد الحشود الفلزية بعمل نموذج له «كهلام» أملس موجب الشحنة تنجذب إليه إلكترونات التكافؤ (وهذا تبسيط يسمى النموذج الهلامي.)

 

وطبقا لقواعد الميكانيك الكمومي، يجب أن تكون طاقات هذه الإلكترونات مكمّمة quantized ـ وهذا يعني أن مستويات الطاقة محددة المقادير ولا تأخذ أبدا قيما متوسطة. وفي حالة الحشد الفلزي، كما في حالة الذرة، فإن مستويات الطاقة المتاحة للإلكترونات لا يفترق كل منها عن تاليه بقيمة ثابتة. وهذه المستويات مجمعة في حزم، مستويات كل حزمة قريبة بعضها من بعض، لكن الفواصل بين الحزم كبيرة. ولأسباب تاريخية، تسمى هذه الحزم من مستويات الطاقة في الذرات أغلفة (قشورا) إلكترونية electronic shells، مع أن الإلكترونات نفسها غير محصورة في الواقع في مناطق تشبه الأغلفة. وتحدد قواعد الميكانيك الكمومي عدد الإلكترونات التي يمكن أن تقطن في كل غلاف، وإذا ملأت الإلكترونات تماما واحدًا أو أكثر من الأغلفة في ذرة ما، فإن الذرة لا تتفاعل مع غيرها من الذرات، وتكون بذلك مستقرة للغاية. ومن ثم يصبح وجود الأعداد السحرية للحشود الفلزية أمرا معقولا: فهي تناظر عدد إلكترونات التكافؤ التي تملأ تماما غلافا واحدا أو أكثر في حشد وتجعله ثابتا للغاية. (يسري نفس الأسلوب على أغلفة الطاقة المملوءة بالبروتونات والنيوترونات في النوى الذرية ويفسر أعدادها السحرية.)

 

إن الحشود الفلزية التي لها أعلى استقرار تكاد تكون كروية. ولكن، إذا لم تكْفِ الإلكترونات المتاحة لأن تملأ تماما الغلاف ذا الطاقة الأعلى، فإن الحشد يمكن أن يصبح مسطحا أو متطاولا، ويبدأ بأخذ شكل الفطيرة أو كرة القدم. ويمكن أن يأخذ شكلا أكثر تعقيدا كثمرة الكمثرى أو الليمون أو كحجر ألماس، كما أنه قد يأخذ شكلا لا يتسم بأي تناظر. ومثل هذه الأشكال تخفض الطاقة الكلية للحشد وتجعله أكثر استقرارا ـ ولكن استقراره لن يرقى إلى استقرار الحشود ذات الأغلفة الإلكترونية الممتلئة تماما. ومنذ وقت طويل تبين للفيزيائيين أن كثيرا من نوى الذرات المستقرة لها أيضا أشكال مشوهة. ومن ثم، فبعض الأساليب النظرية التي تصف الحشود المشوهة أتت من أعمال سابقة في الفيزياء النووية.

 

الأغلفة (القشور) الفائقة

تفسر قواعد الميكانيك الكمومي تماما الأغلفة الإلكترونية للحشود وأعدادها السحرية المقابلة. ولكن هذا التفسير ليس مُرْضيا جدا لكثير من غير المتخصصين؛ لأن قواعد الميكانيك الكمومي تبدو في كثير من الأحيان منافية للبديهة وصعبة التصور. ولحسن الحظ، يمكن فهم الأعداد السحرية بعض الشيء باستخدام صيغ كلاسيكية تتفق مع الخبرة اليومية بالأجسام الماكروسكوبية (التي ترى بالعين المجردة).

 

وتتطلب هذه المعالجة نظرية المدار الدوري، وهي نظرية ابتكرها العلماء في بداية السبعينات من القرن العشرين لتقوم مقام جسر بين الميكانيك الكمومي والميكانيك الكلاسيكي. وتُمكِّن نظرية المدار الدوري الفيزيائيين، بجهد قليل نسبيا، من تعيين الطاقات للأغلفة الرئيسية في نظام يحتوي على إلكترونات أو على جسيمات صغيرة أخرى.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/16/SCI2000b16N1_H03_003657.jpg

نموذج مبسط لحشود فلزية يعتبرها النموذج كرات جوفاء داخلها إلكترونات تقفز (في اليمين). ويمكن للفيزيائيين باستخدام نظرية المدار الدوري حساب مستويات الطاقة التقريبية للإلكترونات (الخطوط الأفقية). وأهم نوعين من المسارات الدورية (المثلثات والمربعات) يتداخلان معا لتوليد حشود من الأغلفة، تسمى الأغلفة الفائقة. ويمكن رؤية نمط الأغلفة الفائقة في التجارب، وأيضا في النماذج النظرية الأكثر تطورا (في الأسفل).

 

لتصوّر كيفية تطبيق نظرية المدار الدوري على الحشود، يمكن تخيّل أن حشدا فلزيا ضخما ليس إلا كرة جوفاء تحتوي على إلكترونات تكافؤ متحركة بسرعة ثابتة في خطوط مستقيمة. وتصدم هذه الإلكترونات السطح الداخلي للكرة وترتد عنه بزاوية انعكاس تساوي زاوية الورود، وهي خاصية عامة تتحقق للجسيمات التي ترتد عن حائط، وأيضا لموجات الضوء التي تُعكَس بمرآة. إن هذا النموذج البسيط يؤدي الغرض؛ لأن إلكترونات التكافؤ حرة داخل الحشد ولكنها لا تستطيع تركه.

 

إن المدارات الدورية في تجويف كروي ليست إلا المسارات التي يمكن أن تسلكها الجسيمات: إنها تنطلق جيئة وذهابا على طول قطر، أو تتبع محيطات أشكال كثيرات أضلاع لها ثلاثة رؤوس أو أكثر. ويمكن للفيزيائيين الحصول على التوزع التقريبي لمستويات الطاقة المسموح بها بأن يأخذوا في الاعتبار فقط المدارات الدورية التي لها أقصر طول والتي تتكرر أكثر من غيرها. وأقصر ثلاثة مدارات هي الأقطار والمثلثات والمربعات، ولكن حدوث الأقطار قليل نسبيا وذلك لأسباب دقيقة تتعلق بالهندسة.

 

فإذا استخدمنا المثلثات والمربعات فقط، فإن الحسابات تُعطي نمطا لأغلفة طاقة ذات صفة دورية إلى حد ما. وعند رسم مخطط يوضح مستويات الطاقة المسموح بها كدالة للطاقة، تظهر هذه المستويات على فترات منتظمة. ولكن التكرار لا يحدث عند «تردد» واحد، بل يوجد ترددان مقابلان للمدارين المهيمنين (المثلثات والمربعات). وكما تتداخل موجتان صوتيتان متراكبتان، لهما ترددان متماثلان، إحداهما في الأخرى لتوليد «ضربات» ذات تردد أقل، تتداخل أيضا مجموعتا الأغلفة إحداهما في الأخرى وتولّدان حشودا فائقة لمستويات الطاقة تسمى «الأغلفة الفائقة».

 

ومن ناحية المبدأ، يجب أن توجد الأغلفة الفائقة أيضا في النوى الذرية. ولكن ذلك لا يحدث لأن النوى لا تكون أبدا كبيرة بالدرجة التي تدعم هذه الأغلفة، لأنه يلزم من 800 إلى 1000 جسيم لإحداث الضربة الأولى للغلاف الفائق، في حين أن أكبر نواة وُجدت حتى الآن تحتوي على أقل من 200 نيوترون و120 بروتونا. ولكن الأغلفة الفائقة يمكن أن توجد بالفعل في الحشود الفلزية الكبيرة. وفي عام 1991، شاهد الفيزيائيون في معهد نيلز بور بكوپنهاگن وفي معهد ماكس پلانك لبحوث الحالة الصلبة بمدينة شتوتگارت في ألمانيا، أغلفة فائقة لحشود الصوديوم الساخن. وبعد ذلك بمدة قصيرة، وجد الباحثون، في مختبر إيميه كوتون في أورساي بفرنسا، الدليل على وجود الأغلفة الفائقة في حشود الليثيوم، كما اكتشف الباحثون بجامعة ليون1- أغلفة فائقة في حشود الگاليوم.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/16/SCI2000b16N1_H03_003658.jpg

ينمو دائما حجم الحشد، معبَّرا عنه بالجذر التكعيبي لعدد الذرات الموجودة، كلما زاد عدد الأغلفة. ولكن الصعود (الميل) يعتمد على درجة حرارة حزمة الحشد. تتكون حشود الصوديوم البارد من مجسمات عشرينية الوجوه، الذرات فيها متراصة بإحكام، وهندسة هذا النموذج تعطي ميلا مميزا يساوي 1.5 تقريبا. وعلى خلاف ذلك، تتحكم الأغلفة الإلكترونية في شكل حشود الصوديوم الساخن،وتعطي ميلا يساوي 0.6 تقريبا. (الانفصال الذي يلاحَظ عند الرقم الغلافي 14 سببه تأثيرات الأغلفة الفائقة، وتفسره نظرية المدار الدوري تفسيرا مُرضيا.)

 

تتنبأ نظرية المدار الدوري لنموذج التجويف الكروي بأن الجذر التكعيبي لعدد سحري، والذي يساوي تقريبا نصف قطر الحشد الموافق، يزداد من غلاف إلى الغلاف الذي يليه بالقدْر نفسه. وعندما يرسم الباحثون شكلا بيانيا يربط بين الجذور التكعيبية للأعداد السحرية المرصودة لعدد من حشود الفلز الساخن وبين أعداد الغلاف المناظر، فإنهم يحصلون بالفعل على خط مستقيم ميله 0.61. وهذه النتيجة تتفق مع نظرية المدار الدوري للتجويف الكروي (0.603) بتقريب واحد في المئة. أما الحسابات الكاملة طبقا للميكانيك الكمومي باستخدام النموذج الهلامي، والذي يكون صالحا فقط لحشود تجمع بضعة آلاف من الذرات (الحشود الأكبر تحتاج إلى وقت حاسوبي طويل جدا)، فتعطي الميل المشاهَد بالضبط.

 

كثيرات الوجوه الكاملة

كان الفيلسوف الإغريقي أفلاطون يتخيل أن وحدات بناء المادة هي كثيرات وجوه منتظمة، وكانت هذه الأشكال تسمى المجسمات الأفلاطونية Platonic solids. والغريب أن أفلاطون لم يكن موغلا في الخطأ في حالة الحشود الفلزية الباردة. فعندما يتجمع عدد كبير من ذرات فلزية (نحو ألف أو أكثر) ببطء في درجات حرارة منخفضة نسبيا، تتكدس الذرات بإحكام على هيئة مجسمات صغيرة لتكوّن أشكالا هندسية منتظمة، مثل حبات برتقال مصفوفة في صندوق لدى حانوت بقال.

 

يستطيع الفيزيائيون استنتاج الصورة الهندسية لهذه الحشود الفلزية الباردة بدراسة العلاقة بين درجة استقرارها وبين حجمها. وفي عام 1991 جعل باحثون (من معهد ماكس پلانك لبحوث الحالة الصلبة) ذرات الصوديوم تندمج مع بعضها تحت درجات حرارة منخفضة، ووجدوا أن أكثر الحشود استقرارا تكوّنت في حجوم تختلف تماما عن تلك التي تنشأ في درجات الحرارة العالية. أي إن مجموعة جديدة تماما من الأعداد السحرية قد أثرت. وخلص هؤلاء الباحثون بسرعة إلى أن الأعداد السحرية الجديدة التي شاهدوها توافق تجمعات لذرات تراصت في مجسمات منتظمة ذات عشرين وجها مثلثيا.

 

في مثل هذه التجارب، تنشأ متتابعة (متتالية) معينة من الأعداد السحرية كلما كبرت المجسمات العشرينية الوجوه التي تتكون نتيجة لإضافة طبقات من الصوديوم سمك كل منها ذرة واحدة. وهذه «الأغلفة الذرية» يمكن تشبيهها، تشبيها غير دقيق، بطبقات حراشيف البصلة. وأشكال كثيرات الوجوه البسيطة، التي تتكون بهذه الطريقة، أكثر استقرارا من التشكيلات غير المنتظمة؛ لأن الطاقة المطلوبة لحفظ الذرات في أماكنها تقل كلما قل عدد الحواف. ويبدو أن الطبيعة تميل إلى الاقتصاد الذي توفره كثيرات الوجوه الكاملة.

 

رص محكم من أجل استقرار الحشود الباردة

يمكن للعلماء تفسير الاستقرار الاستثنائي للحشود الفلزية الباردة هندسيا. فمثلا، تكون الحشود الباردة للصوديوم مستقرة بوجه خاص، عندما يكون تراص الذرات في المجسمات العشرينية الوجوه محكما. وعلى ذلك، فالرسوم، التي توضح الاستقرار كدالة لحجم الحشد، تبين قمما واضحة عندما يتوفر عدد من الذرات يسمح بتكوين المجسمات العشرينية الوجوه (في اليسار).

إن تفسير الحشود الباردة لذرات الألمنيوم التي تتراص مشكِّلة مجسمات دقيقة ثُمانية الوجوه هو أكثر صعوبة إلى حد ما، إذ يكون الاستقرار عاليا عندما تتراص الذرات مشكلة ثمانيات وجوه منتظمة (في اليمين)، ولكن النهايات العظمى تحدث أيضا للحجوم المتوسطة. وقد يحدث ذلك لكون الاستقرار المعزز ينشأ أيضا عندما تغطي الذرات وجوها منفردة لثماني الوجوه (الطبقات الحمراء في الأسفل). ولما كانت إضافة وجه رابع إضافي تكمل مجسما ثماني الوجوه من الحجم التالي كبرا (من الحشود)، فلا يُتوقع وجود إلا ثلاث نهايات عظمى متوسطة للاستقرار.

http://oloommagazine.com/images/Articles/16/SCI2000b16N1_H03_003659.jpg

 

عند رسم شكل بياني يربط بين الأعداد السحرية للحشود الفلزية الباردة، ممثلة بجذورها التكعيبية، وبين عدد الأغلفة الذرية، نجد أنهما يزدادان معا. ولكن النسبة بين الزيادتين لا تساوي النسبة بين الزيادة في الأعداد السحرية والزيادة في عدد أغلفة الطاقة الإلكترونية في حالة الحشود الفلزية الساخنة. وتتغير النسبة، وهي ميل المستقيم، تبعا للأنواع المختلفة من الحشود الباردة. ويبدو أن التغير في الميل يشير إلى وجود كثيرات وجوه مختلفة. وعلى سبيل المثال، فإن الحشود الباردة للصوديوم أو الكالسيوم، والتي تعطي ميلا قدره نحو 1.5، ستتشكل في الغالب على هيئة مجسمات عشرينية الوجوه. والحشود التي تحتوي على العدد نفسه من ذرات الصوديوم واليود، أو الصوديوم والكلور، تولِّد ميلا يساوي 1.0 بالضبط، وهذا يوضح أنها تشكل مكعبات. ولايزال السبب في حدوث شكل معين بدلا من شكل آخر سرا من الأسرار.

 

وتطرح الحشود الباردة للألمنيوم أو الأنديوم لغزا يثير الاهتمام بصفة خاصة. فعند رسم الشكل البياني الذي يربط بين الجذور التكعيبية لأعدادها السحرية كدالة لعدد الأغلفة، يجد الباحثون ميلا يساوي 0.220، وهو أقل من القيمة المناظرة للأغلفة الإلكترونية المستقرة (0.6)، ولكنه يختلف عن قيم المَيْل للذرات المتراصة في رباعيات الوجوه (0.55) أو في ثمانيات الوجوه (0.874) أو في عشرينيات الوجوه (1.493) أو في المكعبات (1.0). والواقع إنه يستحيل إيجاد كثير وجوه منتظم من أي نوع يعطي، عند تغطيته بطبقات إضافية من الذرات، الأرقام السحرية لهذه الحشود.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/16/SCI2000b16N1_H03_003660.jpg

إن أطياف الامتصاص الضوئي الليزري تبين أن الحشود تتحول من جزيئات جاسئة إلى كتل عديمة البنية عند ازدياد درجة الحرارة. وفي حالة حشود الصوديوم التي تُحفظ في درجة حرارة منخفضة، يتغير احتمال امتصاص الفوتونات تغيرا ملحوظا تبعا للتغير في تردد الليزر(الظلال الزرقاء). ولكن، في درجات الحرارة الأعلى(الظلال البرتقالية)، تصبح الأطياف أكثر ملاسة وتُظهِر حَدَبتين عريضتين فقط، وهذا يتفق مع ما يسمى النموذج الهلامي الذي يستخدمه الفيزيائيون في حالة الحشود التي تفتقر إلى التركيب الداخلي.

 

اقترح أعضاء مجموعة شتوتگارت أحد الحلول الممكنة ـ وهو أن الحشود المماثلة لحشود الألمنيوم أو الأنديوم تنمو كثمانيات وجوه، لكن عند انتقالها من عدد سحري معين إلى العدد السحري الذي يليه، يضاف كل مرة عدد من الذرات يكفي فقط لتغطية أحد الوجوه المثلثية. ويؤدي هذا السلوك إلى الميل الصغير الذي يُحصل عليه. ويبدو هذا التفسير معقولا، ولكنه يثير على الفور سؤالا آخر لم تتم الإجابة عنه حتى الآن: لماذا لا يكون استقرار ثمانيات الوجوه الكاملة أعلى بكثير من استقرار الأخرى التي أضيف إليها وجه أو وجهان مثلثان فقط؟

 

ومن المثير للاهتمام أن الأعداد السحرية الناشئة عن التراص الذري لا تحدد شكل كثيرات الوجوه بطريقة فريدة. فمثلا، إن الأعداد السحرية المتعلقة بالمجسمات العشرينية الوجوه هي نفس الأعداد السحرية التي ستوجد في حالة المكعبات المثمنة (مكعبات اقتُطِعَت أركانها). والدراسة الدقيقة لحشود الكالسيوم الباردة أوحت إلى العلماء بأن المجسمات التي سوف تتكون هي المجسمات العشرينية الوجوه. ومع ذلك، فهذا ليس أمرا مؤكدا ـ إذ لم ير أي شخص المجسمات العشرينية الوجوه مباشرة. ومن ناحية المبدأ، يمكن رؤية أكبر الحشود باستخدام المجهر الإلكتروني إذا كانت في حالة سكون. والمشكلة هي أن الحشود الحرة تتكوّن على شكل حزم من ذرات سريعة الحركة، ولا يمكن إيقافها لتصويرها من دون أن تتغير أشكالها.

 

في الحشود الفلزية التي تتكوّن من عدد كبير من الذرات، فإن أغلفة الطاقة الإلكترونية والأغلفة الذرية، التي تشكل كثيرات الوجوه الكاملة، تتنافس على التحكم في شكل الحشد واستقراره. إن الحجم ودرجة الحرارة عاملان أساسيان في تحديد نوع الأغلفة التي سوف تسود. ولكن قياس درجة حرارة حشود منعزلة تتحرك في حزمة(1) beam هو من الصعوبة بمكان. وربما يتساءل المرء أيضا عما إذا كان من الممكن إعطاء تعريف لدرجة الحرارة على الإطلاق. وتحديدا، لا يوجد معنى لدرجة الحرارة إلا في حالة الأنظمة التي تتكوّن من جسيمات كثيرة في حالة توازن ثرموديناميكي. ولكن هذا الشرط لا يتحقق في أغلب تجارب الحشود. وما يحدث هو أن كل حشد مكوّن في حزمة يتبع مساره الخاص ولا يتأثر بجيرانه. ومثل هذه الحشود المنعزلة لا تصل إلى التوازن الثرموديناميكي. ومن ثم، فما لم يُلْصق مقياس حرارة على حشد صغير تحت الدراسة ـ وهذا مستحيل تجريبيا ـ فلن توجد طريقة سهلة لتعيين درجة حرارة هذا الحشد.

 

ومع ذلك، فالاتجاهات واضحة. فبتسخين فوهة المصدر في ظروف يُتحَكّم فيها بدقة، يبدو أن أغلفة المجسمات العشرينية الوجوه المتراصة بإحكام في الحشود الباردة للصوديوم تختفي ـ والمفترض أن يقابل هذا التحول انصهار الحشود الجامدة. وتتوقف درجة حرارة الانصهار في هذه الحالة على حجم الحشد.

 

وجد الباحثون تحولا مشابها في حشود الألمنيوم. فعندما تزيد درجة حرارة المصدر على 500 درجة كلڤن، والتي لاتزال أقل بكثير من درجة حرارة انصهار كتل الألمنيوم، فإن الرسوم البيانية، للجذر التكعيبي لحجوم الحشود المستقرة سحريا كدالة لعدد الأغلفة، لا تعطي ميلا قدره 0.220 (العدد الذي أوحى بأن تراص الذرات إنما حدث على سطوح المجسمات الثمانية الوجوه الكاملة). وبدلا من ذلك، تبين هذه الرسوم ميلا يساوي 0.6 تقريبا، وهي القيمة التي تميز الأغلفة الإلكترونية. وربما كان من المعقول أن نستخلص أن هذه الحشود صُهرت، وذلك على الرغم من أن درجة حرارة الفوهة هي أقل بكثير من درجة حرارة انصهار كتل الفلز. ولكن، قد يكون هذا الاستنتاج تبسيطا مبالغا فيه: فكما يحدث مع درجة الحرارة، فإن مفهوم التحول من الحالة الصلبة إلى الحالة السائلة للأشياء التي من هذا الحجم يصبح مشكلة صعبة في حد ذاته. وربما يكون ما يحدث للحشود هو انصهارا محليا لسطوحها يكفي لتحطيم البناء الذي يتحكم فيه تراص الأيونات، وهذا يسمح للاستقرار الذي توفره الأغلفة الإلكترونية الكاملة أن يسود.

 

ومؤخرا، لاحظ الفيزيائيون في جامعة فرايبورگ تحولا يختلف بعض الشيء عن التحول السابق ولكنه يرتبط به. فقد استخدموا حيلة ذكية للتحكم في درجة حرارة حشود الصوديوم الصغيرة بطريقة أفضل، إذ قاموا بدفن الحشود في غاز الهيليوم الذي يمكن ضبط درجة حرارته بدقة عالية. تحدث تصادمات عديدة في هذا الخليط من ذرات الهيليوم وحشود الصوديوم. ولكن لما كان الهيليوم غازا نبيلا (أي إنه يظل خاملا كيميائيا)، فهو لا يغير بنية الحشود وذلك، على الأقل، في درجات الحرارة المعتدلة. وعلى ذلك فالهيليوم يوفر بيئة يمكن أن يحدث فيها توازن ثرموديناميكي.

 

لم يفحص العلماء في هذه الحالة الأعداد السحرية، إنما فحصوا الأسلوب الذي تَمتصُّ به حشود الصوديوم التي لها حجم واحد محدد ضوءَ حزمة ليزرية. إن احتمال امتصاص الضوء كدالة لتردد الليزر (طيف الامتصاص) يمكن أن يكشف الكثير عن الحالة الفيزيائية للجسيمات المضاءة. وعلى الخصوص، فإن أطياف الجزيئات الباردة الصلبة تختلف عن أطياف القطيرات السائلة الحارة. وفي درجات الحرارة الأقل من 100 درجة كلڤن، شاهد التجريبيون طيفا له العديد من القمم الحادة، وهذا أمر مألوف بالنسبة إلى جزيء صلب، في حين وجدوا في درجات الحرارة الأعلى من 380 درجة كلڤن طيفا له حَدَبتان عريضتان فقط، وموضع هاتين الحدبتين هو المكان نفسه الذي يُتنبَّأ به نظريا لهلام لا بناء له.

 

وفي حالة أصغر الحشود، حيث يكون التركيب الداخلي مهما دائما، يمكن إجراء حسابات كمومية ـ ميكانيكية دقيقة تشمل جميع الإلكترونات في كل ذرة. وتكشف هذه الحسابات البنية الجزيئية الدقيقة للحشود، ويمكن أن تعطي وصفا دقيقا جدا لاستقرارها. أما في حالة التجمعات الأكبر التي تحتوي على بضع مئات أو أكثر من الذرات، فيلزم وقت حاسوبي طويل لإجراء مثل هذه الحسابات، لذا يضطر الفيزيائيون إلى اللجوء إلى النموذج الهلامي. وفيما يخص الحشود التي تضم آلاف الذرات، يتحتم على الباحثين أن يتخلوا عن الميكانيك الكمومي وأن يلجؤوا إلى نظرية المدار الدوري المبسطة، أو أن يعتمدوا على المعلومات غير المباشرة من الأعداد السحرية التي يُحْصل عليها تجريبيا.

 

ومنذ عام 1984، قطع العلماء شوطا طويلا نحو فهم وتعزيز متتابعات الأعداد السحرية في حشود الفلزات، وقد ولّدت بعض التجارب حشود صوديوم عشرينية الوجوه تتكوّن من ذرات يصل عددها إلى 21000. ومع ذلك فمن الواضح أن كتل الصوديوم لا تحتوي على مثل هذه المجسمات العشرينية الوجوه. والواقع إنه لا يمكن بناء كتل مادية عن طريق رص مجسمات عشرينية الوجوه معا. وكما يتعذر تغطية مستوٍ باستخدام بلاطات خماسية الشكل، فإن المجسمات العشرينية الوجوه تفتقد التناظر اللازم لتكوين بلورات ممتدة في ثلاثة أبعاد عن طريق ملء الفراغ كله بهذه المجسمات. ومن ثم، فحتى أكبر حشود الصوديوم التي وُلِّدت حتى الآن، لها ذرات منظمة بطريقة تختلف تماما عن الطريقة التي توجد بها الذرات في كتل الصوديوم.

 

كان تعيين عدد الذرات اللازمة لجعل تجمع صغير من المادة يصل إلى خواص الكتل، جزءا من الباعث الأول لدراسة الحشود الفلزية. لقد تعلم الفيزيائيون كثيرا عن الحشود الفلزية وعن حجوم الأعداد السحرية التي توفر لها الاستقرار. ولكننا لا نعرف حتى الآن الإجابة عن السؤال الأساسي التالي: متى وكيف يحدث التحول إلى الكتلة الجامدة؟ وكل ما نستطيع قوله الآن هو إن حشود ذرات الفلزات التي درسناها تُكوِّن ترتيبات غريبة وفريدة للمادة، ولا شك في أن هذه الترتيبات ستوفر مفاجآت أخرى مستقبلا.

 

 المؤلف

Mallhias Brack

درس الفيزياء في معهد نيلز بور بكوپنهاگن وفي جامعة بازل حيث منح الدكتوراه عام 1972. أجرى براك بحوثا في الفيزياء النووية بمعهد نيلز بور وجامعة ولاية نيويورك في ستوني بروك، وأيضا في معهد لانجوڤان في گرينوبل بفرنسا. وهو يشغل وظيفة أستاذ الفيزياء النظرية بجامعة ريگنزبورگ بألمانيا منذ عام 1978.

 

مراجع للاستزادة 

SEMICLASSICAL PHYSICS. Matthias Brack and Rajat K. Bhaduri. Addison-Wesley, 1977.

CLUSTERS, CONDENSED MATTER IN EMBRYONIC FORM. Sven Bjornholm in Contemporary Physics, Vol. 31, No. S, pages 309-324; September 1990.

THE PHYSICS OF METAL CLUSTERS. M. L. Cohen and W. D. Knight in Physics Today, Vol. 43, No. 12, pages 42-50; December 1990.

THE PHYSICS OF SIMPLE METAL CLUSTERS: EXPERIMENTAL ASPECTS AND SIMPLE MODELS, by Walt A. de Heer; pages 611-676; and SELF-CONSISTENT JELLIUM MODEL AND SEMICLASSICAL APPROACHES, by Matthias Brack, pages 677-732. In Reviews of Modern Physics, Vol. 65, No. 3, Part 1; July 1993.

SHELLS OF ATOMS. T P Martin in Physics Reports, Vol. 273, No. 4, pages 199-242; August 1996.

Scientific American , December 1997

 

(*) Metal Clusters and Magic Numbers

(1) دفق من الجسيمات مركّز ووحيد الاتجاه تقريبا.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

Back to top button